فقطبت جبينها، ولكن نافا ضحك وقال: لا تستحثي الحزن يا أماه ... ولننظر كيف نقضي يومنا هذا ... ما رأيكم في نزهة نيلية؟
فصاحت زايا منكرة: في كيهك؟!
فقال نافا ساخرا: وهل يهاب الجندي قساوة الأنواء؟
فقالت زايا بحدة: ولكني لا أقدر على جو كيهك، ولا على مفارقة ددف دقيقة واحدة هذا اليوم. فلنبق جميعا في البيت ... وإني مدخرة له حديثا طويلا لا قبل لي بحفظه في صدري بعد الآن.
ولاحظوا جميعا أن ددف فتر مرحه، وندر حديثه، وغشيته حالة جديدة من الرزانة والجمود، وقد نظر إليه نافا قلقا بطرف خفي وساءل نفسه: ترى هل يتشبث ددف بطبيعته الجديدة أبدا؟ إنه ينفر من الرزانة والجمود، ولعله لم يحس بوحشة لغياب خنى لما عرف به من الرزانة والجفاء، ولكنه أنكر على نفسه مخاوفها، وقال: إن ددف ما يزال حديث عهد بالحياة العسكرية، وإنه لذلك لن يتم له هضمها في وقت قصير، فلن تزال بنفسه جفوة منها وألم حتى يألفها، ويتطبع بطباعها، وحينذاك تنجاب عن قلبه الوحشة، وترتد إليه طبيعة المرح والسرور. وظن أنه لو صحبه إلى معرض فنه، فربما استطاع أن يعيد إليه انشراحه، فقال له: أيها الضابط، ما رأيك في زيارة معرض صوري؟
ولكن زايا قالت بغيظ: لا تفتأ تحاول سلبه مني! كلا يا سيدي، لن يبرح اليوم البيت.
فتنهد نافا وسكت، وخطرت له فكرة، فأحضر لوحة وقلما وقال لأخيه: سأرسم صورتك في هذا الرداء الأبيض الجميل، وسأحتفظ بالصورة ذكرى جميلة تنظر إليها بعيني الحنان والشوق حين تزين منكبيك بوشاح القيادة!
وباشر عمله بهمة ونشاط، وقضت الأسرة يوما سعيدا في سمر وأحاديث.
وكانت أمثال تلك الزيارة تقع كل شهر مرة، وتفوت كلمح البصر ، وقد انجابت وساوس نافا، وفارق الجفاء ددف ورجع سريعا إلى طبيعته المرحة الجسور، استعاد جسمه القوة والفتوة، وسار قدما في طريق النمو والقوة والجمال ...
وكان الصيف - حين تغلق المدرسة أبوابها - أسعد أيام زايا وجاموركا، وكانت تعاود البيت فيه جلبة الحياة ومرح النشاط اللذان سكتا به منذ تفرق شمل الإخوة، كل إلى حال سبيله، وكانت الأسرة كثيرا ما ترتحل إلى الريف، أو شمال الدلتا للصيد والقنص، فكانوا يشغلون قاربهم، ويمخرون به عباب البحيرات التي تظلها نباتات البردي وأشجار اللوتس، ويقف بشارو بين ابنيه نافا وددف وكل ممسك بعصا الصيد المعقوفة، حتى إذا حلقت بطة لا تدري بما يخبئه لها القدر، أحكم كل منهم تسديد الهدف وقذف بها بما يستطيع من القوة والمهارة.
Неизвестная страница