لأنها كانت وسطا بين الحضارة والبداوة، وكانت تقيم في عاصمة الحجاز وإلى جوار الكعبة التي يحج إليها العرب، تبركا بحرمتها ولياذا بأصنامها، ويحملون إلى أسواقها أزواد الأدب والشعر والحكمة، كما يحملون إليها أزواد القوت وسلع التجارة.
وكانت قريش تنتقل إلى بلاد العرب كما ينتقل العرب إليها من بلادهم، فكان لها رحلتان في الشتاء والصيف؛ إحداهما إلى اليمن والأخرى إلى الشام، وكانت تضيف إلى ما تعلمه بالسماع والرواية علم المشاهدة والمراس، حيثما نزلت في طريقها من ديار العرب أو من ديار الروم والحبشة، وسائر الأمم الأعجمية كما كانت تسميها.
والعرب من دأبهم حفظ السير ورواية الأحاديث والتنقيب عن الأخبار والطوايا؛ لأن الاستطلاع من طبيعة سكان الصحاري، وتتوقف سلامتهم أحيانا على خبر يعلمونه في أوانه، كما تستهدف أرواحهم أحيانا للخطر العظيم من جراء طارئ داهم تفوتهم الحيطة له في حينه، ولم يزل أبناء القبائل على ولعهم المأثور بالسير والأخبار لغير هذه الضرورة التي يدعوهم إليها حب الأمن والسلامة. فهم غيورون على تراث الآباء والأجداد تفاخرا بالنسب العريق، وتصحيحا للعلاقات، وتمييزا للأقربين والبعداء ...
ومع هذا الولع الأصيل في الطبيعة العربية باستقصاء الخبر، يصعب على الذهن أن يتخيل أن قريشا تجهل شأنا من شئون الثقافة العربية، وهي تقيم في مثابة الجزيرة كلها وتسهر على عاصمة العرب، وتجوب أنحاء هذا الوطن الكبير من شماله إلى جنوبه ومن جنوبه إلى شماله، وتتابع العصور حقبة بعد حقبة وهي في مرقبها الذي تطل منه كل ما يعنيها ...
فقلما غاب عنها علم عربي وصل إليه أبناء الحواضر والبوادي باجتهادهم واختبارهم، أو وصلوا إليه بالقدوة والسماع عن الأمم الأجنبية.
وقلما خفي عنها فن من فنون ثقافة العرب في مصالح السلم والحرب، أو معارض السياسة والشئون الاجتماعية.
ونظن أن خطأ المؤرخين في تقدير معارف العرب السياسية لا يقل عن خطئهم في تقدير معارفهم الحربية، وقد كانت كما رأينا كفؤا لحضارة الدولة الفارسية وتجارب قوادها وأساورتها.
وكذلك كانت لهم في السياسة والنظم الحكومية خبرة لا يستخف بها من ينفذ إلى بواطنها، فهي لا تبلغ أن تكون فلسفة مشروحة ومذاهب مفصلة على مثال النظم العصرية، ولكنها كذلك لا تنزل إلى الفوضى، ولا إلى الغريزة الهمجية التي لا مساك لها ولا تدبير فيها.
وأوجز ما يقال عن خبرتهم بالنظم الحكومية أن العالم القديم لم يعرف قط نظاما من أنظمة الحكم إلا كان للعرب نموذج منه يوافق مصالحهم وعقائدهم، ويجري على عاداتهم وخلائقهم.
عرفوا نظام الإمارة التي ينفرد فيها الأمير برأيه ويستأثر فيها بشريعته وقضائه.
Неизвестная страница