فصاحت المرأة بذل وألم: يا لسوء حظي يا سيدي ... ألم تجد الأقدار هدفا لسهمها غير صدري الضعيف؟! - هدئي روعك ... - ليس لي رجل سواه يا سيدي.
وكأن المفتش الطيب القلب أراد أن يطمئنها، فقال لها: إن فرعون لا ينسى عباده المخلصين، وتسع رحمته الضحايا والمستشهدين جميعا ... أصغي إلي: لقد أمر مولانا الملك ببناء بيوت لأسر العمال الذين قضوا في أثناء العمل، وقد شيدت البيوت عند سفح الهضبة، وأوى إليها العشرات من النساء والأطفال، وقد أجرى عليهم الملك إعانات شهرية، كما اقتضت إرادته اختيار الرجل من ذوي قرباهم للمعاونة في الحراسة ... فهل لك قريب تريدين تعيينه مراقبا للعمال؟
فقالت زايا وهي تنتحب: ليس لي في هذه الدنيا غير هذا الطفل.
فقال الرجل: ستأويان إلى حجرة نظيفة ولن تعرفا ذل السؤال.
وهكذا غادرت زايا مكتب مفتش الهرم أرملة بائسة، تندب زوجها السيئ الحظ وطالعها المنكود.
8
وكانت البيوت التي أمر فرعون بإقامتها لأسر العمال المستشهدين تقع خارج أسوار منف البيضاء شرقي الهضبة المقدسة، وكانت بيوتا متوسطة الحجم يتكون كل منها من طابقين، وكل طابق من أربع حجرات متسعة، وقد أقامت زايا في حجرة هي وطفلها، وألفت نفسها تعيش بين أولئك الخلق من الأرامل والثكليات والأطفال، منهن من لا تفتأ تندب قتيلها، ومنهن من اندمل جرحها وعفا الزمان على أحزانها. وكانوا جماعة ذوي همة ونشاط، فاشتغل الصبيان بتوزيع الماء على العمال، واتجرت النسوة بالأطعمة والجعة، وتحول الحي البائس إلى سوق ناشئة رخيصة دبت بها حركة العمران والعمل، وبشرت بأن تكون جنين قرية يافعة ...
وقد أمضت زايا أيامها الأولى بسكنها الجديد في حزن متصل وبكاء أليم على الزوج الفقيد، وعذبها الحزن عذابا لم يخفف بلواه عنها ما تلقى من توفر الرزق، وما تنعم به من عطف بشارو مفتش الهرم العام، ولكن وا أسفاه! فلو ذكر المصابون في قلوبهم أن الموت فناء يطمس الذكرى ويذهب الأحزان في قلب الحي بنفس السرعة التي يفنى بها وجود الميت، لوفروا على أنفسهم جهدا ضائعا وعذابا مريرا؛ فقد تعزت وأنستها متاعب الحياة مرارة الموت؛ لأنها أحست بتأفف في مقامها الجديد وضاقت به، ولما تمض به سوى شهور قلائل، واقتنعت بأنه ليس المكان اللائق بها ولا بابنها، ولكنها لم تر عن الصبر محيدا فسكتت على الحزن والضيق.
وفي أثناء تلك الشهور زارها المفتش بشارو عدة مرات؛ لأنه كان يجيئها كلما ذهب للتفتيش على المساكن، وتفقد أحوالها، حقيقة أنه كان يزور كثيرات من الأرامل، ولكن زياراته لزايا امتازت برحمة ومودة، وما من شك في أن الأخريات لم يكن أقل بؤسا من زايا ومنهن من يفقنها شقاء، ولكن لم يكن لواحدة منهن عينان عسليتان ساخنتان كعيني زايا، ولا جسم ممشوق لدن كجسمها. وقالت زايا لنفسها وهي مستغرقة في لجج التأمل والتفكير: ما أطيبه من رجل! إنه بدين قصير، غليظ القسمات، في الأربعين من عمره أو يزيد، ولكنه طيب القلب عظيم المودة ...! وكانت تلحظ بعين نافذة خفية أنه إذا وقع بصره على جسمها اللدن اضطرب جفناه الثقيلان، وانفرجت شفتاه الغليظتان. وحل الهوان في طلعته محل الخيلاء والكبرياء؛ فتعاطيه تثنيا رقيقا يسمره في مكانه ثواني كأنه خنزير محاصر. وتولدت المطامع في قلب زايا فسلت سلاحها للاستيلاء على المفتش العظيم، وقد انتهزت مرة فرصة حضوره فشكت إليه سوء ما تلقى من الوحشة والكآبة في مقامها البائس، وقالت له: لعلي أكون ذات نفع يا سيدي في غير هذا المكان؛ فإني خدمت طويلا في قصر أحد سراة أون، ولي خبرة عظيمة بأعمال الوصيفات.
فارتج جفنا الرجل الغليظان، ونظر إلى الأرملة الحسناء بعين طامعة وقال: فهمت يا زايا؛ فليس ما تشكين هو العطلة أو الخمول، ولكن نفسك ألفت نعيم القصور، فلا يتأتى لها الصبر على مثل هذه الحياة البائسة.
Неизвестная страница