فانتفضت واقفا وصحت: «إيه؟»
قالت: «لا تصح هكذا ...»
ووضعت فمها في ثقب المفتاح وهمست: «يا عبيط ... إني أحبك ... هل تفهم ... وأنوي أن أتزوجك على رغم أنفك ... فنضع لهذه المنافسة السخيفة حدا ونستطيع أن نقرأ الروايات البوليسية كلها معا ... تقرأ لي فأسمع ... وأقرأ لك فتسمع.»
فاعترضت وقلت: «ولكني قد أحب أن أسرع وأقلب بضع صفحات ليطمئن قلبي، أو تحبين أنت ذلك فيقع الخلاف.»
قالت: «كلا ... على كل حال ... سأكون واثقة أن الرواية باقية في البيت، فأنا أتعهد لك أن أقدمك على نفسي وأتركك تسرع أو تبطئ كما تحب ... وحسبي أن تترك لي فتات المائدة.»
فأثر في نفسي هذا الإخلاص والإيثار ... وأي إيثار أعظم وأي تضحية أكبر من أن تتركني أقرأ - أو أتم - رواية بوليسية قبلها ...؟ هذا إخلاص وإيثار لم يسمع - أو على الأقل لم أسمع أنا بمثلهما - فلا عجب إذا كنت قد فتحت الباب بسرعة وفتحت مع الباب ذراعي لها فدخلت في ذراعي قبل أن تدخل من الباب.
وكان لا بد أن أجزيها إخلاصا بإخلاص وإيثارا بإيثار، فقدمت إليها الرواية وقلت: «اقرئيها قبلي يا نور العين.»
كيف حفرت بئرا ... لنفسي؟
شقراء، ذهبية الشعر، لا أدري كيف أنبتتها هذه الصحراء! ومن بنات الفقراء، ولكن لها دلا وأناقة تخطئهما عند اللواتي نشأن في كنف النعمة والترف والثراء، وفي كلامها خفة وهزج، وفي مشيتها تبختر لا يثقل، وميس ليس من الاختيال، وكانت ترسل شعرها الوحف ولا تفرقه أو تضفره أو تعقصه، بل ترده عن جبينها الوضاء وتحسر جمته عن أذن، وتستر به أذنا، ولا تثبته بالأمشاط أو الدبابيس ولا تعصب رأسها بالمناديل، فإذا عبث به الهواء وأسال قصتها على وجهها رفعت الشعرات بأصبعها أو نحتها عن أذنها، وكنت لا أراها تبتسم إلا خيل إلي أنها ترى حلما يسرها فيثب قلبي إلى حلقي، وأجد حر النار في كفي.
وكان بيتي في ذلك الوقت «على تخوم العالمين»، وكانت له حديقة صغيرة جعلتها شغلاني، وكان الماء كثيرا وثمنه زهيدا، لا يتجاوز خمسة عشر قرشا في الشهر بالغا ما بلغ ما أجريت منه، فكنت آخذ كفايتي منه وأسنه على وجهه للجيران، وكانت هذه الشقراء تجيء كل مساء بجرة فتملؤها مرة أو اثنتين أو عشرا - كما تشاء - فأقف لها وأحادثها وأساعدها على رفع الجرة إلى رأسها، ولم تكن هي الوحيدة التي تستقي، ولكنها كانت أبرعهن شكلا وأخفهن على الفؤاد، وكانت تأنس مني الميل إليها والإعجاب بها، فتطيل الوقوف معي أحيانا، أو تتولى عني عزق الأرض، أو بذر الحب أو سقي الزرع، واجتزاز الكلأ والعشب والحشيش أو نزع ذلك بأصوله، وكانت أعرف مني بذلك كله وأخبر، وكانت تضحك مني لجهلي فتقول لي مثلا: «ألا تحش هذه الملوخية؟ لقد كادت تكتهل.»
Неизвестная страница