Насер и египетская левая сила
عبد الناصر واليسار المصري
Жанры
أما العامل الثاني:
فأقل موضوعية من العامل السابق، ولكن من الواجب ألا نغفل عن أهميته في الموقف الذي نحن بصدده؛ ذلك لأن التجربة الناصرية اقتضت، في مراحلها الأخيرة، تعيين بعض البارزين في مناصب رفيعة، وسوف أتناول فيما بعد هذه الظاهرة بالتحليل والتعليل، أما الآن فإني أكتفي بتسجيلها وبالإشارة إلى نتائجها بالنسبة إلى التصرفات التالية لهؤلاء اليساريين؛ فقد ظهر واقع جديد لم يألفه اليسار المصري في أية مرحلة سابقة من مراحله؛ هو وجود «مصالح» لعدد غير قليل من أقطابه، ارتبطت بالتجربة الناصرية وأصبحت تحتم على أصحابها الدفاع عن هذه التجربة دفاعا مستميتا، كما أصبحت تتحكم إلى حد بعيد في تصرفات عدد كبير من مهاجمي هذه التجربة، الذين يريدون أن يحلوا محل اليساريين في تلك المناصب الرفيعة، وأن يسيطروا - ماديا ومعنويا - على الأجهزة التي كان لليساريين فيها مركز رئيسي. وفي اعتقادي أننا لا ينبغي أن نغفل هذا العامل عندما نتأمل موقف الدفاع المطلق أو الهجوم الذي يتخذه اليسار واليمين - وخاصة في قطاع الإعلام - من التجربة الناصرية. فكثير من الأصوات التي نسمعها هي في واقع الأمر أصوات المصالح الخاصة. وعندما تتدخل المصالح لا تعود المبادئ وحدها هي التي تتكلم؛ لأن هناك وضعا يريد أحد الطرفين أن يحافظ عليه، ويريد الطرف الآخر أن ينقض عليه ويقتنصه. وربما لم يكن هذا العامل ظاهرا على المستوى الشعوري لدى كثير من اليساريين (بينما هو لدى خصومهم واضح وواع تماما)، ولكنه على الأقل يشكل خلفية لا شعورية بدونها يصعب تفسير هذه الاستماتة في الدفاع عن تجربة في الحكم كانت بلا شك مشوبة بقدر غير قليل من الأخطاء وكانت أخطاؤها من النوع الذي لا يغتفره الفكر اليساري بالذات ، في الأحوال العادية، بل يشن عليه أقوى هجماته.
جوهر الخطأ الناصري
ولنبدأ من هذه النقطة الأخيرة، أعني الأخطاء التي كان المفروض أن يكون اليساريون أول من ينبهون إليها. هذه الأخطاء في رأيي، تتركز في أسلوب تطبيق الاشتراكية ذاتها.
فقد كان من واجب اليساريين أن يدركوا، قبل غيرهم، أن الأسلوب الذي طبقت به الاشتراكية يسيء إلى الاشتراكية أكثر مما يفيد قضيتها؛ فالتأميم وإنشاء قطاع عام واسع ليس - بالنسبة إلى الاشتراكية - غاية في ذاتها، وإنما هو وسيلة لكي تتم سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، ولكي يرتد عائد هذا الإنتاج في نهاية الأمر إلى الشعب.
وفي التجارب الاشتراكية الناجحة ظهر أثر هذه الإجراءات على الطبقات الشعبية بوضوح في فترة وجيزة. صحيح أن الطبقات العليا، وربما الوسطى أحيانا، يصيبها الضرر، ولكن الغالبية العظمى من الشعب، ممن يكونون طبقاته الكادحة يشعرون على الفور بأثر تطبيق الاشتراكية على حياتهم؛ فقد تتخذ الدولة - مثلا - قرارا بأن يخصص لكل أسرة مسكن من حجرتين، وفي هذه الحالة ستشعر مليون أسرة كانت تعيش في أربع حجرات بالضيق، وتنضم إلى قائمة المعارضين وربما هاجر بعض أفرادها وحاربوا النظام في الخارج، ولكن عشرات الملايين من الأسر كانت تعيش في أكواخ أو على الأرصفة ستشعر بالامتنان، وتحس بأن حياتها قد تغيرت إلى الأحسن، وتدافع عن النظام بكل ما تملك من قوة، وقد تقرر الدولة للفرد حذاء واحدا كل عامين، فيحس من اعتاد تنويع ملابسه بالسخط، ولكن ملايين الحفاة سيفرحون.
وعلى العكس من ذلك، فإن التجربة الاشتراكية الناصرية لم تضع الطبقات الشعبية نصب عينيها دائما [فيما] كانت تتخذه من إجراءات، بل كانت في بعض الأحيان تصدر قرارات يعجب المرء حقا لصدورها في عهد اشتراكي، كرفع سعر الأرز والكيروسين، وهما مادتان أساسيتان للكادحين الفقراء، في الوقت الذي تحتفظ فيه لكبار الموظفين ورجال الدولة بكل الامتيازات التي وصلت أحيانا إلى حد الترف والبذخ المقزز. ويكفي أن الجنيهات المعدودة التي كانت تشكل دخل العامل أو الفلاح أو الموظف الصغير كانت تظل ثابتة أو تنقص، في الوقت الذي ظلت فيه قوتها الشرائية تضعف عاما بعد عام. وبقدر ما أعلم فإن التجارب الاشتراكية الناجحة تسعى إلى زيادة القوة الشرائية لأجور العمال، عن طريق إجراء تخفيضات متوالية لأسعار المواد الأساسية - وهو أمر لم يحدث عندنا في حالة واحدة.
أما الفوارق بين الطبقات، فمن المؤكد أنها لم تزل على الإطلاق في تجربة الاشتراكية الناصرية. وإذا كانت هذه التجربة قد بدأت بمجتمع النصف في المائة، فأخشى أن أقول إنها قد انتهت بمجتمع الخمسة في المائة! أعني أنها وسعت نطاق الطبقة العليا إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه، دون أن تقرب منها الطبقة الدنيا، بحيث كانت النتيجة العملية هي زيادة عدد الأسياد.
وعلى الرغم من أنني أخشى أن أتهم بالسطحية، فإنني سأضرب مثلا مفرطا في البساطة للتدليل على وجهة نظري؛ فلقد ألغت الثورة الألقاب بمجرد قيامها، ومع ذلك لا تزال الألقاب تستخدم في المحادثات اليومية حتى اليوم، لا لأنها عادة يصعب التخلص منها فحسب، بل لأن مبررات وجود الألقاب ما زالت قائمة. ولا يكفي لإزالة هذا الوضع أن تلغى الألقاب بقرار حكومي ولذلك استمرت متداولة على الألسن؛ لأن بلادنا بالفعل ما زالت مليئة «بالبكوات» حتى لو لم يكونوا رسميا من حملة اللقب ويكفي أن تقارن بين رئيس إحدى المؤسسات والعامل البسيط فيها، ليس فقط من حيث دخله أو نمط معيشته، بل أيضا من حيث نظرته إلى نفسه ومدى إحساسه بكرامته كعضو في المجتمع، لكي تدرك بوضوح أن الفوارق بين الطبقات ما زالت على ما كانت عليه.
إنني أدرك جيدا نوع الاعتراضات التي ستوجه إلي، وهي أنني لا أنظر إلى الصورة الكلية، بل أكتفي بالجزئيات. والصورة الكلية، في نظر أصحاب هذا الاعتراض، هي نزع مصادر الثروة والإنتاج من أيدي الإقطاعيين والرأسماليين والأفراد، وإقامة قاعدة صناعية قوية يمكن أن تكون نواة لتحول اشتراكي حقيقي في المستقبل. وأنا لا أنكر أن هذه الصورة الكلية صحيحة، ولكني لا أستطيع أن أعترف بنتيجتها ما لم يتحقق هذا التحول، بمعاييره المعروفة، أو تكون بوادره على الأقل قد بدأت في الظهور.
Неизвестная страница