سألني كاتب عربي خلال حديث طويل جرى بيننا، تشعبت معنا أطرافه حتى شمل جوانب كثيرة من حياة الثقافة العربية في أيامنا هذه، وكان هو في أغلب الحديث سائلا وكنت مجيبا؛ لأنه من أجل هذا زارني، ولقد سعدت بحديثه، وشرفت بفضله، سألني في ختام حديثه قائلا: ماذا تقول في أوجز عبارة ممكنة، إذا أردت أن تحدد للناس دورك الذي أردت أن تضطلع به في حياتنا الفكرية؟ فأجبته: إنه محاولة لتوضيح الأفكار المحورية التي تدور حولها ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، تلك هي الإجابة الموجزة عن سؤالك. ولكني أريد أن أضيف إليها هامشا شارحا، حتى لا يساء فهم ما أعنيه، وهو أني لم أقصد بذلك التوضيح للأفكار السياسية الشائعة، إلى القول بأني ملم بتلك الأفكار، وعلى علم كامل بمضموناتها، فذلك ادعاء لا يدعيه لنفسه إلا جاهل مغرور، وإنما الذي قصدت إليه هو أني أحاول لنفسي أولا أن أحلل الفكرة الغامضة إلى عناصرها؛ لأفهم منها ما استطعت فهمه، حتى إذا ما خيل إلي أن قد استطعت إلقاء بعض الضوء على تلك العناصر الداخلة في تكوين الفكرة، هممت بعرض ما وصلت إليه على الناس.
وليس هو من قبيل الاستطراد المخل، أن أستطرد بالحديث قليلا، لأبين طرفا مما أداه ويؤديه الفكر الفلسفي في كل عصوره، وعلى أيدي جميع أعلامه، وذلك هو قيامه بدور شبيه جدا بعالم الطبيعة، حين ينظر خلال منظار مكبر إلى الظاهرة التي يريد دراستها، فهو عندئذ لا يبتغي أن يضيف من عنده شيئا إلى الظاهرة لم يكن فيها، فهو - مثلا - إذا نظر بمنظاره إلى ماء في كوب، ورأى حشدا هائلا من الكائنات الحية الدقيقة سابحة في الماء، ولا تراها عين الإنسان المجردة، فهو لم يضف شيئا من ذلك إلى الماء ، بل رأى ما هنالك، فعرف - بفضل المنظار المكبر - ما لا يعرفه الإنسان العادي في حياته العملية، وشبيه بهذا ما يصنعه الفكر الفلسفي عند تمحصه لفكرة معينة، يستخدمها الناس قولا وكتابة، وهم على اعتقاد بأنهم إنما يستخدمون فكرة يعلمون عنها ما يراد بها أن تعنيه، وأما ما يقابل المنظار المكبر في هذه الحالة، فهو عمليات التحليل التي يجريها الفيلسوف على الفكرة المراد توضيحها، وعندئذ قد يجد في مضمونها من العناصر ما لم يتنبه إليه أحد، وأقل ما يقال في هذا الصدد، هو أن عملية التحليل تبين أن ما قد ظنه الناس «واضح» المعنى، هو في حقيقة أمره غامض وفي حاجة إلى إضاءة وتحديد.
وقد تسأل: وهل تنزل علينا أفكارنا كما ينزل المطر، ويكون علينا أن نفحص ما قد نزل علينا من عالم مجهول، لنعرف محتواه؟ ألسنا نحن الذين نضع أفكارنا ونختار لها الألفاظ التي تؤديها، وإذن تكون معانيها هي ما أردناه نحن لها؟ والإجابة هي: نعم، ذلك صحيح بالنسبة إلى «العلوم» التي تقدمت؛ كالكيمياء والفيزياء، ففيها يصنع علماؤها لغتها بعيدا عن لغة الحياة الجارية، أما ما عدا ذلك من مجالات القول، مما تستخدم فيه لغة مأخوذة من لغة الناس في حياتهم اليومية، فالأفكار المعروضة تكون مشوبة دائما بدرجة من الغموض، لماذا؟ لأن الألفاظ الواردة في لغة الناس الجارية، تشحن بكثير من مشاعر هؤلاء الناس عند استخدامهم للغة، ومن هنا تأتي اللفظة، أو العبارة، جامعة بين وظيفتها في الإشارة إلى الأشياء التي تتحدث عنها، وبين ما قد شحنت به من مشاعر؛ كالفرح، والحزن، والتفاؤل، والتشاؤم، وهكذا. والذي يحدث بالفعل، هو أن جميع «الأفكار» التي تدار حولها الحياة الفكرية، في السياسة والاقتصاد، والاجتماع، وعلم النفس، وفي القيم المختلفة التي تقوم بها المواقف والأشياء والأشخاص؛ كقولنا: شريف، صادق، شرير، حر، عادل، جميل، وفي، غني، فقير، مثقف، إلخ إلخ، أقول إن جميع الأفكار التي تجيء كلمات كهذه لتدل عليها، هي على كثير جدا من الغموض، وموضع المأساة، هو أن هذه الكلمات الغامضة بطبعها، هي هي نفسها التي تثير في أصحابها التعصب، والانحراف ، والخصومة، والقتال.
فهي إذن تحتاج منا دائما إلى نوع من التحليل، والتوضيح، والتحديد، ليكون المتجادلون بها على علم فيما يتجادلون حوله، وأن الفكرة المعينة لتصبح «واضحة» كل الوضوح، في حالة واحدة فقط، وهي أن نعرف ما هي «الإجراءات» العملية التي يصبح في وسعنا أن نجريها بالفكرة عند معالجتنا للأشياء التي تضطرنا حياتنا العملية إلى معالجتها. فمثلا نحن جميعا نريد لقول القائل أن يكون «صادقا»، فكيف نعلم عن قول معين أنه «صادق»؟ هنا تجيء العملية التحليلية الموضحة للإجراءات التي نجريها على ذلك القول لنميز فيه بين الصدق والكذب، وليس ذلك بالأمر الهين السهل في كثير جدا من الحالات.
ويكفيني هذا استطرادا في مجرى الحديث، أردت به تحديد ما قصدت إليه، حين أجبت عن سؤال الكاتب العربي الفاضل، الذي طلب مني أن أوجز القول في الدور الذي حاولت الاضطلاع به في حياتنا الفكرية، وكان جوابي هو أنني حاولت الإسهام في توضيح المعاني الأساسية التي تدور بها الألسنة والأقلام، دورانا يفترض فيها الوضوح وما هي بواضحة، فيلزم عند ذلك أن ترانا «نلت ونعجن» أياما وأعواما، في أفكار لها أهميتها، ومع ذلك لا يتسرب من ذلك شعاع إلى سلوك الناس في حياتهم العملية، ليتغير بما أردنا له أن يتغير به.
وإذ كنا نتحدث في هذا، أمدتني الذاكرة من تلقاء نفسها، ببيتين من شعر العقاد، أوردهما في قصيدته المعروفة، التي أسماها «ترجمة شيطان» وهي قصيدة طويلة تمتد بضع صفحات، أراد بها أن يترجم لحياة الشيطان: فما الذي اقترفه من إثم، وكيف أنه عوقب على ما اقترف، بأن أنزل من سمائه إلى أرض الناس هذه، فأراد أن ينتقم لنفسه بغواية البشر، وبينما هو ينتقل من محاولة فاشلة إلى محاولة فاشلة، لمعت في رأسه فكرة «شيطانية»، وهي أن ينصب للناس فخا لا نجاة لهم من شره، وهو أن يلقي فيهم فكرة اسمها «الحق»، ولما كان الشيطان على يقين بأنهم لن يصلوا عن هذا «الحق» إلى نتيجة حاسمة يقبلونها جميعا، فلا مفر لهم من خصومات حولها؛ إذ ما يرى أحدهم، أو جماعة منهم، أنه هو «الحق» سيراه آخر، أو جماعة أخرى أنه هو عين «الباطل»، فتشتعل الحروب إلى غير نهاية، وهو مطلوب الشيطان، وهاك نص البيتين:
ورمى أول فخ فأصابا
ودعاه «الحق» فاستلقى فنام
وأناب «الحق» عنه فاستجابا
وإذا الحق لجاج واختصام
Неизвестная страница