فقالت العباسة: «قلت لك إني لم أرتكب خيانة قط، وحاشا لله أن أخون أحدا.»
قال الرشيد: «أتجيبينني بهذه القحة وقد أصبح أمرك مشهورا حتى أذللتني بين الملأ بأمر أتيته لم يخطر ببالي؟»
فقالت العباسة: «وأي أمر تعني يا هارون؟ أو لعلك تعد الصدق خيانة؟»
قال الرشيد: «أعني أمرك مع جعفر الوزير الذي لم يرع حرمتي ولا خشي سطوتي.»
فأحبت العباسة عند ذلك أن تجادله بالبرهان لعله يرق لها ويعذرها ويبقيها، فقالت: «إن الوزير لم يخرق لك حرمة، ولا أراد بك سوءا؛ فارفق يا أخي ولا تتعجل في حكمك.»
فصاح الرشيد فيها: «لا تدعيني أخا لك؛ فإني بريء من قرابتك.»
فقالت العباسة: «تبرأ مني ما شئت، ولكن ذلك الرجل لم يرتكب خيانة.»
قال الرشيد: «ويحك! ألا تزالين تحاولين الكتمان؟! فاعلمي أني عرفت كل شيء، وقد صارحني أرجوان خادمك الخائن بسرك، وإذا أصررت على الإنكار فإن ولديكما يشهدان على ذلك.»
فلما سمعت العباسة ذكر ولديها تحرك حنانها، وخيل لها أنها إذا أصرت على الجفاء دفعته إلى إيقاع الأذى بهما، فصغرت نفسها وضعف عزمها عن المقاومة، وغلب عليها الحنان، واستسهلت في سبيل استبقائهما أن تتذلل وتستعطف - وليس أشد وقعا على قلب الوالدين من أن يصابوا في أولادهم، فإذا خافوا ذلك لا يبالون بما يضحون في سبيل إنقاذهم، ولو ارتكبوا أكبر الكبائر في هذا السبيل، والاستعطاف من أسهل الوسائل - فجثت العباسة عند ركبتي الرشيد، وأرادت أن تتكلم فسبقتها العبرات، فظنها تهم بالاعتراف بجريمتها توطئة للاستغفار، فحول وجهه عنها وقال: «قد تحققت أني مطلع على حقيقة فعلك فلم تري بدا من الاعتراف والاستعطاف، ولكن هيهات؛ إن من يأتي ما أتيت به لا علاج له غير القتل الشنيع.»
فكفكفت العباسة الدمع وتجلدت وهي لا تزال جاثية وقالت: «إني لا أستعطفك من أجل نفسي، ولا أنا أعترف بجريمة، ولكنني أطالبك بحق لا إخالك تنكره.»
Неизвестная страница