فمن طلائع الغزوة الفارسية يلوح للمتتبع أنها غزوة فرضتها الحوادث على الخليفة الأول، فاستجاب لها بما ينبغي أن يستجيب، وقبل المناجزة حين لم يكن له من قبولها مناص ولا متحول، ولم ينس مع هذا أن يتألف الأمم، ويسالم الأمراء ويدعوهم إلى السلام والإسلام، ويشخص إليهم من يعلمهم ما هو وصف الدين الذي يدعوهم إليه. فإن أصاخوا إليه فلا حرب ولا عداء، وإن جردوا له السيف رجع معهم إلى حكمه الذي نزلوا عليه. •••
وهكذا قدر للخليفة الأول أن تتوطد على يديه دعائم الدولة الإسلامية الناشئة في سياستها الداخلية وسياستها الخارجية، فما صنعه فقد استمر فيه على خطة النبي عليه السلام، وما صنعه الذين لحقوا به فإنما هو نتيجة لازمة لما بدأ فيه.
وشاء الله أن يشهد سداد رأيه بعينه وهو حظ لا يتاح للكثيرين ممن يفتتحون الدول العظام ولا سيما الشيوخ. فشهد سداد رأيه فيما تم من أعماله وفيما هو آخذ في التمام؛ وفارق الدنيا وهو يعلم أنه قارن التوفيق في حرب فارس كما قارنه في حرب الردة، وليس بينهما تفاوت في الإقدام ولا في ثقة الإيمان .
ويحق لمن يؤرخ تلك الحوادث، ولمن يبحث في صفات الصديق ومناقبه، أن يسأل: ما مبلغ تلك الثقة من الإيمان؟ وما مبلغها من الحساب؟
إنه سير البعوث لإخضاع الجزيرة العربية وهي ترتج رجتها الكبرى، وليس معه من الجند إلا قلة محدودة من أهل تلك الجزيرة.
وإنه سير البعوث إلى تخوم فارس والروم وليس معه من قوة غير المسلمين من العرب، مستثنى منهم في أول الأمر كل من تابوا بعد ردة، وإنه لتفاوت بين القوتين أعظم من التفاوت بين جيش الخليفة وجيوش المرتدين.
أفكانت مجازفة؟
أفكانت يقينا لا تصحبه الروية وهي في الدين الإسلامي مطلوبة مع اليقين؟
لا ريب أن اليقين كان أكبر العدد التي تقدم بها الصديق في بعوث الردة وفي بعوث فارس والروم على السواء.
ولا ريب أنه أقصى المسلمين الذين تابوا بعد ردة فلم يلحقهم بالجند الموجهين إلى تخوم الدولتين؛ لأنه علم أن العدة الكبرى في أولئك الجند هي عدة اليقين الذي لا يتزعزع ولا يدركه الوهن والطمع.
Неизвестная страница