آدابه الاجتماعية
وكان في آدابه الاجتماعية قدوة الرجل المهذب في كل زمان. فلم ير قط مادا رجليه بين أصحابه، وتعود كلما زار أحدا ألا يقوم حتى يستأذنه، ولم يكن ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في إناء، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه، وربما نهض بالليل فيشوص فاه بالسواك، ولا يزال يستاك ويوصي بالاستياك بعد الطعام والتيقظ من النوم، وكان يتطيب ويتحرى النظافة ويقول لصحبه: «اغتسلوا يوم الجمعة ولو كأسا بدينار.»
وقد تختلف العادات الاجتماعية بين جيل وجيل في شئون عرضية لا تتصل بلباب الذوق والشعور، فيأكلون في جيل بأصابع اليد ويأكلون في الجيل الآخر بالشوكة والسكين، ويخرج أناس بالثياب السود ويخرج غيرهم بالثياب البيض وهي عرضيات يقاس بها عرف البيئة ولا يقاس بها تهذيب الطباع، فلا ضير على الناس أن تختلف عاداتهم باختلاف بيئاتهم من أمة لأمة ومن جيل لجيل. وإنما الضير فيما يتناول الطبع السليم والذوق الحسن وهما الخصلتان اللتان كان عليه السلام قدوة فيهما لكل رجل مهذب في كل أمة وفي كل زمان ... فلم يكن أحد يشكو من محضره بإنصاف، وذلك هو ملاك التهذيب الكامل في أصدق معانيه ...
صاحب هذا السمت رسول ...
وصاحب هذه الآداب رسول ...
وخلاصة سمته وآدابه أنها سماحة في الأنظار وسماحة في القلوب ... فالسماحة هي الكلمة الواحدة التي تجمع هذه الخصال من أطرافها، والسماحة هي الصفة التي ترقت في محمد إلى ذروة الكمال.
ومن يكون الرسول إن كان لا بد من تعريف وجيز لعلامات الرسالة؟ الرسول هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعا يأمرهم بالحسن وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم، ومن كان هذا عمله الأول فينبغي أن تكون صفته الأولى - بل صفته الكبرى - أن يستغني عن الوازع وأن يغني الناس عن محاسبته وطلب الحق منه. وهذه هي السليقة السابقة الشاملة التي سرت في خلائق محمد وامتزجت بجميع أعماله وأقواله فلم يحاسبه أحد قط كما حاسب نفسه في رعاية حق الصغير والكبير، وصيانة الحرمات للعاجز والقدير.
هذه علامة رسالة لا علامة أصدق منها ولا أجدر منها بالقبول، لأنها علامة من داخل السريرة ... وليست علامة من خارجها قد تلازم أو تفارق من تعروه ... وليس للنوع البشري مقياس صحيح يقاس به محمد فيعطيه مرتبة دون مرتبة الحب والتبجيل ... يعطيه هذه المرتبة من يدين بالإسلام ومن يدين بغير الإسلام ومن ليس له دين من أديان التنزيل.
فليس للنوع البشري أصل من أصول الفضائل يرمي إلى مقصد أسمى وأنبل من تقديس تلك المناقب التي كان محمد قدوة فيها للمقتدين.
عزيمة الزهد والإيمان
Неизвестная страница