إن من أهم ما قد لاحظه كاتب هذه السطور، خلال أسفاره وقراءاته ومقارناته، أن الطفل في البلاد المتقدمة - أخذا بمتوسط الحالات - يفوق الطفل عندنا في محصوله من المعلومات التي يجمعها عما يراه ويسمعه عن الأشياء والكائنات، بدرجة تلفت النظر، ثم يطرد هذا الفرق، بل ويتسع بينهم وبيننا في شرائح العمر بعد ذلك: وحسبك أن تلقي سؤالا على واحد من المشتغلين بمهنة أو بحرفة معينة، أو من رجال الفن والأدب، أو مما شئت من فئات الناس، عندهم وعندنا، لتسمع كيف يتدفق المسئول عندهم بسيل من المعرفة عما سألته عنه، وكيف يتعثر المسئول عندنا في لتسمع كيف يتدفق المسئول عندهم بسيل من المعرفة عما سألته عنه، وكيف يتعثر المسئول عندنا في القليل الذي يعرفه عن موضوع السؤال؟ وتعليل ذلك يسير؛ فالأعين والآذان هناك مدربة على أن ترى وأن تسمع ما حولهما وعما حولهما، والأعين والآذان عندنا تركت لتتلقى ما تتلقاه، دون أن يقابل ذلك في الإنسان المتلقي إرادة متعمدة للتدقيق في تفصيلات ما قد وقع من تلقاء نفسه على الأسماع والأبصار، ثم تجيء بعد ذلك عادة القراءة عندهم - وما يقرب من انعدام القراءة عندنا، فيضاف هذا العامل إلى العامل السابق - لنصل إلى نتيجة صحيحة ومفزعة، خلاصتها أنهم هناك يعرفون، وأننا هنا لا نعرف.
ثم لا يقتصر موقفنا في دنيا المعرفة على هذا القصور في «الكم»، بل يضاف إليه قصور آخر في «الكيف»، من شأنه أن يوسع من الفجوة التي تفصل الإنسان عندنا عن العالم الذي يعيش فيه، وذلك أن ما يعرفه العارف منا بشيء يغلب أن يكون مستمدا من مقروء، ويندر أن يجيء عن طريق اللقاء المباشر بين «الشيء» وعارفه، فينتهي بنا الأمر إلى أن نكون - إذا استبحنا شيئا من المبالغة - سجناء كلمات، قرأناها، أو سمعناها، منذ طفولتنا فصاعدا إلى أعمار النضج، وكأننا قد تحولنا بأشخاصنا إلى مخزون من ألفاظ أو عبارات، حفظتها لنا الذاكرة، حتى إذا ما أريد لنا أن نعالج الأشياء ذاتها، في موقف معين، تعذر علينا ذلك أو استحال، وبرهان ذلك ما نضطر إليه، كلما استعصت مشكلة عملية، أن نستدعي لها «الخبراء الأجانب»، حتى باتت هذه العبارة موضعا للتفكه، إننا قد «نعرف» ولكنها معرفة بما كتب أو قيل عن الشيء موضوع تلك المعرفة، وأما الشيء نفسه فهيهات أن تكون بيننا وبينه صلة مباشرة، لقد كنت أتحدث ذات يوم مع أستاذ في إحدى كليات الزراعة في جامعاتنا، فقال لي في حماسة شديدة، إنه لا بد من إدخال «مقرر» جديد في كليات الزراعة، وهو ما يسمى الآن «بالهندسة الوراثية»، وبين لي أهمية هذه المادة العلمية الجديدة، التي تتزايد أهميتها، وخطورتها، كل يوم، وأخذ الأستاذ الفاضل يشرح لي كيف أصبح في مستطاع علماء هذه المادة، أن يدخلوا تنويعات جديدة في أنواع النبات والحيوان، ليس فقط في النطاق المحدود الذي عهدناه في عمليات التهجين، بل ربما تلاقحت أجزاء من نوع معين بأجزاء من نوع آخر من أنواع الحيوان والنبات، وإذا بنا أمام كائن جديد كل الجدة، متميز بخصائص لم تكن من جنس الخصائص التي كانت لأي من النوعين اللذين اندمجا فأنتجا ما أنتجاه، فلما فرغ الأستاذ العالم من عرضه وشرحه، مؤكدا ضرورة إدخال هذا المقرر الدراسي الجديد، سألته: إلى أي حد يكمن القول بأن طلاب الزراعة، أو أساتذة الزراعة، إذا ما أضيفت في مقرراتهم مادة «الهندسة الوراثية» قادرون بعد ذلك على إجراء تلك العمليات الانقلابية في عالم الأحياء؟ فضحك وقال: إلى حد الصفر، فنحن ندرس ثم لا قدرة على التطبيق في أمثال هذه الميادين.
ليست المسألة في تطوير التعليم عندنا - إذن - هي إضافة مقررات وحذف مقررات، بل هي قبل ذلك وبعد ذلك، تغيير في الأسس التي نقيم عليها صروح التعليم، بحيث ننتقل بها من محورية «الكلمة» إلى محورية «الفعل» والفعل بطبيعة الحال، يستلزم أن يكون مدار التعليم هو الشيء الذي ينصب عليه ذلك الفعل.
إن من أميز ما يميزنا بالقياس إلى سائر الأمم، هو عمق الإحساس الديني، فلكل إنسان على وجه الأرض عقيدته الدينية، ولكننا أعمق صلة بالعقيدة، وربما كان ذلك لطول الزمن الذي عشناه في ظل الدين، فمنذ فتح لنا التاريخ كتابه ليسجل كان السطر الأول فيما سجله عن أمتنا، أنها أمة جعلت الدين محور حضارتها، وعماد ثقافتها، وهكذا ظلت العصور تتعاقب علينا، بديانات ترسخ في قلوبنا لرسوخ الأساس الذي تبنى عليه، وجاء الإسلام لنؤمن به إيمانا، اشتدت حرارته وعمقت جذوره، لسابق عهدنا الطويل بحياة دينية، وكان مما أكد عليه الإسلام، وجوب أن يصل المؤمن نفسه بظواهر الأرض والسماء، بدرسها فيزداد معرفة بعظمة الله سبحانه وتعالى، والحق أن الفارق بعيد بعيد في إدراك العابد لعظمة الله وجلاله، وهو يعرف الأشياء من أسطحها معرفة عابرة، بل ربما اقتصر علم كثيرين بالشيء المعين، على معرفة اسمه، وبين أن يمعن العابد نظره ولو في شيء واحد، كأن يمعن النظر في سمكة وكيف تسبح وتعيش في الماء، أو في طائر وكيف يطير؛ لأن المؤمن إذا ما عرف التفصيلات، ولو في كائن واحد، لانطلق لسانه، وبغير عمد منه، يقول: الله أكبر، سبحانه من خالق! لقد استمعت مرة في إذاعة أجنبية، لعالم يشرح للسامعين كيف يستطيع البرغوث أن يقفز مثل قفزته العالية، فصغر حجمه قد تثير السؤال: من أين لهذا الحجم الضئيل، تلك «الطاقة» الدافعة التي تمكنه من قفزته العالية؟ وأخذ يبين العالم للسامعين نتيجة أبحاثه العلمية مع زملائه في هذا الصدد؛ إذ وجدوا أن الساقين الخلفيتين للبرغوث أطول من الساقين الأماميتين، وأن تلكما الخلفيتين موصولتان مع جسم البرغوث بوصلة من المطاط، فهو حين يهم بالقفز، يمد ساقيه الخلفيتين، فتمتد الوصلة المطاطية، ثم يترك نفسه، فإذا بالجزء المطاطي المتوتر يدفع البرغوث إلى كل الارتفاع الذي يصل إليه في قفزته، وما إن فرغ العالم من شرحه، حتى نطقت قائلا: سبحان الخالق العظيم، فبمعرفة التفصيلات في الكائن الواحد، تدرك مواضع الإعجاز.
فلو أردنا - حقا - ثورة تعليمية، لم يكن لنا بد من البدء بالطفل وحواسه، لنفتح له نوافذ السمع والبصر، فيرى ويسمع، ويجمع ما استطاع جمعه من معلومات عن «الأشياء»، وأن ندربه تدريبا متواصلا، في كل مناسبة، وفي كل درس أيا ما كان موضوعه، على أن يبحث لكل جملة تقال أو يقولها، عن «الأشياء» التي جاءت تلك الجملة لتشير إليها، لكي نحصنه منذ بداية الطريق من أن يألف القول الفارغ من أي معنى، وهو لا يدري أنه فارغ، فإذا ما اجتزنا به مرحلة الطفولة، وسرنا معه إلى مرحلة تعليمية أعلى، بدأنا له شوطا آخر من التدريب على «النظرة العلمية» التي نعمده لاكتسابها، وتلك هي أن نأخذ في توجيه انتباهه إلى اللغة وما فيها من فخاخ يقع فيها كل إنسان إذا لم يكن على حذر؛ فأصحاب اللغة في استعمالها للتفاهم، سواء أكان ذلك بين أبناء الجيل الواحد المتعاصرين، أم كان بين الأجيال المتعاقبة، بأن يكتب جيل سابق ليقرأه جيل لاحق، أقول إن أصحاب اللغة مضطرون اضطرارا، إلى التعميم اختصارا للمفردات اللغوية التي يستخدمونها، فهم - مثلا - يكتفون بقولهم «ناس» ليختصروا بها ملايين الأفراد الذين منهم يتكون النوع الإنساني، وهم يقولون «مصر» ليشيروا بلفظة واحدة إلى تاريخ امتد أكثر من ستة آلاف من السنين، بكل ما فيها من أناس وأحداث، وهكذا، فواجب المتلقي - في الحالات التي تستوجب الدقة العلمية - أن يفك هذا التلخيص، بالدرجة التي تتناسب مع أهمية الموقف القائم بين يديه، وهي عميلة تحتاج إلى تدريب طويل، ربما طال ما طال العمر، لكننا بعيدون جدا عن مثل هذا التدريب، حتى ليجيز الواحد منا لنفسه، أن يقذف بالكلمات قذفا كما اتفق، في سياقات ربما كان لها من الخطورة ما تهتز له حياة أمة بأسرها.
خذ أمثلة لذلك: قسمنا شعبنا إلى خمس مجموعات، تنظيما لممارسة الحقوق السياسية ممارسة تكفل العدالة بنسب صحيحة، فقلنا إن تلك المجموعات الخمس هي: العمال، والفلاحون، والجنود، والمثقفون، والرأسمالية الوطنية، وللوهلة الأولى حسبنا تقسيما واضح الحدود، أما حين جاءت الوهلة الثانية، وأعدنا النظر، تبددت لنا الفواصل بين الفئات، وكأنها من شدة غموضها لا فواصل، فمن هو العامل؟ ومن هو الفلاح، ومن هو المثقف؟ وما هي حدود الرأسمالية الوطنية؟ إننا إذا استثنينا فئة «الجنود» التي قد تكون على شيء من التحديد، وجدنا صعوبة في تحديد الفئات الأربع الأخرى، وحتى فئة «الجنود» على تحديدها، لا تخلو من التداخل في غيرها، فالجنود هم جنود ومثقفون، فلا غرابة إن أخذنا نعيد ونصحح ما نعنيه «بالعامل» وما نعنيه «بالفلاح»؛ لأنهما فئتان لهما أهمية خاصة، ما دمنا قد جعلنا لهما الحق في نصف المقاعد على الأقل، في كل تجمع نيابي، وتركنا الفئات الثلاث الأخرى تتخبط في غموضها.
خذ مثلا من اللاعلمية في استخدام الألفاظ، حتى على المستويات الرسمية، فقد رفعنا شعارا عن التعليم ، كان في الأصل جملة أدبية الصياغة قالها طه حسين، والشعار هو أن التعليم حق للجميع كالماء والهواء، ومرة أخرى سحرتنا الألفاظ دون النظر إلى تحديد معانيها، فوقعنا في محظورات كان يمكن أن ننجو منها لو تمهلنا وقيدنا أنفسنا بدرجة من «العلمية»، فما هي حدود «التعليم» الذي هو حق للجميع، هذا سؤال واحد لو تأملناه في أوانه لما فتحنا الأبواب على مصاريعها للقادرين وغير القادرين بحكم استعداداتهم الفطرية، وخذ مثلا ثالثا شعارا وطنيا رفعناه ذات حين، وهو أن تكون السيادة في حياتنا «لأخلاق القرية»، فما هو تعريف «القرية»؟ وما هي «الأخلاق» التي تكون لأبناء القرية ولا تكون لأبناء المدينة؟ إني بهذا التساؤل، لا أقرر صوابا وخطأ، بل الذي يعنيني هو أن أبين إلى أي حد، وعلى أي مستوى، نلقي بألفاظ لا نتقيد بتحديد معانيها، برغم ما لها من عمق الأثر في حياتنا العامة، إن كاتب هذه السطور ليعترف أمام القارئ بأنه قد أخذته الدهشة من سذاجة فكره، حين اجتمع المفاوضون المصريون مع المفاوضين من إسرائيل، حين أرادوا بحث مشكلة الضفة الغربية وقطاع غزة، فكانت الصدمة الأولى أن قال الإسرائيليون: إن المقصود بالضفة والقطاع، هو السكان وليس الأرض! فإلى هذا الحد يجب استعداد الإنسان بالتحليل والتحديد، كلما وجد المقام جديرا بذلك.
من أجل هذا كله وما هو أكثر منه، قلت للمسئول الكبير الذي قرر لي بأن الدولة مقبلة على ثورة تعليمية تبدأ من الجذور، قاصدا «بالجذور» «المقررات الدراسية» إن الرأي عندي هو أن نبدأ مما يسبق الجذور، فنعنى بإعداد التربة وانتقاء البذور.
تلك أم المشكلات
مشكلاتنا كثيرة، يعرفها عابرو السبيل كما يعرفها العلماء الباحثون، الحكام المسئولون، لا فرق في ذلك بين واحد وآخر إلا في التفصيلات أو في القدرة على رد الوقائع إلى أسبابها، فالجميع يعرفون مشكلاتنا، لأننا جميعا نكابدها ونعانيها، أو - إن شئت دقة في العبارة - قل إن كلا منا يعرف من مشكلاتنا ذلك الجانب، أو الجوانب، التي تمس حياته مسا مباشرا، وقد يفوته من تلك المشكلات ما ليس يدخل في حياته العملية فيعانيه ، واستوقف أول عابر سبيل يصادفك في الطريق العام، واطلب منه أن يذكر لك ما يعرفه عن مشكلات حياتنا الراهنة، فلن يعدم القدرة على جواب، إلا يكن جوابا شاملا للقائمة كلها، بتفصيلاتها، كما تفعل الأبحاث العلمية، أو التقارير الرسمية، فلا أقل من أن يذكر لك ثلاثا منها أو أربعا، وهو إذ يفعل ذلك، فهو لا يفعله على نحو ما نراه في تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات في وقتنا الحاضر، حين يحفظون نقاط الموضوع المعين حفظا أصم وأبكم ليفرغوا ما قد حفظوه على ورقة الامتحان، دون أن تهتز له في كيانهم الحي شعرة واحدة، بل إن عابر السبيل يذكر لك مشكلات ينام مستغرقا في همومها إذا أمسى عليه المساء، ويصحو غارقا في همومها إذا أصبح عليه الصباح، فهي مشكلات تقع من حياته موقع النبضة الزائدة إذا نبض بها قلب المريض، أو موقع الوجع الذي يأتيه من أحشائه ولا يعلم من أي حشى معين من تلك الأحشاء قد جاء الألم.
Неизвестная страница