فلما جاءها المسلمون دخلوها آمنين على كثرة من بها من المشركين، وتقدم النبي صلوات الله عليه في كتيبته الخضراء، وتقدم سعد بن عبادة والزبير بن العوام وخالد بن الوليد إلى أبوابها فدخلوها كل من الباب الذي وكل إليه، ونهى النبي أصحابه عن القتال فيها، فلم يحدث قط قتال إلا من صوب خالد بن الوليد؛ لأن صفوان بن أمية وسهيل بن عمر وعكرمة بن أبي جهل رصدوا للباب الذي وصل منه وجمعوا له جمعهم فمنعوه ورموه بالنبل وشهروا عليه السلاح، فبطش بهم وقتل منهم قرابة ثلاثين أكثرهم من قريش وأقلهم من هذيل، وولى السادة والأتباع بعد ذلك في هزيمة نكراء.
أهو تدبير أم مصادفة أحكم من التدبير؟
خالد دون غيره تصادفه جنود رفقائه بالأمس في جيوش المشركين فيرمونه ويرميهم، وقد كانوا معا يرمون المسلمين عن قوس واحدة.
إنه حارب في صفوف الإسلام عرب الجزيرة وعرب العراق والشام، وحارب في صفوف الإسلام جيوش الفرس والروم، وحارب في صفوف الإسلام كل من برز لتلك الصفوف، فما بال الجاهلية القرشية وحدها ينصرها على المسلمين ولا ينصر المسلمين عليها؟ وأين يلتقي بها إن فاته لقاؤها في ذلك اليوم ؟ لقد لقيها إذن في ساعتها التي لا ساعة بعدها وقال النبي حين سمع بضربته: ألم أنه عن القتال؟ قالوا: إنه خالد قوتل فقاتل فقال: «قضاء الله خير»، ثم قال: «لا تغزى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة ...»
وغرائب الاتفاق هكذا تكون حيث تكون.
الفصل الخامس
مع النبي صلى الله عليه وسلم
أحاط بالنبي - عليه السلام - نخبة من كبار الرجال مختلفون في الأعمار والأقدار، مختلفون في البيئات والأحساب، مختلفون في الأمزجة والأخلاق، مختلفون في ملكات العقول وضروب الكفايات، مختلفون في فهم الدين وبواعث الإسلام، فكان اختلافهم هذا آية من أصدق الآيات على رحابة الأفق وتعدد الجوانب في نفس ذلك الإنسان العظيم، وكان علمنا بكل رجل من أولئك الرجال مزيدا من العلم بعظمة هاديهم وسيدهم وموجه كل منهم في وجهته التي هو أصلح لها وأقدر عليها، وهم يلتقون أول الأمر وآخره في ذلك الينبوع الفياض من تلك الفطرة العلوية التي فطرها الله لهداية الأمم وقيادة الرجال، بل لقادة القواد الذين يروضون الأمم والرجال.
وما من عظيم من هؤلاء العظماء إلا كان تقدير النبي إياه بقدره الصحيح آية على عرفانه الشامل بخصائص النفوس وسبرة العميق لأغوار الطبائع والأفكار، ولكن تقديره لخالد بن الوليد على التخصيص كان آية الآيات في هذا الباب؛ لأنه عليه السلام لم يكبره إكبار السياسي الذي يستجمع القوة حواليه وينزل كل زعيم منزلة قومه من الوفرة والجاه والعتاد، وإنما أكبره؛ لأنه عرف أقصى مستطاعه قبل أن يظهر من مستطاعه كثير، وسماه «سيف الله» وبينه وبين الوقائع التي استحق بها ذلك اللقب الجليل بضع سنوات، بل سماه سيف الله وهو قافل من معركة يتلقى المسلمون من عادوا منها بالنكير والتشهير، ويحثون في وجوههم التراب ويصيحون بهم أينما وجدوهم: يا فرار. يا فرار. فررتم من سبيل الله.
لم يكبر النبي خالدا كما أكبر أبا سفيان تألفا له ورعيا لمكانه في قومه، ولكنه أكبره للصفة التي سيوصف بها في تاريخ الإسلام بعد اهتدائه إليه ببضع سنوات.
Неизвестная страница