فحين سمع الرئيس هذا الكلام تحول عبوسه بشرا وبشاشة. وقال: الآن نجحنا فيما نحاول. فلقد كنت أختبر المواقع وأنظر في كيفية اجتياز الأرخبيل، فوجدت أن لا غنى لنا عن الدليل، وإلا لزمنا أن نطوف حول هذه الجزائر كلها، وأن نأخذ في مسيرنا عريض البحر، فلا ندنو من الأرض تجنبا للأخطار، والتقاء كامنة الصخور والأحجار، وهذا سفر طويل شاق، يستغرق نصف عام على الأقل، أما الآن وقد وقع هؤلاء الأدلاء في قبضتنا، فقد فسد الأمر على رجال الأسطول، وخابت مساعيهم، فاذهبا توا فأوعزا إلى إخوانكم بالقبض على البحارة قبل أن يميتهم السكر، وشد وثاقهم وحملهم إلى هذه السفينة، وليركب فيها جماعة منكم معي. أما الباقون فتذهب بهم أنت يا بلباص إلى السفينة التي كان فيها الأدلاء؛ لأن فيها عادة تكون المؤن والذخائر. وإن نحن أخذناها أيضا تركنا الأسطول بغير قوت، فلا يجد حينئذ بدا من الإسراع في الرجوع، فخذوها فاسحبوها سحبا بطيئا خفيفا بدون أن تسمع لها حركة تنبه ناس الأسطول لما نحن فيه من العمل، ثم نبتعد بالسفينتين حتى نجيء بعض الصخور العالية مما كشف اليوم فنتوارى منتظرين النهار، ولا نبرح مكاننا حتى نرى الأسطول، وقد سار منقلبا على أعقابه بالخيبة والخسار.
قال: سمعا وطاعة يا مولاي، وأخذ بيد صاحبه فذهبا فأبلغا أوامر الرئيس إلى سائر الجماعة، فقبض للحين على الأدلاء وشد وثاقهم وسيقوا إلى سفينة الرئيس، ثم جيء بسفينة المؤن والذخائر مسحوبة، فركب الجميع وسارت السفينتان حتى بلغتا صخرة صالحة للكمون، فكمنتا ترقبان الصبح أن يطلع لتكشفا ما سيكون من أمر الأسطول.
فلما أقبل الصباح استيقظ رجال السفن الهندية، فلم يجدوا لسفينة الأدلاء ولا لهؤلاء أثرا على الماء، فهالهم الأمر وتنكر لهم الموقف، وتمثل لهم اليأس بكل سبيل، ولم ير الأمير ثرثر بدا من العود لعرض الأمر على مسامع الملك، فأصدر إشارته للسفن بالإقلاع، فأقلعت راجعة من حيث جاءت بالذل والصغار.
فلما رآها الصيادون وقد انقلبت آيبة خرجوا من مكمنهم، وكان الأدلاء قد اندمجوا في سلكهم وآثروا البقاء معهم بتلك الصفة على الهلاك، فمخرت السفينتان تؤمان جزيرة العذارى من أقصر الطرق إليها بفضل صحبة الأربعة البحارة الأدلاء.
الفصل السادس
الشقي «طوس» في جزيرة العذارى
كان من عادة الكاهن منذ قدوم الأميرة في أترابها إلى الجزيرة أن يخرج بالبنات مرات في اليوم إلى الصلاة على مكان هنالك مألوف، خالص الجهات مكشوف، وكان البنات إذا فرغن من هذه الصخرة تركن الكاهن عاكفا على عبادته، مشغولا بأدعيته، ثم ينثنين لاهيات ناعمات رابعات في ذلك الفضاء، لاعبات حتى مغيب الشمس، وعندئذ يدعوهن للمبيت صوت مزمار يترنم به الكاهن، روحاني التحنان، هندي الألحان، موزون المقادير، مقدور الأوزان. فترى الفتيات ينهلن من كل مكان، والنمور في أقدامهن هائمة على الوجوه، تثير الغبار منجذبة كذلك مأخوذة بنغمات المزمار.
فبينما البنات ذات يوم في العبادة، على مألوف تلك العادة، يقمن مع الكاهن صلاة الأصيل ، ويقلن هذا الدعاء بترتيل:
بودا يا سماء هذه الأقطار، ويا سورها المغني عن الأسوار، ندعوك بوادي الأنوار، الذي كرمته بالنمورة السبعة الكبار، الظاهرة الأنياب والأظفار المحجوبة عن الأبصار، السارية بالليل، الكامنة بالنهار، كما نتوسل إليك بغابة الأسرار، الخالدة الأشجار، المشرفة بثعبان الديار، الأصفر الصفار، الوثاب الثوار، أن تقي الأميرة ما وقيت، وأن تسهر عليها وعلى بناتك العذارى الأبكار.
سمعن صيحة عظيمة آخذة كادت لها كتلة الجزيرة أن تتمزق فتهوي أجزاؤها في أسفل أعماق البحر، فالتفتت البنات متفزعات، وإذا هي النمور تزأر جملة، وقد انحدرت كذلك جملة، تترامى جانبا واحدا من الساحل، فكأنما تجري هنالك أمور مما لا يستطيع الحارس الأمين المسكوت عنه، فأخذ البنات القلق، ونالهن من ذلك فرق، لا سيما إذ كانت تلك أولى نفرة للنمور في المدة الطويلة، التي أقامتها بالجزيرة، حتى لقد كانت عرفت سفينة الزاد توهما فاعتادتها فلم تكن تنبحها لا قادمة ولا آيبة.
Неизвестная страница