فأولا:
لقد كان ما شدني شدا إلى كلام الإمام الغزالي عن المعرفة ووسائل تحصيلها، هو تلك الذروة العليا التي أطل منها إلى موضوعه، لينظر إليها نظرة الطائر، فيتاح له أن يجمع أطراف الموضوع أولها بأوسطها وبآخرها، وبذلك تجيء اللقطة الإدراكية لموضوع «المعرفة» وافية شافية، لم يحذف من وسائل المعرفة وسيلة استهانة بها بل وضع كل وسيلة في موضعها الصحيح من خريطة الحياة المعرفية عند الإنسان، وقارن ذلك بما نسمعه من بعض فقهائنا اليوم - ونذكر أن هذا اليوم إنما هو أواخر القرن العشرين - إذ يحذروننا من «العلم» (أي والله هم يحذروننا من العلم) بينما نرى الإمام الغزالي يبدأ كلامه الذي اقتبسناه، بقوله: «إن الهدف هو العلم» فمن واجبنا أن نحدد بدقة ماذا يراد بكلمة «علم» هذه، وليس الذي يهمنا الآن هو اتفاقنا أو اختلافنا في هذا التحديد، لكن المهم هو أن نقف مثل هذه الوقفة الصحيحة من حيث منهج النظر، وهي أن نقول في عصرنا هذا مثل ما قاله الغزالي في عصره، فنقول: إن الهدف هو العلم، وعلينا أن نحدد لأنفسنا ماذا يراد بهذه الكلمة.
وثانيا:
إننا لو اتبعنا الإمام الغزالي في نظرته إلى المعرفة التي تأتي إلى صاحبها نقلا عما تواتر على ألسنة الرواة، وهي أنها معرفة لا تعلو، على أن تكون لها أدنى درجات السلم، لكان هذا الدرس المنهجي وحده كفيلا لنا في عصرنا هذا بأن نضع عنا أثقالا أنقضت ظهورنا، فنحن لا نبتغي حذف التواتر من حيث هو مصدر من مصادر المعرفة، بل نريد أن نضعه بالنسبة إلى المصادر الأخرى في موضعه الصحيح.
وثالثا:
إن وجه النقص الذي أخذه الإمام على «الحواس» من حيث هي إحدى وسائلنا نحن البشر إلى معرفة حقائق الأشياء، يحتاج إلى وقفة قصيرة متسائلة؛ فالغزالي يشارك كثيرين ممن ظهروا قبله، وكثيرين ممن جاءوا بعده، في موقف الشك من المعرفة المكسوبة عن طريق الحواس، وذلك على أساس أن الحواس قد تخدعنا فيما تقدمه إلينا على أنه هو حقائق الأشياء في حين تكون حقائق الأشياء بعيدا عما نقلته إلينا حواسنا عنها؟ ويضرب الغزالي أمثلة لذلك، فيقول: إن العين تطيل النظر إلى «الظل» فلا تراه إلا ساكنا لا يتحرك فإذا انتظرنا ساعة بعد ذلك، ثم وجهنا البصر إلى ذلك الظل الذي حسبناه ساكنا، وجدنا أنه قد تحرك عن موضعه الذي كنا رأيناه عليه! ومعنى ذلك أن العين رأت ما ظنته سكونا وإذا هو حركة، ويسوق الغزالي مثلا آخر، هو أن الحواس متمثلة في حاسة البصر التي هي أقواها ترى الكوكب من كواكب السماء فتحسبه في مقدار الدينار، وإذا بالاستدلالات الهندسية يتبين أنه أكبر من الأرض حجما.
والذي نعلق به على هذه النظرة إلى إدراك الحواس أمانة أو خداعا، هو أن من يتهمون الحواس بالتقصير والخطأ فيما تنقله إلينا حواسنا عن أشياء العالم الخارجي، يفوتهم أمران: أولهما أن الذي يصحح لنا ما حسبناه خطأ أوقعتنا فيه إحدى الحواس، هو الحاسة نفسها التي اتهمناها، أو هو حاسة أخرى من حواسنا، وأما الأمر الثاني، فهو أن أصحاب هذه النظرة المتشككة في صدق المعرفة الآتية إلينا عن طريق الحواس، يفوتهم أن ما قد ظنوه إدراكا مكذوبا من الحاسة ، إنما هو في حقيقة أمره خطأ يقع فيها الإنسان بسبب تسرعه في عملية الاستدلال العقلية التي يجريها على الصورة التي قدمتها له الحاسة، وانظر إلى المثلين اللذين ذكرهما الغزالي بيانا لما تكذب به الحواس علينا؛ فالمثل الأول هو أن العين ترى الظل فتحسبه ساكنا مع أنه في حقيقته متحرك، فما الذي أنبأنا فيما بعد أن الظل قد أصبح في وضع جديد غير ما قد كان عليه؟ إنه البصر أيضا، ولقد فات البصر أن يرى حركة الظل أول مرة؛ لأنه أبطأ مما خلق البصر البشري ليراه، فمعلوم أن للبصر مجالا يستطيع الرؤية في حدوده، فلا هو يرى ما أبطأ حركة، ولا هو يرى ما هو أشد سرعة، وإذن فقد كان البصر «صادقا» حين أنبأ صاحبه أنه لا يرى حركة الظل؛ إذ هي حركة أبطأ من الحدود التي فرضت عليه، وإنما مصدر الخطأ هنا هو التسرع في الاستدلال العقلي، فكأنما قال ذلك المتسرع لنفسه: إذا كانت العين لا ترى حركة إذن فلا حركة، فها هنا انتزعنا نتيجة بغير حق، من مقدمة لا تنتجها؛ لأنه إذا كانت العين قد قصرت عن رؤية شيء ما، فلا يكون ذلك دليلا على أن ذلك الشيء معدوم، فقد تكون لإدراكه وسيلة أخرى، وقد لا تكون لدى الإنسان وسيلة لإدراكه على الإطلاق.
والمثل الثاني الذي نقلناه عن الغزالي في تشككه في معرفة تجيء عن طريق الحواس هي رؤية العين للكوكب البعيد صغيرا، وكأنه في مقدار الدينار، مع أن الاستدلال الهندسي يبين أن ذلك الكوكب أكبر حجما من الأرض! فها هنا أيضا كانت العين أمينة في الصورة الصغيرة التي قدمتها؛ لأن قوانين الضوء تحتم على العدسة المدركة لشيء بعيد أن تصغر صورته بقدر معلوم كلما بعد، وإذا شئت فاستخدم آلة التصوير في التقاط صورة ذلك الكوكب، تجد قوانين الضوء قد قامت بفعلها في تحديد مقدار الصورة المنعكسة على عدستها، وإذن فمصدر الخطأ مرة أخرى، ليس هو اختراعا أو كذبا من حاسة البصر، بل هو تسرع الإنسان في عملية الاستدلال العقلية، التي يبنيها على ما تجيء إليه به الحواس، فكان يقول لنفسه: حجم الصورة التي تقدمها عدسة العين هي كذا، إذن يكون ذلك نفسه هو حجم الشيء الذي رأته، مع أن الصحيح هو أن يضيف إلى الموقف قوانين الضوء، وفيها أننا لو تابعنا القائلين بالشك في قدرة الحواس على تصوير الواقع لما استطاع الإنسان أن يتقدم قيد شعرة في العلوم الطبيعية؛ لأن هذه العلوم تجمع معطياتها الأولى مما تقدمه إليها الحواس من مشاهدات، ثم تبدأ بعد ذلك العملية العلمية، من فرض الفروض، واستخدام النظريات وصياغة القوانين، ولقد رأينا بالفعل جميع من تشككوا في قدرة الحواس يحصرون أنفسهم فيما فطر عليه العقل من مبادئ ثم استدلال ما أمكن استدلاله من تلك المبادئ، وعند هذا الحد العقلاني الصرف يقف علمهم بالكون وبأنفسهم.
ورابعا:
إن الطريقة التي عرض بها الإمام الغزالي ثقته بالعقل وما يؤدي بنا إلى العلم اليقيني، قد جعلتني أتمنى أن أجد وسيلة تنشرها في الناس اليوم لعلهم يستيقظون من سباتهم الفكري، فهو بعد أن يؤكد لنا أن العلم الذي هو مطلبنا، إنما هو العلم اليقيني يضرب له مثلا: العشرة أكثر من الثلاثة، ثم يقول عنه: إنه إذا قال لي قائل: انظر إنني قادر على تحويل هذا الحجر ليصير ذهبا بلمسة من أصابعه أو قائل يقول انظر إنني قادر على أن أحول هذه العصا ثعبانا! ومن قدرتي هذه أقول لك إن العشرة ليست أكثر من الثلاثة، بل الثلاثة أكثر من العشرة، فهنا أتمسك بصدق الحقيقة العقلية، ثم به لا يمنعني ذلك عن التعجب من قدرة من حول الحجر ذهبا أو جعل العصا ثعبانا، فهذه القدرة السحرية تحتاج إلى بحث في حقيقتها، ولكنها لا تستطيع أن تشككنا في صدق أن العشرة أكثر من الثلاثة! (أورد الغزالي مثل هذا الحوار، إلا أن المجال هنا لم يتسع لذكر النص) وانطلاقا من هذا الدرس الغزالي العظيم نقول: إنه لا يجوز لنا أن نصم آذاننا عن الحقيقة العلمية الثابتة - كما نفعل اليوم - كلما تعرض لنا من خلب أبصارنا بقدرته السحرية! وواجبنا هو أن نفرق - كما فرق الإمام الغزالي - بين شيئين مختلفين، فبينما نتمسك بما قد أثبته العلم يحق لنا أن ندهش للعجائب التي يعرضها علينا أصحاب الخوارق.
Неизвестная страница