دهنش
فلما فرغ الترجمان من التلاوة كانت من الملك ابتسامة، ثم أومأ إلى الوفد أن يبرحوا الحضرة، فرجع بهم الحجاب من حيث جاءوا، والتفت «رمسيس» عندئذ إلى أصحابه. فقال: أتدرون ما يريد الخبيث «دهنش» بتمليكي عذراء الهند؟ قالوا: العلم لمولانا الملك. قال: يريد أن يفرق بيني وبين ابني بهذه الدسيسة التي كم له قبلها دسائس في علائقه معنا، وإنها لمن أعجب ما خلق دهاء الهنود للآن، ولكن دسائسهم قد كشفت من طول ما ألفت، وعرفت من كثرة ما وصفت حتى أمسى دهاؤهم المشهور، ولا انتفاع بسيفه المشهور. وهكذا الأمم إذا صغرت عندها الأخلاق، صغرت العقول، وصغر ما تفعل وما تقول.
والآن فليذهب واحد من هؤلاء الحجاب فيدعو الهنود إلى حضور ليلة قران «آشيم». قال الملأ بدهشة: وهل تعينت الليلة بعد يا مولاي؟ قال: نعم، وهي الليلة التالية ليوم فصل المجلس الأعلى في مشكل جواز الخطبة أو عدمه، وأنت يا كاتم الأسرار اذهب فاكتب إلى ناس هذا المجلس، بالاجتماع يوم الخميس المقبل؛ أي بعد ثلاثة أيام للنظر في مسألة الخطبة وإنهائها في ذلك اليوم نفسه. قال: سمعا وطاعة يا مولاي، ولكن ما أوامر جلالتكم بشأن استعفاء العضو الموقر «رمايس»؟ قال: ليقبل وليعين مكانه صاحبنا «بنتؤر»؛ فقام عندئذ كبير الحرس فقال: ولكن جلالتكم عقدتم العزم على إرسال الأستاذ «بنتؤر» إلى بلاد اليونان مندوبا ساميا من قبل المملكة المحروسة في مؤتمر الفلسفة والآداب. قال: قد أنسيت ذكر هذه النية يا «ندور»، ولكني أمرت فليمض الآن أمري، ومتى قدم «بنتؤر» في ركاب الأمير، عهدنا إليه باختيار من يعهد به الكفاءة لهذه المهمة الجليلة، من بين تلامذته الكثيرين. فأخرس هذا الجواب كبير الحرس، وكان «هوتر» حاضرا فوصل حبل الحديث قائلا: بقي الآن كرسي خال في مجلس الحكومة الأعلى يا مولاي. قال: وأي كرسي؟ قال: كرسي القائد «رادريس». قال: وهل صدر الحكم في قضيته بعد؟ قال: لا، بل يصدر غدا يا مولاي. قال: وإن غدا لناظره قريب، فما علينا إذا أرجأنا النطق بهذا العزل المهين، حتى تنطق به القوانين؟ فخرس «هوتر» لهذا الجواب كما خرس صاحبه كبير الحرس من قبل.
ثم إن الملك أشار للملأ أن ينفضوا من حوله فتفرقوا وهم قسمان قسم نكد ذليل، تتمثل له الخيبة بكل سبيل، وهم أعوان الكهنة، وآخر فرح بما لديه فخور، يستقبل الآمال ويستبشر لمساعفة الأمور، وهؤلاء هم الأحرار الذين لم يعد ينقصهم إلا كرسيان لتكون الأغلبية في مجلس الحكومة لحزبهم الظافر المنصور؛ بل هم قد رأوا وسمعوا في ذلك اليوم المشهور ما صير هناءهم عند غاياته، وجعل سرورهم فوق كل سرور، رأوا ملكا لا يستصعب الصعب، ولا يحذر المحذور، وكان بالأمس قطبا لرحى أغراض الكهنة عليه تدور، وسمعوا ولكن وحيا، ومن وراء ألف حجاب أن هذا الملك الشيخ الجسور، ما أتى الذي أتاه إلا وهو قد صمم على النزول عن عرش النيل واعتزال الأمور، فكان حساب الأحرار بل يقينهم، أن «رمسيس» سيغتنم فرصة قران ولي العهد، ليتنازل له عن الملك فيصبحون والأمر أمرهم ولهم وحدهم سياسة الجمهور.
الفصل الخامس
محاكمة «رادريس»
لما أصبح صبح اليوم المضروب لمحاكمة «رادريس»، عقدت محكمة طيبة الكبرى جلسة مخصوصة، للنظر في تهمة الاشتراك في اختطاف عذراء الهند الموجهة ضد «رادريس» والحكم فيها.
وكان المطالب بحقوق الهيئة ضد المتهم في تلك الجلسة، القائد «ندور» كبير حرس الملك، والمدافع عن «رادريس»، أحد مشاهير الكتاب في طيبة، وكان من كبار تلامذة «بنتؤر».
أما المحكمة فكانت متشكلة من ثلاثين قاضيا نصفهم كهنة، والنصف الآخر قواد من الدرجة الأولى، درجة «رادريس»، وكانت مشمولة برئاسة النجل الثاني للملك بصفة استثنائية إكراما للمتهم ومبالغة من مولاه الملك في قيمته.
وكان الجميع لابسين ثياب القضاء، النظيفة البيضاء، وقد حمل الرئيس في عنقه سلسلة الحق الذهبية، بها صورة المعبودة «ساتا»، متخذة من الأحجار الكريمة، وعلى رأسها شبه ريشة مجعولة رمزا على الحق، وهذه الصورة كان الرؤساء يديرونها، فيوجه صاحب الحق بدون أن يتكلموا، ثم يسلم إليه الحكم مكتوبا لينفذه على الخصم، حتى إذا أخذت الجلسة نظامها على ما وصفنا من تمام الأبهة، وكمال الوقار، شرع الرئيس يتلقى شهادات الإثبات فالنفي شفاهية وبالكتابة إلى أن أتى عليها جمعاء.
Неизвестная страница