وهنالك الرجل الذي فيه من وثاقة العزم ما قمع به ثورة الحدة وهي أصيلة في تركيبه، ومن كان له ذلك العزم فهو منجده حين يحتاج إليه، وما كان محتاجا إليه قط لو أنه استغنى عنه في فتنة الردة، وهي تفاجئه بالغضب المثير.
وهنالك الرجل الذي كان مثلا في الاقتداء بالرسول حيثما سبقت سابقة يقاس عليها، وقد سبقت هذه السابقة في فريضة من فرائض الإسلام وإن لم تكن فريضة الزكاة: سبقت في فريضة الصلاة، وذهب أناس من المثقفين يعرضون على النبي إسلامهم على أن يعفيهم من الصلاة، فقال عليه السلام: «إنه لا خير في دين لا صلاة فيه.» وكذلك لا خير في دين لا زكاة فيه، فإذا جاء المرتدون يزعمون أنهم مسلمون يقبلون فرائض الإسلام ولا يقبلون الزكاة فليس أبو بكر بالذي يقبل منهم ما يزعمون.
إنما كان أبو بكر إذن أصدق ما كان لنفسه وسرائر مزاجه يوم قابل الردة بدرس الطاعة التي لا هوادة فيها، ولم يكن في باطن الأمر غريبا عن المعهود فيه، وإن لاح في ظاهر الأمر أنه جاء بالغريب من رجل وديع رفيق.
ولقد أكثر المؤرخون من الكتابة عن حروب الردة ما لم يكثروا قط في حادث من حوادث صدر الإسلام، وكانوا على حق حين وازنوا بين دعوة الإسلام الأولى في مقاومة الشرك ودعوة الإسلام الثانية في مقاومة الارتداد، فإنما كانت الغلبة على فتنة المرتدين فتحا جديدا لهذا الدين الناشئ، كأنما استأنفت الدعوة إليه من جديد.
ولكنهم لم يكونوا على حق حين حاولوا أن يصبغوا الردة بغير صبغتها وأن يفهموها على غير وجهها، ولا سيما النقاد المغرضين الذين انحرفوا بها عمدا ليتسللوا منها إلى الطعن في نشأة الإسلام؛ فقالوا: إن ارتداد الأعراب إنما كان دليلا على أنهم قد أسلموا مكرهين، فما عتموا أن وجدوا سبيلا إلى النكصة على أعقابهم حتى نكصوا مسرعين.
والمسألة أوضح من هذا لو أراد أولئك النقاد طريق الوضوح.
المسألة أقرب شيء إلى طبائع الأمور في أشباه هذه الأطوار من كل دين ومن كل مذهب ومن كل دعوة تتناول الناس عامة وخاصة، بل من كل فكرة تخامر الأذهان والقلوب حتى ما كان من قبيل الحكمة والفلسفة والدراسات العلمية التي يعنى بها خاصة الباحثين ولا تتسرب دعوتها إلى السواد. فماذا حدث في الحكمة بعد سقراط؟ وماذا حدث في مذهب النشوء بعد داروين؟ وماذا حدث في علم الأخلاق بعد كانت أو بعد بنتام أو بعد برجسون؟
فالذي حدث من ردة العرب هو الطبيعي المنظور أن يحدث، والذي تخيله النقاد المغرضون واجبا مقررا هو الغريب الذي لم يحدث قط في دعوة من الدعوات.
وإلا فما هو ذاك الذي كان يتخيله أولئك النقاد المغرضون؟ أكانوا يتخيلون أن دينا جديدا يملك الناس جميعا في الجزيرة العربية فيسري إلى كل نفس، ثم يسري من كل نفس إلى جميع بواطنها وخفاياها فلا يبقي فيها بقية للنكسة والارتداد؟ أكانوا يتخيلون ذلك الدين مقتلعا في مدى تلك السنوات القليلة كل أثر لأطماع الخليقة الآدمية وكل حنين في قلوب الزعماء إلى الجاه القديم، وكل فضلة من فضلات الجاهلية، وكل باب من أبواب الدسائس التي تنفذ إلى جزيرة العرب من طريق الدول الأجنبية والعصب الداخلية؟ ... أكانوا يريدون من الأعراب بعد بضع سنوات أن يوغلوا في الإسلام أشد من إيغال قبائل نجران أو الغساسنة في الدين المسيحي بعد بضعة قرون؟
إن تخيلوا ذلك فاللوم على الخيال المضلل وليس على الواقع ولا على العقل السليم ولا على الإسلام.
Неизвестная страница