أما بعد فإنك كنت ذكرت لي وقوفك على كتاب الجاحظ الذي سماه كتاب البيان والتبيين، وإنك وجدته إنما ذكر فيه أخبارا منتخلة وخطبا منتخبة، ولم يأت فيه وظائف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان، فكان عند ما وقفت عليه، غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه، وسألتني أن أذكر جملا من أقسام البيان آتية على أكثر أصوله، محبطة بجماهير فصوله، يعرف بها المبتدى معانيه، ويستغنى بهذا الناظر فيه، وأن أختصر ذلك لئلا يطول به الكتاب، فقد قيل: إن الإطالة، أكثر أسباب الملالة، فتثاقلت عن إجابتك إلى ما سألت لما # حذرت منه الحكماء، ونهت عنه العلماء، من التعرض لوضع الكتب، إذ كانت نتائج اللب، وكان المتجاسر على تأليفها إنما يبدي صفحة عقله، ويبين عن مقدار علمه أو جهله، ثم رأيت حق الصديق عند العلماء فوق حق الشقيق، ووجدتهم يجعلون الإخوان من عدد الزمان، فقال سيدنا - عليه السلام - المرء كثير بأخيه، وسئل بعضهم، قيل له: أيما أحب إليك أخوك أم صديقك؟ قال: إنما أحب أخي إذا كان صديقا. وقال بعضهم: الإخاء الصادق أقرب من النسب الشابك. وقال بعض الفلاسفة: الأصدقاء نفس واحدة في أجساد متفرقة، وقال مولانا - عليه السلام -: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الشجاع إلا عند الحرب، ولا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا يعرف الصديق إلا عند الحاجة إليه، فلما تذكرت ذلك وتدبرته، تحملت لك تأليف ما أحببته ورسمته، على علم مني بأن كتابي لابد أن يقع في يد أحد رجلين: إما عاقل يعلم أن الصواب قدصي، والحق إرادتي، وأن نية الرجل أولى به من عمله فيتغمد سهوا إن وقع من، ويغتفر زللا صدر عني، ويعود بفضل حلمه على زللي، ويصلح بعلمه خطئي، فقد وجب ذلك عليه لي، لاعترافي قبل اقترافي، وإقراري بالتقصير الذي ركب في جبلة مثلي، وإما جاهر أحب الأشياء إليه عيب ذوي الأدب، والتسرع إلى تهجينهم، وذكر مساوئهم، وذلك لمنافرته إياهم، وبعد شكله من أشكالهم، ومن أراد عيبا وجده، ومن فحص عن عثرة لم # يعدمها، وكان يقال: من حسد إنسانا اغتابه، ومن قصر عن شيء عابه، ولذلك قيل: من جهل شيئا عاداه، وقال مولانا عليه السلام: عداوة الجاهل للعلم على قدر انتفاعه به، قال الشاعر.
(وأطوع ما علمت بظهر غيب ... إلى ذكر العيوب ذوو العيوب)
فمن كانت هذه حاله كان اللبيب حقيقا بترك الحفل به، وترك الاكتراث له.
وقد ذكرت في كتابي هذا جملا من أقسام البيان، وفقرا من آداب حكماء أهل هذا اللسان؛ لم نسق المتقدمين إليها، ولكني شرحت في بعض قولي ما أجملوه، واختصرت في بعض ذلك ما أطالوه، وأوضحت في كثير منه ما أوعروه، وجمعت في مواضع منه ما فرقوه، ليخف بالاختصار حفظه، ويقرب بالجمع والإيضاح فهمه. وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
Страница 51