ولم يكن قصر مروان بعيدا عن منزل الفقيه ابن عبد البر، وكان في استطاعته أن يذهب إليه ماشيا، ولكنه أراد أن يحتفظ بمظاهر الأبهة بركوب البغال؛ لئلا يقول قائل إن فشله في ذلك اليوم حط من قدره أو أذله، ولولا ذلك الفشل لذهب إلى منزل الأمير ماشيا، ولم يبال بشيء؛ لثقته باحترام الناس له، ولكن فشله صغر من نفسه، فأصبح يخشى العار لأتفه الأمور.
وصل الفقيه ابن عبد البر إلى باب حديقة القصر، وحالما رآه الحارس نهض وفتح له الباب، فدخل الفقيه على بغلته إلى الحديقة والخادم يمشي خلفه، فلما اقترب من باب القصر، تقدم الحاجب وهو خصي جميل الطلعة أصله من خصيان الزهراء جارية عبد الرحمن الناصر، أهدته إلى الأمير عبد الله فأعجب به وجعله كالحاجب أو المباشر، وقربه إليه لما آنسه فيه من اللطف وخفة الروح، واسمه «ساهر»، فلما رأى الفقيه ابن عبد البر مقبلا أسرع إليه وساعده في النزول عن بغلته وهو يرحب به، فسأله عن الأمير عبد الله.
فقال ساهر: «هو في مكتبته يطالع.»
فطلب الفقيه منه أن يخبره بمجيئه، فقال ساهر: «ليس على الفقيه حجاب.»
فاستأنس الفقيه ابن عبد البر ومشى في أثره حتى دخل القاعة، وهي مفروشة بالطنافس والمساند فجلس، وخرج ساهر ليخبر الأمير عبد الله بمجيء الفقيه، ومكث هذا والهواجس تتقاذفه فيما سيراه على وجه الأمير من التغير، ولم تمض لحظة حتى أقبل الأمير عبد الله وبيده كتاب يظهر من نظافة أطرافه أنه نسخ من عهد قريب، فوقف الفقيه وتأدب في السلام، فلم يجد في وجه الأمير عبد الله تغيرا، فارتاحت نفسه، وأخذ يتخير عبارات اللطف يغطي بها فشله، والأمير عبد الله يسايره حتى جلس إلى جانبه والكتاب لا يزال في يده.
فقال الفقيه ابن عبد البر: «أرى في يد الأمير كتابا جديدا!»
قال الأمير عبد الله: «نعم، هو كتاب جديد ومؤلفه ما زال على قيد الحياة.»
فنظر الفقيه إلى غلاف الكتاب وقال: «لا أذكر أني رأيت هذا الكتاب بين كتب مولاي قبل الآن!»
قال الأمير عبد الله: «لأنه أتاني في هذه الساعة.»
قال الفقيه: «في هذه الساعة! من أين؟»
Неизвестная страница