Гений реформ и образования: Имам Мухаммед Абду
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Жанры
ومن الواضح أن الجامع الأزهر إنما استقرت له هذه المكانة في العالم كله؛ لأنه المدرسة الجامعة في الرقعة الوسطى من العالم الإسلامي الفسيح من المشرق إلى المغرب، بين مدارس بغداد في المشرق ومدارس قرطبة في المغرب، وقد أفلت هذه المدارس حينا مع أفول الدولة العباسية وأفول الدولة الأموية وسائر الدول الأندلسية، وورثت الجامعة الأزهرية شهرتها جميعا، كما ورثت القاهرة شهرة مصر القديمة بالعلوم والمعارف التي حسبت من السحر المباح زمنا عند كثير من حكماء الإسلام، وتلك هي العلوم والمعارف التي كان «ذو النون» المصري يبحث عنها في نقوش البرابي وتحت ركام الكنوز المدفونة في الرغام، وإنما كان الوزير العثماني «أحمد باشا» يقول عن مصر إنها اشتهرت في العالم كله بأنها «معدن العلوم والمعارف»، وهو يعني تلك الشهرة العريقة التي ذاعت عنها قديما، ثم اتصلت بها بعد الإسلام شهرة الجامع العتيق، ثم شهرة الأزهر بعد انفراده بأمانة العلم في بلاد الإسلام.
والمأثور عن الفاطميين أنهم كانوا يشتغلون بالنجوم والكيمياء والعلوم الكونية التي نسميها اليوم بالعلوم الطبيعية أو العلوم الحديثة، وكان الإمام جعفر الصادق - وهو إمام رفيع القدر بين علماء الإسلام من جميع المذاهب - حجة في علوم الدين والدنيا، يعلم أبا حنيفة الفقه ويعلم جابر بن حيان الكيمياء، وكان علماء الفاطميين ودعاتهم يقتدون به في الجمع بين هذه العلوم، ويستعينون بالمنطق والفلسفة على نشر دعوتهم بين أهلها من طلاب الدنيا والدين. وليس في أوراق المحفوظات الباقية سجل ثابت لتدوين أسماء العلماء وأسماء الكتب التي درسوها بالأزهر من هذه العلوم، ولكن إجازات العلماء بعد إنشاء الأزهر بأكثر من ثمانية قرون كانت تحتوي أسماء العلوم التي أجيز لهم أن يلقنوها الطلاب في حلقاتهم، ومنها سند العالم الكبير الشيخ أحمد عبد المنعم الدمنهوري المتوفى قبل نهاية القرن الثاني عشر للهجرة (1192ه)، وفيها بيان الدروس التي حضرها وأجادها وألف فيها، وهي عدا علوم الفقه واللغة دروس «الحساب والميقات والجبر والمقابلة والمنحرفات، وأسباب الأمراض وعلاماتها، وعلم الأسطرلاب والزيج والهندسة والهيئة، وعلم الأرثماطيقي، وعلم المزاول، وعلم الأعمال الرصدية، وعلم المواليد الثلاثة وهي الحيوان والنبات والمعادن، وعلم استنباط المياه، وعلاج البواسير، وعلم التشريح، وعلاج لسع العقرب، وتاريخ العرب والعجم ...»
وهذه العلوم المتفرقة تجمع في ذلك العصر صفوة المعارف الإنسانية التي تدرس في معاهد الثقافة العليا، وكانت - على ما يظهر - تباح لمن يستعد لها من الطلاب المتقدمين الذين يختارهم أساتذتهم ويأنسون فيهم القدرة على النقل عنهم، ولعل هذا ما عناه الشيخ الشبراوي بقوله عن هذه العلوم إنها «فروض كفاية» يتخصص لها من يطلبها، ولا تفرض على الذين يحضرون دروس العلماء الآخرين ولا يقبلون عليها، ولعل الأساتذة الذين يبلغون فيها مبلغ التعليم والإفادة يعتزلون الحلقات العامة بطلابهم ومريديهم، كما فعل الشيخ الجبرتي الكبير، وهو على الأرجح قد تلقى مبادئها عن شيوخ من قبله تعلموها وعلموها على طريقته في أخريات أيامه، وعلى هذه الطريقة بعينها تعلم الشيخ الدمنهوري كما سيرد في الصفحات التالية.
وإذا بدا من هذه الطريقة أن «العلوم الكونية» كانت من الدراسات «المخصوصة»، أو الدراسات التي لا تباح على عواهنها، فمن جزاف القول أن ينسب ذلك كله إلى الجمود وضيق الأفق وقلة الاكتراث بالحجر على القول أو الحجر - كما نقول في عصرنا الحديث - على حرية التفكير.
فقد يقع الذنب على شيء غير الجمود والحجر على الحرية الفكرية.
نعم، قد يقع ذنب «التقييد» الذي أحيطت به دراسة العلوم الكونية على طريقة تدريسها، أو طريقة إعداد الطلاب للتقدم فيها، وما من علم من تلك العلوم سلم من الخلط بينه وبين علم زائف يشبهه ويحمل عنوانه، وليس هو بذلك العلم الأصيل في حقيقته ونفعه.
فعلم الفلك قد اختلط بعلم التنجيم، وانتقل من ثقاته وأمنائه إلى المحتالين والملفقين لأكاذيب الطوالع وعلاقات الألفة والزواج والمشاركة في أعمال الكسب والارتزاق.
وعلم الكيمياء قد اختلط بتحضير الذهب، وسحر المعادن، وصناعة السموم بغير رقابة عليها وعلى الجرائم الخفية التي تستخدم فيها.
وعلم المنطق قد اختلط بالسفسطة والجدل، وظهر من طريقة تعليمه في الأمم القديمة من عهد الإغريق إلى عهد البيزنطيين أنه مفسدة للعقول، ومدرجة للعبث بالعقائد وقواعد التفكير الصادق والبحث المفيد.
وليس من الإغراب في الظن البعيد أن نعتقد أن أصحاب الرأي وذوي البصر بالتربية في العصر الحديث كانوا يحيطون تلك العلوم بمثل ما أحيطت به من القيود بالأمس، لو أنها بقيت إلى اليوم بأضرارها وشوائبها، ودامت على حالها من اختلاط الصحيح بالزائف واختلاط المتعلمين بين طلابها على استعداد وعلى غير استعداد، وبين المشتغلين بها للعلم والفائدة والمشتغلين بها للاحتيال والشعوذة، فليس الجمود وحده علة تقييدها بالأمس، وليست حرية الفكر وحدها هي التي رفعت عنها قيودها اليوم، ولكنها حكمة بصيرة دعت إليها أسبابها في حينها، وأوجبتها أمانة الفكر وسلامة المجتمع على المسئولين عنها من أهل العلم والسياسة.
Неизвестная страница