مقدمة
نافخ النار
تلك المعزوفة الكبرى
كان حلما وما زال حلما
موطن الداء
تلك أم المشكلات
حاطب الليل
حقائق الأشياء وظلالها
لولا اخترقنا هذا الجدار
من ذا يزيح هذا الضباب؟
وقفة عملية هادئة
فطرة الإنسان تهديه
طريق القدماء طريقنا ... ولكن
ضمائر العلماء
لجاج واختصام
صورة مصغرة
وللحرية شيطانها
رواية وراويها
على سبيل الفكاهة
اختلط الحابل بالنابل
لقاء في الجسرة
غمار الناس والصفوة
وثبة جبارة
وماذا عن عجوز البر؟
الإمام الغزالي تحاوره حواسه
الشجرة المباركة
عن العقل ونضجه «1»
عن العقل ونضجه «2»
مقدمة
نافخ النار
تلك المعزوفة الكبرى
كان حلما وما زال حلما
موطن الداء
تلك أم المشكلات
حاطب الليل
حقائق الأشياء وظلالها
لولا اخترقنا هذا الجدار
من ذا يزيح هذا الضباب؟
وقفة عملية هادئة
فطرة الإنسان تهديه
طريق القدماء طريقنا ... ولكن
ضمائر العلماء
لجاج واختصام
صورة مصغرة
وللحرية شيطانها
رواية وراويها
على سبيل الفكاهة
اختلط الحابل بالنابل
لقاء في الجسرة
غمار الناس والصفوة
وثبة جبارة
وماذا عن عجوز البر؟
الإمام الغزالي تحاوره حواسه
الشجرة المباركة
عن العقل ونضجه «1»
عن العقل ونضجه «2»
بذور وجذور
بذور وجذور
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
أردت في فصول هذا الكتاب أن أتعمق حياتنا لأصل إلى جذورها التي منها انبثق جذع تلك الحياة، ثم من الجذع تفرعت الفروع وأورقت وأثمرت ثمارها؛ ثم لم أقف عند الجذور، بل مضيت في الحفر لأصل إلى البذور الأولى التي فعلت فعلها في خفاء التربة، حتى أخرجت الجذور؛ بيد أني في تلك العملية التحليلية، آثرت أن أصطنع فيما أكتبه، ذلك الأسلوب الذي دأبت على اصطناعه في كثير جدا مما كتبته خلال خمسة عقود من السنين أو ما يزيد قليلا عن هذا العدد، وهو الأسلوب الذي تمتزج فيه ذات الكاتب وخبراته وآلامه وآماله، مع الأفكار التي يراد عرضها على الناس، ومثل هذا المزج هو إحدى سمات المقالة «الأدبية»؛ فللمقالة «الأدبية» سمات كثيرة أخرى، ليس هذا مكان عرضها تفصيلا، لكن حسبنا الآن أن نذكر منها هذه السمة الواحدة؛ لأنها قد تعين القارئ على تقويم ما يقرؤه في هذا الكتاب وفي غيره مما صدر لهذا الكاتب، على أن ما قد نشره هذا الكاتب في هذا الكتاب، وفي كثير غيره، من فصول تبدو متفرقة في صورة «مقالات»، وهي في حقيقتها أجزاء من موقف واحد يستهدف هدفا أساسيا واحدا؛ أقول بأن ما قد نشره الكاتب في هذا الكتاب، تتفاوت في فصوله درجات المزج بين «ذات» وخبراتها، و«موضوع» وما يشتمل عليه من أفكار يراد عرضها؛ ومع هذا التفاوت تتفق الفصول كلها في حقيقة معينة، هي أنها «أفكار» عاشها الكاتب وعاناها، وكلها يدور حول تحليل حياتنا تحليلا يردها إلى بذورها وجذورها، لتنشأ فرصة أمام أبصار المبصرين أن ترى أين تكمن القوة وأين يكمن الضعف.
فكانت البذرة الأولى، هي حقيقة «المصري» ما هي؟ من أي العناصر تركبت «هويته» على امتداد التاريخ؟ ثم كيف نرى حياته الآن من هويته تلك، وكان مختصر الجواب أن جوهر المصري هو أن يحيا حياته الدنيا زراعة، وصناعة، وفنا، وحربا، وسلما، أن يحيا تلك الحياة الدنيا بكل أفراحها وأحزانها، على أن ينظر إليها من منظور ديني يبين له أين تتعثر به الخطى وأين تستقيم؟ ولقد تغيرت عليه العقائد الدينية، لكن بقي «التدين»، يصاحبه دائما، ولب «التدين» - مع اختلاف العقائد - هو أن ينظر إلى الحياة الدنيا من حيث هي مقدمة لحياة الخلود، وهي مقدمة ضرورية؛ لأنها تهيئ للإنسان مسرح العمل الذي على أساسه يكون له في حياته الآخرة ثواب أو عقاب، فهي - إذن - حضارة أخلاقية، من عمق أعماقها، وعند هذا الأساس العميق تتلاقى مصر مع سائر أجزاء الوطن العربي الكبير، كما تتلاقى معه بعد ذلك في سائر المقومات الحضارية.
إن ثبات الهوية وديمومتها، لا ينفيان التغير مع متغيرات العصور، ولقد ضربنا لذلك مثلا ذلك السماك الذي أخذت ألواح قاربه تهترئ واحدا بعد واحد، وأخذ هو كلما اهترأ واحد منها، استبدل به لوحا جديدا، حتى جاء يوم لم يعد في القارب شيء مما كان فيه أول عهده، ومع ذلك فلا خطأ في قولنا إن القارب لم يزل هو القارب الذي كان، لماذا؟ لأن «الصورة» الأساسية، أو «الهيكل» الأساسي بقي على حاله، فخلع ثبات الهيكل ثباتا على هويته، وهكذا تكون هوية الأمة، تتغير عناصر حياتها، لكنه إذا بقيت «صورة» العلاقات بين أفرادها قائمة، قلنا إن الهوية ما زالت على حقيقتها الأولى برغم ما قد تغير من عناصر حياتها.
وننظر إلى حياتنا اليوم، فلا نتردد لحظة واحدة، في أن صورة العلاقات التي تربط المواطن بالمواطن قد تغيرت في صميمها، حتى يكاد الأمر يتحول من كون الأمة أمة واحدة، إلى كونها تجمعا من أفراد، كل فرد منهم يسعى إلى الحصول على أكبر نصيب ممكن من «الغنائم»، بأقل قدر ممكن من العمل، ومن هنا كان السابقون في هذا المضمار، هم أبرع الناس حيلة ودهاء، وليس أرفعهم ذكاء وعلما وعطاء، وما يقال عن أفراد الشعب الواحد من شعوب الوطن العربي، يقال عن الشعوب العربية بعضها إزاء بعض، فلم تعد الأمة العربية أمة بينها أواصر الأمة الواحدة، بقدر ما أصبحت عددا من الشعوب يمكر شعب منها بشعب ليظفر دونه بالغنيمة، ولولا بقية جوهرية بقيت، هي أن ذلك التفكك أكثر ظهورا على صعيد السياسة منها على صعيد الثقافة، لقلنا إن الرحمن قد أوشك بنا على الفناء.
وعند هذه النقطة ننتقل إلى «البذرة» الثانية من بذور حياتنا، فلماذا فقد الفرد الواحد من المواطنين في الشعب الواحد، إحساسه «بالآخرين»؟ ما الذي غرس في صدورنا ذلك الضلال الذي شوه الرؤية عند كل فرد حتى ليحسب أنه وحده في هذه الدنيا، له أن يحصد الحصاد كله لشخصه وحده، فإذا كان هنالك «آخرون» فإنما هم «أدوات» تستغل لصالحه وتستثمر لزيادة كسبه، وذلك - بالطبع - إذا استطاع أن يحقق لنفسه ذلك الوهم الكبير؛ إذ هو قد يصطدم بمن هو أشد ضراوة وأمكر حيلة، لعل ما ساعد الأفراد على هذه الأنانية المخيفة في حياتنا الاجتماعية اليوم، هو فقدان الفكرة الموحدة بيننا عن حقيقة «الإنسان»، ما هي؟ لقد درج معظم التاريخ الماضي على أن جوهر الإنسان هو «عقله»، وحتى الديانات الكبرى، التي جاءت إلى أهل الأرض وحيا من السماء، إنما جاءت لتقول لهم إن الجانب الذي كرم به الله الإنسان هو أن وهبه عقلا، يميزه عن سائر الكائنات، ولو بقينا على هذه العقيدة في حقيقة الإنسان، لأرسينا المعاملات الاجتماعية على أسس يرضى عنها منطق العقل، وأول ما يفرضه علينا ذلك المنطق، هو أن الإنسان اجتماعي، بطبيعته، لا يتحقق له وجود إلا إذا نظر إلى نفسه من حيث هو عضو في جسم كبير، دون أن تقلل هذه العضوية من حقيقته فردا مسئولا. وانظر إلى أعضاء الكائن الحي: القلب قلب يؤدي وظيفته كاملة، لكن هذا الأداء نفسه ما كان ليكون ذا قيمة، إذا لم يقم بتلك الوظيفة ليمد سائر الأعضاء بزاد من الدم لتحيا، وهكذا قل في الرئتين، وفي الكبد، وفي المعدة، وفي كل عضو من أعضاء البدن، وتلك العلاقة هي نفسها ما يفرضها منطق الفعل، على أفراد المجتمع، لكنه جاء عصرنا هذا بما يبلبل الفكر عن حقيقة الإنسان، فمن قائل إنه كذا، ومن قائل إنه كيت، مما يندرج تحت عنوان «اللاعقل»، حتى أصبح «اللامعقول» أساسا ينافس المعقول، وقد يغلبه على أمره ليسود، ولقد ساد اللامعقول في كثير من جوانب حياتنا، فكان من نتائج ذلك أن ظن الفرد الواحد أنه يستطيع أن يغض النظر عن سائر الأفراد، كما ظن الشعب الواحد من الشعوب العربية أنه يستطيع أن يسقط من حسابه سائر الشعوب.
وعند هذا التنافر الحاد بين الأفراد في الشعب الواحد، وبين الشعوب في الأمة العربية الواحدة، ننتقل إلى البذرة الثالثة وهي خاصة بالثقافة والمثقفين في حياتنا القائمة، فإذا أبعدنا عن المعاني الكثيرة التي تفهم بها كلمة «ثقافة» ذلك المعنى الذي يجعلها مجموعة العناصر كلها، التي من تركيبها في نسيج واحد، ينشأ نمط الحياة التي تحياها مجموعة معينة من الناس، بقيت لنا عدة معان أخرى، تريد ب «الثقافة» أن تشير إلى خصائص نوعية تتميز بها مجموعة من أفراد الشعب لا تشمل إلا نسبة قليلة من أبنائه، هي تلك القلة التي توجه اهتمامها - إبداعا أو استقبالا للمبدعات - نحو الأدب، والفن، والفكر، والقيم الضابطة للسلوك، والرؤية العامة التي على أساسها ينظر الإنسان إلى الكون وإلى الحياة بصفة عامة، وإلى حياة الإنسان في أركانها الأساسية بصفة خاصة.
وهذه المعاني النوعية للثقافة هي التي نقصد إليها بحديثنا هذا، وليس على واحد معين منها إجماع؛ إذ نجد الرأي في ذلك قد تفرق بين أعلام المفكرين في عصرنا هذا، فضلا عما اختلف به في العصور الماضية، فمن هو «المثقف» في حساب عصرنا؟ قائل يقول إنه ذلك الإنسان الذي يتميز بحب الكشف عن سر الحياة في شتى صورها، وفي صورتها الإنسانية بصفة خاصة، فهو لا يكتفي بالوقوف عند أسطح الكائنات وظواهرها، بل يريد أن ينفذ خلال تلك الأسطح الظاهرة ليرى دوافعها وجوهرها من باطن، فهكذا يفعل الشاعر في البحث عن دخائل النفوس، وهكذا يفعل الروائي والمسرحي والفنان التشكيلي والموسيقي، كل بالمادة الوسيطة التي يستخدمها، وهكذا أيضا يفعل المتلقي لهذه الأشياء جميعا، فهو وإن لم يكن قد أبدعها بالدرجة الأولى، يحاول أن يعيد إبداعها في نفسه حيث يتلقاها بالدرجة الثانية، وسواء أكان صاحب الاهتمام مبدعا أم كان متلقيا، فإنه في أعماق نفسه يبحث عن وسيلة تجمع له كل الرؤى وجميع المبدعات في العصر الواحد تلتقي في هدف واحد، هو غاية أبناء ذلك العصر، فإذا لم تكن هناك غاية معلومة قد أضمرت فيما يبدعه المبدعون ويتلقاه المتلقون، لم نجد في دنيا الثقافة إلا هشيما أعوزه أن يكتمل في كيان حي موحد.
ومثل هذا الهشيم هو الذي نراه في حياتنا الثقافية اليوم؛ فقد تجد أعمالا مفردة كثيرة لكل منها قيمته في ذاته، لكنه يتعذر عليك أن تستخرج غاية مشتركة يستهدفها المثقفون في ضمائرهم، وإن لم يروها ظاهرة في الوعي المباشر. وكيف نطمع في مثل هذه الغاية الموحدة، إذا نحن اختلفنا أولا على طبيعة «الثقافة» ذاتها، واختلفنا ثانيا على هدفها، فطبيعتها تتنازعها آراء، منها ما أسلفنا ذكره، وهو أن يتجه المثقف باهتمامه إلى مجرد الكشف عن دوافع الإنسان، ومنها ما يترك الإنسان وغموضه ليحصر انتباهه في «لغته»، وهنا سيجد غموضا شديدا في فهم الناس للمدركات الأساسية التي تدور حولها رحى الحياة، وعندئذ تكون المهمة الأولى للمثقف أن يزيل ذلك الغموض، تارة بالتحليل المنطقي للمعاني، وطورا بتجسيد تلك المعاني الكلية في أفراد روائية أو مسرحية أو شعرية، ومرة ثالثة تجد من يريد بالثقافة «تنويرا»، ويراد بالتنوير هنا أن تزداد معارف الناس عن دنياهم بصفة عامة، وأن ترسخ عندهم النظرة «العقلية» لأمور حياتهم بصفة خاصة، وقد كنا نتمنى لحياتنا الثقافية أن تأخذ بما شاءت من تلك المعاني؛ لأنها جميعا تؤدي إلى الغاية، لكننا لا نجد شيئا من هذا، وهنا نبحث عن «الغاية» من حياتنا كما تريدها لنا حياتنا الثقافية، فإذا هي غائبة؛ إذ تتقسمها وجهات نظر متناقضة فتمزقها، وحسبنا أن بعضنا يجد غايته في الرجوع القهقرى، وبعضنا الآخر يراها في استباق مستقبل مأمول.
وهنا نلقط الخيط من أيدي الداعين إلى العيش مع الأسلاف في ماضيهم، فنجد أنفسنا أمام البذرة الرابعة من بذور حياتنا الثقافية، وهي «التراث» وما نثيره حوله من ضجة تصم الآذان فلا تصغي ولا تسمع؛ لأن هذا الاسم إنما يشير إلى مسمى هو أوسع جدا وأعمق جدا من أن ينحصر في موضوع واحد يتيح لنا التحدث عنه متفقين أو مختلفين، فإذا نحن حصرنا لكل فئة منا ميدانها أو ميادينها التي تهمها من عالم التراث، ثم دققنا النظر بعد ذلك، وجدنا أنه إذا ما عاد أحدنا إلى الموروث في ميدان اهتمامه، فهو - أولا - قد لا يجد نفسه غريبا، لما يربطه بذوق أسلافه في مذاق مشترك، وهو - ثانيا - يجد أن مشكلات أسلافنا وإن اختلفت عن مشكلاتنا اليوم من حيث الموضوع، فهنالك جانب مشترك يربطنا بهم، ولقد طبق كاتب هذه السطور التجربة على نفسه، وعاد ليعيش لحظة مع أصحاب الفكر الفلسفي في مشكلة عرضوها واختلفوا في أمرها، فوجد نفسه منسجما معهم في جوهر الموقف؛ لأن المشكلة كانت عندهم هي هذه: أيأخذون عن فلاسفة اليونان منطقهم؟ أم أن الأمر في المنطق مرتبط باللغة، وبالتالي لا يكون المنطق اليوناني صالحا للغة العربية؟ فلم يجد هذا الكاتب عندئذ فرقا جوهريا بين سؤالهم وسؤالنا، فما زال السؤال واردا يحتمل اختلاف الرأي؛ إذ نسأل اليوم: أنأخذ عن فلاسفة الغرب؟ أم أن هؤلاء الفلاسفة يفلسفون حياة ليست هي حياتنا؟
لكن الدرس الهام الذي خرج به هذا الكاتب من تلك التجربة، هو أننا لو عقلنا ألفينا أن أسلافنا وهم يعالجون تلك المشكلة، التي هي نفسها المشكلة التي نتحدث عنها اليوم على أنها مشكلة «التراث» والحفاظ عليه، نراهم يحصرون المشكلة فيما يمس جوانب ثقافية قائمة بالفعل عندهم، ولم يجاوزوا ذلك ليجعلوها مشكلة تشمل كذلك الجوانب التي لم يكن في حياتهم مثيل لها، فلم يسأل أحدهم: أنأخذ عن اليونان ما قد وصلوا إليه في علوم الرياضة، والفلك، والفيزياء، والكيمياء، والنبات، والحيوان وغير ذلك؟ بل هم لم يسألوا هذا السؤال عن مشكلات إنسانية اجتماعية وجدوا حلولا لها عند اليونان ولم يكن لها مثيل عندهم، ولك أن تراجع كتاب «الأخلاق» ل «مسكويه»، فتراه يأخذ عن التصور اليوناني لعلم الأخلاق أصولا كثيرة، فلم يقلقه هذا الأخذ ولا أقلق سواه مع أن الموضوع خاص ب «الأخلاق» وتنظيرها، مما كان يمكن للمعترض على متابعة اليونان فيه أن يجد الكثير الذي يعترض به؛ إذ «الأخلاق» تمس صورة الحياة الإنسانية في الصميم، فإذا كان هذا هو موقف القدماء في مشكلة «التراث» أيامهم، أليس الأجدر به أن يكون هو موقفنا اليوم إزاء المشكلة ذاتها؟
ومن الحديث عن «الثقافة» ومعانيها التي تحققت في حياتنا أو لم تتحقق، نخصص القول الآن حول عنصر ثقافي واحد، لعله أخطر العناصر جميعا؛ لأن إصلاحه إصلاح للوقفة الفكرية كلها، وفساده فساد للوقفة الفكرية كلها أيضا، ألا وهو عنصر «اللغة»، ولتكن هذه هي البذرة الخامسة من بذور الشجرة الثقافية كما هي قائمة بيننا، ولسنا نريد باللغة هنا نحوها وصرفها واشتقاقاتها، كلا بل نحن لا نريد التحدث عنها من حيث صوابها أو انحرافها عن الصواب، في هذه المفردة من مفرداتها أو تلك، في هذا التركيب اللغوي أو ذاك، وإنما نريد «اللغة»، في فلسفتها ومنطقها ، فها هنا وقع ما وقع مما تعرضت له حياتنا الثقافية كلها من حيث جانبها المتصل ب «الكلمة».
والذي يعنينا الآن هو أن نصب الضوء على أمرين، ومنهما أمر يتشعب شعبتين. أما الأمران فهما أن هنالك ضربين من استعمال اللغة؛ فهي إما تشير إلى واقعة من وقائع العالم من حولنا، وعندئذ يستطيع المتلقي أن يراجع صدقها على الواقعة المشار إليها، وإما تشير إلى حالة خاصة عند المتكلم، كأن يقول إنه يشعر بالظمأ، وعندئذ ليس في وسع أحد أن يراجع قوله تصديقا وتكذيبا، ووجه الخلط الذي نغرق فيه حتى أذقاننا، ونتعرض - بالتالي - لما ليس له حدود من التخبط الفكري، هو أن المتكلم أو الكاتب قد يقول عما يشعر به هو شعورا خاصا، ثم يلزم الآخرين بأن يتقبلوا قوله دون أن يكون لهم حق المعارضة بأن ما قاله بضاعة خاصة به، هو حر في قبولها، والآخرون بدورهم أحرار فيما يشعرون به أو لا يشعرون.
على أن هذا الجانب الشعوري يعود فينقسم قسمين، أولهما أن يجيء الكلام من النوع الذي يتبادل الناس به أحاديثهم بغير قيد ولا شرط، والثاني هو أن يصب الكلام في صورة تجعله «أدبا» فيكون قصيدة من الشعر، أو رواية أو مسرحية أو ما شئت، وعندئذ تكون له ضوابط يمكن على أساسها أن يناقش من الآخرين قبولا ورفضا.
كل هذه الفوارق تسقط من حسابنا، وتنتهي باللغة في حياتنا الثقافية إلى موقف قد يخلو فيه الكلام من أي معنى يتلقاه المتلقي، ومع ذلك فلا المتكلم يدرك ذلك ولا المتلقي يعرف كيف يكون على حذر - وخلاصة ما ينتج لنا عن ذلك كله هي أن اللغة التي من شأنها - إذا أحسن استخدامها - أن تنير الطريق إلى معرفة صحيحة بالعالم، قد أصبحت في حالات كثيرة وسيلة إظلام يلفنا بضبابه ونحن على وهم بأننا في مسقط النور!
ونكتفي من «البذور» بالبذور الخمس التي ذكرناها، مما كان سببا في أن تصاب شجرة الثقافة بشيء من العقم فلا تثمر، أو هي تثمر حشفا من حيث أردنا لها أن تنتج أطيب الثمر، فقد جعلنا البذرة الأولى هوية تحطمت عناصرها حتى لقد فقد الفرد انتماءه، وجعلنا البذرة الثانية فهما مخطئا للإنسان، بحيث أخرجناه من مدار العقل لنضعه على أفلاك اللامعقول، فتقطعت وسائل التفاهم بين الناس.
وكانت البذرة الثالثة «ثقافة» بلا غاية يتغياها المبدعون، كل بوسيطه الخاص بميدانه، فانعكس هذا التيه على المستقبلين، وكانت البذرة الرابعة عن «التراث»، فقد جعلناه هما لنا بالليل ومشغلة لنا بالنهار؛ لأننا أخطأنا تحديد البؤرة التي يجب أن يتجه إليها البصر، وأما البذرة الخامسة فهي طريقة استخدامنا للغة في حياتنا الفكرية؛ إذ تحولت على أيدينا أداة لا تؤدي، وكان الأساس فيها أن تكون أداة توصيل من متكلم إلى سامع، أو من كاتب إلى قارئ - ومن هذه البذور الخمس تفرعت جذور:
فكان أول ما تفرع عنها أن العملية «الفكرية» في أي ميدان من ميادينها، لم تجد الغذاء الصحي الذي يغذيها فتنمو وتنتج، وإذا كانت مقومات الحياة الثقافية أربعة أساسية: دين وفكر وأدب وفن، فإن الفكر في حياتنا هو أضعف الأربعة، بلا نزاع؛ فقد تجد بين الناتج المتصل بالدين أو الناتج الأدبي ما يستحق النظر، وقد ترى في حصاد الإبداع الفني - تشكيلا وتعبيرا - ما هو جدير بالعرض وبالوقوف عنده كثيرا أو قليلا، أما جانب الفكر الخالص، الذي يستهدف تنظير الحياة العملية، فقلما تعثر له على أثر واحد تعرضه على الناس وأنت مزهو بأعلام أمتك، لقد حدث لكاتب هذه السطور مرتين أن طلبت منه هيئات دولية وجامعية، أن يرشدها إلى ثمار «فكرية» من محصولنا، لتترجم إلى لغات أخرى فيقرؤها الراغبون في المستويات العليا من المعالجات النظرية لمشكلات هذا العصر، فلم يجد ما يقدمه اللهم إلا نتفا يجمعها من هنا ومن هناك، لا تنفع أحدا ولا تشفع لأحد، لماذا؟ لأن الغالب فيما نعددهم من أعلامنا «مفكرين» أن يكونوا أحد رجلين: فإما رجل أحب الماضي فجعل فكره عرضا لروائع السلف، وإما رجل يميل إلى ثقافة الغرب قديمه أو حديثه، فيعرضه كذلك عرضا يشيد به أو ينقده من بعض جوانبه، وإننا لنرى في كلتا الحالتين عملا مفيدا نحمد الله عليه ونثني على من قاموا به؛ لأنه قدم إلينا زادا نقتات عليه، لكن ذلك كله شيء، ومواجهة المشكلات الكبرى في حياتنا مواجهة مباشرة بالتحليل المستقل، وبالنظر النافذ، وبالوصول إلى نتائج تستحق التقدير والنظر شيء آخر.
ولا عجب أن رأينا حياتنا الفكرية تخلو خلوا واضحا من الناقد للفكر، فنقد الفكر شيء يختلف عن نقد الأدب والفن، وليس كل هذا النقد للأفكار مقصورا على مراجعة «المضمون» الفكري، بحيث نصفه بالصواب حينا وبالخطأ حينا، وإلا فمثل هذا النقد المضموني موجود بيننا، فلن يعدم المفكر السياسي، أو الاقتصادي، أو التربوي، أوما شئت من ميادين النظر، أن يجد من يراجعه ليقول له: لقد أصبت أو أخطأت في كذا وكيت، ولكن الذي يغيب عنا غيابا شبه تام، هو أن هذا النقد المضموني لا يجدي كثيرا إذا لم يتعمق الناقد عمله النقدي، ليصل إلى هياكل الأفكار التي عليها بني المضمون المعين، وقد تسأل: وما قيمة تلك الهياكل ما دمت على صواب في المضمون المعد للتطبيق؟ والجواب هو أن المضمون المركب على هيكل نظري متشقق الركائز والأركان، قد يبدو صحيحا في مواقف عملية معينة، وفجأة يظهر لنا بطلانه حين يفاجئنا موقف جديد لم نكن قد عهدناه، وانظر إلى مراحل التاريخ الفكري تجد أن الأئمة العمالقة كانوا يسدلون ستارا على عصر فكري لم يعد صالحا، ليرفعوا ستارا آخر عن عصر فكري جديد، تجد أنه لم يكن ما يعنيهم بالدرجة الأولى خطأ في مضمونات معينة وصوابا في مضمونات أخرى، بل الذي كان يعنيهم هو «المناهج» التي تستخدم في عمليات التفكير، فالمنهج المعين قد يظل قرونا كثيرة وهو محسوب في أنظار العلماء على أنه المنهج الصحيح، بل على أنه المنهج الوحيد، حتى إذا ما تطورت بالناس أوضاع الحياة، بدت لهم مواقف جديدة لا تنفع فيها المناهج المعروفة، وهنا يظهر العملاق الذي يتفتق ذهنه عن منهج جديد للنظر، يصلح لمعالجة الموقف الجديد، فيكون ذلك إيذانا بدخول التاريخ الفكري عصرا جديدا: ومن هؤلاء العمالقة الفاتحين للعصور الفكرية الجديدة، سقراط قديما، وديكارت في النهضة الأوروبية، وأينشتين في عصرنا القائم، وإذا كنت أعيب على حياتنا الفكرية خلوها تقريبا من «ناقد الفكر» بهذا المعنى الذي بيناه، فلست أطمع في أن يظهر منا من يقيم منهجا جديدا لعصر جديد بالنسبة إلى العالم أجمع، بل كل ما أطمع فيه هو أن أجد الناقد الفكري الذي يحث قومه على متابعة المنهج الذي هو محور الحياة الفكرية - علما وغير علم - في عالم اليوم، وبغير هذا التنبه إلى «الهيكل» الأساسي لعمليات التفكير، سنظل يقاطع بعضنا بعضا، ويعترك بعضنا مع بعض، على مضمونات فكرية معينة، يقول أحدنا إنها صحيحة، ويزعم آخر أنها باطلة، مع بقاء كلا الرجلين على هيكل فكري ذهب زمانه وهو لا يدري.
وما دام أساس العملية الفكرية منهارا، فلا أمل في أن يقام لنا في دنيا الفكر النظري بناء سليم، وحسبك أن تراجع أمثلة عملية من مجالات الفكر في أي ميدان تختاره، لترى كم هي مزالق الخطأ التي تنزلق عليها إلى الباطل عن غير وعي منا: فنستخدم أسماء في بحوثنا «العلمية» (أو هكذا يسميها) لا تحديد لمعانيها فتخرج لنا أي نتيجة تميل بنا أهواؤنا إلى تخريجها، ونستدل نتائج من غير مقدماتها، ونحيل مسببات إلى غير أسبابها، ونخلط الفكرة المعينة مع أضدادها، وغير ذلك من ضروب الفكر الغامض، وكل ذلك يحدث ونظل على وهم بأننا نقدم أعمالا «علمية»، ثم نتعجب من ذلك حين نرى معاركنا حول المفاهيم السياسية خاوية أو كالخاوية، أو نرى فكرة اقتصادية نتحمس لها اليوم ثم ننقضها غدا مستنكرين لها هازئين بها، أو نقيم إصلاحا في التعليم على أساس معين هذا العام، ليأتي العام الذي يليه بمن يجعل من ذلك الأساس سخريته وسخرية الجمهور معه، وهكذا إلى غير نهاية.
وهنا ننتقل انتقالا طبيعيا إلى «الجذر» الثاني من جذور الضعف في حياتنا، وهو «التعليم» وقد ألتمس ألف عذر للقائمين على إصلاحه؛ لأن العبء أثقل من أن يحمله رجل واحد، أو جيل بأسره، لكن ذلك لا يمنع، بل هو الذي يبرر أن نتقدم بما نراه في هذا الصدد، والذي نراه هو أن جميع ما نبذله من جهود إصلاحية منصب على مواد التدريس، ما الذي نقرر دراسته هنا، وما الذي نقرر دراسته هناك؟ وهل المقررات في مستطاع التلميذ أو فوق مستطاعه؟ وكم يكون طلاب الدراسة النظرية المؤدية إلى الجامعات، وكم يكون منهم من نوجهه إلى قنوات التعليم الفني، وما إلى ذلك، وكلها مشكلات جادة وفي الصميم، لكن هذا الكاتب إذ ينظر إلى الأمر، فإنما يتجه نظره إلى صميم الصميم، فكل المواد الدراسية على اختلافها، هي مواد «علمية» بوجه أو بآخر، وكل وقفة علمية تنطوي على منهج في التفكير يتناسب مع الفكرة العلمية كما نتصورها اليوم، فما لم يخرج المتعلم ملما بالمادة العلمية من جهة، ومتشربا للمنهج العلمي من جهة أخرى، فسوف نظل من وجهة النظر الحضارية حيث نحن واقفون أو راجعون إلى الوراء. والحاصل الآن هو أن المتعلم - على أحسن الفروض - يلم بمادته العلمية المقررة، ولا يتشرب منهاجها، فيخرج آخر الأمر قادرا على ممارسة حرفته أو مهنته، لكنه عاجز كل العجز عن المحافظة على «النظرة العلمية»، ليمارس بها سائر جوانب حياته خارج حدود حرفته أو مهنته، ومن ثم وقع ما نراه من أن الحياة الحرفية والمهنية، قد لا تكون شديدة العطب، لكنها حياة يجاورها جنبا إلى جنب حياة تسودها «الخرافة» فيما هو خارج الحدود الحرفية والمهنية. لا، بل إن المأساة لتعظم حين يرى الجمهور البريء أحد «العلماء» - خارج حدود علمه - يحيا مع ذلك الجمهور في براءته من حيث سهولة الأخذ بما هو مضاد لأي نظر علمي، فيقول الجمهور عندئذ: انظر! هذا هو العالم العلامة يقول كذا وكذا، فمن ذا الذي يجرؤ بعد ذلك على التشكك في صدق ما يقول، مع أن قوله المشار إليه هو مما يهدم العلم هدما لو صدق.
ويقترن غياب النظرة العلمية في حياتنا العامة، بفقر في «المعرفة»، فقر يلفت النظر، فحياة الناس لا تستقيم بالعلوم وحدها وما يقوم على العلوم من صناعة وزراعة وغيرهما، بل لا بد لها كذلك من «معلومات» عن حقائق الدنيا المحيطة بنا، فيكون الفرد من متوسط الناس على علم بالاتجاهات العامة في سياسات البلاد التي نتأثر نحن بها على وجه الخصوص، وعلى علم بالتيارات العامة في النظم الاقتصادية والفكرية، وعلى علم تقريبي بما يتجه به العالم نحو التغيير، وعلى علم بأوجه الضعف في الأوضاع الحضارية القائمة، وعلى وعي بحقوق الإنسان الأساسية على الأقل، وهكذا وهكذا، فكل هذه الجوانب لا شأن لها بالتخصصات العلمية والمهنية والحرفية، لكن لها الشأن كل الشأن بدرجة الوعي عند المواطن العادي؛ إذ يكتسب بها قدرة على النقد الذاتي، وقدرة على ممارسة الديمقراطية ممارسة واعية.
وهذه الإشارة إلى وعي المواطن بحقوقه، تنقلنا إلى ثالث «الجذور» التي تنبتها في حياتنا ما قد أسلفناه من «بذور»، فبين الحقوق الأساسية حق «الحياة» ذاتها، لكننا لا نقف طويلا عند هذا الحق وما يعنيه؛ إذ ربما وقف بنا الظن عند حدود الحياة العضوية، من تنفس وطعام ومشي وقيام وقعود، مع أن الحياة بهذا المعنى مفروضة لا تحتاج منا إلى إعلان وميثاق يلتزمه الناس، وإنما يبنى على هذه الحياة العضوية حقوق ما أكثر ما نجهلها أو نتجاهلها، وفي طليعة تلك الحقوق، حق المواهب في أن تنفسح أمامها فرص النماء والازدهار لتفعل فيها، وانظر إلى حياتنا العلمية باحثا عما نؤديه لأصحاب المواهب، بدءا من الطفل الموهوب فصعودا إلى صاحب الموهبة فيمن بلغ الرشد، تجدنا أقرب إلى طمس الموهبة في برعمها خشية منا أن تتفتح زهرة فيظن صاحبها بنفسه الظنون، إن صاحب الموهبة في حياتنا إذا صمد، فإنما يصمد رغم المجتمع وليس بسبب تشجيع المجتمع، وقد يكون الأمر على غير ذلك في عالم الفن التعبيري كالموسيقى والغناء والتمثيل - لا أدري - لكنه يقينا هو كذلك في حياة العلم والأدب الرفيع والفن التشكيلي الذي لم يدخل حياة الجمهور، فإذا استطاع صاحب الموهبة الخارقة أن يصمد لعمليات التشكيك والخنق، فماذا نقول في المواهب التي هي دون الخوارق بكثير أو قليل؟ وهل من عجب بعد ذلك أن نرى شبابنا - بصفة عامة - قد ضاعت منه حيوية شبابه، فلا مغامرة ولا طموح ولا تفاؤل، بل هو هو شبابنا الذي يرفع فينا لواء العودة إلى وراء.
ورابع «الجذور» هو أن نجد حياتنا الثقافية اليوم كالسفينة، سبحت على سطح المحيط بغير «دفة» تحكم لها اتجاه السير ابتغاء الوصول إلى مرفأ آمن، إنها ثقافة - كما أسلفنا - كلا ثقافة؛ لأنها سير ولا هدف؛ لأن الذي يتحكم في سيرها ليس هو الربان المدرب، بل هي الأهواء الغوغائية في كثير جدا من الأحيان، وماذا نعني بالأهواء في هذا السياق؟ نعني الاحتكام إلى غير «الواقع»، فبدل أن ننظر إلى المشكلة التي يراد حلها نظرة موضوعية إلى عناصرها كما هي واقعة بالفعل، ترانا ننكفئ على بواطن نفوسنا لنرى هناك عاطفة تنعطف بنا منجذبة بالرغبات، والرغبات - كما نعلم - عمياء، لا تريد أن ترى مرارة الواقع، وغلظة الواقع، وخشونة الواقع، لا، إنها تغض النظر عن هذا كله لتحلم وتعيش أحلامها موهمة نفسها بأن أحلامها تلك هي هي الواقع بكل صلابته وبرودته! من ذا الذي لا يعلم منا علم اليقين أن جمهورنا تغلب عليه الأمية، وفقر المعرفة بحقائق العالم الخارجي؟ ومع ذلك نضحك على أنفسنا ونضحك على ذلك الجمهور نفسه، لنوهمه بأنه هو صاحب الرأي والتوجيه، نعم وألف مرة نعم، إنه صاحب الرأي والتوجيه في اختياره لمن ينوب عنه في معالجة مشكلاته؛ لأن التفرقة بين معادن الرجال أمانة وخيانة، صدقا وكذبا، تكاد تكون تفرقة يهديها الإدراك الفطري، حتى إذا ما كان الأمر أمر المشكلات ذاتها: في السياسة، والاقتصاد، والنظم الحضارية، وغيرها، وغيرها، لم يكن مفتاح القدرة عندئذ في أيدي أصحاب الإدراك الفطري السليم، بل لا بد أن يوكل الأمر فيه إلى من كان لهم إحاطة بشيء من العلم الخاص بكل مشكلة وما تقتضيه، إن موضع المشكلات هو «الواقع» وكذلك ينبغي أن يتولى أمور حلها أولئك الذين تعلموا كيف يعالجون «الوقائع» معالجة تبنى على عقل علمي قادر، بل إن الانحراف ليذهب بنا إلى ما هو أبعد من ذلك، بحيث ترانا - إذا حللت الموقف بدقة - نكاد نلغي وجود الواقع إلغاء، لنتعامل مع أوهام صورتها لنا أهواؤنا، وفي ذلك ما فيه من مفارقة تلفت النظر؛ وذلك لأن المصري مزارع وصانع بالدرجة الأولى، والزراعة والصناعة وما إليهما تحتاج إلى دقة الإلمام بتفصيلات الأرض التي نزرعها أو المادة التي نصنعها، ومع ذلك فلم تتكون عند المصري العادي نظرة واقعية شاملة، بل قصر نظرته الواقعية على ميدان حرفته، ثم ترك العنان لشطحاته الهوائية بعد ذلك، وربما كان السر في هذه المفارقة هو أننا بحكم العادة لا ننتبه إلى ضرورة تدريب حواس الطفل على حسن إدراك ما حوله، صحيح أن الطفل بحكم طبيعته ذاتها يدفعه حب الاستطلاع، أن يعرف حقيقة ما حوله من أشياء، إنه يحطم الأواني وغيرها مما يراه حوله من أشياء ما استطاع لها تحطيما؛ لأنه يريد أن يعرف شيئا عن حقيقتها: إنه بعد أن يألف صلابة المادة، قد يوضع في حوض الاستحمام فيلحظ فرقا بين ليونة الماء وما قد عهده من صلابة في سائر الأشياء، فتأخذه فرحة من استكشف حقيقة جديدة، ويأخذ في ضرب الماء بذراعيه ورجليه، ليزداد إدراكا واستمتاعا بذلك الفرق الذي كشف عنه الحجاب، تلك هي طبيعة الطفل في حبه لاستطلاع حقائق الأشياء، لكن فطرته تلك - كأي جانب آخر من جوانب الفطرة - يحتاج إلى التهذيب والإرهاف عن طريق التربية، فلا بد أن تدرب العين على رؤية أوجه الشبه بين المختلفات، وأوجه الاختلاف بين المتشابهات، ولا بد للأذن أن تدرب على التفرقة بين صوت وصوت، وأن توجه نحو النغم الموسيقي لتدرك الفرق بين أصوات تقاطعت فلا تطرب، وأصوات تناغمت فتطرب، فلو أننا تنبهنا في تربية أطفالنا لضرورة تدريب الحواس، لنتج عن ذلك بالضرورة اهتمام «بالواقع»؛ لأن الحواس لا تعمل إلا في مجال الوقائع؛ فالعين إذ ترى فإنما ترى «شيئا» والأذن إذ تسمع، والأصابع إذ تلمس، إنما تسمع أو تلمس «شيئا»، فنكون بهذا التدريب للحواس بمثابة من يشد انتباه الطفل إلى دنيا الواقع، فيتعود فيما بعد أن يحتكم إلى الواقع في الحكم على الأفكار صوابا أو خطأ.
وخامس «الجذور» هو ما يسودنا اليوم من رغبة في الجمود الفكري، وكأننا بذلك نعاند عصرا يتغير في كل يوم بما ينتجه من جديد، ولما كان التغير الدائب مؤديا بالضرورة إلى التفكير في «المصير»، كان مما يلفت النظر ما نلحظه من ميل سائد في مجتمعنا نحو العودة إلى الماضي، نحتكم إليه في أمور حاضرنا فيضيع منا المصير؟ كمن يلوي عنقه لينظر وراءه، فلا يرى فجوة شقت الأرض أمامه إلا بعد أن يقع فيها.
ولا أمل لنا في القضاء على هذه النظرة الورائية، إلا بحركة قوية نحو «التنوير» وما التنوير سوى السير نحو النور، والطريق إلى التنوير هو تربية وتثقيف وإعلام، تتآزر كلها على الإعلاء من شأن «العقل»، كلما أردنا أن نرسم لأنفسنا سبيلا يحقق لنا هدفا.
والله ولي التوفيق.
زكي نجيب محمود
يناير 1989م
نافخ النار
ترى أتكون هذه الظاهرة متمثلة في أفراد الناس جميعا، على تفاوت في الدرجة بينهم، أم هي مميزة لبعض دون بعض؟ لست أدري جواب ذلك على وجه اليقين، ولكنني قد عهدت نفسي منذ طفولتي، أن أجد همومي منعكسة في الأشياء التي حولي فأنظر إلى تلك الأشياء، وكأنني أقرأ فيها كلمات تنطق بما قد أثقل صدري من هموم، وأحسبني ما زلت على هذه الحال إلى يومي هذا. وماذا كانت هموم ذلك الطفل، ولقد كان على ميسرة نسبية من العيش؟ ربما كانت أفدح همومه - فيما أذكر - أن يشار له إلى نقص فيه على سبيل الجد أو على سبيل المزاح، فكثيرا ما كانت تسقط من أفواه الناس، بالتلميح أو بالتصريح، أقوال هازئة بضروب من العجز يرونها في مداركه - مدارك الحواس آنا، ومدارك العقل آنا - فتحز تلك الأقوال الساخرة في نفسي وأظل أجترها لعدة أيام بعد ذلك، فإذا وجهت بصري - خلال تلك الأيام - إلى شروخ في طلاء الجدران، أخذت تلك الشروخ تتشكل أمامي صورا تتلاحق، كل صورة منها تمثل لي ضربا من ضروب العدوان: فها هو ذا سبع قد غرس مخالبه في فريسته، وتذهب هذه الصورة لأرى رجلا ضخما شائه الوجه، وأمامه طفل دسر وجهه بين ذراعيه، وهكذا، وأما إذا كان الذي تلقاه الطفل ممن حوله، علامات تشير إلى الرضا، فلقد كانت تلك الشروخ ذاتها في طلاء الجدران، تبدو له وكأنها جماعات الطير تمرح وثوبا في الهواء، أو نقرا في الأرض، وكذلك كان السحاب من أغنى المصادر التي تمد الطفل بما يشتهي من صور، فلقد كان يقرأ كل ما أراد قراءته، في قطع السحاب تتصل وتنفصل في أشكال لا تنتهي.
وبالطبع قد اختلفت أنواع الهموم مع اختلاف مراحل العمر، إلا أنه قد بقيت عندي بقية من الطريقة التي كنت ألجأ إليها - دون أن أدبر الأمر في ذلك تدبيرا مقصودا - وهي أن أقرأ تلك الهموم فيما أجدها متمثلة فيه، من الأشياء التي أصادفها حيثما أقمت وأينما سرت، وأقرب الأمثلة التي أسوقها، ذلك المثل الذي وقع لي منذ وقت ليس ببعيد، وهو أن سؤالا كان يلح على فكري إلحاحا لم يكن لي قبل برده، وهو سؤال من أسئلة كثيرة تعاودني في هذه المرحلة الأخيرة من حياتي، وكلها يدور حول البحث عن علة الكبوة الحضارية التي كبوناها، وعن الطريقة التي يمكن بها أن ننقذ أنفسنا مما نحن فيه، وكان السؤال الذي أشرت إليه هو: إننا قد نجد عند جماعة المثقفين منا، أفكارا كانت لتكفل كل ما نريده لأنفسنا من نهوض، فما الذي شل تلك الأفكار حتى تجمدت على أقلام أصحابها، ولم تجد طريقها إلى الجريان في دنيا السلوك والعمل؟
ورسخ السؤال في رأسي رسوخ الجبل، لا يريد أن ينزاح أو يتحول، حتى أجد له الجواب، كنت أحمله ماشيا، وقاعدا، وواقفا، وراقدا، لماذا لا تتحول أفكارنا الفنية الهادية البصيرة إلى عمل؟ إن في رءوس المثقفين منا أفكارا تتعلق بما هو «الأعلى» و«الأعلم» و«الأقوى» و«الأقوم»، فما الذي يقعدنا ويشدنا إلى أديم الأرض، قانعين بما هو «الأسفل» و«الأجهل» و«الأضعف» و«الأضل سبيلا»؟ وإنه لمما زاد ذلك السؤال إلحاحا على نفسي، هو أنني كلما تلفت حولي، وجدت بشائر الخير، لكنها تأبى أن تجاوز حدود «البشائر» فهنالك في كل ميدان أوجه إليه البصر، من هم على علم بمجالهم، ومن هم على قدرة لو أتيحت لهم الوسائل فأي شيطان - إذن - قام ليحول بين هؤلاء العلماء والقادرين وبين أن يغيروا لنا وجه الحياة؟
وبينما السؤال رابض بكل ثقله الثقيل، مررت في حي قديم من أحياء القاهرة بحداد في دكانه، بجواره غلام جثا على الأرض بركبتيه، وأخذ ينفخ النار للحداد، بمنفاخ ضخم، يعلو بين يدي الغلام ويهبط، والحداد في سرعة لاهثة، يطرق أسياخ الحديد، فوقفت قبالة الدكان، بحيث أرى، دون أن أحدث للحداد وغلامه شيئا من القلق والحرج، على أني لم أطل الوقوف؛ لأنني اكتفيت بأن لمحت نماذج من حديد مشغول، فرغ الحداد من تشكيلها، وأسندها على الجدران، خارج الدكان وداخله.
مضيت في سبيلي، وكان السؤال الملح الثقيل، قد تلقى شعاعا من النور، فوجدته شيئا من الحل، وأول ذلك الحل، هو أن يكون فينا من ينفخ النار، فلقد كانت قطع الحديد الخام المكومة وراء ظهر الحداد، راقدة هناك لا نفع منها إلا أن تكون أثقالا تتعثر عليها أقدام السائرين، لكنها كانت تطوي في جوفها منافع ومنافع، لا ينقصها إلا أن يلهبها الغلام بالنار ينفخها، وعلى الحداد عندئذ أن يخرج من قطع الحديد ما شاء أن يخرج، كما قد أخرج بالفعل كماشات، وسكاكين، وسلاسل، وشكائم، وما لست أدري ماذا مما رأيته مسبوكا ومصفوفا إلى جوانب الجدران.
فتولد عن السؤال القديم سؤال جديد، أيسر حلا من سابقه، وهو: من ذا الذي ينفخ لأفكار رءوسنا، نارا تلهبها، وتذيبها، لتيسر لها أن تتحول من مكانها إلى دنيا المنفعة وتتغير الحياة؟ وبمثل ما كنت أفعل أيام الطفولة الأولى؛ إذ كنت إذا ما ضاق صدري لعسر من أمري، جلست أحوم ببصري في أي مرئي صادفته، فما يلبث الخيال أن يستولد مما يرى أوهاما وأحلاما، تمتلئ بالحياة وكأنها واقع من الواقع، أقول: إني بمثل ما كنت أفعل في أيام الطفولة وخيالها، رأيتني أفعل اليوم، فها أنا ذا لم أزل على مقربة قريبة من دكان الحداد، ولم يزل رأسي مثقلا بسؤاله: ما الذي يحول بيننا وبين النقلة من أفكار خامدة في ذاكرتنا، وكأنها جثث محنطة، إلى دنيا العمل وفي أيدينا تلك الأفكار نفسها، بعد أن نكون قد نفخنا فيها روح الحياة؟ ما الذي يحول بيننا وبين أن نصنع بأفكارنا التي تجمدت في رءوسنا، مثل هذا الذي يصنعه الحداد في قطع الحديد الخام؟
أسندت ظهري إلى الجدار، وحللت عن الخيال الطفلي القديم قيوده، فما هو إلا أن بسط جناحيه ومعي الغلام وقد أمسك بالمنفاخ ليلهب النار، ووراء ظهري كومة من أفكار يبست حتى لتحسها قطعا من الحديد والحجر؟ فناديت الغلام: هات يا غلام أول ما يصادفك من كومة الأفكار اليابسة، وضعها في الموقد وانفخ النار: فكانت الفكرة الأولى التي عاد بها الصبي، هي ما نطلق عليه اسم «الهوية»، وانفرجت لها أسارير وجهي، فهي من تلك النفائس النفيسة، الغنية بمضمونها، وإني لأسمعها تدور اليوم على ألسنتنا وعلى أقلامنا، دورانا لم يترك فردا واحدا منا إلا وقد سمعها أو قرأها، فظن أنه قد عرفها، ولو أنه عرفها حقا لانحلت له مشكلات كثيرة من أضخم مشكلاتنا حجما وأشدها خطرا؟ وحسبك أن تعلم بأن مشكلة «الانتماء» الوطني، والقومي، إنما هي فرع من فروعها: وإن مشكلة «التراث» وما يجب علينا إزاءه، إنما هي الأخرى فرع آخر، لكننا نقول اسم «الهوية» ونردده ونكتبه ونقرؤه، دون أن نعلم شيئا واضحا من مسماه.
وصحت بالغلام: انفخ النار يا غلام، ونفخ الغلام بمنفاخه الضخم، حتى اشتعلت النار وارتفعت منها ألسنة اللهب، وتفككت الفكرة اليابسة، وأخذت عناصرها ومكوناتها في الظهور، فالتقطتها بملقاطي، ووضعتها على السندان، وأخذت أدقها بالمطرقة دقا يخرج من جوفها ما كان كامنا، وأول ما تجلى من كيانها هو الجذر الذي نبت منه اسمها، فمن أين جاءت كلمة «هوية» وكيف ينبغي لنا أن ننطق به؟ وإذا بالحقيقة هينة لا تعقيد فيها، فهي - بكل بساطة - مأخوذة من كلمة «هو»، فنحن إذا ما قابلنا فردا معينا من الناس، ثم غاب عنا فترة، وظهر أمامنا مرة أخرى، عرفناه، وعرفنا أنه «هو » هو نفسه الذي كنا رأيناه؛ وذلك لأننا طابقنا الصورة التي احتفظنا بها في الذاكرة، على الصورة التي نراها الآن ماثلة أمام أعيننا، فعرفنا أن الشخص الأول «هو» هو بذاته الشخص الثاني، وسرعان ما ابتدعنا لأنفسنا اسما لنضيفه إلى محصولنا اللغوي، فقلنا إن «الهوية» واحدة بين الصورتين. ما دام الأمر كذلك، فلم تعد بنا حاجة إلى القول، بأن النطق الصحيح لهذا الاسم، يكون بضم الهاء.
لكن مهلا مهلا يا صاحبي، فلا تسرع بالظن لتقول إن هوية الفرد المعين مرهونة بصورته الظاهرة المرئية بالعين: لا، بل اصبر حتى نرى حقيقة الأمر الكامنة وراء الظاهر.
وناديت بالغلام بعد أن نفخ النار، حتى ينصهر من الأمر ما لم يكن قد انصهر، ومرة أخرى نقلت هذا العنصر الواحد من عناصر المعنى، لأضعه على السندان ولأعيد طرقه بالمطرقة، حتى أسفرت الحقيقة عن وجهها: بالتطابق بين مرئيات العين، هو أقل الجوانب أهمية، أو قل إنه إذا كان أمر «الهوية» في فرد معين من الناس، مرهونا بصورته المرئية بالعين، لما استشكل علينا من حقيقتها شيء، لكن ثبات الهوية الواحدة لفرد من الناس مؤسس على صفات وخصائص مما قد لا تراه الأبصار، ولا ينكشف إلا للعقل بعد إمعان النظر؟ إن الوليد ساعة ولادته، يظل «هو» هو، طفلا، وشابا، ورجلا، مع الفوارق البعيدة والعميقة، بينه وليدا ثم رجلا، فحتى من الناحية العضوية الخالصة، يقال لنا إن كل الخلايا التي تكون منها جسم الوليد، تتبدل ليحل محلها خلايا أخرى (إلا خلايا الجهاز العصبي فيما أتذكر)، فلماذا نظل نؤكد أن هذا «الرجل» هو ذلك «الوليد» برغم التغيرات الجذرية، جسما وعقلا، التي طرأت؟ على أي أساس نؤكد أن ثمة «استمرارية» لهوية واحدة، وليكن من أمر التحولات الظاهرة ما يكون؟ ليس أمر الهوية الواحدة - إذن - موكولا إلى تطابق الصورة المرئية مع سلسلة الصور المرئية التي نراها في الفرد الواحد، كلما اختلفت مراحل عمره، أو ظروف حياته، صحة ومرضا، فرحا وحزنا، صحوا ونوما ... بل إن أمر الهوية الواحدة موكول إلى ما هو أعمق من ظواهر الأشكال كما تبدو للأعين.
إن ما يقال عن «هوية» الفرد الواحد، كيف تحافظ على «استمرارية» عبر تغيرات الزمن، مرحلة من العمر بعد مرحلة، ومجموعة من الظروف بعد مجموعة، يقال كذلك عن الأمة الواحدة، ويقال عن البنية الثقافية لتلك الأمة؛ ففي حياة الأمة الواحدة ملايين الأفراد يولدون، وملايين يموتون، وهكذا تظل الموجات البشرية، ترتفع الموجة منها لتختفي، ثم ترتفع موجة بعدها لتختفي، لكن محيط الماء يظل هو محيط الماء، وتظل له خصائصه الأساسية، حتى لو تغيرت في أعماقه كوامنها جميعا، أسماكا بأسماك، وشعابا من الصخر بشعاب من الصخر، وكذلك قل عن البنية الثقافية، بل هيكلها العام، لتلك الأمة الصامدة بهويتها، فقد ينتج أبناؤها - على تعاقب العصور - علما غير العلم، وشعرا غير الشعر، وصورا من الحكم غير الصور، ومع ذلك تبقى هناك بقية راسخة، فتكون هي الجهاز العصبي لحياة الناس الثقافية، ومن هذه البقية الثابتة، يبقى المصري مصريا، ويبقى كل منتم إلى أمة بعينها هو من هو، لا يخطئ حقيقة نفسه حين يقيسها إلى سائر الأنفس، ولا يخطئها الآخرون إذا عرفوها وعرفوا ما يميزها في وحدانيتها وتفردها، إذن فالسؤال قائم بين أيدينا، بالنسبة إلى هوية الفرد الواحد، وإلى هوية الأمة الواحدة، وهوية البنية الثقافية لتلك الأمة، والسؤال هو - نكرر ما أسلفناه - ما الذي يجعل الهوية في كل هذه الحالات هوية واحدة، لها سماتها التي تميزها، ويكون لها - بالتالي - استمرارية متصلة على تعاقب العصور، برغم الاختلافات الشديدة والبعيدة بين عصر وعصر؟
وناديت أن انفخ في النار يا غلام، حتى ينصهر من الفكرة ما لم ينصهر، فيظهر منها ما لم يكن قد ظهر، اشتعلت النار، فعادت إلى ذاكرتي صورة قارب السماك، وكان السماك كلما اهترأ جزء من أجزاء قاربه، استبدل باللوح الخشبي المهترئ لوحا جديدا، وربما اختار اللوح الجديد من خشب أكثر صلابة من خشب اللوح القديم، وهكذا أتيحت لي مراقبة السماك فيما يجدده من أجزاء قاربه، حتى خيل إلي أن كل جزء من تلك الأجزاء قد أفناه عمره، وجاء خلف ليبدأ عمرا جديدا ، تماما كما قد قيل عن الطفل يولد بمجموعة خلاياه، فتختفي كلها مع الأيام، لتكون له مجموعة أخرى من الخلايا، وكما يظل الطفل على هويته برغم ما تبدل من خلاياه، لبث قارب السماك على هويته برغم ما تبدل من ألواحه الخشبية، واحدا بعد واحد، فإذا سألنا: كيف تحققت لكل منهما استمرارية الهوية، برغم ما قد حدث، جاءني جواب (ولست مسئولا عن أي جواب آخر قد يجيء لغيري) وجوابي هو في كلمة واحدة «الصورة» تبقى فتبقى الهوية، ماذا، أتقول «الصورة»؟ فهل عدت مرة أخرى إلى الشكل المرئي بالعين؟ كلا يا صاحبي؟ فلست أعني «بالصورة» تصوير السطح الظاهر، وإلا فهل ترى الطفل يحافظ على ظاهر صورته حتى يكتهل؟ كلا، بل عنيت ب «الصورة» ذلك الجانب الخفي الرواغ، الذي يفلت من بين أصابعك كلما ظننت أنك قد أمسكت به، لكننا لن ندعه هذه المرة ليفلت، ولن يتحقق لنا ذلك إلا بعد أن نستعرض أمثلة أخرى، نتدبرها، ونتأملها معا، لعلنا نقع على ذلك السر، الذي يضمن استمرارية الهوية للفرد الواحد، وللأمة الواحدة، وللبنية الثقافية الواحدة.
وناديت أن انفخ النار يا غلام، فما اشتعلت ألسنة اللهب، حتى سمعت تاريخ الفن في مصر، يفصح لي عن بعض سره، فسمعته وكأنه يقول: انظر إلى العصر الفرعوني الطويل، والذي زاد في مبدعاته الفنية على أربعة آلاف عام تجده «هو هو» - وأعني أنك واجده - قد حافظ على «هوية» واحدة، عبر مراحل طويلة من الزمن، حتى ليستطيع كل ذي وعي، أن يدرك على الفور إذا كانت القطعة الفنية التي تعرضها عليه، مصرية فرعونية أو لم تكن؛ وذلك لأن الفنان المصري قد بث روحه في مبدعاته، فجاءته تلك المبدعات صارخة بهويته؛ فالمصري في أواخر التاريخ الفرعوني «هو هو» المصري في أوائل ذلك التاريخ، مع أن طول ما بين الطرفين أربعة آلاف عام، فكل أثر فني طوال ذلك العهد الطويل ناطق بما تخلق به المصري، فترى في التماثيل خشوع المصري العابد وحكمته ورزانته ورصانته، وترى في أعمدة المعابد الجبارة جبروته، وترى في المسلات شموخه وطموحه، وترى في مقابره تعلقه بالخلود.
وتمضي القرون ويجيء الفن القبطي لينطق بأن المصري «هو هو» المصري، وإن اختلفت صور الحكم والعقيدة؛ ففي كل مأثور من ذلك الفن، ترى بساطة المصري في إيمانه، وفي زهده، وفي صفائه ونقائه، ثم تمضي القرون مرة أخرى ليجيء الفن الإسلامي معبرا - وهو على أيدي الفنان المصري - عن روح التجرد والتجريد من أوزار الحياة المادية وأثقالها، أو ما يشبه القيود الرياضية، من زخارف هندسية تراها على الجدران، ونقوش تغلب عليها روح التقسيمات الهندسية، على نحاس القناديل، والمدافئ، والصواني، وما إليها، وعلى خشب المشربيات والأبواب والنوافذ وغيرها.
وتمضي مسيرة الحضارة داخل العصر الإسلامي، لنصل إلى عصرنا هذا الحديث، الذي وجد المصري نفسه فيه - لأول مرة في تاريخه - مجبرا على الأخذ عن حضارة صنعها سواه، فكان محتوما عليه أن يوفق بين ما عنده وما عند سواه، وانعكس هذا التوفيق أيضا على مبدعات الفن على اختلافها، فإذا أخذنا منحوتات محمود مختار رمزا يشير إلى روح المصري الحديث منعكسة في فنه، رأيت ذلك واضحا في الجمع بين فلاحة عصرية، تمس بكفها موروثنا القديم ليصحو: فإذا جاز لنا أن نلخص تلك العصور الفنية في التاريخ المصري، تلخيصا يقول في جملة واحدة: ما هي السمة الأساسية الأولى للمصري على طول تاريخه، قلنا إنه التحكم في الحياة الدنيا من منظور الدين، وأعني إخضاع الحياة الدنيا لمعايير مستمدة مما هو أعلى من الحياة الدنيا، فإذا صح رأينا هذا في الشخصية المصرية، كانت تلك السمة هي عماد «الهوية» المصرية، بمعنى أن المصري في كل مرحلة من مراحل تاريخه، كان «هو هو» المصري في سائر المراحل، وإن اختلفت اللغة التي يستخدمها في إبداعه الفني للتعبير عن حقيقة ذاته.
والآن يحق لنا أن نعيد على أنفسنا السؤال الذي طرحناه عن «الهوية» ما أساسها؟ وأحسب أن المثل الذي ذكرناه من تاريخنا الفني، يملي علينا الجواب، وهو أن صلب الهوية هو ما يصمد من الإنسان عبر التاريخ، أي أنه لا بد من «تاريخ» - طال التاريخ أو قصر - لتكون هناك هوية ما: نعم، لا بد من لحظات تتوالى على مر الزمن، لنعرف منها أن شيئا مما كان قائما في لحظة ماضية، ما زال قائما في لحظة حاضرة، كي يتاح لنا القول بوجود هوية صمدت فيها سمة معينة أو سمات.
أقول هذا وأنا على علم بأن أغلب من تعرض للكتابة عن «الهوية» من الفلاسفة، ذهبوا إلى منحى غير هذا المنحى؛ إذ وجدوا أنفسهم مضطرين إلى افتراض وجود محور «غيبي» في الإنسان - أو غير الإنسان - يكون له من الثبات ما يضمن ثبات الشخصية على هوية واحدة، سواء أكانت تلك الشخصية قد لمعت كالبرق الخاطف ثم اختفت، أم دام وجودها ولو إلى حين ليكون لها «تاريخ»، لكن أغلب ظني هو أن فكرة الهوية تندك من أساسها إذا لم يصاحب تلك الهوية وجود ممتد على فترة من زمن، يمكننا من رؤية الصمود على صفة معينة خلال تلك الفترة.
وهنا أشعر بضرورة أن أذكر شيئا عما يسمى في «المنطق» بقانون الهوية؛ لأنه يلقي بعض الضوء على هذا الذي زعمناه، فأول قوانين العقل، التي هي قوانين مجبولة في فطرة الإنسان ذاتها، هو قانون الهوية هذا، ومؤداه أن لدى الإنسان قدرة طبيعية على أن يتعرف إلى شيء ما، بأنه هو نفسه الشيء المعين الذي رآه في وقت سابق، فمنذ مرحلة الرضاعة لا يلبث الرضيع أن يتعرف إلى مرضعته اليوم، وأنها هي التي كانت مرضعته فيما سبق، أي أنه يدرك «هوية» مرضعته وثباتها من لحظة سبقت إلى لحظة حضرت، وذلك معناه - فيما نحن بصدد الحديث فيه - أنه لا مجال لإدراكنا للهوية وثباتها، إلا إذا امتدت بتلك الهوية فترة من زمن، لتتم المقارنة بين سابق ولاحق، ولولا هذه القدرة الفطرية عند الإنسان، على إدراك الهوية الواحدة في أكثر من لحظة واحدة، لاستحالت العملية العقلية استحالة تامة؛ لأنه ما من عملية من عمليات التفكير العقلي، إلا وفيها انتقال من «مقدمات» إلى «نتائج» ترتبت أو أقيمت على تلك المقدمات، ومعنى ذلك أن العقل يدرك «هوية» ما تكرر قيامه في المقدمات مرة وفي النتائج مرة، فدل ذلك على أن ما تقوله النتيجة هو نفسه ما تقوله المقدمة، إذن فالعملية الفكرية صحيحة.
وها هنا أحسست وكأني أسمع سائلا يسألني: ثم ماذا؟ كيف نستضيء بهذا الذي قدمته عن «الهوية» وحقيقة معناها، فيما نعانيه من مشكلات في حياتنا الثقافية، ومنها تلك المشكلة التي ذكرت لنا عنها بأنها ثقلت على صدرك حتى همت على وجهك في الشوارع بغير هدف إلى أن وصلت إلى الحداد وغلامه نافخ النار؟
ولكي أجيب لم أجد بدا من العودة بالفكرة إلى المطرقة والسندان، فصحت بالغلام، أن ينفخ النار، وبعد معالجات جديدة للفكرة، أبرزت أمام السائل أمرين لا أرى أهم منهما في حياتنا الثقافية اليوم: الأمر الأول خاص بالانتماء الوطني والقومي، الأمر الثاني خاص بالانتماء ودوره؛ فأما الانتماء فالدعوة إليه تكون عبثا في عبث، إذا لم ينغمس في الهوية الوطنية والقومية - وأعني المصرية العربية - ولا يكون ذلك إلا إذا جاء ذلك المنتمي حلقة جديدة من سلسلة التاريخ المصري والعربي، وأكرر قولي «حلقة جديدة»، فالمتمرد على سلسلة تاريخه سيخرج عن حلقاتها، ويصبح منذ لحظته نسيا منسيا لكونه بغير تاريخ يضع نفسه في حلقاته، والذي يكر راجعا إلى حلقة ذهب زمانها، فيدمج نفسه في أصحابها يكون قد جعل نفسه واحدا منهم فسقط حسابه من عداد الحاضرين، فلا بديل لإثبات الوجود إلا بأن يكون الموجود الحاضر «حلقة» من سلسلة تاريخه، وأن تكون تلك الحلقة «جديدة» فيها ما يصلها بالماضي، وفيها ما يصلها بزمانها.
ذلك عن «الهوية» وكيف تلد «الانتماء» وأما عن «الهوية» و«التراث» فواضح مما أسلفناه أنه لا هوية إلا إذا صمدت عناصر بعينها من ماض إلى حاضر، تكون بمنزلة الهيكل الذي يقام عليه البناء، فكما قلنا عن قارب السماك الذي أخذ يستبدل بألواحه الخشبية المهترئة ألواحا جديدة: فبقي الهيكل واحدا، وبالتالي بقيت للقارب هويته برغم ما قد تغير من أجزائه، فكذلك يكون وجود الأمة الواحدة: ناس يذهبون وناس يجيئون، لكن هيكل القيم التي تقام عليها الحياة الاجتماعية هيكل واحد في سمائه الأساسية، فتبقى الأمة صامدة بهويتها على مر الزمان، لكن حذار أن تقع في غلطة يقع فيها كثيرون، فتفهم من ثبات الهيكل القيمي ثباتا في صور السلوك بين ماض وحاضر، فالقيم معايير نقيس بها ما نقيسه، وليست هي نفسها الشيء الذي يقاس، شأنها في ذلك شأن «المتر» في قياس الأبعاد المكانية، أو «الميزان» في تقدير الأثقال، فثبات المتر أو ثبات الميزان لا يعني ثبات ما يقاس بهما أو يوزن؛ فقد يكون الشيء المقاس بالمتر جدارا، أو ثوبا من القماش أو قامة إنسان، وكذلك قل في الميزان وما يزن.
لقد طالت بي السرحة الذهنية أمام دكان الحداد، لكنها عادت إلي بشيء يخفف عن صدري ثقل السؤال الذي تحيرت في جوابه، وهو: أن في رءوسنا أفكارا جيدة كثيرة، فلماذا تجمد في الرءوس ولا تتحول إلى فعل يغير ما فسد من جوانب حياتنا؟ وها أنا ذا قد عدت من سرحتي مع نافخ النار بشيء من الجواب، وهو أن بعض الحل يكمن في تحليل تلك الأفكار لتنكشف عناصرها فتفهم، فتتحول إلى سلوك، فكما يلهب الحداد بالنار قطع الحديد الخام، ليسهل تشكيلها فئوسا ومحاريث تؤدي أدوارها في الحياة العملية، كذلك يزج بالأفكار المصمتة في لهب النار حتى تلين، لتكون في أيدي أصحابها وسائل حياة، بعد أن كانت لهم في تيبسها كالتوابيت للموتى.
تلك المعزوفة الكبرى
الفكرة الهادية، الخصبة، الولود، لا تأتي إلى الناس كما تأتي القشة الهزيلة، محمولة على تيار الماء، تتأرجح في هزالها ذات اليمين وذات الشمال، ثم هي لا تكاد تظهر حتى تختفي إلى حيث لا ندري، بل هي تأتي لتمكث في الأرض وهي هي الكلمة الطيبة، التي قال عنها الكتاب الكريم إن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإنما يشير الأصل الثابت إلى دوام نفعها، هنا في هذه الحياة الدنيا، وأما فرعها الذي هو في السماء، فيرمز إلى حسن الثواب في جنات الخلد، يجزى به من أحسن بها صنعا.
الفكرة العظيمة ينبوع لا ينفد، يظل يعطي كل من جاءه ليستقي، بقدر ما يستطيع ذلك المستقي أن يأخذ، وإن الفرد الواحد من الناس، ليظل يزداد فهما لها، كلما ازداد مع الأيام معرفة واتسع مع تراكم الخبرة أفقا؛ وذلك لأن الفكرة العظيمة لا تولد مكتملة العناصر، واضحة النتائج، بل تبدأ أول ما تبدأ، أقرب إلى «مشروع» قليل الخطوط، بسيط التكوين، تماما كما يبدأ الجنين علقة ثم يتطور لينمو، فكلما انقضى على الفكرة عصر وجاء عصر، تناولتها عقول قادرة لترى فيها من الجوانب ما لم يكن أسلافهم قد رأوه، وانظر - مثلا - إلى فكرة «الحرية» ماذا كانت تعني عند الأولين، وماذا أصبحت تعنيه عند المعاصرين.
على هذا النحو تقاطرت الخواطر في رأسي، عندما هممت أن أكتب في موضوع يشغلني ويشغل كل مصري، وكل عربي على امتداد الوطن الكبير، وهو هذا التمزق الذي تفككت به أوصالنا؛ فالشعب الواحد من شعوبنا قد انفرط أفرادا، والأمة العربية بدورها قد انفرطت شعوبا، ومن أخذ منا بغير ذلك، فإنما هو إنسان قد صعب عليه ابتلاع الوقائع فلجأ إلى الأماني، وخير لنا أن نواجه النكسة لنسأل: ماذا حدث ولماذا حدث، وكيف السبيل إلى نجاة؟
ولما كنت من أشد الناس إيمانا بحق «الحرية» للأفراد، حرية تذهب إلى أمد لا يحده إلا أن تجيء تلك الحياة الحرة المسئولة، منخرطة مع غيرها من حيوات حرة للأفراد الآخرين في الوطن الواحد، بحيث تتألف للشعب - آخر الأمر - حياة موحدة، والذي يوحدها، برغم حرية أفرادها فكرا وسلوكا، هو نفسه الرباط الذي يجمع تفصيلات العمل الفني - أيا كان نوعه - في بناء عضوي واحد، وانظر إلى قصيدة الشعر، كيف تتوالى أبياتها، بل وقد تتعدد الصور في البيت الواحد، ومع ذلك فهي بانطباعها عند المتلقي، كما كانت يوم إبداعها عند الشاعر، قصيدة واحدة، وتلك هي الحال حتى في الشعر العربي القديم، الذي أشعنا عنه فقدان «الوحدة العضوية»، ومن ذا الذي قرأ قصيدة عظيمة لأي شاعر عربي عظيم، ولم يحس في قراءتها وبعد قراءتها، بأنه إنما كانت تغمره «حالة نفسية» واحدة، مهما يكن من تعدد النقلات فيها، من نسيب، إلى مدح، إلى قتال ، إلى حكمة، إلى لقطة هنا ولقطة هناك من بيئة الشاعر أرضا وسماء، وقل عن أي عمل فني، من موسيقى وتصوير وعمارة وغيرها، ما قلته عن قصيدة الشعر، ففي الإبداع الفني درس بليغ، يعلمنا كيف تتعدد المفردات، وكيف تتألف في كيان موحد واحد.
فما أن بلغت بخواطري هذا الذي بلغته، حتى فاجأتني الذاكرة بمكنون من مخزونها، هو أنفس ما يمكن أن تفاجئني به في لحظتي هذه؛ إذ قدمت إلي تلك الفكرة العظيمة التي كان قد طرحها الفيلسوف العقلاني، الرياضي، التحليلي، «ليبنتز» في القرن السابع عشر، وهي إن تكن فكرة قد طرحت في سياق بعيد جدا عن السياق الذي نتحدث فيه الآن، إلا أنها ككل فكرة عظيمة أخرى تتيح لأبناء العصور المختلفة، أن يقرءوها قراءات مختلفة، كل قراءة منها تجيء متلائمة مع محيطها، وملقية ضوءها على ما قد أشكل أمره على الناس، فلما كان «ليبنتز» رياضي الفكر والنظر والمزاج، فقد نظر إلى كل شيء وكأنه صيغ في قالب رياضي، ومن أبرز ما يتميز به الفكر الرياضي، أنه «تحليلي» بمعنى أنه إذا تحدث عن شيء ما ذكر العناصر - كلها أو بعضها - التي ينطوي عليها ذلك الشيء، فهو بذلك لا يضيف إلى الموضوع المطروح شيئا جديدا، وإنما هو يفصح عما كان مضمرا خبيئا في ذلك الموضوع، وخذ مثلا بسيطا يوضح لك ما نريد، هذه المعادلة الحسابية: 1 + 4 + 2 = 7، فموضوع الحديث هنا هو العدد 7، فماذا قلنا عنه في هذه المعادلة؟ كل ما قلناه هو أننا عرضنا العناصر التي كانت مدمجة في العدد 7، وعلى منوال هذا المثل البسيط الواضح قس كل حالة من حالات الفكر الرياضي، أيا كان موضوعه، فالفقيه الإسلامي حين يستخرج من آية قرآنية كريمة ما قد انطوت عليه من أحكام شرعية يفكر بمنهج التحليل الرياضي، حتى ولو لم يكن كلامه أرقاما أو رموزا كالتي نعهدها في الحساب والجبر والهندسة؛ وذلك لأن الفقيه يوضح ما كان مستترا في الآية الكريمة، توضيحا يستند فيه إلى «تحليل» الصيغة اللغوية التي بين يديه، ليخرج مكنونها ولا يضيف إليها ما ليس فيها.
ونعود بحديثنا إلى «ليبنتز» ورؤيته الرياضية إلى كل شيء أراد أن «يحلله» ليعلله، فهو إذا سأل نفسه - مثلا - متى يتوافر الصدق لجملة معينة يقولها قائل، وفي مجال «العلم» بصفة خاصة (ومثل هذا السؤال، ومحاولة الإجابة عنه، يلخص لك الشطر الأعظم من العمل الذي يضطلع به الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر) أقول: إن «ليبنتز» إذا سأل نفسه سؤالا كهذا، فإنه لا يجيب عنه بقوله: إننا نراجع مضمون الجملة العلمية المذكورة، على حقائق الواقع الخارجي، لنرى إذا كانت تطابقها أو لا تطابقها بل يقول: إننا نحلل «موضوع» الجملة لنرى هل نجد ما أخبرتنا به الجملة موجودا في عناصر ذلك الموضوع، أي أنه يحصر عمله في الجملة ذاتها، لا يغادرها إلى وقائع العالم، تماما كما يفعل الرياضي؛ فالرياضي لا يراجع وقائع العالم حين يريد أن يعرف أن عبارة «3 + 2 = 5» صحيحة أو غير صحيحة، بل هو يحلل مفهوم العدد «5» ليرى إذا كان مشتملا على العددين «2» و«3» أو غير مشتمل، فكذلك الحال عند «ليبنتز» في أي جملة يقولها قائل، تنسب خبرا إلى مبتدأ، كأن يقال - مثلا - «الإنسان يتميز بالعقل»، فصواب قول كهذا، مرهون بتحليل ما تتضمنه كلمة «إنسان»، فهل نحن واجدون عنصر «العقل» بين العناصر التي نرد إليها فكرة «إنسان» أو أن هذه الفكرة يجوز لها أن تكتمل دون أن يكون «العقل» عنصرا من عناصرها؟
وبهذه الرؤية الرياضية، نتخيل أن «ليبنتز» قد ألقى على نفسه هذا السؤال: ما طبيعة «الإنسان»؟ وإلى أي حد تعتمد طبيعته تلك، على تفاعله مع بيئته؟ فنجد جواب ذلك عنده واضحا وحاسما، وهو أن كل فرد من أفراد الإنسان قد ولد وفيه كل مقوماته، وما حياته بعد ذلك إلا نشر لما كان منطويا فيه، فهو في ذلك أشبه ببرج مغلق الجدران، لا نوافذ فيه يطل منها على خارجه، أو يطل منها خارجه عليه، إنه في هذا التكوين المستقل بذاته، كالجملة العملية التي هي من النمط الرياضي دائما، ولقد أسلفنا لك شرحا يوضح كيف أن الجملة الرياضية مكتفية بذاتها، نعرف صحتها أو خطأها من طريقة تكوينها وبنائها، دون النظر إلى أي شيء مما يحيط بها من أشياء العالم ووقائعه.
ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك كذلك، ونحن نرى بأعيننا، ونسمع بآذاننا أن أفراد الناس يتعاملون مع الأشياء من حولهم، ويتبادلون الأحاديث بعضهم مع بعض؟ إن «ليبنتز» إذا كان ليجيب عن هذه الأسئلة وأمثالها، لكان الأرجح أن تجيء إجابته شبيهة جدا بما قاله بعض الفرق الإسلامية قديما، وهي الجماعات التي أخذت بمذهب «الجبرية» أخذا صارما، فما من لفظ ينطق به عند تلك الجماعات وما من فعل تتعلق به إرادته، إلا ويتم حين يتم «عند» شعور الإنسان بتلك «الإرادة» في داخله، وليس «ب» تلك الإرادة، فكل شيء مرهون بمشيئة الله، سواء أتحركت في داخل الإنسان إرادة أم لم تتحرك، وهكذا - ربما - كان ما تصوره ليبنتز حين تصور أفراد الناس أبراجا مغلقة على نفسها، فإذا كان هنالك تعامل بين برج بشري وبرج آخر، فإنما هو توافق شاءته وأحكمت تدبيره وتوقيته مشيئة الله، وفي هذا يقوم مبدأ «التناسق الأزلي» الذي أخذ به «ليبنتز»، ومؤاده أن الله سبحانه وتعالى قد قدر لكل حدث ميقاته ولا يستثنى من ذلك التدبير الشامل الكامل أقوال الناس وأفعالهم، وعلى هذا الوجه نفهم كيف يتم التعامل والتبادل بين أفراد الناس، وهنا يسوق لنا «ليبنتز» أحد تشبيهاته الدقيقة الرائعة، فيقول ما معناه: أئذا وجدنا الساعات في مختلف أماكنها، متباعدة أو متقاربة، أئذا رأيناها جميعا تشير إلى وقت محدد تتفق عليه جميعا، دهشنا وسألنا: كيف أمكن لهذه الساعات أن تتفق، برغم أن كل ساعة منها مغلقة على نفسها مستقلة بذاتها؟ أليست علة اتفاقها هي مهارة صانعها الذي أحكم صناعتها فدارت تروسها، وتحركت مؤشراتها، بحيث اتفقت جميعا؟
لكن التشبيه الآخر، والأروع، هو هذا الذي جعلته عنوانا لهذا الحديث، وأعني التشبيه بالمعزوفة الموسيقية؛ إذ يقول ما خلاصته: افرض أن أعضاء الفرقة الموسيقية على اختلاف آلاتهم، قد تفرقوا، بحيث جلس كل عازف منهم في غرفة وحده، هذا يعزف على الكمان، وذلك يعزف على البيان، والثالث يزمر في مزمار ، الرابع يقرع الطبلة بضرباته، وهكذا، على أن تكون مدونة المعزوفة مع كل منهم، وعزف الجميع معا، دون أن يتصل أحدهم بالآخر، ألا ترى أن السيمفونية تكتمل لمن استطاع أن يسمع وهو على مبعدة؟ فإذا سألت: لكن أين قائد الفرقة الذي لولا إشاراته إلى العازفين، لما عرف أي منهم متى يبدأ، ومتى ينتهي؟ كان الجواب - مرة أخرى - هو أن قائد الفرقة، وواضع مدونتها، هو الخالق جل وعلا، قدر في الأزل لكل عازف ما يعزف، وأين يعزف، ومتى يعزف، بحيث يتكامل للحياة الإنسانية تناغم أفرادها في تعاملهم وفي تبادلهم، وفي كل ما يجتمعون على قوله أو فعله.
الكون كله يؤلف معزوفة كبرى، ليس فيها نغمة نشاز، هنالك سدم تعد بألوف الملايين في كل سديم منها نجوم تعد بملايين الملايين، كل نجمة منها ترسل الضوء ليسري بسرعة تقاس بآلاف الملايين من وحدات، كل وحدة منها «سنة ضوئية» - أي ما يقطعه الضوء في سنة كاملة - علما بأن الضوء يقطع في جريانه ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة. وهنالك في الكون قوة خفية اسمها «الجاذبية»، وبهذه القوة كل جسم يجذب كل جسم آخر، غير أن الأكبر من تلك الأجسام أقوى جذبا من الأصغر، والأقرب أشد وأسرع جذبا من الأبعد، وبهذا التجاذب بين أطراف الكون يتعادل البناء ويتوازن، وهنالك وهنالك وهنالك، ولكل شيء مما هنالك فعله، إلا أنه فعل يتكامل مع فعل سواه، فأي عجب في أن رجلا نافذ البصيرة مثل «ليبنتز» ينظر إلى هذا التناغم المدبر المحكم العجيب، ثم يوجه النظر بعد ذلك نحو مجموعة البشر فوق هذا الكوكب الأرضي، فيرى فيها شيئا من ذلك التناغم بين أفرادها، هذا إذا صلحت أمورها واستقامت، وإلا ففسادها يحيل أنغام المعزوفة إلى خليط من أصوات تتنافر فتصبح ضجيجا يصم الآذان؟
على أن كاتب هذه السطور، إذ يقدم ذلك الهيكل الإطاري في تصور المجتمع السليم، والذي خلاصته أن يعزف كل فرد من أفراده، على آلته التي يحسن العزف عليها، شريطة أن يلتزم في عزفه، تلك «المدونة» الواحدة ، لكي تتآلف النغمات الآتية من مجموعة المواطنين، على اختلاف نزعاتهم، فتتكون منها معزوفة موحدة متنافسة، أقول إن كاتب هذه السطور، إذ يقدم هذه «الرؤية» العظيمة، يشعر بضرورة أن ينبه قارئه، بأنه في وجهة نظره العامة، لا يأخذ بما أخذ به «ليبنتز» في وجهة نظر العامة، وأهم مصدر للاختلافات بين الوجهتين، هو أن «ليبنتز» - كما أسلفنا عنه القول - قد صدر في رؤيته، عن مبدأ أول، هو «رياضية» الكون وكائناته، فكأنما هو بذلك قد جعل الصيغة الرياضية وحدها هي معيار الحق في كل شيء، صغر أو كبر؛ ولذلك فهو يتوقع من أي شيء ومن كل شيء، أن تجيء مسالكه كلها منتزعة من طبيعته، بغض النظر عن المؤثرات المحيطة به، على غرار ما يكون «المثلث» - مثلا - هو المثلث بكل خصائصه التي نعرفها له في علم الرياضة، مهما يكن من أمر في ظروف حدوثه ووجوده، ولم يكن «ليبنتز» في ذلك المبدأ الرياضي عند النظر إلى حقائق الوجود، وحيدا ولا فريدا، بل الأمر على عكس ذلك؛ إذ نستطيع القول - اختصارا - بأن ذلك المبدأ قد ساد العصور الماضية كلها حتى لقد كان فلاسفتهم يبحثون دائما عن طريقة تمكنهم من النظر إلى «العلوم الطبيعية» على أساس المنهج الرياضي، لعلهم يخرجون منها بحقائق علمية فيها «يقين» العلوم الرياضية، لكن هذا الموقف قد تبدل في عصرنا، حين تبين، بما لا يدع مجالا لريبة مرتاب، أن ما يصدق على علوم الرياضة، لا يصدق على علوم الطبيعة، وأن لكل من هاتين المجموعتين منهجا خاصا، يختلف به اختلافا جذريا عن منهج المجموعة الأخرى، وربما كان هذا التغيير الجذري العميق، أعظم كشف في منجزات الفكر الفلسفي المعاصر جميعا؛ لأنه كشف يضرب بفروعه هنا وهناك، فإذا نحن أمام نظرة جديدة لم تعرفها العصور السابقة، وهي النظرة التي يبني عليها كاتب هذه السطور موقفه.
لكن هذا الاختلاف في الأساس، لا يمنع صاحب النظرة الجديدة من قراءة الأفكار العظيمة قراءة جديدة، ليفيد من عظمتها وعمقها واتساع أفقها، دون أن يتنازل عن وجهة النظر الجديدة ومنطقها وأسسها ، فلئن كان «ليبنتز» قد بنى هيكل المجتمع على صورة سيمفونية، تصان فيها فردية الفرد بميوله وقدراته التي يتميز بها، لكنها كذلك تلتزم أن تتناغم مع سائر الأفراد، بأن ينخرط الجميع في مدونة موسيقية واحدة، معتمدا في تصوره على أن كل فرد هو في ذاته كالجملة الرياضية القائمة وحدها داخل مبناها، فليس ثمة ما يمنعنا من الأخذ بتلك الصورة السيمفونية في تصور العلاقات، التي نريد لها أن تربط الأفراد بعضهم ببعض في شعب واحد، بل وتربط الشعوب العربية بعضها ببعض كذلك في أمة عربية واحدة، فيكون كل الفرق بيننا وبين «ليبنتز»، فيما يختص بتصورنا للعلاقة بين المجتمع وأفراده، هو أننا لا نفهم طبيعة الفرد على أنها برج مغلق الجدران، فتحصره في حدود طبيعتها الفطرية وحدها، بل نضع نحن النوافذ في تلك الجدران، لينفتح الطريق بين الفطرة الداخلية من جهة، والعالم الخارجي لكل من فيه وما فيه من جهة أخرى، فيحدث بين الطرفين تفاعل حي، يتطور بطبيعة الإنسان ذاتها، تطورا يتيح لها النماء.
وحقا نحن في أمس الحاجة إلى هذا التصور السيمفوني، لنصلح به ما قد أفسده الدهر من بنائنا الاجتماعي، حتى لقد انفرط الشعب أفرادا متنافرة متباعدة - كما أسلفت القول - وانفرطت الأمة العربية شعوبا متخاصمة الحكام، إن لم تكن متنافرة فيما هو أبعد من الحكام، وإن هذا الكاتب لعلى يقين بأن تمثلنا للتصور السيمفوني فيما نحن بصدده من نهوض بحياتنا، هو خير ما نهتدي به في ميادين التعليم، والسياسة، والاقتصاد، والبنى الاجتماعية على اختلافها، فهو تصور يجمع المبدأين الأساسيين معا، وهما: حرية الفرد في أن يحيا وفق طبيعته التي ولد بها ولا حيلة له فيها من جهة، وتماسك البناء الاجتماعي بما هو أصلب من أسياخ الحديد، برغم ما قد كفلناه للأفراد من حرية النمو من جهة أخرى.
لقد امتد بي العمر بحيث أستطيع المقارنة بين جيلين مقارنة واعية، والمقارنة التي أريدها هنا مقصورة على الركيزتين الأساسيتين اللتين أسلفت ذكرهما، وهما - أكرر مرة أخرى - حرية الفرد في تحقيق ما يتلاءم مع طبيعته التي انفرد بها دون سواه، سواء أكان ذلك في مجال التعليم، أم في مجال العمل، أم في حياته الخاصة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن تصاغ تلك الحرية الفردية - عن طريق التربية والتوعية الإعلامية - صياغة تجعلها متسقة مع سائر الأفراد في منظومة واحدة، فإذا ما أجريت مقارنة بين الجيلين من حياتي الواعية، فيما يختص بهذين الجانبين، قلت على سبيل الترجيح الذي يقرب من اليقين، إن الجيل الماضي كان أقل من الجيل الحاضر حرية فردية، لكنه كان أكثر منه اتساقا وتناغما، فإذا كان هذا الجيل قد ترك لكل فرد (بالتشبيه الموسيقي) حرية اختيار الآلة التي يعزف عليها، والطريقة التي يعزف بها، فقد ترك أبناءه ليتنافروا لحنا ونغما، حتى لم يعد بينهم ما يربطهم في سيمفونية واحدة، وعكس ذلك صحيح بالنسبة لأبناء الجيل الماضي، فقد قيدت حركاتهم في حدود الإطار الاجتماعي، داخل الأسرة وخارجها على السواء، فنتج عن تلك القيود أن تناسق البناء الاجتماعي وتماسك، فإذا صدقت هذه المقارنة تبين لنا سبيل الإصلاح في أي مجال نريد أن نصلحه، وهو أن نبقي على الجانب المكسوب - وهو الزيادة في حرية الفرد - وأن نسترد الجانب المفقود، وهو تناسق النغمات الفردية في معزوفة اجتماعية كبرى.
وقد يكون من المفيد لنا أن نتذكر بأن الجانبين المذكورين: اكتساب الحرية الفردية وفقدان التناسق بين الأفراد، ليسا مقصورين علينا - وأعني المصريين شعبا والعرب أمة - بل هما ظاهرة ملحوظة في العصر كله، وإن تكن أقطار العالم تتفاوت درجات في تلك الظاهرة، فمنها من أفرط في حرمان الأفراد من الحرية حفاظا على شيء من التناسق الاجتماعي، ومنها من كاد يصرخ قائلا على ألسنة أفراده: إلى الجحيم بذلك التناسق المطلوب، في سبيل أن يبرطع كل فرد حرا من القيود الاجتماعية، في أي فلك يشاء أن يدور، وقد سمعت ذات يوم في الصيف الماضي (1987م)، خطبة قصيرة مذاعة بالراديو، لرئيس محكمة الاستئناف العليا في بريطانيا، ألقاها في حفل تكريمي أقيم في مناسبة لم أعرف ماذا كانت، فأخذ رئيس المحكمة يوجه العتاب المر إلى الصحافة ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية، قائلا إن هؤلاء جميعا، في غير شعور كاف بالمسئولية الاجتماعية الملقاة على عواتقهم، يهدمون بعنوان واحد كتب بالخط العريض في صحيفة ما، أو بدردشة مستهترة تدور في مذياع أو تلفاز، ما قد أخذ القضاء الصابر المتأني يبنيه في شهور أو في أعوام، ليصل إلى حكم عادل، فجمهور اليوم لا يعبأ بعدالة الحكم على متهم، بقدر ما يرغب في التخلص من متهم صورت له أوهامه - أعني جمهور الناس - بأنه مجرم، ثم ختم رئيس محكمة الاستئناف العليا خطبته القصيرة بقوله يصف هذه الفترة الزمنية وبنيها: لقد تحطمت الروابط والضوابط، التي لم يكن منها بد لمجتمع سليم، فانحلت روابط الأسرة حتى لم تعد أسرة، وتبخر الإيمان الحقيقي بالدين، فتبخرت معه الحدود بين ما يجوز فعله وما لا يجوز، ووهنت القيم الاجتماعية، حتى أصبح كل فرد يسلك وكأنه لا ضوابط ولا ضواغط تلزمه وتقيده، وغضت الأبصار عن رؤية «الآخرين»، فكأنه قد خيل لكل فرد أن ليس في الدنيا سواه.
ذلك ما وصف به رئيس محكمة الاستئناف العليا في بريطانيا أبناء وطنه اليوم، وأحسب أننا لا نخطئ إذا جعلناه وصفا يصدق على العالم كله، وإن يكن ذلك بدرجات تتفاوت بها الشعوب، فإذا كنا نحن قد وجهنا أنظارنا اليوم بقوة نحو إصلاح الجهاز التعليمي من جذوره، بل مما هو أسبق من الجذور وهو البذور، فلا يكفي أن نسلط معظم الأضواء على عمليات «التنمية»، التي كثيرا ما نعني بها التنمية الاقتصادية من ناحية الإنتاج؛ لأن هذه النظرة سرعان ما توجه انتباهنا إلى ما يضاف أو يحذف من «المقررات»، ابتغاء أن نصنع من المتعلمين «آلات» إنتاجية مدربة، ويفوتنا أن مجموعة آلات بشرية مدربة إلى أقصى درجات التدريب، على القيام بصناعة أعلى، وزراعة أوفر، وهندسة أدق، وهكذا، لا تصنع «شعبا»، وإنما يصنع الشعوب ذلك الجانب الآخر، الذي يوائم بين الأفراد في سياق اجتماعي منغوم، نعم، إنني على علم بأن دعاة الإصلاح التعليمي، لا ينسون أن يذكروا «التنمية الاجتماعية» إلى جانب التنمية الاقتصادية ليتم التكافؤ، لكني أشك في أن هذه التنمية الاجتماعية المذكورة في البيانات والتقارير، تحمل معها معنى دقيقا في الأذهان، بحيث نعرف في وضوح ماذا يراد لنا أن نصنعه، في مدارسنا وجامعاتنا، لنخرج المواطن المحترف بحرفة إنتاجية والذي يكون في الوقت نفسه مواطنا متسق النغمات مع سائر مواطنيه.
إننا - يا سادة - نعيش اليوم حياة، كان المواطنون فيها يسالم بعضهم بعضا حتى أمس القريب، وأصبحنا فإذا بعض يذبح بعضا من أجل قبضة مال، وبعض يخنق بعضا من أجل منصب لا يكاد يأتي حتى يزول، وبعض يفتك ببعض من أجل فكرة يتعصب لها غير واثق أنه فيها على صواب، فحتى لو صلحت آلات العزف في أيدي الأفراد، فقد تهتكت الروابط التي تجعل من حياتنا معزوفة كبرى.
كان حلما وما زال حلما
كانت السن في مرحلة الشباب المتأخر، وكان اليوم يوما من الصيف، وكانت الساعة أصيلا أخذ ينحدر نحو الغروب، وكان المكان ريفا في الطرف الشمالي من دلتا النيل، وكانت المشية بطيئة الخطى وبلا هدف، وكان البصر كلما دار فيما حوله من خضرة الأرض وزرقة السماء لحظة قصيرة، غلبته البصيرة لحظات طوالا، فتسد عليه الطريق، لينصرف الشاب إلى خواطره الدافئة خاطرا في ذيل الخاطر، وكان الخيط المشترك الذي يشد تلك الخواطر بعضها إلى بعض، سؤالا أخذ يتردد في صدره في حرارة أخذت تندرج صعودا، حتى أوشكت أن تصل به إلى رعشة الحمى: لماذا هم كذا ولماذا نحن كيت؟!
لماذا يغوص شبابهم الجاد إلى أغوار البحار باحثين كاشفين، ولماذا يلهو شبابنا على شواطئهم في ضحكات بلهاء؟ لماذا يتسلق شبابهم من الجبال أعتاها صخورا، وأوعرها طريقا عواصف وثلوجا، لا تهدأ لهم أنفس حتى ينكشف لهم المجهول وتصفو لهم شوامخ الطبيعة وتخشع؟ ولماذا يثقل الزمن الأجوف الفارغ على أبدان شبابنا، لا يعرفون كيف يقضون ساعاته المملولة الجدباء، إلا فيما لا يقضي لهم شأنا، أو في ثرثرة طفلية تزيد العقول البليدة بلادة، والقلوب الميتة مواتا؟ لماذا يكد علماؤهم، لا يستريح لهم جنوب على مضاجع، حتى يفضوا عن هذه أو تلك من ظواهر الطبيعة أختامها، وحتى يخضعوها للبحث فتنكشف أسرارها وإذا هم أمام قوة ألجموها فسخروها؟ ولماذا يقنع علماؤنا بأحرف وكلمات، خطفوها خطفا من هنا أو من هناك، فحفظوها، صحيحة حينا، شوهاء حينا، ثم قالوا لأنفسهم وللناس: ها نحن أولاء قد أوينا إلى فراشنا بالأمس جهلاء، وأصبحنا مع الصبح علماء.
كان الشاب في مشيته تلك، ينقل خطاه الوئيدة على جسر النيل أمام قريته، متجها بها نحو الشمال إلى القرية المجاورة، لم يكن بين القريتين إلا مقابر القريتين، ثم يعود قافلا بخطواته البطيئة نحو الجنوب نحو قريته، وسيل الخواطر الداخلية، لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟ لا يكاد يترك لبصره لحظة يجول فيها ذات يمين أو ذات شمال: فعن يساره وهو متجه بسيره نحو الشمال، كانت حقول الذرة في الأرض الممتدة بين الجسر والنهر، وهي أرض يغطيها النيل إذا فاض، ثم يزرعها الزارعون إذا غاض عنها النيل وانحسر، لم يكن يخلو يوم، في تلك الفترة من الصيف، من أن يقع البصر على جماعة من الزارعين، وقد تحلقت حول ركوة من النار يوقدونها بأوراق النبات الجافة، ويشوون عليها أكواز الذرة أكداسا أكداسا، ويأكلون المشوي نحتا بأسنانهم، ضاحكين بما يملأ جو السماء مرحا، وأما عن يمينه وهو متجه بمشيته نحو القرية المجاورة، فكانت المقابر عبرة لمن أراد أن يعتبر، ولكن أين هو الذي يعتبر؟ لقد تلاقت القريتان عند مقابر موتاهما، وأما أحياؤهما فقد كانوا - في ذلك الزمن البعيد البعيد - يحترقون غيرة، إحداهما من الأخرى ثم تتفجر الغيرة - آنا بعد آن - في معارك ساخنة بين شباب من هذه وشباب من تلك، مما لم يكن يزيد في حقيقته عن عبث الصغار، الذي لم يفلح قط في أن يفسد للود قضية بين الشقيقتين.
لكن الشاب، في مشيته تلك، في تلك الساعة، من ذلك النهار، في ذلك الصيف، قد حدث له أمر عجب وهو يقطع المسافة المجاورة للمقابر، وكانت نقطة البدء أن وثب إلى ذاكرته قول أبي العلاء، مخاطبا السائر على الأرض، أيا كان السائر، وأينما كانت الأرض، بأن يرتفع بقدميه عن أديم الأرض إذا استطاع، فيطير بهما في الهواء، بدل أن يدوس بهما سطح الأرض، لماذا لأن أديم الأرض إنما هو رفات الموتى، فألوف السنين بعد ألوفها، قد ألقت في اللحود ملايين الموتى بعد الملايين، وتحللت الأجساد وباتت ترابا من التراب، الذي لا بد أن يكون قد ملأ الرحب، أينما سارت بسائر قدميه، وإذا كان كذلك بالنسبة إلى أي أرض وإلى أي سائر، فماذا يكون الشأن بسائر في جوار المقابر، التي هي مقابر أهله وذويه؟ ثم ماذا يكون الشأن إذا كان هذا السائر قد امتلأ فؤاده بمثل الخواطر الحسيرة التي ذكرناها، والتي أخذ يتساءل بها في حسرته: لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟
وهنا أوشكت قدماه أن تتجمدا، خشية أن تتحرك فيهما قدم فتقع على رفات، وانحنى الشاب فالتقط كتلة صغيرة من تراب ناعم تلاصق بفعل الرطوبة ثم تيبس، وما هو إلا أن ذكرته قبضة التراب بذلك الحوار الساخر بين هاملت وحفار القبور، حين أظهرت فأس الحفار جمجمة مدفونة، وكان مما قاله هاملت في تأملاته، إن ساكن الكوخ إذا ما حدث ثقب في جدار كوخه، وأدخل له الثقب هواء الشتاء البارد، فأسرع إلى قبضة من تراب الأرض، وعجنها طينة وسد بها ثقب الجدار، ألا يكون - وهو لا يدري - قد وقع على جزء مما كان ذات يوم ملكا يحمل الصولجان ويتحكم في رقاب الناس؟
ولم يلبث الشاب عند هذه الخاطرة أن نظر إلى قبضة التراب في يده، وقال وكأنه يوجه إليها السؤال: ترى من أي جسد بشري جئت؟ حدثيني! كان كاتبا تقع كلماته على آذان صماء؟ أم كان خطيبا يعظ بما لا يفعله هو ولا يفعله أحد من سامعيه؟ أكان حاكما مغرورا بسلطانه الزائف الزائل، أم كان محكوما مظلوما لا يدري كيف يثبت للحاكم أنه بريء؟ أكان رجلا يستبد بأهل بيته ويطغى، أم كان امرأة قيدتها أغلال العبودية ثم أوهموها بأنها هي حرية المرأة وكرامتها، حدثيني يا هذه الرفات من تكونين؟ فما هو إلا أن سمع صوتا متقطعا معدني الرنين، يخرج من قبضة التراب في يده، فأخذه من الفزع الراجف ما أخذ، لكنه مع الفزع قد استمع، وإذا بالصوت المعدني المتقطع يقول له في أحرف واضحة: لست واحدا من هؤلاء، فأنا قبضة من رفات من جسد، والإنسان - أي إنسان - هو بأفكاره وأعماله، وهذه إن صلحت ثبتت على الدهر لا تموت ولا تدفن ولا تصير إلى تراب، فاحذر الخلط بين ما يدوم وما يفنى.
جاءت هذه الكلمات إلى الشاب، كما تجيء لمعة البرق فتشق سواد ليل زاده السحاب الأسود سوادا؛ إذ وجد فيها نورا يضيء له الطريق إلى جذور دقيقة دفينة، لم يكن رآها وهو يبحث عنها، فهو حين كان في حيرته يسأل: لماذا هم؟ ولماذا نحن؟ لم يكن قد أدرك الفرق بين من ينذر حياته لما يدوم ويبقى، ومن ينذر حياته فيما يزول ويفنى.
استدار الشاب نحو الجنوب، ليعود إلى الدار مسرع الخطى، ما أسعفه تراب الجسر - جسر النيل - الناعم من سرعة، فكأنما كانت الفكرة البسيطة الواضحة التي خيل إليه أنه قد سمعها منطوقة من كتلة التراب المتلاصق في قبضة يده، بمثابة المحرك إلى الخطوة السريعة، هل قالت قبضة التراب - التي هي في حقيقتها رفات من إنسان مجهول - هل قالت تلك القبضة شيئا سوى أن جثامين الموتى ليست هي أشخاصهم، وإنما أشخاصهم هي ما أنجزوه في حياتهم الدنيا من فكر يسري ومن فعل يبقى، والشاهد على هذا وذاك هو الأرواح لا رفات الأجساد، وانظر إلى عبقرية اللغة العربية حين فرقت بين «شاهد» و«شهيد»، فمن هم «الشهداء» من الناس؟ إنهم هم الذين «جسدوا» ما قد آمنوا به من فكرة وعقيدة، تجسيدا يمكن أن تشهده الأعين الشاهدة، ومنها ما يكون من ذات الإنسان نفسه، فيشهد على نفسه بنفسه.
ورسخت تلك الفكرة البسيطة الواضحة في وعي الشباب، رسوخا زاد ولم ينقص مع أعوام طال بها عمره حتى اكتهل وشاخ، ولقد أراد له ربه أن ينشغل في شيخوخته بالبحث عن «الجذور»، بل وما قبل الجذور من «البذور»، التي انبثقت منها فروع لا أول لها ولا آخر، من ظواهر الضعف، والتفكك، والتراخي، في حياتنا الحاضرة أفرادا وجماعات، فلئن حق لذلك الشاب في شبابه البعيد البعيد، أن يأخذ منه القلق مأخذه، كلما قارن بين «هم» و«نحن»، فلقد جاءت حياتنا الراهنة بما هو أفدح وأخطر، مما يدعو إلى القلق وإلى البحث عن العلل، فقد كان ذلك الشاب وهو في مرحلة شبابه، يستطيع أن ينظر حوله فيرى جهدا وجهادا نحو التحرر من مستعمر جاء فاحتل أرضه، ولم يعد اليوم مستعمر لنا ولا محتل، وكان ذلك الشاب يستطيع أن ينظر حوله ليرى أعلاما، يشقون في حياتنا الجديدة طرقا جديدة، اقتصادا مصريا بعد أن لم يكن، فنونا جديدة، من موسيقى إلى تصوير ونحت، بعد أن لم تكن، تصورا جديدا لأدب جديد، من رواية، ومسرح شعري، ومسرح نثري، ومبادئ جديدة لنقد أدبي وفني جديد، وإحياء واع لبعض تراثنا، يصاحبه اعتراف أوعى من بحار العصر الجديد، نعم - كان ذلك الشاب في شبابه القلق - يستطيع أن ينظر حوله ليرى هذا كله، ومع ذلك أقلقه أن يرانا في كثير جدا من ذلك الجديد والتجديد، إنما نقف عند حدود النقل والمحاكاة، سواء أكان المنقول عنه ماضينا أم كان عصرنا متمثلا في مبدعيه من أوروبا وأمريكا، وسواء أكان الذي نحاكيه أبا أو جدا من آبائنا وجدودنا، أم كان غريبا عنا في شعب بعيد، كان ذلك الموقف السلبي من حضارة العصر «وأعني الموقف الذي يأخذ من الناتج الحضاري الذي أنتجه آخرون»، ثم لا يضيف من عنده ولا يعطي، هو الذي أقلق الشاب في مرحلة شبابه، حين أخذ يتساءل في لهفة المحترق: لماذا هم كذا؟ ولماذا نحن كيت؟
فماذا يقول وقد تقدمت به السنون، إذا ما نظر حوله فرأى شبابنا الآن وقد تحولوا من سلبية النقل والمحاكاة في حركة البعث، إلى سلبية أخرى خانقة حتى الموت؟ إنهم يرفضون العصر، ثم هم لا يفهمون الماضي، وبين هذا الفهم الغائب وذلك الرفض الغبي البليد، يقضون حياتهم في وخم متثائب حينا، أو في سخافات ينشطون بها نشاط من يهدم وليس نشاط من يبني، ولسنا نريد بهذا أن نغمط حق مئات الألوف، استغفر الله، بل ربما بلغت تلك الألوف حدود الملايين، من شبابنا الذين عمروا لنا الأرض بما زرعوا وما صنعوا، والذين ضاقت بهم ساحة الوطن فهاجروا، لينبغ منهم من نبغ، كلا ولكن هؤلاء وأولئك - في الأعم الأغلب - ما زالوا يقفون ذلك الموقف الناقل المحاكي، الذي أسخط ذلك الشاب وأقلقه، ثم زاد علينا في مرحلتنا الحاضرة، ملايين أخرى ممن أخذهم الضعف، فأخذهم العجز، فلجئوا إلى تطرف جاهل مجنون، ينحازون به إلى اليمين مرة وإلى اليسار مرة، غير عابئين بما ينطوي عليه هذا التردد بين الطرفين، من تناقض في الفكر وتخبط في العمل.
ويتذكر الشيخ شبابه القلق، الحائر، الساخط، المتسائل: لماذا هم يبدعون ولماذا نحن محاكون وناقلون؟ يتذكر الشيخ ذلك، حين يتذكر شبابه ماشيا بخطواته الوئيدة، على جسر النيل، فيما بين القريتين الشقيقتين، خلال إجازات الصيف، فيبتسم أسفا وحسرة؛ إذ يرى الليلة أشبه بالبارحة، لا، لا بل إن الليلة لم تعد تشبه البارحة؛ لأن البارحة وإن تكن قد ركنت في نشاطها إلى الأخذ عن الآخرين بغير عطاء إلا القليل، فلم تكن ترفض الحاضر وتشد ركابها قافلة إلى وراء، وينظر الشيخ كما نظر سلفه الشاب، ليقارن شبابا هنا بشباب هناك، فيرى في ناحية، قعودا، وخمولا، وتراخيا، وفي ناحية أخرى لا يخلو قط أن يرى أمثلة تشد الانتباه شدا، وتدعو إلى عجب وإعجاب، من وعي متيقظ، ونشاط متوفر، ومغامرة طموح، ورغبة جامحة للكشف عن مجهول من أسرار هذا الكون العظيم.
إنك لترى روح الأمة، في أي عصر من عصورها، منعكسة في منجزات أبنائها وبناتها، ولا يعني ذلك أن نتوقع الإنجاز العظيم من كل فرد من أفرادها، فذلك ضد طبائع الأشياء بل يكفيك أن يشهد على روح الجماعة نسبة عددية من أعضائها، فنحن إذ نقول - مثلا - إن القرن الرابع الهجري قد شهد ذروة الثقافة العربية في تاريخها القديم، لا نعني أن كل عربي كان نابغا في ناحية من نواحي الحياة الثقافية ، بل نعني أن روح الأمة العربية قد تمثلت في قمم، وكل قمة منها - بالطبع - تلحق بها درجات دونها متفاوتات، فهنالك - مثلا - في دنيا الشعر المتنبي وأبو العلاء، لكن هناك أيضا عشرات من شعراء دونهما، لا يبلغون الذروة، وأن يكونوا أكبر قدرا من أن يهملهم تاريخ الشعر العربي، وفي الفكر الفلسفي إبان القرن الرابع الهجري، تجد قمما مثل الفارابي وابن سينا، لكن هنالك كذلك عشرات دونهما، تتفاوت درجاتهم، وهكذا قل في كل حياة ثقافية ناهضة، في أي عصر من العصور الناهضة، أما إذا ركدت الحياة بحيث خلت من قوة الإبداع الضخم، فهنالك قد تجد الوهاد الوطيئة، ولكنك لن تجد القمم العالية، هذا هو ما نراه في حياتنا اليوم: فهي بالطبع لا تخلو من سهول ووديان، لكنها يقينا تخلو من القمم العالية في أي ميدان تختار أن تضعه موضع النظام، فالقمم البشرية، شأنها في ذلك شأن قمم الجبال، يراها الناس من بعيد، أي أن العظيم حقا هو من عظم قدره للعالم كله فيما يدفع الإنسانية إلى الأمام من جانب في جوانب حياتها، ولقد كان أهم ما ضاق له صدر ذلك الشاب الغاضب، أن رأى أمته تخلو من أمثال تلك القمم العالية، دون أن ينكر عليها نوابغها فيما دون الذرى، حتى إذا ما تقدم العمر به إلى شيخوخة تحيا في أيام الناس هذه، رأى السفوح العليا - ودع عنك القمم العالية - قد خسفت لتنبسط في أسطح تستوي مع أسطح الماء انخفاضا، فليس الأمر - إذن - هو أنه لا فكر، ولا فن، ولا أدب، ولا طب ولا هندسة، لا فكل ذلك موجود بدرجات، وإنما الذي غاب هو القمم العليا أولا، والسفوح المرتفعة ثانيا، وربما بقيت لنا بعض السفوح السفلى مع مسطحات السهول، ومنخفضات الوديان.
إن جبال الأرض، التي شمخت بذراها حتى اخترقت بها كبد السماء، لم تفعل فعلها ذاك إلا بعد أن ارتج جوف الأرض بمخاض عنيف، تفجرت به البراكين الثائرة، فأرسلت أنفاسها الحرى حمما، فلما بردت نارها، كانت قد تركت خلفها تلك القمم العالية التي نراها، وكذلك تكون الحال في قمم البشر العمالقة العباقرة، فهؤلاء لا يظهرون من فراغ، بل تسبق ظهورهم روح تسري في عامة الناس، تستجيب للتحدي من أي ناحية جاء، سواء أجاء من عدو يعتدي، أم جاء من طبيعة تتحدى بصلابتها وعنادها، فإذا رأينا أمة قد انطفأت الجذوة في شبابها، بحيث تكثر حولهم عوامل التحدي فلا يتحرك منهم جمع ليستجيب، علمنا أن الفرصة لولادة القمم قد ضاقت، ومن هنا رأينا شاب الأمس البعيد وقد أخذه القلق، حين راح يتساءل: لماذا هم في الغرب كذا وكذا؟ ولماذا نحن على امتداد الوطن العربي كيت وكيت؟ وما قد أقلق شاب الأمس البعيد، ما زال يقلق شيخ اليوم، كلما رأى هناك شبابا يتوقد طموحا في مواجهة الصعاب، بل إنه ليخلق الصعاب خلقا لتسنح له فرصة للمجاهدة والكفاح، وإن هذا الشيخ ليتابع بروح قلقة شفقة على أبنائه الشباب، أقول إنه يتابع ما يحدث هناك وما يحدث هنا، فلا يجد هنا من معالم الطموح المكافح إلا قليلا جدا، إذا ما قيس إلى ما يجده هناك، ولنضرب أمثلة قليلة مما سمع عنه هناك في صيف واحد «صيف 1987م»: شاب يحاول - وحده - خلال أشهر الصيف، أن يشق الطريق الثلجي في المحيط المتجمد الشمالي، لعله أن يجد سبيلا مباشرا يربط المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادي، ب «تخريمة» قصيرة عن طريق القطب الشمالي، ولقد كان هذا العام عامه الثالث في مغامرته تلك، ويقرأ الناس - أو يسمعون - وصفا لما يلاقيه، وشرحا لما يتغلب به على ذلك الذي يلاقيه، وأن الأخطار العنيفة المخيفة لتحيط به عند كل خطوة يخطوها، فما الذي دفع شابا كهذا أن يترك المراقص والملاهي والمصايف، حيث كان يستطيع أن يلهو ويعبث ويسترخي، ليواجه الثلوج جبالا جبالا، ولتعصف به العواصف القواحف عصفا؟! وذلك شاب آخر يتأهب لمحاولة أخرى يحاول بها تسلق الجانب الشمالي الشرقي من جبال الهملايا، وهو جانب لم يتسلقه إنسان بعد، ويعرف عنه العارفون أنه عنيد، ويسأله سائلون: فيم إصرارك أنت وزملائك على هذه المخاطرة عاما بعد عام؟ فيجيب الشاب - وعمره نحو عشرين عاما - بقوله: إن جوابي هو نفسه ما كان أجاب به «مالوري» عن سؤال كهذا من الخمسينيات، عندما نجح في وصوله إلى قمة «إفرست» من جبال الهملايا، وهي أعلى قمم الدنيا جميعا، حيث قال إنني جاهدت لأبلغ تلك القمة «لأنها هناك»، أي أن مجرد وجود الشيء المستعصي، كفيل وحده بأن يتحداه الإنسان ليقهره، وذلك شاب ثالث ضرير، واسمح لي بأن أكرر القول بأنه شاب «ضرير»، قد أعد عدته ليعبر المحيط الأطلنطي وحده في سفينة، فإن لم يكن هو أول «إنسان» يعبر وحده ذلك المحيط، إلا أنه سيكون أول إنسان «أعمى» يفعل ذلك، ويسأله سائلون: وماذا وراء مغامرتك تلك؟ فيجيب بأن الذي وراءها هو أن الإنسان بروحه القوي، لا بعينيه، وقد أراد بعضهم أن يعرف كيف يستطيع مفقود البصر أن يغامر مغامرة كهذه، فيشرح الشارحون بأنه سيعتمد على جهاز السمع «رادار»، يتسمع به إن كان في طريقه سفينة أخرى فيجتنبها. هؤلاء جميعا شباب ما زالوا في الجانب الأصغر من مرحلة الشباب، أمامهم عوائق عسيرة في الطبيعة، وكأنها تتحدى قدرة البشر، فيستجيبون هم لهذا التحدي يغالبونه حتى يغلبوه.
وإذا سادت هذه الروح المغامرة الطموح شباب أمة، فهل من عجب أن تظهر فيها القمم الشوامخ بعد قليل؟ إن الأمر في حيوية الشعوب، هو كما قال الشاعر التونسي الشاب:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
إلا أن الفرق بعيد بعيد بين شعب «أراد» الحياة وشعب «أراد» الموت (وأرجوك أن تقف قليلا عند معنى «أراد» حين تنصب تلك الإرادة على نمط الحياة الذي يريد الإنسان أن يحياه)، لقد أنبأني عميد لإحدى الكليات «العلمية»، أنه أراد أن يكون لنفسه فكرة مأخوذة من الواقع، عما يقرؤه الطالب إذا قرأ، فأخذ يجمع الشواهد مما يقع عليه بين الطلاب، فشاءت له المصادفة أن يكون أول كتاب رآه مع أول طالب يصادفه قارئا، هو كتاب عن «عذاب القبر». فقلت للأستاذ العميد: كفى! كفى! نشدتك الله لا تمض في ذكر الأمثلة؛ لكي أنعم بالظن الواهم ، إن ذلك المثل الذي ذكرته وحيد نوعه، ليس له بين الطلاب ثان وثالث.
لكني أعلم علم اليقين أن لذلك المثل الأول الذي قدمه لما يقرؤه الشباب، ثانيا، وثالثا، ورابعا، وإلى أي عدد تشتهي، وكأنه شباب أراد لنفسه «الموت» أكثر مما أراد لنفسه «الحياة»، فإذا تدرج شاب من هؤلاء على درج العمر، وصار «عالما» أو «طبيبا» أو «مهندسا»، أو ما شئت من مسالك الحياة في أعلى درجاتها - ودع عنك درجاتها فيما دون ذلك - فماذا تتوقع أن ترى؟ إنك لن ترى - في الأعم الأغلب - إلا رجلا وقف عند حدود العلم كما هو موجود، وكما درسه وحفظه مما درس أو قرأ، في الجامعة وما بعد الجامعة، وذلك على أحسن الفروض الممكنة؛ لأن بيننا من لا يتابع المستحدث أولا فأولا حتى في دائرة تخصصه، فيتخلف بعلمه بضع عشرات من السنين عما هو عليه الآن، ومع ذلك فلا علينا الآن من هؤلاء - وهم كثيرون - ولنأخذ بأحسن الفروض، وهو أن علماءنا والصفوة من أصحاب المهن، يتابعون المستحدث أولا فأول، فهلا وقفنا قليلا عند كلمة «يتابعون»، أي أنهم يقفون عند الأبواب، في انتظار ما يكشف عنه الكاشفون، أما أن نشارك نحن بقسط في صنع العلم أو غير العلم من مقومات العصر حضارته وثقافته، فذلك أمر بعيد الحدوث، فمن كان في شبابه يقرأ عن «عذاب القبر»، بعيد عنه بعد ذلك أن يضيف إلى حياة الناس حياة.
كان الشاب القلق الطموح يحلم بأن يكون لنا نصيب يتناسب مع تاريخنا المجيد، في الإبداع الحضاري الجبار، الذي نسمع عنه عند سوانا، والذي نشتري بعض ثماره لنمسها بأطراف الأصابع، ولنذوقها بطرف اللسان، ثم خرج من ذلك الشاب شيخ ما زال يراوده الحلم.
موطن الداء
المسئول الكبير، الذكي اللامع، إذ كنا نسمر معا سمرا ظاهره انسياب الخواطر، انسيابا لا يستهدف غاية إلا حلاوة السمر، وباطنه هدف مضمر، هو البحث عن أسس ثابتة يقوم عليها إصلاح التعليم، فسألني الصديق الكريم سؤالا، جاء في سياق الحديث وكأنه عابر، فقال: إن اعتقادنا اليوم، هو أننا قد فرغنا من إرساء الدعائم لخطة اقتصادية طويلة المدى، ونريد الآن أن نتجه بمثل ذلك الجهد المركز، نحو أن نرسي دعائم البناء التعليمي، وقد يقتضي ذلك تغييرا من الجذور في «مقررات» الدراسة على اختلاف مراحلها، فماذا ترى؟ قلت: قد تكون «المقررات» بحاجة إلى مثل ذلك التغيير، لكي تتكافأ مع ما تغيرت به الدنيا، إلا أني على عقيدة راسخة، بأن «مقررات» تذهب، وأخرى تجيء، لن يغير وحده من مواطن الداء إلا قليلا.
وأما الذي نرجح له أن يحدث التغيير، فهو اكتساب الدارسين للنظرة العلمية، بأن يستخلصوها مما درسوه من «مقررات»، فما من «مقرر دراسي» في مدرسة، أو معهد، أو جامعة، إلا وقد سيق في سياق تنتظم فيه الروابط بين الأسباب ومسبباتها، فلو أننا عنينا بأن يتشرب الدارس لمقرر معين، ما قد سرى في أوصاله من منهج السير، خرج المتخرج آخر الأمر بشيئين: مادة المقرر المدروس، ومنهاج «النظرة العلمية» معا. فإذا كانت «المقررات» تعد الدارسين لضروب العمل المهني والحرفي، فإن «النظرة العلمية» التي يتشربها، تخرجه «إنسانا» يساير عصره الذي خلق ليعيش فيه.
إننا إذ ننظر إلى من أخرجتهم مراحل التعليم عندنا - وهم في ميادين العمل - أطباء، ومهندسين، ورجال قانون، ورجال اقتصاد، ومعلمين، وعلميين في شتى فروع العلم، لا يسعنا إلا الشهادة لهم بالقدرة - بعد سنوات قليلة من التدريب والخبرة - فهؤلاء هم بناة العمران في مصر، وفي كل ركن من أركان الوطن العربي، لكن أخرج بهؤلاء القادرين أنفسهم من دوائر تخصصاتهم، ليواجهوا مع جمهور الناس مشكلات الحياة العامة، ثقافية وسياسية واجتماعية؛ تجد كثرة منهم ينظرون بالمنظار نفسه الذي ينظر به من لم يظفر بحظ من تعليم المدارس والجامعات، فكلاهما على حد سواء لا يجد في كيانه البشري ما يصده عن تصديق الخرافة، وإذا قلت «الخرافة» فقد قلت رد الظواهر إلى غير أسبابها الحقيقية، ولكي أبين الفرق بين الحالتين، أروي هذه الحادثة: فقد أراد هاو من هواة التسلق إلى قمم الجبال المنيعة، أن يتسلق جبلا في إسبانيا، فاستعان بدليل من أهل المنطقة ليصحبه، فلما بلغ بهما الصعود نقطة مرتفعة، جلسا للراحة والطعام، وأخرج الرحالة عددا من حبات البطاطس وأشعل لها الموقد لتنضج، ووصل الماء في إناء الطهو إلى درجة الغليان، ولبث يغلي فترة طويلة من الزمن، لكن البطاطس لم تنضج، ودهش الرجلان كلاهما: لماذا لم يؤد الماء في غليانه إلى إنضاج البطاطس؟ فأما الدليل في جهالته، فلم يتردد في اعتقاده بأن روحا شريرة قد حالت دون ذلك، وأما الرحالة في استنارته العلمية، فقد تذكر على الفور أن درجة غليان الماء تقل كلما ارتفعنا به عن مستوى سطح البحر، فهو يغلي عند سطح البحر في حرارة مقدارها مائة، وأما على سفوح الجبال العالية فقد تقل درجة الغليان بحسب درجة الارتفاع، فربما غلى الماء بدرجة ثلاثين أو أربعين، وفي هذه الحالة لا يكون حارا بالقدر الذي ينضج البطاطس، برغم أنه يغلي، فلقد كان الرحالة ذا «نظرة علمية»، وهو يربط النتائج بأسبابها، وأما مرافقه من أهل الإقليم فقد لجأ إلى الخرافة في التعليل، ومرة أخرى أقول إن تعريف ما نطلق عليه اسم الخرافة، هو: «رد الظواهر إلى غير أسبابها»، فالنظرة العلمية، والنظرة الخرافية، كلتاهما تحاولان تعليل الحوادث، لكن شتان بين تعليل وتعليل.
إنه لمن أيسر اليسر أن تلقن الدارسين «مقررا» بعينه، وضعت مادته في كتاب، ثم يلخص ذلك الكتاب المطول في كتاب يعرض في الأسواق، يقتصر على ذكر «النقط» أو رءوس الموضوعات، ويطلب من الدارس حفظها عن ظهر قلب، ويعيدها في ذلك الهيكل العظمي على ورقة الامتحان، وواضح أن «النقط» التي تستخلص من «المقرر» ليحفظها الدارس، قد خلت خلوا تاما من الروابط المنطقية، التي تربط كل نقطة منها بسياقها الذي يفسرها ويعللها، كما خلت في الوقت نفسه من الروابط التي تربطها بأخواتها، ليتكون من مجموعها كيان فكري واحد، فيتخرج الدارس وفي جعبته «نقط» مبعثرة، وليس في عقله «منهج» للنظرة العلمية، أيا كان الموضوع الذي ينظر إليه ابتغاء تعليله ووضعه في سياقه ليفهم.
نعم إن دراسة «المقررات» هي أيسر اليسر، وأما العسير حقا، فهو أن تأخذ بأيدي الدارسين ليستخلصوا من تلك المقررات منهاجها، وإذا كان تغيير المقررات معدودا، وكأنه تناول لمشكلة التعليم من «جذورها»، فإنني أدعو إلى ما هو قبل الجذور، وهي البذور التي نبذر بها في عقول الدارسين نظرة علمية، فقد تنسى المقررات المدروسة فلا يبقى منها عند الدارس حرف واحد، وأما النظرة العلمية المستفادة، فهي تدوم سمة من سمات المتعلم ما دام حيا، تتغير الموضوعات التي تنشأ له في طريق حياته، فيعالجها بما قد ثبت في نفسه ورسخ، وهو الطريقة العلمية في الفكر والعمل.
فإذا كنا قد نجحنا إلى حد قد نختلف على مداه، في أن تخرج لنا «المقررات» الدراسية، من يقومون ببناء حياتنا المادية والعملية، من منشآت هندسية، ومستشفيات، ومعاهد دراسية، ومحاكم للقضاء، وجهاز كامل للدولة، وللإعلام، ولغير ذلك من مسالك الحياة، فيقيني هو أننا لم نوفق في تزويد أنفسنا بالشطر الثاني، الذي هو - كما أسلفت القول - التدريب على «النظرة العلمية» في إطارها العام، في كل ما يصادفنا من مواقف ومشكلات خاصة أو عامة على حد سواء، وإذا غابت النظرة العلمية، كان حتما أن تحل محلها نظرة أخرى تنبني على ما هو أعمق جذورا في فطرة الإنسان، ألا وهي لجوء الإنسان إلى ما تمليه عليه غرائزه، وعواطفه، وانفعالاته، وسائر ما هو مزود به، بحكم طبيعته الإنسانية والحيوانية معا، من قوى تدفعه إلى كذا وتمنعه عن كيت، دون أن يكون في ذلك الدفع أو المنع سند من منطق العقل، وماذا نعني بمنطق العقل؟ إنه بكل بساطة وإيجاز، التعامل مع دنيا الأشياء، على أساس من واقع تلك الأشياء، دون أن نضيف إلى حقائقها الواقعية، أو أن نحذف منها شيئا، حتى إذا ما عرفناها على حقائقها، كان من حقنا بعد ذلك، أن نستدل الطريقة التي نستخدمها بها على النحو الذي يخدم منافعنا ويحقق أهدافنا.
وقد تسأل متعجبا: وهل هنالك بين الناس إنسان يفعل ذلك؟ هل هنالك إنسان يرى قطعة الصخر فيزعم لنفسه أنها سبيكة من ذهب؟ أو يرى قنابل الأعداء تهوي لتقتل الناس وتهدم البيوت، فيقول إنها زهور تتناثر لتنشر عطرها؟ والجواب هو: نعم، فقد تكونت النفس الإنسانية، لترى الأشياء - لا سيما في ساعات الشدة والحرج - على هواها، فهي في حالة ضعفها وخوفها ترى شيئا، فإذا انقلبت إلى قوة وثقة، رأته شيئا آخر، فكم من دجال قدم إلى ساحات القضاء ليحكم عليه بما يحكم به، عقابا له على تضليله للأبرياء، بعد أن لم يجد فيه هؤلاء الأبرياء إلا بركات وقدرات تشفي المريض، وتعيد الأسر المحطمة إلى وئامها، وترد الخاسرين إلى رواج وازدهار، إن عامة الناس أميل بحكم فطرتهم إلى أن يخلعوا على الطبيعة صفات كصفات البشر، فإذا أصابهم خير من ظاهرة طبيعية، كالمطر أو فيضان النهر، رأوا في تلك الظاهرة ما يستحق التقديس، أو رأوا شرا صبوا عليه اللعنات، إنهم يحبون أن يكونوا ممن شفت قلوبهم حتى لترى المستقبل قبل حدوثه، فهم يتذكرون حلما من أحلامهم جاءت رؤياه صادقة على المستقبل، وينسون ألف حلم رأوه ولم يتحقق منه شيء.
كثيرة جدا هي العوامل الداخلية التي تتحكم في الإنسان، فتميل به إلى رؤية الأشياء على غير واقعها، وإن شئت فانظر إلى رجلين، نشأ كل منهما في بيئة اجتماعية، أو تعليمية مختلفة عن البيئة التي نشأ فيها الآخر، واطرح عليهما سؤالا عن قيمة حضارية معينة، كتعدد الزوجات، أو التعليم المختلط بين الجنسين، أو الطريقة التي تعالج بها جثث الموتى، فعندئذ ترى ما يوجبه أحدهما وجوبا لا تردد فيه، يستنكره الآخر استنكارا يحسبه من وحي البديهة التي لا تخطئ، فقد ذكر المؤرخ اليوناني «هيرودوت» كيف أنه على سبيل المقارنة أثناء جولته في مصر وبعض البلاد الآسيوية، سأل مصريين: ماذا ترون فيمن يحرق جثث موتاهم؟ والمصريون - كما نعلم - يدفنون الموتى، فاستنكروا تلك القسوة ممن يقترفون هذا الإثم المخيف. ولما سأل أفرادا ممن يحرقون الجثث في الهند، قائلا: ماذا ترون فيمن يدفنون جثث موتاهم؟ عجبوا كيف تطاوعهم قلوبهم أن يدفنوا أحباءهم في حفر تحت الأرض. وهنالك من القبائل من يأكلون موتاهم - وبصفة خاصة جثث الآباء - عقيدة منهم بأنهم بذلك يضيفون قوة الراحلين إلى أبنائهم حتى لا تضيع سدى، وأظن أن «فرويد» في كتابه «الطوطم والتحريم» يعلل أكل الولد لجثة والده، أو حتى أكله لأبيه في حالة مرضه إذا استعصى شفاؤه، بأنه في أعماقه نوع من انتقام الابن من أبيه، لقاء ما سلبه أبوه من حرية، ولقد قرأت - فيما أذكر - لأحد الباحثين في الثقافات المختلفة، أن جماعة من إحدى القبائل آكلة الموتى، حين سئلت عما تراه فيمن يدفنون الموتى، وفيمن يحرقون الموتى، فكاد المسئولون أن يغمى عليهم من الذهول، كيف تبلغ الغلظة بقلوب أولئك أو بقلوب هؤلاء، فيفعلون تلك البشاعات بموتاهم! نعم، إن ظروف النشأة قد تعمي وتصم، فلا يرى صاحب الرأي إلا ما هو راسخ في فؤاده هو، مما دس فيه من أولياء أمره أيام النشأة الأولى، وإننا لنعاني من اختلاف الرأي في حياتنا الفكرية، لا لأي سبب آخر سوى اختلاف الظروف الدراسية التي أحاطت بهذه الجماعة منا أو بتلك، فأصبحنا إذا ما طرح موضوع للرأي، قال هؤلاء نقيض ما قاله أولئك، والموضوع واحد، والشعب واحد، وما ينفع الناس أو ما يضرهم يمكن إخضاعه للحساب الذي يتفق عليه الجميع، ذلك لو احتكموا في مشكلاتهم إلى منطق العقل، وليس للأهواء التي اختلفت باختلاف الظروف.
وأول خطوة في سبيلنا إلى تربية أطفالنا على رؤية الأشياء على حقائقها الخارجية، تمهيدا للحكم عليها حكما غير مؤسس على أوهامنا وأهوائنا؛ هي أن يتعلم أولياء الأمر في تنشئة الطفل، من والدين ومعلمين، مضافا إليهم الوسائل الإعلامية، كيف يرهفون حواس الطفل لتعمل عملها على وجه أوفى وأكمل؟ فمجرد وجود العين قد يضمن لنا أنها «تنظر» ولكنه لا يضمن لنا أن «ترى»، ومجرد وجود الأذن قد يضمن لنا أنها تسمع الصوت آتيا من مصادره، ولكنه لا يضمن لنا تركيز «الانتباه» فيما يختلف به، أو ما يتشابه فيه، صوت وصوت، وتهذيب الحواس، وإرهافها، وتدريبها، هو الوسيلة الأولى، التي تتيح للناشئ أن يجمع معلومات دقيقة وصحيحة، عما حوله وعمن حوله، ولئن كان «فرنسيس بيكون» قد صاح صيحته المدوية في أوروبا النهضة، حين قال: «العلم قوة.» قاصدا بذلك إلى لفت أنظار الناس، بأنه ليس من العلم في شيء ذلك التحصيل الذي كان رجال القرون الوسطى في أوروبا يجمعونه من الكتب ويحفظونه، ما دام عاجزا عن أن يضيف إلى دارسه «قوة» يستطيع بها أن يلجم ظواهر الطبيعة ليجعلها طوع أمره، فالتحكم في نبات الأرض نوعا ومحصولا، يحتاج إلى «علم»، والتحكم فيما يخرجه الإنسان من جوف الأرض، يحتاج إلى «علم»، واختراع وسائل النقل السريعة والمريحة، يحتاج إلى «علم»، وحفظ الطعام أو مخزون الدم بالمستشفيات، يحتاج إلى «علم»، وذلك هو الجدير باسم «العلم»؛ لأنه ضروب من «القوة» التي يقوى بها الإنسان على إخضاع الأشياء لصالحه؛ أقول: لئن كان «بيكون» قد صاح صيحته تلك منذ أربعة قرون، لعل القوم أن يتجهوا بدراساتهم وجهة أخرى، يمارسون بها «الأشياء» ولا يقتصرون على قراءة ما تركه أسلافهم عنها في بطون الكتب، فالصيحة الجديدة في عصرنا - فيما يتصل بموضوع حديثنا - هي: «المعلومات قوة.» بمعنى أن سيطرة الإنسان - طفلا وغير طفل - على الأشياء، مرهونة بمقدار ما يجمعه من معلومات صحيحة عن تلك الأشياء، والوسيلة إلى ذلك تبدأ منذ الطفولة، بأن ندرب أعين الأطفال على أن «ترى» ما تراه بتفصيلاته، وأن ندرب آذانهم على أن تتبين في الأصوات أوجه الشبه وأوجه الاختلاف، ولكل حاسة أخرى وسائل تدريبها على أن تفعل فعلها، فمن أراد أن يلم بالعالم المحيط به، إلماما يضمن له مزيدا من المعرفة، ومزيدا من الدقة، كانت حواسه هي أبوابه ونوافذه، التي لا يملك سواها من نوافذ وأبواب.
إن من أهم ما قد لاحظه كاتب هذه السطور، خلال أسفاره وقراءاته ومقارناته، أن الطفل في البلاد المتقدمة - أخذا بمتوسط الحالات - يفوق الطفل عندنا في محصوله من المعلومات التي يجمعها عما يراه ويسمعه عن الأشياء والكائنات، بدرجة تلفت النظر، ثم يطرد هذا الفرق، بل ويتسع بينهم وبيننا في شرائح العمر بعد ذلك: وحسبك أن تلقي سؤالا على واحد من المشتغلين بمهنة أو بحرفة معينة، أو من رجال الفن والأدب، أو مما شئت من فئات الناس، عندهم وعندنا، لتسمع كيف يتدفق المسئول عندهم بسيل من المعرفة عما سألته عنه، وكيف يتعثر المسئول عندنا في لتسمع كيف يتدفق المسئول عندهم بسيل من المعرفة عما سألته عنه، وكيف يتعثر المسئول عندنا في القليل الذي يعرفه عن موضوع السؤال؟ وتعليل ذلك يسير؛ فالأعين والآذان هناك مدربة على أن ترى وأن تسمع ما حولهما وعما حولهما، والأعين والآذان عندنا تركت لتتلقى ما تتلقاه، دون أن يقابل ذلك في الإنسان المتلقي إرادة متعمدة للتدقيق في تفصيلات ما قد وقع من تلقاء نفسه على الأسماع والأبصار، ثم تجيء بعد ذلك عادة القراءة عندهم - وما يقرب من انعدام القراءة عندنا، فيضاف هذا العامل إلى العامل السابق - لنصل إلى نتيجة صحيحة ومفزعة، خلاصتها أنهم هناك يعرفون، وأننا هنا لا نعرف.
ثم لا يقتصر موقفنا في دنيا المعرفة على هذا القصور في «الكم»، بل يضاف إليه قصور آخر في «الكيف»، من شأنه أن يوسع من الفجوة التي تفصل الإنسان عندنا عن العالم الذي يعيش فيه، وذلك أن ما يعرفه العارف منا بشيء يغلب أن يكون مستمدا من مقروء، ويندر أن يجيء عن طريق اللقاء المباشر بين «الشيء» وعارفه، فينتهي بنا الأمر إلى أن نكون - إذا استبحنا شيئا من المبالغة - سجناء كلمات، قرأناها، أو سمعناها، منذ طفولتنا فصاعدا إلى أعمار النضج، وكأننا قد تحولنا بأشخاصنا إلى مخزون من ألفاظ أو عبارات، حفظتها لنا الذاكرة، حتى إذا ما أريد لنا أن نعالج الأشياء ذاتها، في موقف معين، تعذر علينا ذلك أو استحال، وبرهان ذلك ما نضطر إليه، كلما استعصت مشكلة عملية، أن نستدعي لها «الخبراء الأجانب»، حتى باتت هذه العبارة موضعا للتفكه، إننا قد «نعرف» ولكنها معرفة بما كتب أو قيل عن الشيء موضوع تلك المعرفة، وأما الشيء نفسه فهيهات أن تكون بيننا وبينه صلة مباشرة، لقد كنت أتحدث ذات يوم مع أستاذ في إحدى كليات الزراعة في جامعاتنا، فقال لي في حماسة شديدة، إنه لا بد من إدخال «مقرر» جديد في كليات الزراعة، وهو ما يسمى الآن «بالهندسة الوراثية»، وبين لي أهمية هذه المادة العلمية الجديدة، التي تتزايد أهميتها، وخطورتها، كل يوم، وأخذ الأستاذ الفاضل يشرح لي كيف أصبح في مستطاع علماء هذه المادة، أن يدخلوا تنويعات جديدة في أنواع النبات والحيوان، ليس فقط في النطاق المحدود الذي عهدناه في عمليات التهجين، بل ربما تلاقحت أجزاء من نوع معين بأجزاء من نوع آخر من أنواع الحيوان والنبات، وإذا بنا أمام كائن جديد كل الجدة، متميز بخصائص لم تكن من جنس الخصائص التي كانت لأي من النوعين اللذين اندمجا فأنتجا ما أنتجاه، فلما فرغ الأستاذ العالم من عرضه وشرحه، مؤكدا ضرورة إدخال هذا المقرر الدراسي الجديد، سألته: إلى أي حد يكمن القول بأن طلاب الزراعة، أو أساتذة الزراعة، إذا ما أضيفت في مقرراتهم مادة «الهندسة الوراثية» قادرون بعد ذلك على إجراء تلك العمليات الانقلابية في عالم الأحياء؟ فضحك وقال: إلى حد الصفر، فنحن ندرس ثم لا قدرة على التطبيق في أمثال هذه الميادين.
ليست المسألة في تطوير التعليم عندنا - إذن - هي إضافة مقررات وحذف مقررات، بل هي قبل ذلك وبعد ذلك، تغيير في الأسس التي نقيم عليها صروح التعليم، بحيث ننتقل بها من محورية «الكلمة» إلى محورية «الفعل» والفعل بطبيعة الحال، يستلزم أن يكون مدار التعليم هو الشيء الذي ينصب عليه ذلك الفعل.
إن من أميز ما يميزنا بالقياس إلى سائر الأمم، هو عمق الإحساس الديني، فلكل إنسان على وجه الأرض عقيدته الدينية، ولكننا أعمق صلة بالعقيدة، وربما كان ذلك لطول الزمن الذي عشناه في ظل الدين، فمنذ فتح لنا التاريخ كتابه ليسجل كان السطر الأول فيما سجله عن أمتنا، أنها أمة جعلت الدين محور حضارتها، وعماد ثقافتها، وهكذا ظلت العصور تتعاقب علينا، بديانات ترسخ في قلوبنا لرسوخ الأساس الذي تبنى عليه، وجاء الإسلام لنؤمن به إيمانا، اشتدت حرارته وعمقت جذوره، لسابق عهدنا الطويل بحياة دينية، وكان مما أكد عليه الإسلام، وجوب أن يصل المؤمن نفسه بظواهر الأرض والسماء، بدرسها فيزداد معرفة بعظمة الله سبحانه وتعالى، والحق أن الفارق بعيد بعيد في إدراك العابد لعظمة الله وجلاله، وهو يعرف الأشياء من أسطحها معرفة عابرة، بل ربما اقتصر علم كثيرين بالشيء المعين، على معرفة اسمه، وبين أن يمعن العابد نظره ولو في شيء واحد، كأن يمعن النظر في سمكة وكيف تسبح وتعيش في الماء، أو في طائر وكيف يطير؛ لأن المؤمن إذا ما عرف التفصيلات، ولو في كائن واحد، لانطلق لسانه، وبغير عمد منه، يقول: الله أكبر، سبحانه من خالق! لقد استمعت مرة في إذاعة أجنبية، لعالم يشرح للسامعين كيف يستطيع البرغوث أن يقفز مثل قفزته العالية، فصغر حجمه قد تثير السؤال: من أين لهذا الحجم الضئيل، تلك «الطاقة» الدافعة التي تمكنه من قفزته العالية؟ وأخذ يبين العالم للسامعين نتيجة أبحاثه العلمية مع زملائه في هذا الصدد؛ إذ وجدوا أن الساقين الخلفيتين للبرغوث أطول من الساقين الأماميتين، وأن تلكما الخلفيتين موصولتان مع جسم البرغوث بوصلة من المطاط، فهو حين يهم بالقفز، يمد ساقيه الخلفيتين، فتمتد الوصلة المطاطية، ثم يترك نفسه، فإذا بالجزء المطاطي المتوتر يدفع البرغوث إلى كل الارتفاع الذي يصل إليه في قفزته، وما إن فرغ العالم من شرحه، حتى نطقت قائلا: سبحان الخالق العظيم، فبمعرفة التفصيلات في الكائن الواحد، تدرك مواضع الإعجاز.
فلو أردنا - حقا - ثورة تعليمية، لم يكن لنا بد من البدء بالطفل وحواسه، لنفتح له نوافذ السمع والبصر، فيرى ويسمع، ويجمع ما استطاع جمعه من معلومات عن «الأشياء»، وأن ندربه تدريبا متواصلا، في كل مناسبة، وفي كل درس أيا ما كان موضوعه، على أن يبحث لكل جملة تقال أو يقولها، عن «الأشياء» التي جاءت تلك الجملة لتشير إليها، لكي نحصنه منذ بداية الطريق من أن يألف القول الفارغ من أي معنى، وهو لا يدري أنه فارغ، فإذا ما اجتزنا به مرحلة الطفولة، وسرنا معه إلى مرحلة تعليمية أعلى، بدأنا له شوطا آخر من التدريب على «النظرة العلمية» التي نعمده لاكتسابها، وتلك هي أن نأخذ في توجيه انتباهه إلى اللغة وما فيها من فخاخ يقع فيها كل إنسان إذا لم يكن على حذر؛ فأصحاب اللغة في استعمالها للتفاهم، سواء أكان ذلك بين أبناء الجيل الواحد المتعاصرين، أم كان بين الأجيال المتعاقبة، بأن يكتب جيل سابق ليقرأه جيل لاحق، أقول إن أصحاب اللغة مضطرون اضطرارا، إلى التعميم اختصارا للمفردات اللغوية التي يستخدمونها، فهم - مثلا - يكتفون بقولهم «ناس» ليختصروا بها ملايين الأفراد الذين منهم يتكون النوع الإنساني، وهم يقولون «مصر» ليشيروا بلفظة واحدة إلى تاريخ امتد أكثر من ستة آلاف من السنين، بكل ما فيها من أناس وأحداث، وهكذا، فواجب المتلقي - في الحالات التي تستوجب الدقة العلمية - أن يفك هذا التلخيص، بالدرجة التي تتناسب مع أهمية الموقف القائم بين يديه، وهي عميلة تحتاج إلى تدريب طويل، ربما طال ما طال العمر، لكننا بعيدون جدا عن مثل هذا التدريب، حتى ليجيز الواحد منا لنفسه، أن يقذف بالكلمات قذفا كما اتفق، في سياقات ربما كان لها من الخطورة ما تهتز له حياة أمة بأسرها.
خذ أمثلة لذلك: قسمنا شعبنا إلى خمس مجموعات، تنظيما لممارسة الحقوق السياسية ممارسة تكفل العدالة بنسب صحيحة، فقلنا إن تلك المجموعات الخمس هي: العمال، والفلاحون، والجنود، والمثقفون، والرأسمالية الوطنية، وللوهلة الأولى حسبنا تقسيما واضح الحدود، أما حين جاءت الوهلة الثانية، وأعدنا النظر، تبددت لنا الفواصل بين الفئات، وكأنها من شدة غموضها لا فواصل، فمن هو العامل؟ ومن هو الفلاح، ومن هو المثقف؟ وما هي حدود الرأسمالية الوطنية؟ إننا إذا استثنينا فئة «الجنود» التي قد تكون على شيء من التحديد، وجدنا صعوبة في تحديد الفئات الأربع الأخرى، وحتى فئة «الجنود» على تحديدها، لا تخلو من التداخل في غيرها، فالجنود هم جنود ومثقفون، فلا غرابة إن أخذنا نعيد ونصحح ما نعنيه «بالعامل» وما نعنيه «بالفلاح»؛ لأنهما فئتان لهما أهمية خاصة، ما دمنا قد جعلنا لهما الحق في نصف المقاعد على الأقل، في كل تجمع نيابي، وتركنا الفئات الثلاث الأخرى تتخبط في غموضها.
خذ مثلا من اللاعلمية في استخدام الألفاظ، حتى على المستويات الرسمية، فقد رفعنا شعارا عن التعليم ، كان في الأصل جملة أدبية الصياغة قالها طه حسين، والشعار هو أن التعليم حق للجميع كالماء والهواء، ومرة أخرى سحرتنا الألفاظ دون النظر إلى تحديد معانيها، فوقعنا في محظورات كان يمكن أن ننجو منها لو تمهلنا وقيدنا أنفسنا بدرجة من «العلمية»، فما هي حدود «التعليم» الذي هو حق للجميع، هذا سؤال واحد لو تأملناه في أوانه لما فتحنا الأبواب على مصاريعها للقادرين وغير القادرين بحكم استعداداتهم الفطرية، وخذ مثلا ثالثا شعارا وطنيا رفعناه ذات حين، وهو أن تكون السيادة في حياتنا «لأخلاق القرية»، فما هو تعريف «القرية»؟ وما هي «الأخلاق» التي تكون لأبناء القرية ولا تكون لأبناء المدينة؟ إني بهذا التساؤل، لا أقرر صوابا وخطأ، بل الذي يعنيني هو أن أبين إلى أي حد، وعلى أي مستوى، نلقي بألفاظ لا نتقيد بتحديد معانيها، برغم ما لها من عمق الأثر في حياتنا العامة، إن كاتب هذه السطور ليعترف أمام القارئ بأنه قد أخذته الدهشة من سذاجة فكره، حين اجتمع المفاوضون المصريون مع المفاوضين من إسرائيل، حين أرادوا بحث مشكلة الضفة الغربية وقطاع غزة، فكانت الصدمة الأولى أن قال الإسرائيليون: إن المقصود بالضفة والقطاع، هو السكان وليس الأرض! فإلى هذا الحد يجب استعداد الإنسان بالتحليل والتحديد، كلما وجد المقام جديرا بذلك.
من أجل هذا كله وما هو أكثر منه، قلت للمسئول الكبير الذي قرر لي بأن الدولة مقبلة على ثورة تعليمية تبدأ من الجذور، قاصدا «بالجذور» «المقررات الدراسية» إن الرأي عندي هو أن نبدأ مما يسبق الجذور، فنعنى بإعداد التربة وانتقاء البذور.
تلك أم المشكلات
مشكلاتنا كثيرة، يعرفها عابرو السبيل كما يعرفها العلماء الباحثون، الحكام المسئولون، لا فرق في ذلك بين واحد وآخر إلا في التفصيلات أو في القدرة على رد الوقائع إلى أسبابها، فالجميع يعرفون مشكلاتنا، لأننا جميعا نكابدها ونعانيها، أو - إن شئت دقة في العبارة - قل إن كلا منا يعرف من مشكلاتنا ذلك الجانب، أو الجوانب، التي تمس حياته مسا مباشرا، وقد يفوته من تلك المشكلات ما ليس يدخل في حياته العملية فيعانيه ، واستوقف أول عابر سبيل يصادفك في الطريق العام، واطلب منه أن يذكر لك ما يعرفه عن مشكلات حياتنا الراهنة، فلن يعدم القدرة على جواب، إلا يكن جوابا شاملا للقائمة كلها، بتفصيلاتها، كما تفعل الأبحاث العلمية، أو التقارير الرسمية، فلا أقل من أن يذكر لك ثلاثا منها أو أربعا، وهو إذ يفعل ذلك، فهو لا يفعله على نحو ما نراه في تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات في وقتنا الحاضر، حين يحفظون نقاط الموضوع المعين حفظا أصم وأبكم ليفرغوا ما قد حفظوه على ورقة الامتحان، دون أن تهتز له في كيانهم الحي شعرة واحدة، بل إن عابر السبيل يذكر لك مشكلات ينام مستغرقا في همومها إذا أمسى عليه المساء، ويصحو غارقا في همومها إذا أصبح عليه الصباح، فهي مشكلات تقع من حياته موقع النبضة الزائدة إذا نبض بها قلب المريض، أو موقع الوجع الذي يأتيه من أحشائه ولا يعلم من أي حشى معين من تلك الأحشاء قد جاء الألم.
الفرق بين عابر السبيل وبين غيره من العلماء المتخصصين، أو من الرؤساء الحاكمين، هو في «الأسماء» التي يطلقها هؤلاء على أنواع المشكلات، ولا يعرفها هو، فهم يقولون - مثلا - عن مشكلة معينة أنها في «التضخم» أو في «أسعار الصرف» أو في «عجز في الموازنة»، أو ما شئت من أسماء، وأما عابر السبيل فيقولها بلغة الحياة المتوجعة بآلامها؛ إذ يقول إنه لم يعد في مستطاعه الحصول على العدس والفول، وإن ابنه في حاجة إلى درس خصوصي في الرياضة وليس في يده ما يدفعه أجرا للمدرس الخاص، لا، إنه لا يعرف النار حق المعرفة إلا من اكتوى بلهيبها، ولا تصدق من زعم لك العلم بمشكلة هو منها على مبعدة فلا يراها إلا مرقومة على ورق، وانظر إلى البلاغة القرآنية المعجزة حين فرقت بين حالتين في معرفة الإنسان لحقيقة «الجحيم»، الأولى هي أن يعلمها «علم اليقين»، والثانية هي أن يقذف به في سعيرها فيرى من عذابها ما هو «عين اليقين»، نعم، فالفرق بعيد بعيد، بين من عرف الألم وهو منه بمنجاة، وإنما قرأ عنه ما كتبه الكاتبون، وبين من عرف الألم لأنه في كبده أو في عظمه أو عصبه، وكيف أنسى لحظة الحوار القصير الذي دار بيني وبين رجل يحمل قمامة العمارة التي أسكن فيها، فقد صادفني بلمحة منه خلال زجاج النافذة المطلة على السلم الخلفي، حيث تكون أوعية القمامة، فنقر الزجاج بأصبعه وفتحت النافذة الصغيرة لأسأله: ماذا يريد؟ فسألني إن كنت أستطيع الأخذ بيده في مرضه ظانا أنني طبيب، فقلت له إنني «دكتور جامعة» ولست طبيبا، ولكن ما علتك؟ فذكر لي جانبا من مرضه، فأخذني فزع أن تكون تلك هي حالته، ومع ذلك فهو يحمل ذلك المقطف الكبير المليء بما هو مليء به، لينزل به تلك الطوابق كلها على سلم حلزوني ضيق، فقلت له: اذهب يا رجل إلى قصر العيني اليوم قبل الغد، فأجابني بأنه قد فعل، لكن المرض عاوده وليس في وسعه أن يضيع أياما بلا عمل، فأعدت له القول في انفعال من يعلم عن النار شكلها ولكنه لم يحترق بلهيبها: عد إلى المستشفى لأن حالتك قد تسوء فلا يصلح لها علاج، فنظر إلي نظرة معبرة، وتمتم وهو يستدير بالمقطف الكبير على ظهره قائلا: ومن أين يأكل العيال؟
فمعرفة المشكلات من صنفين: معرفة لا تتضمن معاناتها، ومعرفة أخرى هي «عين اليقين» لأنها معرفة من يعاني، وإذا قلت عن مشكلات حياتنا إنها كثيرة، وكلنا يعرفها أو يعرف شيئا منها دون شيء، فقد أردت كذلك أن أبين الفرق بين عارف وعارف، ومن ذا لا يعلم أن في حياتنا مشكلات في الاقتصاد، ومشكلات في زيادة السكان زيادة كالانفجار ومشكلات في الإسكان، وأخرى في مساحة الأرض الصالحة للزراعة، ومشكلات في التعليم، ومشكلات ومشكلات؟ كلنا يعلم، وبعضنا يعاني ما يعلمه، ولكننا جميعا، إذ نبحث عن حلول تلك المشكلات مخلصين، كثيرا ما ننوء تحت العبء الثقيل، فنعجز آسفين، وما أكثر ما وجد كاتب هذه السطور نفسه عاجزا آسفا بين هؤلاء العاجزين الآسفين كلما هم بالنظر في مشكلة التعليم.
إنهم قليلون جدا، ربما لا يزيدون عن أصابع اليدين، أولئك الذين قضوا في التعليم ما قضى هذا الكاتب من سنين، أوشكت في عددها على الستين، فلا غرابة في أن يعلم من أسرارها أكثر مما يعلم آخرون، وفي أن تشتد به الرغبة آنا بعد آن في أن يتناول مشكلة التعليم بالنظر الفاحص: أين مواضع العلة؟ وماذا يكون العلاج؟ وها هو ذا يشرك القراء معه في خواطره، فالمشكلة هي - حقا - مشكلة الجميع، وأول خاطر في هذا السبيل هو أن «التعليم» ليس - فقط - مشكلة من المشكلات كما قد نظن عند الوهلة الأولى، بل هو أم تلك المشكلات الأخرى جميعا؛ لأنه في تخليص التعليم من أوجه نقصه، يكون علاج سائر المشكلات، ومن إصابة التعليم بما أصيب به من نقص، ولدت المشكلات الأخرى: إن لم يكن كلها، فأكثرها بكل اليقين، وكيف؟
فلنتصور معا أننا أمام طريق ذي طرفين، في طرف منهما أقيم الجهاز التعليمي التربوي، بجميع أجزائه وطوابقه من الطفل في دار الحضانة، فصاعدا إلى طالب الدراسة العليا، الذي يعد نفسه لإجازة الدكتوراه في فرع من فروع العلم، وأما الطرف الثاني فقد امتدت فيه ميادين الحياة العملية بشتى صنوفها وأشكالها: فهنالك أرض تزرع وأرض تستزرع، ومصانع تدور آلاتها وتنتج ما تنتجه ومصانع أريد لها أن تعمل لكن أصابها شلل، وهناك سياسة تتقسمها أحزاب من الداخل، ويشد لها حبل في الهواء لتمشي عليه متوازنة الخطى، في تعاملها مع الخارج، وهناك مواصلات وبترول وكهرباء، واقتصاد يواجه شئون المال صادرا وواردا، وهناك تعليم، وإعلام، إلى آخر منوعات النشاط البشري إذا كان لها آخر، لكننا إذ ننظر إلى هذا الطرف من طرفي الطريق نرى أمرين: أولهما أن تلك الميادين المدوية بهدير نشاطها تئن وتشكو من علل أصابتها، فأخذت تنذر بالخطر، وأما الأمر الثاني فهو أن «التعليم» الذي يزاحم غيره في الأنين والشكوى كان هو نفسه الذي رأيناه قائما وحده هناك عند الطرف الأول من طرفي الطريق، الذي افترضنا أننا قد وقفنا أمامه ننظر ونرى، وفي هذه الازدواجية في موقع «التعليم » يكون مربط الفرس ، كما يقولون؛ وذلك أن الجهاز التعليمي وإن يكن أحد الجوانب التي فيها تتألف حياتنا العملية، بحسناتها وسيئاتها فهو أيضا وفي الوقت نفسه هو الجهاز الذي نعلق عليه رجاءنا في أن يكون وسيلة الإصلاح فهو مريض بين المرضى، ولكنه دون سائر المرضى هو الطبيب المرتجى.
فمعظم مشكلات الحياة العملية إن لم يكن جميعها، إذا أصابها قصور، لم يكن أمامنا إلا الجهاز التعليمي، نلجأ إليه ونعيد فيه النظر، نلتمس المواضع التي يجب أن تتغير، راجين أن يكون في هذا التغيير ما يسد أوجه القصور التي أصابت جسم الحياة العملية؛ فجهاز التعليم (ومعه جهاز الإعلام) هو مشكلة مع سائر المشكلات، ولكنه كذلك هو المشكلة الأم، التي تلد سائر المشكلات كما تلد الهرة هريراتها، فتعالوا - إذن - نتعقب معا ذلك الطريق الواصل بين مشكلاتنا في الحياة الواقعية كما نعيشها ونكابدها، وبين جهاز «التعليم» لنرى ما الذي ينبغي له أن يتغير وبأسرع الخطى من جهازنا التعليمي مما عساه أن ينعكس على جسم الحياة العملية، بما أصابه من علل فتسد الثقوب ويعتدل المعوج ويقوى الضعيف، ويبرأ العليل من أسباب علته.
ومشكلات حياتنا العملية - كما أسلفناه - معروفة لكل ذي بصر يرى وأذن تسمع، فاقتصادنا وإن يكن شهد له بسلامة هيكله، إلا أنه بغير شك يصارع موجا من فوقه موج من فوقه سحاب، ويكفينا دليلا على خلل البناء الاقتصادي أن أصبح أصحاب الملايين يعدون بعشرات الألوف (كما أقرأ وأسمع)، وإلى جانبهم مكافحون يأخذهم القلق كلما وضعوا مع قدوم الليل رءوسهم على الوسائد خشية أن يجيء صباح ليس فيه إفطار، واختل الميزان حتى أصبحت الشغالة تتقاضى أجرها الشهري مساويا لرواتب ثلاثة أطباء تخرجوا، وكان رجاؤهم هو أن يجدوا طريق الحياة ممدودا أمامهم، وأصبحنا لا نقرأ صحيفة الصباح إلا وعلى صفحاتها شيء من جرائم المخدرات وشيء من طغيان الإرهاب، وهنالك مشكلة التفجر السكاني الرهيب، وهجرة الأيدي العاملة وارتحال العقول القادرة إلخ إلخ، وإذا أمعنت النظر في كل هذه المشكلات، وجدتها منطوية على عاملين ضفر أحدهما في الآخر: أحدهما هو الجانب المهني أو الحرفي، والثاني هو «الإنسان» نفسه من حيث هو إنسان، وفي كل عامل من هذين العاملين أوجه قصوره؛ فقد يكون الطبيب - مثلا - قليل الخبرة أو منقوص الأجهزة الحديثة، لكنه كذلك قد يكون في جانبه الإنساني البحت على غير ما يرجوه منه مواطنوه.
وأمام هذا التركيب الثنائي لكل مشكلة على حدة، وأعني الجانب العملي منها والجانب الإنساني المتمثل في شخص القائم بالعمل، أقول إننا إذا قفلنا معا راجعين من مشكلات حياتنا إلى جهاز التعليم لنصلحه، رجاء أن ينصلح بإصلاحه ما قد فسد من جوانب حياتنا، وجدنا أكثرنا يتجه مباشرة إلى «مقررات» التعليم، ظانا أنها هي موطن الداء، وأما «الإنسان» من حيث هو إنسان، فقلما نلتفت إليه ونحن في سبيلنا إلى إصلاح التعليم, وربما كان ذلك لأن معالجة القصور في تكوين الإنسان أصعب جدا على المصلح، من أن يغير جزءا من مقرر التاريخ، ويحذف جزءا من مقرر الكيمياء، وهو كذلك أصعب جدا من إعادة توزيع السنوات الدراسية، فنجعل هذه المرحلة المعينة سنة واحدة بدل سنتين، وندمج تلك المرحلة في سابقتها، ليكون هناك مرحلة واحدة بعد مرحلتين وهكذا.
وأود أن أؤكد أمرا خاصا بالجانب المهني والحرفي في القائمين على شئون حياتنا العملية، قبل أن تطغى سيئاتنا على حسناتنا فتمحوها، فأقول: إنه برغم ما قد يكون في قدرات العاملين من قصور، فهؤلاء العاملون هم هم أولئك الذين أقاموا لنا كل هذا العمران الذي ننعم به، وينعم به معنا كل ركن من أركان الوطن العربي، فحيثما وجهت النظر وجدت أطباءنا ومهندسينا ورجال القانون، والمدرسين، وحينما وجهت النظر وجدت على أيدي هؤلاء الذين أخرجتهم جامعاتنا ومعاهدنا تنشأ صناعة وتزدهر زراعة، ويبرع فكر وفن وأدب، وإنك لتستطيع القول بأن من يشكو هذا النقص أو ذاك في حياتنا العملية، فلقد تعلم كيف يحس النقص فيشكو، وهي مرحلة يرتقي بها الإنسان بعد مرحلة تسبقها، تنعدم في المواطن العادي خلالها القدرة على الشعور بأن شيئا ما ينقصه، ويستحق أن يكون موضعا للشكوى، بل للثورة عليه إذا لم تفلح الشكوى.
وبعد هذا التأكيد على قدرات من أخرجهم الجهاز التعليمي خلال قرن كامل أو ما يزيد، نعود لنسير معا من مشكلاتنا الحية، متجهين إلى أجهزة التعليم لنرى أين يجب فيها الإصلاح وكيف؟ وهنا أقول: إذا أرجأنا الحديث مؤقتا عن الجانب «الإنساني» وتقويمه، وهو الجانب الذي أزعم أنه المسئول الأول عما نحن فيه، على نحو ما سأبين بعد حين أقول: إذا أرجأنا هذا الجانب الإنساني مؤقتا لنحصر انتباهنا في الجوانب «العملية» - مهنية، وحرفية، وإبداعية - وجدنا أن علة العلل ليس مكمنها أن تضاف مادة دراسية معينة أو تحذف، وإنما مكمنها الذي يتستر في خفاء حتى لا تراه أعين المصلحين، هو أننا منذ نهضنا بالتعليم في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، وحتى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات، قد عمدنا إلى سلخ المادة العلمية من منهاجها العقلي، فيتخرج المتخرج من جامعته أو من معهده، وهو على دراية لا بأس فيها بمادته العلمية التي ستكون مجالا لعمله، ولكنه يكون على قليل جدا من «النظرة العلمية»، إذا هو فارق مجال عمله الذي تخصص فيه: ومن هنا جاز أن نجد ألوفا وعشرات الألوف ومئاتها من المتعلمين، مهروا في ميادين تخصصاتهم، حتى إذا ما خرجوا عن حدود تلك الميادين ليعيشوا مواطنين كسائر المواطنين، لم تجد فيهم من منهج الرؤية العقلية، ما يحميه من قول «الخرافة» في شتى صورها؛ فليس في تكوينهم العقلي ما يمنعهم من رد الظواهر إلى غير أسبابها، كما هي الحال مع أي مواطن آخر، لم يكن له حظ التعليم بأية درجة من درجاته، ولقد كانت هذه الكارثة لتهون، لو أنها اقتصرت على تفكير «خرافي» في حياة الإنسان الخاصة، لكن الكارثة تمتد لتشمل ميادين التخصص العلمي والمهني ذاتها؛ وذلك بأن يقف المتعلم في حدود المادة العلمية التي «حفظها» أيام الدراسة (وأشدد على كلمة «حفظها»)، حتى لو فتح الله على أحد منهم فتابع الدرس، وتابع القراءة والتحصيل، فيما يستحدث من علوم وتقنيات خاصة بميدان تخصصه، فهو ما يزال «يحفظ» ما كتبه سواه على إثر كشف علمي جديد تحقق على يديه، فموضع الداء في جهازنا التعليمي، الذي يترتب عليه كثير جدا مما نعانيه من قصور وعجز وضعف، هو انعدام القدرة الابتكارية، أو ما يقرب من الانعدام، كل فيما هو مختص فيه.
ولست أشك لحظة واحدة في أن أقوى العوامل التي انتهت بنا إلى هذا الموقف «العلمي
ومناهجها المتجسد فيها، وهي حقيقة لم أمل من ذكرها مرة بعد مرة؛ لأنني أجد فيها أس البلاء، ولشرح ذلك أقول: إنه ما من كتاب علمي، أو بحث علمي، يعرض حقائق علمية معينة، في مجال من مجالات العلوم - إلا وهو يسير في انتقاله من خطوة إلى الخطوة التي تليها، على منطق استدلالي محكم، هو الذي يجعل المادة المعروضة «علما»، ولو غابت تلك الروابط الاستدلالية من المادة المعروضة، لأصبحت «دردشة» حتى ولو دارت تلك الدردشة حول حقائق علمية، فيخرج منها الدارس بنقاط الموضوع الذي يدرسه، لكنه يفقد «المنهج» الاستدلالي، الذي هو قلب التفكير العلمي وصميمه، والذي يحدث في جهازنا التعليمي من أدناه إلى أعلاه، من تلميذ المدرسة الابتدائية إلى طالب الجامعة، هو التحول في عملية التحصيل الدراسي من الكتاب المرتب ترتيبا علميا إلى كتب أو مذكرات أو ملخصات، يكون التركيز فيها على «نقط» الموضوع المدروس، فيحفظها الدارس، ويسهل عليه بعد ذلك تذكرها ليضعها على ورقة الامتحان، وتجيء عملية «التصحيح» فلا تبالي أن يكون المعروض بين يديها مادة مفككة الأجزاء مسلوبة المنهج، فيتخرج المتخرج مع مراتب الامتياز والشرف، وليس في حقيبته إلا «كومة» من «نقط» يمكن الاستعانة بها في مجالات التطبيق مع بقاء «العقل» كما كان قبل الدراسة، مفقود المنهج، فلا يكون فرق - خارج مجال التخصص التطبيقي - بين حامل الدكتوراه والأمي في براءته، فكلاهما عجينة سهلة التشكيل في أي يد قوية، قادرة على تشكيل الأنظار والرؤى وطرائق السلوك.
والوسائل المؤدية بنا إلى تغيير هذا الموقف التعليمي الأعرج في متناول أيدينا، إذا حسنت النوايا وقويت إرادة الإصلاح ، وأولها وأهونها وأعمقها أثرا، هو أن يشترط على الدارس، أيا ما كانت درجة التعليم التي يدرس فيها، من المدرسة الابتدائية وصعودا إلى الجامعة، أن يكون الكتاب العلمي في المادة المعينة هو أداة الدراسة، وأن يمنع منعا باتا لجوء الدراسة إلى الصور الأخرى الشائهة من كتب تعرض «النقط» الأساسية، إلى مذكرات وملخصات يقدمها الأساتذة إلى تلاميذهم وطلابهم، وكل ذلك يتحقق لنا إذا نحن تدبرنا طرقا للامتحانات، تضطر الدارس اضطرارا إلى مواجهة المادة العلمية في كتابها العلمي.
وفوق هذا الأساس الأولي المبدئي، تقام دعامتان، ليس لنا عنهما غنى، إذا أردنا أمة قوية الأصلاب متحدة الأهداف، بحيث إذا اختلفت تيارات الفكر فيها، كان الاختلاف مقصورا على «الوسائل» التي تؤدي إلى بلوغ تلك الأهداف، وأولى الدعامتين هي أن يشترك أبناء الشعب وبناته جميعا في المرحلة الأولى من مراحل التعليم، ولنقل - مثلا - إنها الستة الأعوام الأولى، لا يتشعب فيها التعليم إلى معاهد دينية من جهة ومدارس عامة من جهة أخرى ومدارس أجنبية من جهة ثالثة؛ لأن مثل هذا الانقسام - وهو أمر قائم في التعليم الآن - يستحيل ألا ينتج لنا عدة وجهات للنظر وهي نتيجة نحسها في حياتنا الراهنة بقوة، ونحس آثارها في تفتيت وجهة النظر القومية إلى حد خطير، ولست بهذا القول أريد أن أقرر كيف يكون طريقنا إلى دمج الفرعين في تيار واحد، فتلك مسألة تقع على عاتق علماء التربية، والمهم هو أن يسير النشء جميعا في مرحلة موحدة أول الأمر، لتكون هي بمثابة الجذور المشتركة بين أبناء الأمة جميعا، حتى إذا ما جاء أوان التفريع، عند المرحلة الثانوية - مثلا - انقسمت الفروع بحسب المستقبل المنظور، فللدراسة الدينية فرع يصب في الأزهر، وللزراعة، والصناعة، والمحاسبة، فروع، وللدراسة النظرية، بجانبيها - العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والرياضية - فروع.
وأما الدعامة الثانية فهي استخراج أصحاب «المواهب» بشتى اتجاهاتها، لتجعل منهم الأساس القوي المكين الذي تبنى عليه الآمال في مستقبل حياتنا، ويتم فرز «المواهب» في كل مرحلة من مراحل التعليم، عند الانتقال من المرحلة الدراسية المشتركة إلى مرحلة التفريع ثم عند الانتقال من الفروع في مدارسها الثانوية إلى مرحلة الجامعات أو المعاهد العليا، ثم أخيرا عند الانتقال من الدراسة الجامعية الأولى إلى مرحلة الدراسات العليا، نعم إن التعليم حق للجميع، كل بحسب قدراته وميوله، ولن يحرم مواطن واحد من هذا الحق، إلا أن أصحاب المواهب هم في البناء القومي رواده، وعليهم أكثر من سواهم، ينعقد الرجاء في مستقبل أفضل.
ويلحق بهذه النقطة الأخيرة أن يتوافر في جهازنا التعليمي، متخصصون في علم النفس من ناحية «الإرشاد»، المبني على دراسة الأفراد لاستخراج ما قد كمن فيه من قدرات وميول، لكي يتجه كل ذي موهبة في الاتجاه الذي تنمو فيه تلك الموهبة، فأبناء الأمة وبناتها هم أغلى ما فيها، هم أمل المستقبل كله، وأصحاب المواهب الخاصة منهم، هم بمثابة الدر في أصدافه.
إلى هنا وقد قصرنا الحديث على الجوانب «العملية» من حياتنا كما تجري بها الأيام، ورأينا كيف يمكن للجهاز التعليمي أن يخرج لتلك الحياة اليومية الجارية، مواطنين يحملون عبأها، على أحسن صورة ممكنة، فوجهة النظر موحدة في أبناء الأمة جميعا، بفضل الفترة الأولى المشتركة بين الجميع، وأصحاب المواهب هم - في آخر المطاف - حملة المشاعل الذين يشقون الطريق بمواهبهم، وبين هؤلاء وأولئك متخرجون تعلموا ما يمكنهم من أداء الأعمال المختلفة، مع الحرص على أن ترهف فيهم النظرة العلمية العامة، كلما كان الموقف بحاجة إلى فهم صحيح لعناصر الواقع، وإلى سلوك يقام على ذلك الفهم، وفي هذا الجانب من موضوعنا، ينصب الإصلاح على «المقررات» وطريقة تدريسها، والمراحل التي يجتازها الدارس.
وبقي أمامنا ما هو أشد عسرا، فأكثر مشكلاتنا استشكالا، ليست هي العمل المعين ومن يؤديه وكيف يؤديه، فذلك كله - كما أسلفنا - توافر في حياتنا بدرجات يغبطنا عليها من هم في مثل موقفنا، ويكفينا أن نعلم عن حق، بأننا نعير لسوانا أصحاب المهن والحرف من أبنائنا، ولا نكاد نستعير من سوانا أحدا ليؤدي لنا عملا عجزنا عن أدائه، إلا في الحالات النادرة.
وأما علة العلل في حياتنا، فهي «الإنسان» الذي يضطلع بما يضطلع به من مهنة أو حرفة ، فلقد طرأت على «الإنسان» المصري - والعربي بصفة عامة - صفة لم تكن قط من صفاته البارزة في أي عصر من عصور تاريخه، وألخصها بقولي إن الفرد منا قد فقد إحساسه بوجود «الآخرين»، وكأنه خلق وحده على هذا الكوكب الأرضي، وأما كل من عداه وما عداه، فأدوات مسخرة لخدمته، ثم يتفاوت الأفراد في إطار هذه النزعة نحو تجاهل «الآخرين»، بتفاوت قدراتهم على التسلط، إنه إذا كان «المصري» هو ما نتحدث عنه، فالمصري قد رسخت فيه روح «الأسرة» منذ فجر التاريخ، وإذا كان «العربي» بصفة عامة هو موضوع حديثنا، فلقد رسخت روح «القبيلة» فيه «بحكم البيئة الطبيعية ذاتها التي يسكنها»، والتي تحتم على أفراد القبيلة أن يتجمعوا في حلهم وفي ترحالهم، فكيف - إذن - هبطت على المصري أو العربي في عصرنا هذا صفة التشرنق في قوقعته، ألا يشاركه فيها إلا أقرب الأقربين، فتغمض الأعين وتصم الآذان داخل القوقعة، حتى كان حدودها هي حدود العالم؟ ومن هذه الصفة المحورية الطارئة علينا، انبثقت صفات لم يعد بيننا واحد ينكر قيامه أو يشك في وجودها، فما أوسع ما شاع بيننا أن آفتنا الراهنة هي «التسيب»، بمعنى انعدام الضوابط التي توقف حريات الأفراد عند الحدود التي تبدأ منها حريات الآخرين، فالتسبب جعل كل فرد منا وكأنه النهر في سطوة الفيضان، بغير جسور تحد من طوفانه، وكذلك ما أوسع ما شاع فينا أن أميز ما يميز هذا الجيل عن الأجيال التي سبقته «اللامبالاة»، وهي مصطلح يعني ما أسلفنا ذكره حين قلنا إن الفرد لم يعد يحس وجود الآخر أو الآخرين، إنه لا يبالي ماذا عسى أن يصيب الآخرين من أذى، ما دام هو قد ظفر بما أراد، وللامبالاة ظل آخر من ظلال المعنى، وهو أنه لم يعد فرق بين حق وباطل؛ فالفرد حين يختار ما يختاره، يكاد يوقف نفسه في نقطة وسطى متساوية البعد عن طرفي الفضيلة والرذيلة، بمعنى أنه لا يعنيه أن يتجه بسلوكه نحو هذه أو تلك، فلا غبار على الطبيب - مثلا - من حيث هو طبيب، ومن قد سافر منا ليعالج على أيدي أطباء في الخارج، كثيرا ما سأل نفسه: فيم الاغتراب وطبيبنا إن لم يكن أفضل من طبيبهم فهو يساويه؟ لكن الفرق الكبير يكمن فيما يضمره الطبيب نحو مريضه؛ إذ هو يضمر في نفسه أشياء الله أعلم بها، تدور كلها حول البحث عما ينفعه هو قبل البحث عما ينفع مريضه، وأستغفر الله فما قصدت بهذا المثل أطباءنا على وجه التحديد، بل أردت أي مثل يوضح ما أزعم أنه الآن هو المسلك العام بين «الأنا» و«الآخر»، مما حطم فينا روح الجماعة، وهدم فينا روح الثقة في النفس والثقة في الآخرين، وهي كلها عوامل أكلت «الانتماء» أكلا، حتى جعلته كعصف مأكول.
تلك هي علة العلل، وإصلاحها في مستطاع الجهاز التعليمي، لا على صورته القائمة، التي هي في حد ذاتها مشكلة كسائر المشكلات أو أشد فسادا، بل الجهاز التعليمي كما ينبغي أن يكون، ووجه الإصلاح في هذه الحالة لا هو في «المقررات» والحذف منها أو الإضافة إليها، ولا هو في دمج المراحل التعليمية أو تفرقها، ولا هو في مجانية التعليم ولا في أن يكون التعليم حقا للجميع كالماء والهواء، إنما وجه الإصلاح مرهون بروح الانضباط الصارم في المدارس والجامعات، فيكون العمل الجاد عشرة أشهر في السنة، وليس أربعة كما هو الآن، وتكون الدراسة معظم ساعات النهار، ولا تكون في حالة من الفوضى التي تسمح لأي طالب أن يفعل ما يشاء وقتما يشاء، وما يصدق على الطالب يجب أن يصدق بصورة أقوى على الأستاذ أو المدرس، فأنا أعلم عن التحلل من جميع الضوابط بين هؤلاء، ما لو ذكرت بعضه لأثار الهلع عند من لا يعرفون، الانضباط الصارم كفيل وحده أن يخرج لنا شبابا قادرا على التفرقة في الحياة العملية، بين الجائز، والواجب، والممتنع، فيستقيم المعوج، ويصلح الفاسد بإذن الله.
حاطب الليل
سعيد هو ذلك الذي يجد في عتمة الليل سراجا يضيء له الطريق كالمنارة ترسل أضواءها، لتنفذ في سماء البحر والسماء كلاهما قد التف في سواد الليل والسحاب، فتقع السفينة في حيرة ربانها، حتى تتلقى من منارة الشاطئ أضواءها الهادية، فتهتدي إلى طريقها نحو المرفأ الآمن.
وما أكثر ما وقعت الأمم، عبر تاريخها، في حيرة شبيهة بحيرة تلك السفينة التائهة وربانها، قبل أن تهديها المنارة بأضوائها، وقد تختلف مواقع الحيرة في حياة الأمم، لكن أبرزها ظهورا، موقع تجد الأمة نفسها فيه، وقد تنازعتها أقسام الزمن الثلاثة: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، يريد كل قسم منها أن يحتكرها لنفسه، وكان الأصل في الحياة السليمة، أن تتناسق تلك الأقسام الثلاثة جميعا، بحيث يأخذ كل قسم منها موضعه الصحيح، كما تتناسق طفولة الإنسان القوي وشبابه، مع مرحلة الرجولة الناضجة، إن أحدا لا يطالب الرجل المعافى أن يظل على طفولته اللاهية، برغم ما يكون في لهو الطفولة من نعمة وبراءة، ولا أن يطالبه بأن يقف عند شبابه الحالم، برغم ما تحمله أحلام الشباب من لذة الأمل، ومع ذلك، فالرجل الناضج القوي المعافى، لا بد له من لحظات يغفو فيها عن حاضره المليء بالنشاط والعمل، ليرتد بذاكرته إلى أيام طفولته، ليرى براءتها اللاهية فيبتسم، كما يحدث أن يعود كاتب بلغ ذروة الأدب، إلى كراسة الإنشاء عندما كان تلميذا صغيرا في أوائل مرحلته الأولى من مدراج التعليم، فيقرأ ليضحك ضحك المشفق العاطف على الطفل الذي كان، والذي خرجت من جلده عبقرية أدبية فيما بعد، ولقد صدق القول الذي يقول: «إن الطفل هو أبو الرجل» بمعنى أنه من البذور التي كانت في حياة الطفل، نشأت جذور، ومن هذه تكون الساق، فالفروع، فالأوراق، فالأزهار والثمار، وعند هذه المرحلة من اكتمال النماء والنضج، تتكون في حياة الإنسان مرحلة اكتماله ونضجه، ليتلوها انحدار إلى ذبول فموت.
وكما يرتد الإنسان من ذروة اكتماله ونضجه، آنا بعد آن، إلى طفولته وذكرياتها، يرجع إلى عهد شبابه، وهنا لن يجد شيئا كبراءة الطفولة ولهوها، بل يجد حيرة بين ممكنات عدة، لا يدري في أي منها يشق طريقه إلى مستقبله؟ وكلنا يعلم من تاريخ حياته كيف وجد نفسه، وهو في مطلع شبابه، أمام بدائل كثيرة، يظن أنه قادر عليها جميعا، ولا يبقى عليه سوى أن يختار منها أحدها، إنه أشبه بمن يجد نفسه في مفترق طرق كثيرة ومتفرعة، كل منها يؤدي - بالطبع - إلى نهاية غير التي تؤدي إليه البدائل الأخرى، وإنه لقادر على السير في هذا الطريق، قدرته على السير في ذاك، ولكن عليه أن يختار لنفسه طريقا؛ لأنه لا يستطيع السير فيها كلها معا في وقت واحد، نعم كلنا يذكر كيف خيل إليه في مطلع شبابه، أنه يستطيع أن يمشي في طريق الشعر ليكون واحدا من فحول الشعراء، أو أن يمشي في طريق العلم ليكون من كبار العلماء، أو أن يمشي في طريق المال، أو في طريق القوة العسكرية، أو في طريق السياسة، لكن الحيرة هي: أي الطرق يختار، وقلما تكون الحيرة منصبة على «القدرة»؛ لأن الشباب يفترض في نفسه القدرة، وكثيرا ما يسرف في افتراضه هذا، حتى ليتحول معه الموقف إلى شطحات الخيال الجامح، إلى أن يصدمه «الواقع» العنيد، فيرده إلى صوابه، وكل ذلك لا ينفي أن يكون شباب المرء بما فيه من ثراء الممكنات، هو الينبوع الذي انبثق منه نضج الرجولة، عندما تتبلور الممكنات الكثيرة في طريق «واقعي» واحد.
هكذا تختلف المراحل في حياة الفرد الواحد، اختلاف التناسق، وليس اختلاف تناقض هدام: طفولة تنبثق منها مراهقة وشباب، ومن الطفولة والشباب تنبثق مرحلة النضج، ثم يبدأ الذبول فالرحيل، لتتعاقب الأجيال، لكن هذا التناسق الحيوي البناء، لا يتحقق في صورته المقبولة إلا في حالة الصحة وسلامة التكوين، أما إذا اضطربت خطوات السير بالمرض أو ضعف النشأة وسوء التنمية البشرية، فهنا قد تجد طفولة تمتد مع صاحبها من مهده إلى لحده، أو تجد مراهقة قد حلت محل النضج، وبهذا الاضطراب تمر الأعوام على غير مألوفها، فكأنها لم تعد أعواما تمضي بصاحبها في مدارج الصعود نحو اكتمال النضج والإبداع، بل انقلبت مراحل الزمن لتصبح وكأنها يوم واحد مكرر، أو ليصبح الزمن وكأنه وعاء بلا قاع يمسك خيرات الحياة ليراكمها فتزداد قوة وهداية.
ومثل هذه الاستقامة أو العوج في تتابع المراحل من حياة الفرد الواحد، قد يتسع ليصيب أمة بأسرها؛ فالأمة السليمة المعافاة، تحيا حياتها كما يحيا الفرد السليم المعافى حياته، فتبدأ مرحلة البساطة، لتنتقل منها آخر الأمر إلى نضج حضاري يوازي نضج الرجولة في قوته، وفي مغامرته نحو أن يقهر الصعاب ليخضعها لسلطانه قبل أن تخضعه، فتتركه بين أيدي الأقوياء هزيلا ذليلا، وإذا شئت مقارنة بين الحالتين، فقارن أربعة قرون في حياة الأمة العربية امتدت بين القرن السابع الميلادي والقرن الحادي عشر، بأربعة قرون أخرى في حياة الأمة ذاتها، امتدت بين القرنين السادس عشر والعشرين، ولا أظنك إلا واجدا في الحالة الأولى إنسانا يصعد درجات أربعا في قوة تتزايد، وفي علم يتزايد، وفي إبداع حضاري يتزايد، كما أني لا أظنك إلا واجدا في الحالة الثانية إنسانا يهبط درجات أربعا، في قوة تتناقص، وفي إبداع علمي يتناقص، وفي قدرة على البناء الحضاري تتناقص، وإني - على قول المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فالمعول في الصعود أو في الهبوط هو «الإبداع»؛ فالصاعد «يبدع» لنفسه ما يصعد به، وأما الهابط فتضيع منه القدرة على الإبداع فيهوي إلى الحضيض، على أن الحضيض هنا نوعان: فحضيض منهما يكون فيه الضعف والجهل والفقر، وما إليها من ظواهر الانحلال والتدهور، وحضيض آخر فيه العلم مأخوذا من الآخرين، وفيه الصحة مأخوذة من طب الآخرين، وفيه قوة القتال معتمدة على سلاح صنعه آخرون، وفيه - على الجملة - جوانب حضارية قائمة، لكنها جوانب مشتولة من بساتين الآخرين، وبهذا يكون هذا النوع الثاني من الحضيض، حضيضا ظاهره ثراء وعلم وسلطان، وباطنه عود من الحطب الجاف، علقت عليه الثياب الزاهية.
على هذا النحو كنت بالأمس أتأمل حالة «القلق» التي تجتازها الأمة العربية اليوم، بكل شعوبها ولا نستثني شعبا منها، حتى لقد بادرني زائر لسؤاله: فيم تفكر؟ فلما أجبته قائلا في صدق: كنت أفكر في حالة القلق التي تملأ صدورنا، أسرع من ناحيته إلى اعتراضي فقال: «القلق» يا أخي حالة «طبيعية» في فطرة الإنسان، وإذا سكن القلق في إنسان، كان معناه أن ذلك الإنسان قد مات، وحالة القلق عامة لا تقتصر على فرد دون فرد، ولا على أمة دون أمة أخرى، ففيم حملك للهموم في غير عائد ولا طائل؟ فقلت معلقا: أحسبك يا صديقي قد خلطت بين قلق وقلق؛ فالقلق الفطري الذي هو في صميم الحياة البشرية شيء، والقلق الذي تحدثه الأحداث الطارئة شيء آخر، وأشرح لك الفرق كما أراه، شرحا مختصرا فأقول: إن القلق الحيوي الذي لا يشكو منه أحد، ومصدره تداخل اللحظات الثلاث: الماضية، والحاضرة، والمستقبلة، في كل نبضة من نبضات الوعي؛ وذلك أن الإنسان وهو في لحظته الحاضرة، يرى فيها ما يراه، ويسمع ما يسمعه، تكون اللحظة السابقة لا تزال تجرجر أذيالها لتمضي، أي أن لها بقية من حضور، وكذلك تكون اللحظة القادمة قد أخذت ترسل إلى بؤرة الوعي بشائرها ومقدماتها، فيكون الإنسان عندئذ مشدودا بجزء آخر من وعيه نحو ما مضى، ومشدودا بجزء آخر من وعيه نحو ما هو على وشك الظهور، وأما بقية الانتباه الواعي فتتركز فيما هو ماثل بين يديه، فينتج نوع من الشد والجذب، هو الذي يحدث الشعور الدائم بالقلق، بل إن الحياة العضوية نفسها ليعتريها قلق دائم من هذا القبيل، وهو سر قيام الحياة في الكائن الحي، وانظر إلى حركة التنفس شهيقا وزفيرا، وفي نبضات القلب إذ هي تنبض ثم تستريح لتعود فتنقبض، وفي حالتي الجوع والظمأ، يزولان بالطعام والشراب، ليعودا بعد حين بنداء جديد، ففي جميع هذه الحالات وأشباهها، تستبد بالكائن الحي حالة معينة فيأخذه قلق، فيشبع صاحب تلك الحالة ما قد اعتراه من نقص، فيزول القلق، ثم لا يلبث أن يعود، وهكذا دواليك وتلك هي «الحياة» في صميم صميمها.
لكن هذه الحالات القلقة، وإشباعها، ثم عودتها، وكذلك حالات الوعي المشدود بين «حاضر» مخلوط ببقايا لحظة فاتت - من جهة وبمقدمات لحظة آتية - من جهة أخرى، وما يتولد عن تلك الحالة الطبيعية من قلق، أمر يختلف عن القلق الطارئ علينا بفعل الحوادث والظروف، وهذا النوع الثاني هو ما نشكو منه، ونريد أن نتعقبه إلى بذوره وجذوره، لعلنا نزيل أسبابه فيزول وعندئذ نسترد أنفاسنا، ونسير مع السائرين في ركب الحضارة القائمة، ومشاركين في البناء فلا نكتفي بالأخذ عما ينتجه الآخرون، وإذا ما تحقق لنا ذلك، عدنا إلى سابق عهدنا من ريادة وإبداع.
ولم يكد يذهب عني ذلك الصديق الزائر، حتى سعدت بزيارة أخرى من ضيف عربي كريم، يحمل إلي نسخة من كتاب «حاطب ليل ضجر» للأديب الفاضل الشيخ عبد العزيز عبد المحسن التويجري، كنت قرأته مخطوطا بغير عنوان، فأيقنت أني ظافر بقراءة ثانية تمتع النفس وتعلو بها، شأن كل أدب رفيع، فقد كنت قرأت قبل ذلك ما نشره مؤلف هذا الكتاب الجديد، من أدب يدخل معظمه في «أدب الرسائل»، وأرى أن ليس في أدبنا الحديث كله، من ينافس الأديب الكبير الشيخ عبد العزيز التويجري في هذا الضرب من الأدب، وأخص ما تتميز به رسائله - أيا كان من يفترض أنها موجهة إليه - أنه يتخذ من تلك الرسائل وسيلة للكشف عن خفايا نفسه، وما تحمله من ذكريات الماضي - ماضي حياته بصفة خاصة - فيقارن بين ما كان من ناحية، وما هو كائن من ناحية أخرى، فلا يجد أمامه بدا من إيثار ما كان على ما هو كائن.
نظرت إلى الغلاف الجميل الذي يغلف كتابه الجديد «حاطب ليل ضجر»، ووقفت بضع دقائق عند العنوان، واسترعت انتباهي كلمة «ضجر»؛ لأن الضجر لا ينم عن القلق، ولقد كنت منذ قليل أتحدث مع زائري السابق، عما أحسه من «قلق» يسري في الأمة العربية كلها، وكان ذلك «القلق» هو الذي أخذت أحاول رده إلى منابته في حياتنا، وتساءلت سرا: ترى هل أراد القدر أن يسوق إلي هذا الكتاب الآن، وكاتبه صاحب القلم البليغ، هو من هو في رهافة حسه، ليكون معي شاهدا على الأمة العربية في يومها هذا؟ لقد جعل من نفسه «حاطب ليل»، ولم أدهش لذلك؛ لأنني أعلم مسبقا أنه كلف باستبطان ذاته، كمن يغوص إلى أجواف البحر ليخرج منها بما عساه مصادفة ، لا فرق عنده بين درة وحصاها، إذا هو ينشد الحق، لا يبالي أن تكون الحقيقة الواقعة مما يسر أو مما يثير الشجن، ولم أشك وأنا بعد عند عنوان الكتاب، في أن المؤلف قد جعل من نفسه «حاطب ليل»، بمعنى أنه قد صنع ما يصنعه محتطب ذهب ليجمع أعوادا للوقود، فالشبه قريب بين ذلك الحاطب يجمع الفروع الجافة ليوقد بها النار، وهذا الحاطب (وأعني مؤلف الكتاب) الذي جاب في حنايا نفسه وثناياها، ليعود بما عساه واجده من خلجات ونبضات وذكريات، ولماذا هو «ليل»؟ إنه كذلك لأن النفس - كل نفس - تضن بسرها فتخفيه حتى على صاحبها، وإذن فهي في ذلك أشبه بليل أرخى سدوله على الأشياء ليخفيها، ولكن بقيت لي من العنوان كلمة «ضجر». وما إن خلوت إلى نفسي، واستعنت بالعدسات المكبرة، حتى أدرت غلاف الكتاب لأرى كيف بدا وكيف سار، فطالعت أول ما طالعت قول المؤلف إن: «ما في هذه الرسائل قوافل من سوارح النفس، ملت المقام وضجرت، ثم تداعت في غير انتظام على فم القلم»، ثم قوله عن صاحب ذلك القلم، إنه راح: «يحتطب من أوديته النفسية وقودا يضيء لقلمه، في عتمة الليل، الطريق الذي يمشي عليه.»
إذن فقد وجدت في هذا الكتاب، وفي كاتبه الأديب، ما يشد أزري في مسعاي، حتى وإن اختلفنا في النتائج، فكلانا لا تكفيه الأسطح ويريد الغوص وراءها إلى جذورها، إلا أن الفارق بيننا في ذلك هو أنه - لكونه أديبا مبدعا - يتجه نحو دخيلة ذاته باحثا وفاضحا، وفي حين أني أدير البصر فيما حولي، لأقيم الأحكام على المشاهد، وكلانا قد أخذه القلق مما رأى من أوجه حياتنا، فطفق يبني على ذلك القلق ما يبنيه، لولا أن محور القلق عنده كان في ذات نفسه وما يكمن فيها من ذكريات الماضي، فنراه يحفر في ذكرياته حتى يصل إلى الكبد والحشى، ويصبح كأنه قد عاد إلى ماضيه، في أدق ما كانت تنطبع به حواسه الظاهرة والباطنة على السواء من مؤثرات محيطة، وإن أدب الأستاذ التويجري في هذه العودة إلى الماضي، لهو أقرب ما يكون شبها بما فعله الأديب الفرنسي العظيم «مارسل بروست» (1871-1922م) في كتابه الخالد: «البحث عن الزمن المفقود»، فكلا الرجلين منجذب إلى أيامه السوالف، يركب إليها قطار الذكريات، متعقبا تلك الذكريات واحدة وراء الأخرى، حتى يصل إلى حيث يظن أنه هو ما كان قد سمعه ورآه في طفولته وشبابه، ذلك هو «القلق» الضجر عند الأستاذ التويجري، وأما القلق عندي فهو يجاوز حدود ذاتي إلى قلق عام، أراه ساريا في أصلاب الأمة العربية اليوم، وأحاول التعليل، وبعد هذا وذاك فقد نختلف في مغزى الحنين الذي نحسه معا إلى ماضينا، قريبه أو بعيده على حد سواء، فربما كان الكاتب الكبير الشيخ عبد العزيز التويجري يود لو أن ذلك الماضي قد عاد إليه ليعيش في بساطته وبراءته، وأما الحنين عندي إلى الماضي، فهو حنين إلى ما يصلح أن يكون ملهما بوثبة عربية قوية، نحو مستقبل يبنى على حضارة العصر بعلومها وفنونها وطموحها.
إذن فالسؤال الكبير الذي طرحته، وأطرحه على نفسي، هو: أين في حياة الأمة العربية ذلك الجذر العميق، الذي أنبت لها شجرة القلق بكل فروعها وأوراقها، وهي هي الشجرة الملعونة التي أكلنا من ثمارها المحرمة، فتمزقنا شعوبا، ثم تمزق كل شعب أفرادا لا يكاد يحس أحدهم بوجود الآخر إلى جواره، إننا جميعا في حالة تقرب مما يسميه علماء النفس «بالعصاب»، يملؤنا الشعور بالإحباط، والخوف، وسرعة الانفعال وشدته، والريبة في الآخرين، وغير ذلك من ظواهر الحياة العصابية القلقة الضجرة، فما الذي أحدث فينا هذا كله؟ إن علاج الداء مرهون بمعرفة طبيعته وأسباب حدوثه، ومهما يكن في الحياة الفردية أو الاجتماعية من علل نفسية، فهي آخر الأمر محصلة ظروف - داخلية وخارجية - ومن بين تلك الظروف، الحياة الثقافية التي تحياها الأمة العليلة أو الفرد العليل، وإذا كان هذا هكذا، كان سبيل العلاج هو تبديل ظروف بظروف، وزرع ثقافة في العقول وفي النفوس، لتحل محل ثقافة أدت إلى ما أدت إليه من أوجه الضعف.
واقرأ ما شئت لكبار العلماء في أطراف الدنيا ، ممن حاولوا بكل قدراتهم العلمية، أن يحللوا النفس الإنسانية في قوتها وفي ضعفها، وحاول أنت ما استطعت المحاولة، أن تقيم على مشاهداتك وخبراتك تحليلا وتعليلا للنفس الإنسانية - أو قل للشخصية الإنسانية، ليكون المعنى أوضح ظهورا - يؤدي بك إلى تفسير مقبول لقوة الشخصية أو ضعفها، فأنت في آخر الشوط واصل إلى نتيجة، تقترب من اليقين في صوابها، وهي أن الأمر في ذلك كله مرده إلى عاملين هما: الأمن وجودا وعدما، ثم إشباع الحاجات الطبيعية والنفسية وجودا وعدما كذلك، فالقوة - إذن - مرهونة بالطمأنينة ليسعى الإنسان في مسالك حياته وهو آمن، ومع الطمأنينة تقوم الدعامة الثانية، وهي أن يتاح للإنسان - فردا أو جماعة - ألا يتعرض لدواعي الإحباط بشتى صوره وأشكاله، ولقد حدث في مناسبة سابقة أن وجهت انتباه القارئ إلى قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
ففي هذه الآيات الكريمة بيان بالعاملين الأساسيين اللذين يؤديان بالإنسان إلى قوة وارتقاء وازدهار، وهما: أن يكون آمنا من الخوف، وأن يشبع حاجته الطبيعية إلى غذاء، وأذكر أني في تلك المناسبة السابقة التي تناولت فيها هذا الجانب من الموضوع، قد رأيت في العامل الأول - عامل الأمن من الخوف - ما ينتج ازدهارا في الجانب الثقافي من حياة الإنسان، وفي العامل الثاني ما يشير إلى الجانب الاقتصادي من تلك الحياة، وعلى هذين الجانبين: الثقافي والاقتصادي، تعتمد الحضارة بكل أبعادها.
والأمة العربية اليوم ينقصها الجانبان بدرجة ملحوظة، ومن ثم جاء «القلق» الذي أشرنا إليه؛ فأما جانب «الأمن» من الخوف فلا أظن أن مواطنا عربيا واحدا، يشك في أن الطمأنينة لا تجد طريقها إلى صدورنا، ويكفيك أن تنظر لترى كم هم الأعداء الأقوياء الذين يحيطون بالأمة العربية، ويضمرون لها من الشر والغدر ما يضمرون، حتى لنسمعها قولة مترددة على الألسنة والأقلام بيننا، تقول إن الحروب الصليبية ما زالت قائمة، حتى وإن اختلفت الأهداف الفرعية لتلك الحروب، فالهدف الأساسي عند الأعداء قائم، وهو إيقاع الهزيمة بالأمة العربية، وأما الجانب الثاني ، وهو جانب الإحباط، المتولد عن امتناع القدرة على إشباع حاجاتنا الطبيعية والنفسية، فواضح مما يملأ الوطن العربي من فقر ومرض وجهل، ولا يستثنى الأقطار البترولية بثرائها؛ لأنها إن تكن قد أشبعت الحاجة إلى الضروريات المادية من طعام وكساء ومأوى ورفاهية، فلا أظنها قد أشبعت شيئا من حاجات أخرى لها الضرورة نفسها، ومن أهمها حسن القبول عند الآخرين، والآخرون المقصودون هنا، هم الشعوب الأخرى التي صنعت حضارة العصر، وحققت لنفسها من جبروت السلطان ما حققت، فكلنا يعلم بأي ميزان يزن أبناء الغرب المتقدم الإنسان العربي من أي شعب عربي جاء، بتروليا كان أم غير بترولي على حد سواء، وبالله لا تقل لي: وما لنا وموازينهم، فنحن كذلك نزنهم بميزاننا فإذا هم الخاسرون لا، لا تقل ذلك؛ لأنك تعلم حق العلم وأنت تقولها، أنك تكذب على نفسك، ولقد ذكرها ابن خلدون ذكرا مستفيضا، ليبين كم يكون الرأي في الحضارة المعينة لصناعها وأقويائها، لا لمن هم عيال عليهم، مفتقرون إليهم علما وعملا، فالمعول في تقدير الأمم والشعوب إنما يرتكز أساسا على مقدار المشاركة الإيجابية في الحضارة القائمة، والإضافة إليها بما هو جديد مبتكر، حتى ولو جاءت تلك الإضافة على طريق النقد البناء، ولا عجب إذا رأينا كفة الشعوب الصفراء آخذة في الصعود نحو اتجاه العصر وحضارته.
إننا الآن نبحث عن الجذور، جذور القلق الذي نزعم بأنه حالة تسود الأمة العربية في حياتها الراهنة: سياسة، وفكرا، وشعورا، فإذا تحدثنا في هذا السياق بلغة يستخدمها علماء النفس، قلنا إن موطن العلة إنما يكمن في بعد المسافة الفارقة بين «الأنا» و«الأنا الأعلى» في المواطن العربي، وشرح ذلك هو أن هذا المواطن العربي، إذ يقارن بين حياته كما هي واقعة بالفعل، من حيث منزلته بالنسبة إلى من تقدموا في مضمار العلوم والصناعات وفنون القتال، بل وفي أخص خصائص الإنسان، من فن وأدب، وتعاون على مساعدة المريض والفقير والمكروث بكارثة من كوارث الطبيعة وغير ذلك، أقول إن المواطن العربي حين يقيس حياته الفعلية في هذا كله، بحياة غيره ممن تقدموا في مضمار الحضارة التي أفرزها عصرنا ليعيش في ظلها وفي نورها، أو حين يعيش حياته تلك بما يرويه له تاريخ أمته عن أسلافه وهم في مواقع الريادة للعالم أجمع، وجد مسافة الفرق بين ما هو عليه، وما كان «ينبغي» أن يكون عليه، سواء أكان مدار القياس حياة أسلافه وهم في مجدهم، أم كان حياة معاصريه الذين طاروا في سماء التقدم بأجنحة النسور، وجدها مسافة لا تقاس بالشبر ولا بالمتر، بل تقاس بالفراسخ أو بالأميال، وإني لأرجو أن تقرأ هذا وأمامك اعتباران: أولهما أن مدار الحكم على موقع المواطن العربي، إما بالنسبة إلى الآخرين من معاصريه، وإما بالنسبة إلى الآخرين من أسلافه، إنما هو مقدار ما يضيفه إلى الدنيا كشفا وابتكارا، فكم هو بحاجة إلى الآخرين، وكم هم في حاجة إليه؟ أما الاعتبار الثاني، فهو أن كاتب هذه السطور، لا يباهي بما يكتبه؛ إذ هو لا يستثني نفسه من أي حكم يلقيه على المواطن العربي؛ لأنه هو نفسه مواطن عربي من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ينقصه ما ينقص سائر مواطنيه، فهذا الفارق البعيد بين «الأنا» العربية كما هي قائمة بالفعل، و«الأنا الأعلى» الذي يتمناه، هو أعمق الجذور التي أنبتت فينا حياة القلق الممرض، المضعف المميت.
حقائق الأشياء وظلالها
عندما سئل أبو حيان التوحيدي، وهو في حضرة الوزير، بما معناه: ألك أن تحدثنا عن نقد الأدب؟ أجاب بما معناه أيضا: سأحاول، وإن كنت أعلم أن ذلك عسير؛ لأنه بينما الأدب كلام عن «الأشياء» فإن النقد «كلام عن كلام»، والكلام عن شيء ما، أيسر من كلام يبنى على كلام، وأذكر أني عندما طالعت ذلك الحوار لأول مرة، رأيت الصدق في قول التوحيدي: لكني على
هنالك حكم عام يصدق على جميع الحالات: فربما كانت هنالك الحالات التي يكون فيها الكلام عن حقائق الأشياء أيسر من التعليق عليه، والحالات التي يكون فيها الأمر على عكس ذلك، وسأوضح ذلك بأمثلة أسوقها للحالتين، ليكون القارئ على بينة من الأمر قبل أن نمضي معا في هذا الحديث، وما أريد أن أرتب عليه من نتائج، لأصور بها ما أراه علة الفقر في الحياة الفكرية التي نحياها اليوم.
فلنأخذ قول حافظ إبراهيم عن المصري ومجده:
وبناة الأهرام في سالف الده
ر كفوني الكلام عند التحدي
فإذا أراد ناقد أن يبين مواضع البلاغة في هذا القول، فأول ما نلاحظه في مقارنة هذا النقد بذاك البيت المقصود، هو أن الشاعر كان له مطلق الحرية فيما يختاره من صور يصور بها مجد المصري منذ فجر التاريخ، وأما الناقد الأدبي فمقيد بما أمامه من ألفاظ وطريقة تركيبها، وعليه أن يحفر بقلمه في هذا المنجم الواحد المعين، ليستخرج منه ما قد كمن فيه من نفيس المعادن، وإنه ليكفينا أن نذكر حرية الشاعر وقيد الناقد، لنرى وجها للحكم بأن مهمة الناقد أشد عسرا من مهمة الشاعر، لكن هذا الحكم مشروط بجودة ما يقوله الناقد؛ لأنه إذا حدث أن تصدى للتعليق النقدي، من لا يحسن الفهم ولا يجيد الكلام، فعندئذ ينعكس الموقف، بحيث لا تجوز المقارنة بين اللحظة الإبداعية عند الشاعر، من جهة، ولحظة التخليط بالهراء عند صاحب التعليق.
ومثل هذه المقارنة ليس مقتصرا على الأدب ونقده، بل نراه قائما كذلك بين القول العلمي ومن يتلقاه من الدارسين، فافرض أننا أمام عبارة كهذه: يتحول الماء إلى بخار بفعل الحرارة، فهذه الحقيقة العلمية قد تصادف تلميذا يحفظها ولا يدري ماذا يصنع بها، وقد تصادف قديرا يستنبط منها اختراع القاطرة البخارية؛ ففي الحالة الأولى كانت الجملة العلمية أصعب على من ذكرها وحدها، منها على جهد التلميذ حين قرأها فحفظها، وأما في الحالة الثانية فقد كان ما بني على تلك الحقيقة العلمية، أحوج إلى شدة الذكاء من ملاحظة الظاهرة وصياغتها في العبارة التي صيغت فيها.
ولا علينا من هذا كله، فإنما قدمته بين يديك لأنه هو الذي كان عندي نقطة ابتداء لسلسلة الأفكار التي توالت، فأنتجت لي ما أنتجت، من حيث الفرق البعيد، في عملية التعليم، وفي عملية التثقيف، بين أن نربي أبناءنا على مواجهة «الأشياء» ليستخرجوا من مشاهدتهم المباشرة، ما يفتح عليهم الله باستخراجه، كل بحسب قدراته ومواهبه، وبين أن نربيهم على قراءة ما قاله آخرون عن تلك الأشياء ثم حفظ ما قرءوه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المقروء المحفوظ، مما ورثناه من أسلافنا، أو أن يكون مما نقلناه عن شعوب أخرى في حاضرها أو في ماضيها على حد سواء.
عندما قرأت لأبي حيان التوحيدي قوله بأن: «الكلام عن الأشياء» أيسر على صاحبه من «الكلام عن الكلام»، كانت لي وقفة مع نفسي أراجعها في هذا الذي قاله التوحيدي، فرأيت - كما أسلفت لك - أن الحكم يصح على حالات ولا يصح على حالات أخرى؛ فالدرجات العلى من تفكير المفكرين، يغلب أن تكون تعليقا أو تحليلا لشيء قيل بالفعل، مثال ذلك ما يكتبه العلماء والفقهاء شرحا لنصوص تركها علماء وفقهاء سابقون، نبغوا في ميادينهم، وكذلك ما يقوله نقاد الأدب، تحليلا لما يتناولونه من الموروث الأدبي، بل إن هنالك فلاسفة من أعظم الفلاسفة شأنا كان مدار عملهم شرحا لما تركه فلاسفة سابقون، كما فعل «ابن رشد» في شرحه لفلسفة أرسطو، وكما فعل «ج. ا. مور» - وهو من أعظم الفلاسفة في إنجلترا في العصر القائم - إذ قصر نفسه على تحليل بعض ما قاله فلاسفة آخرون لنخرج من ذلك التحليل بنتائج، كانت من أبرز معالم الفكر الفلسفي المعاصر، وهكذا وهكذا، وإذن فعملية «الكلام عن الكلام» ليست بالأمر الهين، عندما تبلغ هذه العملية ذاتها، وأعني: عملية «الكلام عن الكلام» قد تهبط إلى أسفل الدرجات تفاهة وعجزا.
وهنا انتقلت بفكري إلى المقارنة بين من اعتاد استخراج معرفته من معالجته «للأشياء» معالجة مباشرة، وبين من يتجه بحياته الفكرية نحو أن يستخرج معرفته من كلام الآخرين عن تلك الأشياء، كما أثبتوه في كتب قديمة أو حديثة، وكان أول ما وجهت انتباهي إليه - عند إجراء هذه المقارنة - هو وجوب التوسع في فهمنا لكلمة «أشياء» توسعا يجعل العلماء الذين يتناولون في بحوثهم «نصوصا» لها قيمتها في تاريخ الفكر أو العقيدة، تناولا غير مسبوقين فيه، فيعملون على أن تنطق تلك النصوص بمكنونها، أقول إنه أجدر بنا أن نجعل أمثال هؤلاء العلماء الرواد، بمنزلة من يستمد عمله من إحدى ظواهر الكون، إذ هو في عمله ذاك أقرب إلى العلماء المبدعين منه إلى أولئك الذين يقرءون نصوصا يجدونها في كتب وقعت لهم في دراستهم، فيحفظونها ليرددوها كلما حانت لهم فرصة لترديدها.
وإني لأزعم أن إحدى العلل الكبرى، التي قيدت انطلاقتنا الفكرية، نحو أن نبدع فكرا جديدا مع المبدعين، هي أننا إذا اكتفينا في معظم الحالات، بحفظ ما كتبه آخرون، من الماضي أو من الحاضر، فدارت بنا الحياة، أو قل إننا قد درنا بحياتنا حول «كلام»، فأفلتت منا حقائق «الأشياء»، وأصبحنا كمن يعيش في ظلالها، ولتوضيح ذلك أقول: أمعن النظر جيدا في تدرج الخطوات الأربع التالية: (1)
هذه تفاحة. (2)
رأى نيوتن تفاحة تسقط من فرعها على الأرض. (3)
قانون الجاذبية بين الأجسام هو أن أي جسمين يتجاذبان بنسبة مطردة إيجابا مع حجم الجسمين، وسلبا مع مربع المسافة بينهما (ومعذرة إذا لم تكن هذه هي الصيغة العلمية في انضباط ألفاظها). (4)
أن الكون موحد بفعل الجاذبية التي تشد كل جزء منه إلى سائر الأجزاء.
فلاحظ ما يأتي في الخطوات الأربع السابقة: فالأولى هي «شيء» نعرفه برؤية لونها وشكلها، وبلمسة سطحها، وبما يذوقه اللسان إذا أكلناها، وهذه كلها «حواس»، ومما تأتينا به حواسنا عن التفاحة، نكون قد عرفناها بنفس القدر الذي أمدتنا به الحواس من خصائصها، والثانية جملة لغوية، لو أنها كانت هي كل ما نعلمه عن التفاحة، أي أننا لم نكن قد تلقينا من خصائصها شيئا بطريق حواسنا، وانحصر علمنا بها فيما تنبئنا به هذه الجملة عنها، لما عرفنا عندئذ إلا «جملة» نقولها أو نكتبها، ويقف بنا أمرها عند هذا الحد، وأما الثالثة فهي خطوة ينتقل بها الإنسان من «الشيء» المعين إلى قانونه العلمي، مع ملاحظة أنه ربما حدث لدارسي هذه الحقيقة العلمية عن جذب الأرض للتفاحة التي سقطت عليها، ألا يكون قد رأى أو أكل تفاحة في حياته، فهو في هذه الحالة يعرف قانونا علميا عن شيء لم يحسه بحاسة من حواسه في دنيا التجربة الذاتية، وأخيرا تجيء الخطوة الرابعة، التي بها يجاوز العقل حدود العلم الواحد، في مجال واحد معين، إلى رؤية كونية شاملة، فتكون الرؤية العقلية في هذه الحالة رؤية فلسفية بنيت على عمد من العلوم المختلفة.
واضح أن من استطاع الصعود على هذه الدرجات الأربع جميعا كان قد أكمل الشوط، فهو قد عرف «الشيء» معرفة مباشرة بحواسه، ثم هو قد عرف «عن» ذلك شيئا لم يره بعينيه، ولكن نقلته إليه «اللغة»، ثم هو بعد ذلك قد جاوز عالم الحس إلى عالم العقل، فعلم القانون العلمي الذي هيمن على حركة الشيء الذي كان قد عرفه وعرف عنه، وأخيرا - في مرحلة العقل - قد انتقل من معرفة جزئية محدودة في شيء واحد معين، أو في مجال معين، إلى الرؤية الفلسفية التي تبنى على محصلة العلوم جميعا.
مثل هذا الرجل الذي يكمل شوط المعرفة بدرجاتها الأربع، فيما يختص بشيء معين، يكون أكمل علما من سواه، ممن وقفوا عند بعض الشوط ولم يكملوا صعود درجاته، وأما أبعد رجل عن الكمال العلمي، فهو ذلك الذي لم ينل من المعرفة الخاصة بشيء ما إلا جملة أو عدة جمل تتحدث عن ذلك الشيء بأخبار وصفات لم يشهد هو منها شيئا ولم يشارك بعقله في العلم وقوانينه المهيمنة على ذلك الجزء من كائنات الدنيا، وخير منه رجل انحصرت معرفته في خطوة إدراك الأشياء بحواسه، حتى ولو لم يكن قد سمع عنها جملة واحدة أو قرأ عنها جملة واحدة؟ وأما المرحلة الثالثة، التي هي مرحلة «العلم» وصياغة قوانينه، فهي وإن قصرت دون استكمال الرؤية الشاملة في الخطوة الأخيرة، إلا أنها تتضمن الخطوتين السابقتين عليها، وأعني خطوة الإدراك الحسي، وخطوة التعبير باللغة عن ذلك الإدراك.
وبعد هذا التصوير الشارح لدرجات المعرفة الأربع، أدعوك لنتدبر معا: في أي خطوة، أو عند أي مرحلة ، تقع الكثرة الغالبة من محصولنا المعرفي، كما يتبدى فيما نقوله أو نكتبه؟
إننا نتحدث هنا عن حياتنا العلمية والفكرية، وذلك يخرج من حساب أعمال الناس الحرفية، التي قامت على التدريب العملي، الذي يؤديه جيل الآباء نحو جيل الأبناء، كما هي الحال في فلاحة الأرض، وفي كثير جدا من الحرف الصناعية، فحديثنا هنا يتناول ما قد يكون هناك أو لا يكون، من أبحاث علمية، ومن أنشطة نظرية، وراء الأعمال الحرفية؛ لأن مثل هذه الرابطة بين الإبداع العلمي والفكري من أعلى، وتسرب نتائج ذلك الإبداع شيئا فشيئا إلى ميادين العمل التطبيقي، أمر ضروري للتقدم، ويبدو أن ذلك الذي يتقدم حقا، هو «العلم» في شتى ميادينه، فيتبع ذلك - على الأرجح - تقدم في الصناعات المختلفة، بما في ذلك صناعة الزراعة، وأما إذا ارتكزت الصناعات على خبرة عملية «فقط» ينقلها سابق إلى لاحق، فقد تبلغ تلك الصناعات درجة عالية من الإتقان، لكنها لا «تتقدم»، وإن تقدمت جاء تقدمها في بطء شديد، وانظر إلى الصناعات في الحضارة المصرية القديمة تجدها عالية المستوى، لكنها مع ذلك تبدو فيما يخيل إلى كاتب هذه السطور وكأنها درجة متقاربة خلال فترة طالت حتى بلغت آلاف السنين، وتعليل ذلك - إذا صدق - هو أنها صناعات قائمة على «خبرة» وتدريب، دون أن يكون وراءها رصيد من علوم نظرية.
وبعد هذا فلننظر إلى الكثرة الغالبة مما تخرجه المطابع من مؤلفات، المفروض فيها أنها تعكس اهتماماتنا الفكرية والأدبية كما هي قائمة، فكم منها يتم عن صلة مباشرة بين المؤلف، وما تعج به حياتنا في جميع مستوياتها من مشكلات؟ وكم منها هو في مادته لم يزد على كونه تعليقا على ما قد ورد في كتب، أو إعادة لما قد ورد في كتب، أو شرحا لما قد ورد في كتب؟ وبعبارة قصيرة: كم منها قد جاء «كلاما عن كلام» بعبارة أبي حيان التوحيدي؟ إنني أزعم - وقد أكون مخطئا فيما أزعم - أن معظم ما تجري به أقلام المؤلفين عندنا، هو بمنزلة أصداء تردد أصواتا نطق بها سوانا، أقلها أصوات عبرت إلينا البحر لتنقل شيئا مما قاله أبناء الغرب، وأكثرها عبرت إلينا آماد الزمن لتنقل إلينا أشياء مما قاله الآباء الأولون، والحاصل النهائي من ذلك، هو أن أصبحت رءوسنا في واد، يصلح للنزهة العقلية والنفسية، أكثر مما يصلح للأخذ بأيدينا في حل مشكلاتنا، وأما أبداننا في واد آخر، تعاني وتكابد، ولا تجد عند صاحب الرأي إلا قليلا مما عساه أن يسهم في مواجهة تلك المكابدة والمعاناة.
وإنصافا للأدباء والشعراء، الذين يبدعون ما يبدعونه تعبيرا وتصويرا لحياتنا، كما يحسونها في أنفسهم، وكما يرونها فيما يحيط بهم، فلا بد أن نشيد بكثير مما يقدمونه إلينا ليضعوا أصابعنا على نبض الحياة الحقيقية، بما يملؤها من ألم ويأس وقهر جنبا إلى جنب مع ما تضطرم به من توثب وطموح، فلولا شعر الشعراء اليوم، لما أحسسنا إلا بالقليل مما تتأزم به صدور الشباب، وحتى حين يكون الشعر المعروض كسيح القوائم التي من شأنها - لو قويت أصلابها، واستقامت دعائمها - أن تصنع شعرا تقرؤه الأجيال القادمة كما يقرؤه هذا الجيل، أقول إنه حتى حين يجيء شعر الشعراء هزيل البنيان، فهو يشف عن كثير مما يعانيه أبناء هذا الجيل، من قنوط وإحباط وعزوف عن الحياة.
فموضع الشكوى - إذن - يكاد ينحصر في حياتنا الفكرية، وأعني بها الحياة «العقلية» التي من شأنها - لو استقامت بها الطريق - أن تبث في الناس موجهات السير، فإذا كنا قد ذكرنا فيما أسلفناه أن الحياة العملية الحرفية من زراعة وصناعات تقليدية، ينقصها أن يكون وراءها نشاط علمي، يضيء لها طريق الانتقال من أسلوب قديم إلى أسلوب جديد، فليست العلة في تلك الحياة العملية ذاتها، وإنما هي في ضعف الروح العلمية منهاجا وإبداعا، بمعنى أن الحقائق العلمية المطلوبة للنهوض قد تكون متوافرة لعلمائنا، داخل الجامعات وخارج الجامعات، لكن ربط هذه الحقائق العلمية بدنيا العمل الحرفي التطبيقي ليس على المستوى المطلوب، ثم ما هو أفدح من ذلك خطرا، وهو أن النظرة المنهجية العلمية، لم تنتقل - كما كان ينبغي لها أن تفعل - من داخل الإطار الأكاديمي الصرف ، إلى الحياة العريضة التي يعيشها الناس بمن فيهم العلماء الأكاديميين أنفسهم، الذين كثيرا جدا ما يقصرون دون أن ينقلوا معهم النظرة العلمية من داخل المعامل والمكتبات، ومراكز البحث ومعامل الأنابيب والمخابير، إلى حيث حياة الناس الجارية في البيت والشارع، بمعنى أن يشيعوا في حياتهم الخاصة أولا، وفي الحياة الاجتماعية العامة ثانيا، عادة إقامة الرأي على أسس التجربة الحسية بالواقع من جهة، وعلى مراعاة الرابط السببية الصحيحة، من جهة أخرى، ولو فعلوا لانزاحت عن حياتنا الكوابيس الخانقة، التي أحدثتها هلوسة الهواجس، مما تضطرب به جوانح شبابنا، فتذبل فيهم نضارة الشباب وطموحه وأمله في مستقبل مشرق يصنعه بقلمه وبجهده، كل ذلك تذبل نضارته في الشاب قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره.
ومع هذا القصور كله في الحياة «العلمية»، فتقصيرها لا يكاد يذكر إذا قيس بضحالة العمق، والتواء السبيل، في حياتنا «الفكرية» بالمعنى العام لكلمة «فكرة»، وهو المعنى الذي يجعل «الأفكار» الأساسية الموجهة لحياة الإنسان، شيئا يختلف عن الإبداع الأدبي والفني في ناحية، كما يختلف عن «العلوم» في ناحية أخرى؛ ففي الثقافات جميعا، على اختلاف أقطارها واختلاف عصورها مجموعة «أفكار» يغلب عليها أن تكون حاملة «للقيم» في مضامينها؛ كفكرة «الحرية» أو «العدالة» أو «التعاون» إلخ إلخ، كما يغلب عليها كذلك أن تكون قد جاءت إلى الإنسان مع الرسالات الدينية، ومما تتميز به تلك المجموعة من الأفكار الموجهة للإنسان نحو الحياة المثلى، أنها عسيرة التحديد؛ إذ هي مرنة الحدود في معانيها مرونة تتيح للناس، مهما كانت منزلتهم الثقافية أن يكون لهم نصيب من استيعابها، وتمثلها في سلوكهم بدرجة لا تتناسب قدرا مع مرحلتهم الحضارية، ومن هذه المرونة جاء غموضها ووضوحها متلازمين، فهي غامضة إذا أريد تعريفها تعريفا منطقيا جامعا مانعا، وهي واضحة إذا اكتفى الإنسان بلمعة النور الهادية، والتي يكاد يدركها بفطرته بغير تعليم وتلقين.
والذي أزعمه عن حياتنا الثقافية اليوم، هو أن هذا الجانب الفكري منها الذي لا هو إبداع أدبي أو فني، ولا هو من زمرة العلوم، قد ضعفت في نفوسنا نبرته وفترت في سلوكنا دفعته المحركة الموجهة، وربما نتج ذلك بسبب ضحالة من ننعتهم «بالمفكرين» ضحالة نشأت عن أكثر من سبب واحد، فهنالك الظروف الاجتماعية والسياسية التي مالت بالناس نحو رفض عصرهم، هروبا إلى الماضي ليختاروا منه ركنا آمنا هادئا، لا يتعرضون فيه لعواطف الأقوياء الذين هم أعداؤهم ومستعمروهم، والقابضون على رقابهم بقوة العلم أولا، وقوة المال التي ترتبت على نتائج العلم ثانيا، وقوة السلاح التي نتجت عنهما معا، وبديهي أن الهارب من عصره محتميا بماضيه مضطر إلى اجترار «الأفكار» الموجهة التي أشرنا إليها، لا بكل مضموناتها الجديدة، بل بمضموناتها التي كانت لها في عصر مضى، والتي لا بد بالضرورة الحتمية، أن تكون أقل غنى في تفصيلاتها مما هي عليه اليوم، فمثلا، إذا رفعنا لواء «حقوق الإنسان» كان المعنى الذي أردناه مقتصرا على جوانب معينة دون الجوانب الأخرى، مما أصبح عصرنا يفهم «حقوق الإنسان» على أساسه، فإذا أضفنا إلى فقرنا «الفكري» هذا، هزال «التعليم» هزالا يحد من طموحنا، إلى الحد الذي نتوهم فيه أن النقل عن علوم الغرب، وعن صناعات الغرب دون مشاركة الغرب مشاركة إيجابية في التقدم العلمي والصناعي، هو نصيبنا الأوفى من عصرنا، وهو موقف مستكين هزيم مدحور، ساعد أقوياء الغرب على أن تكون لهم الغلبة والسلطان، حتى أصبحنا وكأنه من طبائع الأمور أن يعملوا هناك، وأن يعلموا وأن يبدعوا وأن يغامروا ويقتحموا المجهول، وأن نمد نحن أكفنا سائلين ما ينعمون علينا به من صدقات في هذا كله، على أن تكون صدقات ندفع أثمانها من أموالنا ومن كرامتنا معا.
تلك - إذن - هي بعض عناصر الموقف الراهن، نلخصها في سطرين بقولنا: إنه إذا كانت مكونات البناء الثقافي، لأي شعب من شعوب البشر، هي على وجه الإجمال، دعامتان بينهما وسط؛ فأما أولاهما فهي دعامة «العلم» بكل فروعه، على أن نفهم العلم فهما صحيحا يشترط فيه أن يكون «المنهج» الخاص الذي يمارسه الباحثون العلميون - هو المميز له عن الدعامة الثانية - وأما هذه الدعامة الثانية فهي طريق الإبداع الأدبي والفني، وأما الوسط الذي بين الدعامتين فهو «الأفكار » حاملة القيم وموجهة الإنسان في حياته، وأغلب تلك الأفكار قد جاء مع الرسالات الدينية؛ ففي دنيا العلوم نرى أن موقفنا هو موقف المعتمد اعتمادا تاما ومطلقا على ما ينتجه الغرب، والحمد لله على ذلك؛ إذ كان يمكن أن نترك الغرب في علومه لا ننقل عنه شيئا منها، فتكون الطامة طامتين، وفي دنيا الفن والأدب قد أخذنا عن الغرب بعض أشكاله الفنية والأدبية؛ كالتصوير، والنحت، والعمارة، والرواية، والمسرحية. ولقد وفقنا - بحمد الله - إلى ملء تلك الأشكال جميعا بمضمونات من واقع حياتنا، فكان لنا فن وكان لنا أدب يستحقان الإشادة بهما؛ لأنهما كانا وسيلتين نافذتين لتصوير حياتنا من الداخل، مما أدى بنا - دون أدنى شك - إلى الإحساس بأنفسنا إحساسا جديدا، يمازجه قلق يحفزنا إلى ضرورة التغيير نحو ما هو أكمل وأقدر على مواجهة العصر ومشكلاته.
وبقي الوسط القيمي الذي يتوسط الدعامتين، فها هنا نجد أخطر مواضع النقص في حياتنا، إن هذا الوسط الفكري مفروض فيه أن يمد أطرافه إلى يمينه حيث دعامة الفن والأدب وإلى يساره حيث دعامة العلوم؛ لكي يغذيهما معا بالقيم والأهداف، التي بغيرها تكون تلكما الدعامتان كالسفينة السابحة على سطح المحيط، وليس فيها ربان يوجهها نحو ميناء الوصول، ووجه النقص عندنا فيما يختص بالوسط الفكري، هو أننا نحفظ أسماء الأفكار القيمية حفظا جيدا، فأيسر اليسر لأي ناشئ - ودع عنك الراشدين الدارسين - أن يكر أمامك كرا سريعا، أسماء «الحرية» و «العدالة» و«الكرامة» و«التعاون» إلخ إلخ، وأن يضيف إلى القائمة حاشية لا ينسى ذكرها في فاتحة القائمة وفي خاتمتها، وهي أن تلك القيم جميعا عرفناها نحن منذ أقدم القدم قبل أن تعرف الدنيا سائر الأمم، أما أن تسري في تلك القيم المحمولة في جوف الأفكار التي ذكرناها، دماء الحياة تتحول من كونها قائمة محفوظة بالذاكرة ومكرورة على اللسان، إلى أن تكون عادات سلوكية، نسلكها في حياتنا اليومية، حتى دون أن نتذكر أسماءها، فذلك شيء آخر لا مكان له عندنا، ويكاد يكون كذلك إلا على سبيل الادعاء.
وبعد أن فرغت من كتابة ما قد أسلفته، تركت القلم، وظللت أنظر إلى الأوراق المكتوبة بعين سارحة وبذهن شارد؛ إذ أحسست كأنما ضاعت مني النتيجة التي كنت أزمعت انتزاعها من هذا الذي قدمته، وهكذا لبثت في فراغ فعلي مخيف فترة ربما اقتربت من ساعة كاملة، وفجأة كما حدث لأرشميدس، حين نزل بجسمه حوض الحمام وذهنه مشغول بمسألة تاج الملك الذي أراد الملك من أرشميدس أن يبحث له عن طريقة يعرف بها إن كان التاج من ذهب خالص أم خلطه صانعوه بمعادن أخرى، أقول إنه كما حدث لأرشميدس حين لمع رأسه بالحل المطلوب لحظة أن نزل بجسمه في ماء الحوض وارتفع الماء نتيجة الجزء الذي تغطس فيه من جسمه، فأدرك أرشميدس طريقه إلى الحل، فصاح كالمجنون: وجدتها! وجدتها ... حدث لي أن وجدت النتيجة التي كنت أبحث عنها، فإذا كان السؤال المطروح أمامنا هو: ما علة قصورنا الفكري؟ لماذا لبثنا طويلا نتبع سوانا ولا تكون لنا الريادة أو بعضها؟ فكان أن انبثق لي جواب مما قدمته بين يديك، وهو أن حياة الفكر بل حياة البنيان الثقافي بكل أجزائه مرهونة بالوشائج الحميمة، التي تربط ذلك البنيان بدنيا الواقع إلى دنيا الأشياء والأحداث، وبمقدار ما يتحقق ذلك الرباط تتحقق الحياة، ولنبدأ النظر من العام ثم ننزل به إلى الخاص، فمعلوم لنا بصفة عامة أن أوروبا حين نهضت من عصورها الوسطى، كان سر نهوضها هو أن خرجت من بطون الكتب التي غرقت في صحائفها إلى قمة رأسها، خرجت إلى عالم الأشياء، إلى دنيا الواقع تقرأ كتاب الكون لتضيفه - ولا أقول ليحل محل الكتب - بل أقول لتضيفه علما جديدا إلى علم قديم، وهنا وقف العالم العربي مكانه من الورق وما كتب عليه، ترك أوروبا لتنفرد وحدها بكتاب الطبيعة، فكان ما كان لها من وثبات في فض الأختام عن كثير من أسرار العالم، ثم كان ما كان للأمة العربية من وقوفها تعيد ما كانت قد بدأت وفرغت منه، ثم تعيده كرة ثانية وثالثة، إذن فهذه واحدة بينهم وبيننا، إذا انتقلنا من عموميتها إلى تفصيلات بنائنا الثقافي، بأجزائه الثلاثة التي حدثتك عنها وهي دعامتان: للأدب والفن دعامة وللعلوم دعامة ثانية، وبينهما وسط موصول بهما هو مجموعة الأفكار الكبرى الموجهة للإنسان، وجدنا أننا تقدمنا في تلك الأجزاء بخطوات غير متساوية ولا متزامنة، وكان الأساس في ذلك هو نفسه الأساس العام الذي فرق في سرعة التطور بين الغرب وبيننا، فحيثما التحم الجانب المعين من جوانب البناء الثقافي بدنيا الواقع، انتفض بالحياة وسار على الطريق، وحيثما عزل نفسه عن الواقع قانعا بعبارات من هنا وهناك، يحفظها ويرددها، أجمدت فيه الحركة ووقف حيث كان، ولقد أسلفت لك أن حياتنا الفنية والأدبية، جاءت من الغرب بأشكال جديدة وملأتها بمضمون حي من حياتنا، فتقدم الأدب والفن بمقدار ما تحقق ذلك، ثم اكتفينا في دنيا «العلوم» بالنقل عن الغرب، فكان منا «المتعلمون» ولكن لم يكن منا «العلماء» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، الذي هو الإضافة الجديدة المهمة التي ما إن تحدث حتى يسرع العالم كله إلينا ليأخذ عنا.
وبقي عالم «الأفكار» التي تحمل معايير السلوك في مضمونها، وتعين الإنسان على التمييز بين ما يصلح أهدافا وما لا يصلح، فأزعم أن موقفنا من تلك الأفكار هو موقف الحفظ والتسميع، دون أن نغفل إلا قليلا مما يفرض فيها أن تفعله، فلا نحن وفقنا إلى السلوك الصحيح المثمر، ولا نحن عرفنا كيف نحدد أهدافنا على هدى، فكان أن عاشت الدنيا المتقدمة مع «الأشياء» تعالجها، وتخرج منها علما وحياة علمية تستقيم بالقيم الإنسانية، كما أصبح العصر يفهمها وقنعنا نحن بالعيش في ظلال تلك الحقائق، وكأننا في غفوة من هواجس الحالمين.
لولا اخترقنا هذا الجدار
فحص الطبيب مريضه، ممعنا على مهل ومدققا، ثم تمتم لنفسه وقد ابتعد بضع خطوات عن مرقد المريض قائلا: العلة عسيرة، وقد تستعصي على الشفاء، إلا إذا نهض المريض بعزيمة من إرادته، فربما اخترق جدار علته إلى حيث الهواء المشمس النقي الطلق المكشوف، فما إن سمعته من موقفي في ركن الغرفة، تخالط همومي عن مريضنا هموم أخرى، لا تبرحني لحظة إلا لكي تعود لتقيم لحظات، وأعني بها تلك الهموم التي ما تنفك حائرة تلتمس طريقها نحو جواب مقنع مقبول عن سؤال تفرضه حياتنا الثقافية علينا فرضا، وهو: لماذا نبذل كل هذا الذي نبذله من جهود، نحو تثقيف الشعب بالثقافة الصحيحة، ونحو تنويره لعله يرى النور، دون أن نحقق مما أردناه له إلا قليلا بل وأقل من القليل! ولقد كانت تراودني علة في جسم الثقافة العربية، تحس حيالها أنها قد أزمنت حتى استعصت على الزوال، فأتركها إلى حين. فلما سمعت تمتمة الطبيب عن حالة مريضنا، بأنها علة قد ضربت بجذورها إلى مجرى الدم، ولن تزول عن العليل بها إلا إذا نهض ذلك العليل بعزمة قوية من إرادته، همست لنفسي: وكذلك الأمر بالنسبة إلى ذلك الموضع من مواضع الضعف في ثقافتنا العربية، الذي حدثتك عنه منذ حين، وكنت أعني به ذلك الغبار اللفظي الكثيف، الذي نلتف به فيحتوينا في جوفه احتواء يسد علينا مصادر الضوء، لكننا ونحن في غمرته، لا يطوف بخواطرنا قط أن وراء ذلك الخماسين الفكري نورا يصلح أن يستضاء به، بل يغلب علينا وهم بأن عتامة الغبار اللفظي الذي احتوانا، هي هي نفسها عين الشمس لمن شاء أن يستضيء!
والتشخيص الصحيح لهذه الحالة المرضية، هو - ببساطة - أن اللغة «وأعني كل لغة من لغات الناس» بقدر ما هي لأصحابها دالة وهادية إلى الصواب، تكون كذلك مضللة وموجهة إلى الخطأ، دون أن يشعر المخطئ بأنه أخطأ بل قد يصعب عليه أن يتصور كيف وقع له الخطأ، وإذا استخدمنا تشبيها يوضح لنا الفرق بين الحالتين، قلنا: إن اللغة في الحالة الأولى، التي تكون فيها دالة وهادية، يقرؤها القارئ، أو يسمعها السامع، وكأنه ينظر خلال لوح زجاجي شفاف، إلى ما هو واقع وحادث في دنيا الأشياء، مما جاءت العبارات المقروءة أو المسموعة لتتحدث عنه، فاقرأ - مثلا - هذه الجملة الآتية: كانت نافذة مكتبي مفتوحة، عندما هبت الريح القوية، فبعثرت الأوراق على أرض الغرفة. ألم تشعر أثناء قراءتك أن صورة ترتسم في ذهنك جزءا جزءا حتى اكتملت؟ إنها صورة تستطيع وأنت على يقين بأن تعلم عما حدث في غرفة مكتبي. إذا اقتنعت بأني صادق فيما قلته، وحتى إذا شككت في صدقي، فالصورة قد أمدتك بمادة تحتمل الحدوث، وإذا كنت وكيلا للنائب العام، وجئت لتحقق في الحادثة، لعرفت - مهتديا - بتلك الصورة: عن أي الوقائع توجه الأسئلة، لمن تحاسبه. لكن اقرأ هذه العبارة السابقة، وهذه العبارة الأخرى هي: إن روحانية الشرق هي سبيله إلى الخلاص من أدران المدنية «الغربية وشرورها»، ألست ترى أنه إذا كانت العبارة الأولى قد شابهت لوح الزجاج الشفاف، الذي نفذت ببصرك خلاله فرأيت ما وراءه، فإن هذه العبارة الثانية هي أشبه بلوح من زجاج معتم، يرد بصرك إليك، لتجد نفسك حبيس كلماتها، ترددها وترددها دون أن ترى خلالها شيئا من حقائق الواقع الفعلي، وإذا لم توافقني في ذلك، ظانا أن العبارة الثانية هي كالعبارة الأولى، ترشد قارئها أو سامعها إلى حقائق عن الإنسان وحياته، بل ربما بدت العبارة الثانية هذه وكأنها «أعمق» أبعادا، و«أغزر» معنى، فراجع نفسك متسائلا في نزاهة العلماء: عن أي الشواهد أبحث لكي أتحقق من صدق هذه العبارة أو عدم صدقها؟ فأولا: هي عبارة تحدثني عن «روحانية الشرق» وما تنفع به بلدان الشرق، فأين حدود هذا «الشرق» يا ترى؟ وهل تطلق كلمة «الشرق» هذه بمعناها الجغرافي، أم يطلقونها على تقسيمات حضارية وثقافية؟ أما إن كانت الأولى فهي - إذن - اسم على غير مسمى معلوم؛ لأن المعنى الجغرافي لكلمة «شرق»، يجب أن يؤسس على خطوط الطول في الكرة الأرضية. ولما كانت بعض الأقطار التي يدرجونها في «الشرق» تقع مع أقطار «الغرب» في خطوط الطول، ويكفيك أن تنظر إلى البحر الأبيض المتوسط، لترى أن شواطئه الشمالية التي هي من أوروبا، وأن شواطئه الجنوبية التي هي من أفريقيا، متساوية من حيث المعنى الجغرافي «للشرق» أو «الغرب»، فهما إما أن تكونا شرقا معا، وإما أن تكونا غربا معا، لكن العرف قد جرى واستقر على أن تكون الشواطئ الشمالية محسوبة على الغرب، وأن تكون الشواطئ الجنوبية محسوبة على «الشرق»، فلا يبقى - إذن - إلا أن يكون المقصود بالشرق في العبارة الثانية، هو إشارة إلى حضارات وثقافات، تختلف عن حضارات أوروبا (ومعها أمريكا) وثقافاتها، فهل ترى شيئا من وضوح المعنى، إذا ضممت الوطن العربي إلى الوسط الأفريقي إلى الصين واليابان والهند وغيرها من أقطار الشرق الأقصى؟
وإنك لتغوص في غياهب الغامض والمجهول، حين تضيف إلى ذلك «الشرق» الذي لم نعرف كيف نحدده لنفهمه كلمة «الروحانية»، فما هي الصفات التي إذا اجتمعت في إنسان، قيل عنه إنه «روحاني» بتلك الصفات؟ وحتى إذا وقعت على شيء من تلك الصفات، فهل تعقل أن تكون قد توافرت لأفراد شعوب امتدت من اليابان شرقا إلى الساحل الغربي من أفريقيا، وهي شعوب قد يبلغ عدد سكانها ثلاثة أرباع أهل الأرض جميعا؟
وقد نفرض جدلا، أنك قد بلغت بفضل الله سعة من العلم، ونفاذا في البصيرة، بحيث يمكنك التصور الواضح لما تعنيه كلمتا «روحانية الشرق»، فماذا أنت صانع فيما أوردته العبارة التي هي مدار حديثنا الآن، عن أدران المدنية الغربية وشرورها؟ أفي مستطاعك حقا أن تكون على علم واف كاف شاف، بما تعنيه «المدنية الغربية»؟ وإنك لتعرف - بالطبع - أن في تلك «المدنية» علوما كثيرة ومنوعة، وفنونا منها التشكيلي في التصوير والنحت والعمارة، ومنها التعبيري في الموسيقى والمسرح، وآدابا، ونظما، ومؤسسات خيرية تضطلع بسد حاجة المحتاج، كما لا بد أنك تعرف أن في ذلك الغرب أسرات عرفت كيف تربي أبناءها وبناتها، وماذا عسى أن أذكره لك من مقومات «المدنية الغربية»، التي جاءت روحانية الشرق فخلصت الشرق من أدرانها وشرورها، لكنني سأفرض جدلا أن علمك بكل هذا واسع وعميق، مما استطعت به أن تنسب إلى تلك المدنية أدرانا وشرورا، هي في رأيك، فوق المعروف المألوف عن شعوب الشرق من أدران وشرور، فهل تحققت يا صاحبي من «الشر» ماذا يكون معناه، لتكتسب الثقة في نفسك، وفي صحة أحكامك، إذا أنت رميت بالشر شعوبا بأكملها تبلغ عدة ملايين في عدد سكانها، ثم هي هي الشعوب التي أحسبها قد أمدتك بكثير جدا مما حولك الآن وأنت تقرأ هذه الكلمات؟ وهكذا ترى أن العبارة الثانية التي قالت: «إن روحانية الشرق هي سبيله إلى الخلاص من أدران المدنية الغربية وشرورها»، لم تكن لها الشفافية المبصرة التي وجدناها في العبارة الأولى، التي قالت: «كانت نافذة مكتبي مفتوحة عندما هبت الريح قوية، فبعثرت أوراقي على أرض الغرفة». فهذه قد مكنتك من النفاذ خلال كلماتها إلى ما هو خارج حدودها، بينما تلك قد أوقفتك عند ألفاظها هي تمسي فيها، وتصبح فيها دون أن تنفذ خلاله كلماتها إلى «صورة» و«تصور»، وإنني لعلى اعتقاد لا أظنه بعيدا عن الصواب، بأنك إذا أخذت ما استطعت أخذه من الناتج الفكري في الثقافة العربية الحديثة، وجدت الغالب عليها هو ذلك النموذج الذي مثلناه بالعبارة الخاصة بروحانية الشرق في مواجهة شرور المدنية الغربية، مما جعلني أتصورنا كأننا ندور في لفظ غير واضح ولا مفهوم، يشبه أن يكون جدارا أقيم بيننا وبين حقائق الواقع الخارجي، ولست أرى مخرجا لنا من سجن كلماتنا إلا بعزيمة من إرادة قوية، تغير من بنائنا العقلي كله، لنعيد إقامته على أساس جديد، يتيح لنا ربط حياتنا الفكرية بوقائع دنيانا ودنيا الناس في هذا الزمان. •••
وبمناسبة ما ذكرناه عن «الشر» الذي يسهل علينا أن نصف به حضارة عصر بأكمله - هو عصرنا - وغير ذلك من ألفاظ ضخمة نقذف بها قذفا، حتى على أقلامنا المسئولة، وكأنها محدودة المعنى وواضحة الدلالة، في حين أنها أبعد ما تكون عن التحديد والوضوح، مما نتج عنه مناخ ثقافي مكثف الضباب مسدود النوافذ، هو الذي نعيش في ظلامه فنتخبط، نثبت اليوم ما ننفيه غدا، وننفي اليوم ما نثبته غدا، حتى في أهم المجالات وألصقها بضرورات الحياة اليومية لمعظم أفراد الشعب، كالتعليم والاقتصاد ولا أقول شيئا عن عالم الفكر، والفن والأدب. أقول إنه بمناسبة هذا الذي ذكرناه في هذا الشأن، أريد أن أستأذن القارئ في وقفة قد تطول به بعض الشيء، أقدم فيها لمحة عن مرحلة فكرية مرت في حياة اليونان الأقدمين، عاشت فيها جماعة من أصحاب الفكر الفلسفي، هي جماعة السوفسطائيين، الذين اشتقت من اسمهم هذا كلمة «سفسطة»، التي شاعت على ألسنة المتحدثين، كلما أرادوا أن يصفوا كلاما يغالط الناس ولا ينتهي بهم إلى نتيجة نافعة، ولقد عرف عن تلك الجماعة براعتهم في الدفاع عن الفكرة المعينة وعن ضدها في آن واحد، ويقال إن براعتهم تلك قد جاءتهم نتيجة تدريب على الخوض في ميدان الحياة السياسية، وفي ميدان القضاء كذلك على زعم مضمر بأن السياسي والقانوني إنما ينجحان بمقدار قدرتهما على الدفاع عن أية قضية فكرية يعرضان لها، مما أصاب الحياة الثقافية كلها في اليونان، بموجة من الشك والتشكيك في إمكان أن يستند الإنسان على حقائق ثابتة لا سبيل إلى إنكارها، حتى ظهر سقراط العظيم، فجعل رسالته الفكرية أن يتصدى لتلك الموجة، وأن يرد للمعرفة الإنسانية الصحيحة يقينها؛ وذلك بأن يطالب ويلح في المطالبة بأن تحدد معاني الألفاظ الهامة، التي يوردها المسئولون في أحاديثهم، كلما أريد بتلك الأحاديث أن تؤخذ مأخذ الجد، وبغير هذه الدقة الصارمة، يشيع العبث ولا تستقيم للناس حياة.
والذي أريد أن أستأذن القارئ فيه، هو أنني سأنتهز سياق هذا الحديث؛ لأنشر وثيقة مأخوذة بنصها، عن سوفسطاني مجهول الاسم، تدور حول لفظي «الخير» و«الشر»، وهل يكون لأي منهما معنى مطلق، أو أنهما نسبيان في معناهما، أي أن ما هو خير قد يكون شرا من بعض وجوهه، وما هو شر قد يكون في الوقت نفسه خيرا من بعض وجوهه.
وكنت قد نقلت هذا النص إلى العربية، ترجمة عن الترجمة الإنجليزية له، التي قام بها أستاذ بريطاني، ونشرها في عدد أبريل سنة 1968م من مجلة «مايند» الإنجليزية، ومعناها «عقل» وهو الأستاذ «راموند كنت اسبريج»، وأود أن أضيف هنا بأن مجلة مايند هي في أعلى مستوى من المجلات الفلسفية، التي منها وحدها يستطيع المتتبع أن يرى في أي الاتجاهات الفكرية تتجه الدراسة والاهتمامات الفلسفية، مرحلة زمنية بعد مرحلة. وهاك النص المذكور الذي نشر بالإنجليزية لأول مرة في ترجمة الأستاذ اسبريج، وينشر هنا الآن بالعربية لأول مرة كذلك.
عنوان الموضوع «عن الخير والشر». (1)
كان المتفلسفون في اليونان، هم الذين قاموا بالمحاجات ذات الوجهين الخاصة بالخير والشر، فكان بعضهم يقول إن الخير شيء والشر شيء آخر، على أن آخرين منهم يقولون إن الخير والشر شيء واحد؛ إذ قد يكون شيء ما خيرا لبعض، وشرا لبعض آخر، أو قد يكون بالنسبة إلى شخص معين واحد، خيرا حينا، وشرا حينا آخر. (2)
إني لممن يؤيدون أصحاب الرأي الثاني، وسأجعل تمحيصي لهذا الرأي منصبا على مثل أسوقه من الطعام والشراب ولذائذ الجنس، فهذه أشياء تكون شرا بالنسبة إلى مريض، ولكنها خير لمن كان صحيح البدن، وفي حاجة إليها. (3)
أضف إلى ذلك أن الإفراط في هذه الأمور، شر بالنسبة إلى المفرط، لكنها خير لمن يجعلها تجارة وموردا لكسبه، وكذلك المرض شر للمريض، لكنه خير للأطباء.
والموت شر لمن يدركهم، خير للحانوتي، وحفار القبور. (4)
كذلك فلاحة الأرض التي تنتج محصولا طيبا، فهي خير لمن يفلحون الأرض، شر على التجار، وكذلك السفن التجارية إذا أصابها عطب، أو تحطمت، فذلك شر لأصحاب تلك السفن ومالكيها لكنه خير لبناة السفن. (5)
أضف إلى ذلك الآلات إذا تآكلت أو انثلمت أو انكسرت، فهو خير للحداد، لكنه شر عند سائر الناس، وإذا تحطمت قدر، فلا شك أن ذلك خير لصانع القدور لكنه شر لسائر الناس، وإذا بليت الأحذية أو تمزقت، فإن ذلك خير للإسكاف، لكنه شر لسائر الناس. (6)
خذ مثلا آخر، مختلف المباريات، رياضية أو موسيقية، أو حربية؛ ففي حلبة السباق - مثلا - يكون السبق خيرا للسابقين، لكنه شر لمن خسروا السباق. (7)
يصدق الشيء نفسه على المصارعين والملاكمين، وكذلك الأمر في جميع المباريات الموسيقية؛ كالعزف على القيثارة - مثلا - فهنا يكون الأمر خيرا للكاسب، شرا للخاسر. (8)
في الحرب بين أهل إسبرطة وأهل أثينا، كان النصر الذي ظفر به الإسبرطيون خيرا لهم، شرا لأهل أثينا وحلفائهم. وفي الحرب بين الأثينيين والميديين، كان نصر الأولين خيرا لهم، كما كان شرا على أولئك البرابرة. (9)
كان الاستيلاء على «اليوم» خيرا للآخيين شرا للطرواديين ، ويصدق هذا أيضا على الكوارث التي حلت بأهل طيبة وأرجيف. (10)
ثم ما هو أكثر من ذلك، وأعني المعركة التي دارت بين الآلهة والمردة (جمع مارد)، فلقد كانت خيرا للآلهة شرا للمردة. (11)
لكن هناك حاجة أخرى تقول إن الخير شيء والشر شيء آخر، فكما أن هذين اللفظين اسمان مختلفان، فكذلك يختلف الشيئان المسميان بهما، وإني لآخذ بهذا التمييز، إلا أنني أرى أن اللبس يظل قائما، فأي الأشياء هو الخير، وأيهما هو الشر؟ وذلك إذا ما جعلنا الاسمين يشيران إلى مسمى واحد، وإذا لم يختلف أحدهما عن الآخر. الواقع أن زعما كهذا إنما يخرج بنا على المألوف. (12)
فإذا ما زعم زاعم مثل هذا الرأي، فإنه في ظني يعجز عن الجواب، إذا ما سأله سائل، قائلا: خبرني، هل حدث أن قدم إليك والداك الخير ولو مرة واحدة؟ فيجيب عندئذ بقوله: نعم قد قدما لي خيرا كثيرا. وهنا يرد عليه بقول كهذا: إذن فأنت مدين لهما بشرور كثيرة، ما دام الخير والشر معا يشيران إلى مسمى واحد. (13)
هل قدمت مرة لأقربائك خيرا؟ نعم قدمت إليهم خيرا كثيرا. إذن، فقد كنت تلحق بهم الضرر (ما دام الخير هو نفسه الشر)، ثم هل أنزلت الضر مرة بأعدائك؟ نعم إني كثيرا ما فعلت ذلك. إذن فقد صنعت لهم أعظم الخيرات. (14)
هيا أجبني عن هذا السؤال إذا مررت بالسائلين إحسانا، ألست في الوقت الواحد تشفق عليهم لما لديهم من شر كثير، وتحسبهم ذوي حظ حسن لما لديهم من خير كثير؟ وذلك لأنك قد رأيت الخير والشر اسمين على شيء واحد. (15)
إنه لا تناقض (إذا أخذنا برأيك) في أن يقال عن ملك عظيم: إنه في الحالة نفسها التي ذكرناها عن السائل، فما لديه من خيرات كثيرة وعظيمة، هي في الوقت نفسه شرور كثيرة وعظيمة، إنه إذا كان الخير والشر يشيران إلى شيء واحد، كان لنا أن نجيز أقوالا كالتي ذكرناها في جميع الحالات. (16)
سأنتقل الآن إلى حالات جزئية معينة، بادئا بالطعام والشراب ولذائذ الجنس ، فإذا كان الخير والشر حقا شيئا واحدا، جاز القول بأن تلك الأشياء كلها مضرة بالمريض، ولكنها في الوقت نفسه خير له، بل إنه إذا كان الخير والشر حقا اسمين على مسمى واحد، كان المرض خيرا للمريض وشرا له في آن واحد. (17)
يصدق هذا على جميع الحالات التي أسلفنا ذكرها في المحاجة السابقة، ولست أريد أن أقول ما هو الخير، وإنما أردت أن أوضح بأن الخير والشر ليسا شيئا واحدا، فالخير شيء والشر شيء آخر.
ومعذرة إلى القارئ إذا كنت قد أتعبته بهذا النص الطويل، والواقع أني أردت بنشره توضيحا للفكرة الأساسية التي أقدمها في هذا الحديث، فها هو كاتب ذلك النص قد أقام الدليل على قدرته في أن يتبنى قضية وضدها في آن واحد، فبعد أن دحض الزعم بأن الخير والشر شيئان مختلفان، وساق أمثلة كثيرة على أن الخير هو هو نفسه الشر، وكل ما هو في الأمر هو أنه خير بالنسبة إلى إنسان معين وشر بالنسبة إلى إنسان آخر، أو كما نقول نحن في ذلك: مصائب قوم عند قوم فوائد، عاد فتبنى الرأي المضاد، وهو استحالة أن يتحد الخير والشر في شيء واحد. فكيف استطاع البرهنة على الضدين؟ إنه استطاع ذلك لأنه استخدم كلمتي الخير والشر دون أن يورط نفسه في تعريف علمي دقيق لكل منهما، ولو فعل ذلك لزال اللبس، وتعذر عليه أن يدافع عن الضدين، وإلا فهل كان يستطيع - مثلا - أن يبرهن على أن «المربع» و«المثلث» اسمان على شكل هندسي واحد، إنه بالطبع لم يكن ليستطيع ذلك؛ لأنه عندئذ يواجه حدودا محددة بتعريفاتها الرياضية الدقيقة، وتلك هي الرسالة التي اضطلع بها سقراط في تاريخ الفكر، وهي ضرورة التحديد بتعريفات حاسمة وفاصلة للأفكار الهامة، التي نتعامل على أساسها في حياتنا المشتركة.
لقد أسلفت لك موازنة بين عبارتين، إحداهما شفافة تنقل قارئها مباشرة إلى الأمر الواقع، الذي جاءت تلك العبارة للتحدث عنه، والأخرى معتمة بمعنى أنها تعجز بألفاظها أن تنقلك إلى أمر واقع معين ومحدد، وبالتالي فإن قارئها - شعر أو لم يشعر - يجد نفسه وقد حبس في ألفاظها، يرددها حتى ليتوهم من كثرة ترديدها أنها حقا تعني شيئا في دنيا الأشياء والأحداث، على أن تلكما الحالتين: أعني حالة الكلام الذي تنفذ خلاله إلى ما يعنيه في عالم الأشياء، وحالة الكلام الذي يحبسك في حبائله اللفظية، أقول: إن تلكما الحالتين: إنما يقابلان في الحياة الثقافية نوعين من الإنتاج الفكري والأدبي: أولهما هو «العلوم» وثانيهما هو «الأدب»؛ فالجملة العلمية لا بد لها من تلك الشفافية التي تنقلنا إلى عالم التطبيق، وأما الجملة الأدبية فمن حقها أن توقفك عند تركيبها اللفظي، وحتى إن كانت تتضمن آخر الأمر ما يشير إلى جانب من جوانب الحياة التي يعيشها الناس، فذلك يكون عن طريق غير مباشر.
إلى هنا ولا ضير علينا في أن يكون للعلم لغته الدالة على ما هو واقع خارج حدودها، وأن يكون للأدب لغته كذلك، التي تنكفئ على نفسها، لكن هنالك نوعا ثالثا هو مصدر الخطر كله، إذا ما شاع في ثقافة معينة عند شعب معين في عصر معين، فقل إن على الحياة في تلك الظروف ألف سلام؛ لأن الأقلام عندئذ تكتب، والألسنة تتكلم، ولكن دون أن يتغير من دنيا الواقع شيء! لماذا؟ لأنه كلام يساق على صورة توهم بأنه يشبه الأقوال العلمية في إشارتها إلى عالم التطبيق، ولكنه في حقيقته كلام ينكفئ على نفسه فيردد الناس ألفاظه، ثم لا يتغير من حياتهم شيء، ولا يفوتنا هنا أن نفرق بينه وبين «الأدب»؛ لأنه إذا كان يشبه العبارة الأدبية في انطوائها على ألفاظها، فالفرق هو أن للأدب معاييره، التي إذا ما روعيت كان للأدب شكله الأدبي من جهة، ثم كان له الإشارة إلى الحياة الفعلية بطريق غير مباشر من جهة أخرى، وأما ذلك الكلام الممسوخ الذي أعنيه والذي هو مصدر الخطر كله، فهو - كما قلت - يوهم بأنه يحمل فكرا، ولكن الفاحص لن يجد في ثنايا لفظه شيئا اللهم إلا التركيب اللفظي ذاته، وكان الله يحب المحسنين.
إنه لا خطورة في «علم» يقدم إليك ما تنفذ به إلى عالم التطبيقات العملية كلما أردت ذلك، ثم لا خطورة في أدب يقدم إليك من التشكيلات اللفظية، ما يتركك وفي نفسك أثر من الخبرات البشرية التي إن لم تكن مأخوذة من الواقع المباشر، فهي موازية لذلك الواقع، كما يحدث لمن يقرأ من الأدب الجيد شعرا أو رواية أو مسرحية أو مقالة، لكن الخطورة كل الخطورة هي في ذلك الصنف الثالث اللعين، الذي قد يشبه كلام العلم وهو ليس من العلم في شيء، وقد يشبه كلام الأدب والأدب الحق منه بريء، وإنني لزعيم لك، راجيا أن أكون مخطئا فيما أزعمه، بأن مناخنا الثقافي في معظمه، هو من ذلك الصنف الثالث، وكذلك من هذا الصنف نفسه كان النص الذي نقلته إليك عن السوفسطائي اليوناني المجهول، ولعلك تدرك الآن لماذا قدمته؟ والذي هو وأشباهه من ضروب القول، قد حفز سقراط إلى أن يرفع للناس قوائم الميزان.
إلا أننا ونحن غرقى في مثل هذا الضباب الذي تنطمس به معالم الطريق، لأشبه بمن أحاطت به الجدران فحالت بينه وبين الواقع ليتعامل معه، فهلا اخترقنا تلك الجدران بضروب من القول الذي يهدي وينفع؟
من ذا يزيح هذا الضباب؟
إنك لتسعى وراء المحال، لو سعيت وراء معنى واحد محدد، لا لبس فيه ولا غموض لكلمة «ثقافة»، فهي أقرب إلى متاهة تشابكت فيها المسالك وتشابهت، أو هي كالغابة تكاثرت أشجارها وضاقت طرقاتها؛ ففي كلتا الحالتين، وأعني المتاهة والغابة، يصعب على المرشد أن يصف الطريق لسالك - يريد أن يستطلع أجزاءها وأطرافها وحدودها - ثم يضمن لنفسه الخروج دون أن يضل الطريق. ولماذا كان اسم «الثقافة» بهذا التعقيد كله وبهذا الغموض كله؟ يبدو أن السر في ذلك هو أن هذا الاسم لم يطلق على مسمى محدد معلوم، وإنما هو كطائفة كبيرة جدا من الأسماء في أية لغة شئت، قد أطلق على «محصلة» لعدد ضخم من العوامل المتجاورة أو المتفاعلة، بحيث يجوز لك أن تجتزئ ما شئت من تلك العوامل، لتطلق عليه الاسم ذاته الذي تطلقه على العوامل كلها مجتمعة ومتفاعلة، وإلا فأين هو المسمى لكلمة «تعليم»؟ إن ثمة جهازا طويلا عريضا متعدد الأقسام والأجزاء، من مدارس وإدارات تموج بالأفراد أشكالا وألوانا، وذلك الجهاز الضخم بكل ما فيه ومن فيه، هو ما تشير إليه كلمة «تعليم»، لكنك أيضا تستطيع، بغير خلل في استخدام الكلمة، أن تشير بها إلى مدرسة واحدة، أو مجموعة من مدارس، وحتى الأسماء التي أدخلت في لغة الناس لتشير إلى فرد واحد، إذا أنت أمعنت فيها النظر، وجدتها قد تطلق على الكل أو على أي جزء منه، وخذ اسم «القاهرة» - مثلا - تجد مسماه شاملا للمدينة كلها، مقصورا على بعض أجزائها أحيانا؛ إذ في وسعك أن تشير إلى حي من أحيائها، لمن يسألك: أين القاهرة؟ فتجيبه: هي هذا الذي أنت الآن فيه. وشيء من هذا يقال عن «الثقافة»، فهي كالمدينة الواسعة المتعددة الوجوه المتباينة النشاط، ولك أن تطلق الاسم على أي جانب منها أو مجموعة جوانب، دون أن يكون في مستطاعك أن تحصر جميع أجزائها حصرا شاملا، إنها كالحياة ذاتها، تعرفها من نبضة واحدة في كائن حي واحد، كما تعرفها من مجموعات الأحياء التي تراها في حشد من الناس، أو في جماعة من الطير وغير الطير من أحياء.
ولكم سأل سائل: ما هي «الثقافة»، ومن هم «المثقفون»؟ ولكم أجاب المجيبون بإجابات مختلفة كلها صحيحة، وإنني لأروي عن نفسي في أربع لحظات متباعدة، كنت في كل لحظة منها أطالع تعريفا للثقافة جديدا بالنسبة إلى علمي في تلك اللحظة، فأحس فرحة من وقع على نفيسة من النفائس، صائحا لنفسي: نعم! هذا هو التعريف الذي يفضل ما عداه! وكانت أولى تلك اللحظات الأربع، عندما كنت أقرأ ذات يوم بعيد مجلة إنكليزية في اللغة، ولكنها تصدر في الهند، وكان الموضوع الذي أطالعه تحت هذا العنوان «من هو المثقف؟» وإذا بالإجابة عند كاتب المقال، هي أن المثقف يميزه أن يكون «طلعة» (بضم الطاء وفتح اللام)، أي أن يكون ميالا لاستطلاع المجهول، وأخذ الكاتب يحلل ويسهب في التحليل، مما خرجت به مقتنعا بأن ذلك حقا هو التعريف الصحيح، وكان مما زادني اقتناعا، هو ما كنت أعلمه قبل ذاك، من أن أحد التعريفات التي حدد بها اليونان القدماء «الفلسفة» هو أنها «حب استطلاع المجهول». وأما اللحظة الثانية فكانت أيضا عندما كنت أقرأ مجلة أمريكية، لا أظنها معروفة لكثيرين، لكنها على درجة من العمق قل أن «تنافسها» مجلة أخرى، وترجمة عنوانها هي كلمة «العلامة» الأمريكي (بتشديد اللام)، أو ربما كانت الترجمة الأصح هي «البحاثة» الأمريكي (بتشديد الحاء)، ولاختيار هذا العنوان لتلك المجلة قصة يحسن الإشارة إليها: وهي أن ذلك كان هو نفسه العنوان الذي اختاره «إمرسن» لمحاضرة ألقاها في إحدى الجامعات الكبرى بالولايات المتحدة (لعلها جامعة هارفورد) وكان ذلك في منتصف القرن الماضي، فاشتهرت تلك المحاضرة شهرة واسعة؛ لأنها كانت صيحة، يمكن أن يقال عنها إنها الحد الفاصل في تاريخ الثقافة الأمريكية بين عهدين: فما قبلها كانت الثقافة الأمريكية مجرد أصداء تردد ما يدور في أوروبا، وأما ما جاء بعدها، استجابة لصيحة «إمرسن» فمحاولات جادة نحو أن يبدع المبدعون الأمريكيون «ثقافة أمريكية لحما ودما»، فكان ذلك هو ما أرادته المجلة المذكورة شعارا لها. ونعود إلى ما كنا فيه من حديث، عما قرأته في تلك المجلة تحت عنوان «المتنورون» أو قل «الصفوة»، وهنا كان تحديد «المثقف» مرهونا بقدرته على تحليل الأفكار، تحليلا يبين الفواصل الحادة بين فكرة وفكرة، حتى لو كانتا شبيهتين، ثم تحديد الفواصل الفارقة بين المكونات الجزئية التي تدخل في تركيب الفكرة الواحدة؛ وذلك لأن الأفكار لو تركت في عموميتها لصارت في متناول العامة، ثم صارت في الوقت نفسه مصدرا للخلط والتخليط، بحيث يسهل على كل من شاء أن يسيطر على عامة الجمهور، أن يقودهم إلى حيث يريد لهم أن يقادوا، مستخدما في ذلك فكرة أو أفكارا من تلك الغوامض، التي سهل على عامة الناس أن يرددوها، بمقدار ما صعب عليهم أن يفهموها.
وكانت اللحظة الثالثة من تلك اللحظات الأربع هي تلك التي أدركت فيها لأول مرة، إدراكا قويا وواضحا، أن الفكر الفلسفي قوامه «منهج» في تحليل المعاني ، دون أن يكون له بالضرورة «موضوع» معين خاص به، يحتكره لنفسه، حتى ليمكن تعريف الفلسفة من هذه الزاوية، بأنها «علم المعاني»؛ لأن المادة التي تصب عليها فاعليتها، هي تلك المعاني الأساسية المحورية، التي تدور حولها رحى الحياة الفعلية كلها: ونحن إذا قلنا إن تلك هي العلامة المميزة للفكر الفلسفي، فكأننا قلنا في الوقت نفسه، إنها هي العلامة المميزة للمثقف، بحيث تصبح الدرجات التي يتفاوت بها المثقفون، هي نفسها الدرجات التي تتفاوت بها قدراتهم على تحليل المعاني، بمقدار ما يستطيع إنسان معرفة العناصر المكونة لفكرة ما، يكون نصيبه من فهم تلك الفكرة.
وأما اللحظة الرابعة، التي زودتني بإضافة بعيدة المدى لمعنى «الثقافة»، من هم «المثقفون»، فهي تلك اللحظة التي بدأت عندها أتبين كم من الأسماء، في أية لغة من لغات البشر، لا يتحدد معناها بأن نجد شيئا محددا نشير إليه بحيث نقول: هذا هو المسمى المقصود بذلك الاسم، بل إن معناه هو عدد لا يحصى من جزئيات مؤتلفة أو متفاعلة، ويصح إطلاق الاسم على المجموع كله، كما يصح إطلاقه على أي جزء منه؛ ومن هذا القبيل كلمة «ثقافة»، ولنضرب مثلا واحدا نوضح به ما نريد، ثم ننتقل بعده إلى ما نعتزم الانتقال إليه؛ فافرض أننا في فصل الربيع، وسألك سائل: أين هو الربيع؟ فإلى أي شيء تشير؟ إن الربيع «محصلة» عناصر كثيرة، فالأشجار تورق، والعصافير تزقزق، والهواء يطيب، والأزهار تتألق، إلخ إلخ، فإذا استطعت فاجعل الإشارة إلى كل هذه العناصر، لتبين لصاحبك حقيقة الربيع، وإذا شئت فاجعل إشارتك إلى ظاهرة واحدة كتغريد العصافير؛ لأنها تكفي.
عد إلى تلك اللحظات الأربع التي أضفت لنفسي عند كل لحظة منها بعدا جديدا في معنى «الثقافة»، كانت الأولى حب الإنسان لاستطلاع المجهول، وكانت الثانية إقامة الفواصل الحادة والفارقة بين فكرة وفكرة، لا سيما إذا كانتا متشابهتين، وكانت الثالثة أن ينظر الباحث إلى الأفكار السائدة بمنهج يردها إلى أصولها لتزداد وضوحا، وكانت الرابعة أن ننبه إلى أن كثيرا جدا من الأسماء ، لا يشير الاسم الواحد منها إلى شيء واحد، بل يشير إلى محصلة مجموعة هائلة من العناصر المتجاورة، والمتزامنة، والمتفاعلة، بعضها مع بعض؛ فإذا ألقيت نظرة مقارنة بين تلك النقاط الأربع، لحظت أمرين: أولهما، أنها جميعا تتعلق بالمعرفة التي هي أقرب إلى المعرفة «العلمية» عن الأشياء، وثانيهما هو أنها جميعا تتصل بالرغبة في «وضوح» الأفكار، وتخليصها من اللبس والتداخل، والغموض، وليست الحياة الثقافية لفرد، أو لشعب، مقصورة على تلك الوقفة العلمية وحدها، وهي الوقفة التي ترتكز على «أفكار»، ثم على أن تكون تلك الأفكار «واضحة»، بل إن هنالك في الحياة الثقافية جوانب أخرى أوضح من أن يغض عنها بصر، وأعني مجموعة القيم الإنسانية المبثوثة في الدين، وفي الفن، وفي الأدب، وفي كثير من التقاليد والأعراف، لكننا نريد أن نحصر حديثنا هنا على الوقفة العقلية وحدها، وهي الوقفة التي تنتمي إليها النقاط الأربع التي ذكرناها، على أن يكون مفهوما في وضوح أن الحياة الثقافية وهي معاشة وممارسة في الوجود الفعلي، لا تتجزأ بين فروعها، بل إنها لتتوحد مع حاملها وعائشها وممارسها، في «رؤية» واحدة، أو «وجهة نظر» واحدة، أو «حساسية» واحدة.
وبعد هذا التحوط الذي كان لا بد من التحوط به حرصا على الدقة، نسأل أنفسنا: كم يا ترى من تلك الجوانب المكونة للجانب العقلي من الحياة الثقافية، قد تحقق لشعبنا المصري، أو لأمتنا العربية بوجه عام؟ كم عند المواطن العادي من حب استطلاع المجهول، والمجهول المقصود هنا، ليس بالطبع أسرار الناس في حياتهم الخاصة، بل هو ما يتصل بحقائق العالم وطبائع الأشياء، كم يعرف المواطن العادي، وكم يريد أن يعرف عن تفصيلات بيئته وكائناتها، من نبات وحيوان وبحر ويابس؟ كم يعرف وكم يحس الرغبة في أن يعرف عن حقائق الشعوب الأخرى، وعقائدها، وفنونها وآدابها وعلومها؟ إنه قد لا يكون العيب الذي يعاب على الجاهل هو أنه يجهل، بقدر ما يكون العيب الذي يعاب به هو أن يجهل ثم لا يريد أن يعرف.
ذلك عن النقطة الأولى، وأما الثانية التي هي إيجاد الفواصل بين الأفكار، رغبة في الوضوح، فحسبك جملة واحدة تلقفها من أي مواطن عربي تتحدث إليه - وأعني متوسط المواطن ممن ندخلهم في زمرة «المثقفين» - لنقف معه عند تلك الجملة الواحدة، سواء أكانت في السياسة، أو في النقد، أو حتى في الحياة العامة، لترى كم تتضح له الأفكار التي يتحمس لها، أو التي يتحمس عليها، فافرض - مثلا - أن محدثك قد أورد في سياق حديثه جملة كهذه: إن حضارة هذا العصر حضارة مادية، أو أننا نسعى إلى إقامة عدالة اجتماعية، أو أن الوزن في الشعر الحديث موسيقاه داخلية، أو أن اللغة العربية لغة صحراوية (وكل هذه الجمل سمعتها من المتحدثين إلي منذ قريب)، وافرض كذلك أنك لم ترد لهذه الألفاظ أن تفلت من محاكمات العقل، فسألت محدثك: ماذا تعني بصفة «المادية» عندما تصف بها حضارة بأسرها، وماذا تعني ب «العدالة» أولا، وبها وهي «اجتماعية» ثانيا؟ وماذا تعني بالموسيقى «الداخلية» التي زعمتها للشعر الحديث؟ وأخيرا ماذا تعني ب «صحراوية» اللغة العربية؟ ولاحظ «أرجوك» أنني لا أريد مقدما أن أرفض هذه الدعاوى؛ فقد يكون بعضها أو جميعها صحيحا، لكن الذي أريد هو أن أتحقق من أن المثقف صاحب هذه العبارات قد أخذ نفسه أخذا بألا يلقي بكلماته جزافا، وبأن يكون قد حاسب نفسه ليستوثق بأنه يعرف على وجه الوضوح الناصع، معاني كلماته، فكم منا هو على هذه الدقة في ألفاظه ومعانيها؟
والنقطة الثالثة إنما هي النقطة الثانية بعد أن تتبلور في صور منهجية لتصبح «وقفة» عامة في حياة الإنسان، وليس مجرد حالات فرادى لا رابط لها يربطها معا في أسرة واحدة، فلا يكفي أن أطالب نفسي بدقة المعنى في هذه الحالة، وفي هذه، وفي تلك، بل يجب أن يتحول الأمر معي إلى طريقة حياة - وأعني بالطبع الحياة الفكرية - والذي أود أن أؤكده للقارئ في هذا الصدد، هو أن الأغلب المرجح في حياتنا الفكرية، أن يتعامل «المفكرون» و«النقاد» بل و«العلماء» أحيانا، برواسم لفظية (أعني «كليشيهات») يقولها القائل مفترضا فيها الوضوح، ويسمعها السامع مفترضا فيها الوضوح، ثم ينتهي بها الأمر عند هذا الافتراض الزائف، لماذا تتعجب أن ما ينشر وما يذاع من «أفكار» لا يغير الناس إلا بالقدر الذي لا تلحظه عين؟ كم ألف ألف مرة قيلت فيها كلمات «الحرية» و«الديمقراطية» و«المساواة» و«الانتماء الوطني» و«التعاون» و«التعاطف» ومراعاة المال العام وكأنه مال خاص، إلخ إلخ، ومع ذلك إلى أي حد تشربت النفوس هذه المعاني، تشربا يتحول معها إلى سلوك؟ أقول: لماذا نتعجب من أن تعليمنا وإعلامنا، لا يؤديان إلى سلوك جديد، أليس السبب في ذلك واضحا، وهو أنها «كليشيهات» تجري على الألسنة والأقلام، وأما معانيها الحقيقية فالله وحده أعلم كم منها وضح أمام العقول.
وبقيت النقطة الرابعة، وهي بدورها دعوة إلى الوضوح الفكري؛ إذ هي تنبيه إلى حالات لا حصر لها في دنيا التفاهم، توهمنا واحدية «الاسم» فيها، بواحدية الواقع المشار إليه بذلك الاسم الواحد، فنقول - مثلا - «لغة» ونظن أننا نشير إلى كائن موحد بسيط، ونكاد ننسى أن اللفظة الواحدة من ملايين المفردات التي تدخل في اللغة الواحدة، هي في حد ذاتها «قبيلة» من حالات يعد أفرادها بالملايين: فهي آنا منطوقة، وعندئذ تكون كائنا صوتيا، ويكون العضو الذي يتلقاها هو «الأذن»، ولك أن تتخيل كم يختلف بها النطق عند الناطقين، ثم هي آنا آخر مكتوبة، وعندئذ تكون كائنا ضوئيا تتلقاه العين، ولك أن تتخيل هنا كذلك، على كم وجه يفهم قارئوها ما تحمله إليهم من معنى، هذا إذا كان لها قارئون؛ لأنها قد تبقى على صفحتها جثة مدفونة في كتاب، إلى أن تتبدل الأرض غير الأرض والسماء.
وإذا كانت كل نقطة من النقاط الأربع، وهي التي عددناها أركانا من أركان الحياة العقلية في المثقف الواحد، وفي جملة الحياة الثقافية، هي غائبة أو كالغائبة من حياتنا، فالذي هو أشد فيها غيبة ذلك المناخ الثقافي العام، الذي ينسج من خيوط وخيوط سواها من العوامل الثقافية الأخرى، فذلك المناخ العام - إذا وجد - تحققت لنا به رؤية مشتركة، أو قل حساسية مشتركة، نحس بها إحساسا مباشرا صحة الصحيح وخطأ المخطئ، فيجتمع معظمنا على أحكام واحدة، فيما نقبله وما نرفضه، لكن انظر باحثا عن مثل هذه الحساسية المشتركة في حياتنا، تجدها معدومة أو كالمعدومة، فزيد يرى يمينا، وخالد يرى يسارا، وعمرو ينظر وراءه، وأسامة ينظر أمامه، ولو كنا أمة ولدت بالأمس لقلنا: لا علينا، فغدا سنتعلم كيف يسودنا رأي عام ووجدان عام وهدف عام، لكننا أمة عاشت من الدهر ما عاشت، ولقد عاشته موحدة القلوب في معظم عصورها، بدليل أنها أقامت حضارات وثقافات، وما كانت الحضارة مما قد أقامته لتكون حضارة ولا الثقافة ثقافة إذا لم تكن موحدة النظر بوجه من الوجوه، إذن لا بد أن يكون قد طرأ عليها في هذا العصر طارئ جديد، فكك عراها، وفتت أجزاءها ففقدت وحدتها الفعلية والوجدانية، وفقدت - بالتالي - قدرتها على الإبداع، أتدري ما هو ذلك الطارئ الذي طرأ، إنه هو اصطدامها بحضارة جعلت محورها «العلم» و«الصناعة» أو التصنيع، فجاءت حياتها الثقافية - أعني الثقافية المصاحبة لهذه الحضارة الجديدة - متناغمة معها روحا واتجاها، ولم نكن نحن نألف قبل الآن أن يكون العلم وأجهزته، هو المدار، وهو الهدف، وهو قوائم البناء، والذي ألفناه هو أن تكون «الكلمة» وليس «الآلة» هي ميدان القول والعمل معا، ولم يكن في طبيعة البشر ما يحول بيننا وبين أن نلبس لهذه الحضارة الجديدة لبوسها، من اهتمام بالعلم تحصيلا وإبداعا وتطبيقا، ومن تقبل لما يترتب عليه من منهج تجريبي علمي ننتهجه كلما نظرنا في أمر من أمورنا، خصوصا وتاريخنا يشهد باستعدادنا للتفكير على منطق العقل، الذي هو عماد الحياة العلمية، لكن شيئا في تاريخنا الحديث حال دون ذلك، ولعل أهم عناصره هو أن تلك الحضارة العلمية جاءتنا في صحبة مستعمر، فقاومناه ورفضنا ما اصطحب من ثقافة، ولو شاء الله لنا الهدى، لفاوضناه في شخصه وسلبناه ما جاء في صحبته، فربما كان مكتوبا لنا في تلك الحالة أن نسبقه في مضماره، وهكذا فعلت اليابان، لكننا لم نفعله، ولا أدري إذا كان عامل آخر له ثقله وخطره قد أضيف إلى العامل الأول، فزهدنا في الحضارة العلمية، إلا أن نتعلم علومها حفظا باللسان، في معاهدنا وجامعاتنا، وذلك العامل الثاني هو أن معارفنا التقليدية كانت هي البضاعة الرابحة عند كثيرين منا، فأصبح من أهم المهام عند هؤلاء، أن يدافعوا عن بضاعتهم
ولقد تحداني من تحدى، قائلا: هات برهانك على «اللاعلمية» المزعومة في وقفتنا الثقافية، ما هي المزالق التي ترى أننا ننزلق بها في متاهات الخطأ والغموض في حياتنا الفكرية؟ قلت له مجيبا: سأسوق إليك أمثلة عفو الخاطر، لأبين لك بها كم نقع في غموض الفكر ونحن لا نشعر، ولا تؤاخذني إذا رأيتني أسوق أمثلة قد تبدو في ظاهرها تافهة، ولكنها دالة على ما نريد التدليل عليه.
فأول تلك المزالق، أننا قد ننظر إلى عدة أفكار أدمجت كلها في جملة واحدة، فنظن أننا ما دمنا أمام جملة واحدة، فنحن بالتالي أمام فكرة واحدة، وعندئذ نستبيح أن نصفها كلها بالصواب، أو أن نصفها كلها بالخطأ، فافرض أن قائلا قال عن شباب أمتنا هذه العبارة: «إن الشباب لضعفه ويأسه، قد فقد كثيرا من روحه المعنوية، فاحتمى بالتطرف الفكري.» أليس مألوفا بيننا أن نصف مثل هذا القول إما بصحة وإما ببطلان، وكأنه يحكي عن حقيقة واحدة تقبل كلها أو ترفض كلها؟ لكن انظر عن قرب إلى هذا القول كم حقيقة جاءته في عبارته، بحيث لا تكون الصحة والخطأ في إحداها، متوقفة على الصحة والخطأ في الأخرى، فكل منها من حيث الصحة والخطأ مستقل وحده؛ ففي هذا القول الواحد المزاعم الآتية من قائله: (1)
الشباب ضعيف. (2)
الشباب يائس. (3)
فقد الشباب روحه المعنوية. (4)
لجأ الشباب إلى التطرف الفكري.
وأرجوك أيها القارئ أن تلاحظ مرة أخرى أن هذه الوحدات المزعومة كل منها مستقل بصوابه أو خطئه؛ إذ قد يكون الشباب ضعيفا لكنه غير يائس، وقد يكون ضعيفا في روحه المعنوية، لكنه لم يتطرف في فكره، وهكذا، إذن فلو أراد قارئ هذه العبارة أن يحكم عليها بما يضمن له الوضوح والدقة، وجب أن يحكم على أجزائها جزءا جزءا، قبل أن يصدر حكما واحدا يشملها جميعا في نفس واحد.
هذا مثل تبدو عليه بساطة قد تصل إلى حد التفاهة، أليس كذلك؟ ولكن ماذا تقول إذا أنبأتك بأن تيارات التطرف الديني وغير الديني، التي تغمرنا اليوم بموجها وتصم آذاننا بهديرها، وهي أمثلة مكبرة لهذا المثل البسيط التافه، فسر المتطرف هو أنه يحكم على الآخرين جملة واحدة بالبطلان، وكأن هؤلاء الآخرين قوامهم كله جملة واحدة بسيطة مكونة من مبتدأ وخبر! ومن هذا القبيل نفسه أن يحكم ناقد على كاتب أو على شاعر، بحكم مبتسر متسرع، وكأن ذلك الكاتب قد كتب سطرا واحدا قليل الكلمات، وكأن هذا الشاعر قد نظم بيتا واحدا من الشعر، وهل أنسى أستاذا فاضلا أصدر حكمه على جماعة من كتابنا، بأن «كل» ما كتبوه ضلال وإضلال! ولو وقف عند صفة «الضلال» لأمكن الافتراض بأن الرجل قد خصص خمسين عاما من عمره، لقراءة ما كتبه هؤلاء، صفحة صفحة، وجملة جملة، فوجد ما يبرر له هذا الحكم الجارف، إلا أنه أضاف صفة «الإضلال»، أي أن هؤلاء الكتاب قد تعمدوا أن يضللوا قراءهم بما يكتبون، وذلك أمر يتصل بالنوايا، فكيف كشف فضيلته عن نواياه ليحكم، إنني لا أشك لحظة واحدة في «فضل» فضيلته، ولكنني أقول إنه المناخ الثقافي العام الذي نتنفس هواءه الفاسد، قد زكم أنوفنا، فأصبحنا نحكم على الأفكار، والمذاهب، والشعوب، والحضارات، والثقافات، «بالجملة» فنتورط في خطأ محتوم.
كان ذلك - إذن - أول المزالق في حياتنا الفكرية، وثانيها هو الخلط بين فكرة الأساس، والفكرة المستدلة منها، فنحسبهما شيئا واحدا، ونحكم عليهما بحكم واحد. ولأضرب لذلك مثلا له أهميته في تاريخ الفكر، فليس هو بالأمر النادر، حتى بين العلماء أن يصفوا حواس الإنسان بأنها قد «تخدع» صاحبها، فترى الشمس وتحسها في حجم الدينار، فتظن أنها بحجم الجسم الصغير به، وهذا المثل ساقه أبو حامد الغزالي مع غيره في كتابه «المنقذ من الضلال»، ليستشهد به على «خداع الحواس»، وحقيقة الأمر هي أن العين ترى ما تراه ولا خداع، وإنما وقع خطأ عقلي في عملية «الاستدلال»؛ إذ لو استقامت العملية الاستدلالية، لحسبت المسافة بين الشمس والأرض، وبناء على قوانين «المنظور» نتعرف من القرص الشمسي الصغير الذي تراه العين، كم يكون حجمه الطبيعي في الواقع، فها هنا حقيقتان: حقيقة أبصرناها بالعين، وحقيقة أخرى استنبطناها بالعقل من الحقيقة الأولى، فإذا ظن ظان أن الشمس في حجمها الطبيعي هي كما رأتها العين، لم يكن الخطأ في ذلك خطأ العين، ولكنه خطأ في العملية الاستدلالية. وقد نفيد كثيرا من هذا المثل على الخلط بين فكرة الأصل وفكرة مستدلة منها، وهو ما قد يخطئ فيه الإنسان عند استدلاله؛ فالإسلام كتابه واحد، لكن كان لكل مذهب من مذاهب المسلمين طريقة في استدلال مبادئه المذهبية من الكتاب، ومرة أخرى نذكر القارئ بأن خطأ كهذا، لا يقتصر على نفسه، بل كثيرا ما يجوز حدود نفسه، ليصبح تزمتا وتعصبا من اتباع مذهب معين ضد أصحاب المذاهب الأخرى.
وأضيف إلى المنزلقين المذكورين منزلقا ثالثا، ثم أكتفي؛ فالعقل المدرب على دقة الفكر ووضوحه، يحرص أشد الحرص على أنه إذا ما استخرج نتيجة مضمونة من فكرة مطروحة، وجب أن تكون النتيجة المتولدة كلها مضمرة في جوف الفكرة التي استولدناها، لكننا نلاحظ في حالات كثيرة من حياتنا الثقافية، كيف نستنتج شيئا لم يكن مضمرا في الأساس الذي نستنتج منه، ولو كانت تلك الحالات هامشية كلها، لأهملناها، لكنها قد لا تكون كذلك، فمثلا تعرض على الناس حقيقة علمية عن النبات أو الحيوان أو غيرها من خلق الله سبحانه، وبعد أن تبين كم تنطوي تلك الحقيقة العلمية على مذهلات، تستدل من ذلك ما ليس لك حق في استدلاله، كأن تستدل شيئا يتصل بالإيمان الديني؛ لأن في ذلك خلطا أعتقد أنه يضر أكثر مما ينفع؛ لأن الجانب الإيماني تظل قوته - حتى لو بطلت الحقيقة العلمية التي تقدم لتكون سندا له وخطورة مثل هذا الخلط - هي في أنها قد تجاوز حدود الموضوع المعروض، لتكون «عادة» عقلية، وعندئذ يسهل في دنيا السياسة مثلا، أن تستدل للجمهور من أي شيء فيصدقوك.
فيا صاحبي، إنه لضباب أكثف مما تظن، يكتنف حياتنا الفكرية، فهلا دللتني على ما يزيح عنا هذا الضباب لعلنا نرى؟
وقفة عملية هادئة
كنت ذات عام قريب، قد جعلت «فلسفة اللغة» موضوعا لمحاضراتي مع طلاب الدراسة العليا في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ولم يكن ذلك اختيارا جزافا، بل هو - كما رأيته عامئذ - اختيار يسد حاجتين: إحداهما قومية محلية، والأخرى عالمية وعامة، فأما الحاجة الأولى، فهي ما أراه، وما لا بد أن يكون قد رآه معي كثيرون، من تخبط في حياتنا الثقافية تجاه اللغة؛ إذ تستطيع أن تقول عن الجيل الحاضر، في الوطن العربي كله طولا وعرضا، إنه يجهل لغته العربية جهلا تتفاوت درجاته، لكنه مع هذا التفاوت يظل الجهل باللغة صفة تصف أبناء الجيل الحاضر على وجه التعميم الذي لا يمنع أن يشذ فيه الشواذ، ولو أن الجاهلين بلغتهم كانوا على وعي بجهلهم، لهان الخطب؛ لأننا كنا نقول عندئذ: إنها غلطة في نظم التعليم نتداركها بالعلاج، فيصلح أمرنا ولو بعد حين، لكن هؤلاء الجاهلين بلغتهم، قد حولوا جهلهم ليكون «مذهبا» في الحياة الثقافية، وما ينبغي أن تكون عليه؛ إذ هم قد أوهموا أنفسهم ليوهمونا، بأن لغة النواتج الثقافية، من أدب - شعرا ونثرا - ومن توعية بالمعلومات الخاصة والعامة، يجب أن تخاطب «الشعب» بلغته التي يتداولها ويفهمها، وهي اللغة «العامية» أو اللغة «الدارجة» (وقد لحظت أخيرا أن منهم من يريد التفرقة بين «العامية» و«الدارجة»)؛ ومن هنا نظم بعض الشعراء، حتى من أصحاب الموهبة التي لا يجادل فيها مجادل، نظموا شعرهم بالعامية المحلية، لا استحياء من جهل باللغة العربية، بل زهوا بما يضعونه، لكونه في زعمهم «تجديدا» من ناحية، و«وطنية» من ناحية أخرى، فإذا فتح الله على نفر منهم ليكتبوا أدبهم - شعرا ونثرا - بلغة تشبه العربية الصحيحة، وقعوا في حمأة من خطأ وركاكة، مما كان يمكن في عصر آخر أن «تشيب له الولدان»، لكن «الولدان» في هذا الجيل، لا تشيب لهم شعرة واحدة، حتى لو أغرقتهم في بحر من ركاكة وخطأ؛ لأن سواد الليل في أعينهم قد أصبح أشد بياضا من بياض النهار، لكثرة ما ألفوه، ابتداء من المدرسة الأولية، ومرورا بالجامعات، ثم لا انتهاء بعد ذلك في سلم الهبوط.
تلك - الآن - هي الناحية القومية المحلية، التي دعتني إلى اختياري لفلسفة اللغة موضوعا لمحاضراتي في ذلك العام، وأما الناحية الثانية، التي قلت إنها عامة وعالمية، فهي أن البحث في «فلسفة اللغة» قد بات متجها للعاملين في الدراسة الفلسفية، لا تخطئه عين، وإن شئت فانظر إلى الدوريات الفلسفية في أعلى مستوياتها، لترى ما الذي يشغل اهتمام هؤلاء الدارسين الآن، قبل أن يشغلهم أي موضوع آخر؟ ولكي أكون بمأمن من الزلل، يحسن بي أن أخصص القول، فأجعل الإشارة متجهة بصفة خاصة إلى الدوريات - وكثيرا جدا من المؤلفات - التي تصدر بالإنجليزية، فتلك هي التي أطالعها وأقيم عليها أحكامي التي أسلفتها؛ ففلسفة اللغة في تلك الدوريات والمؤلفات، هي اليوم في مكان الصدارة من اهتمامات الدارسين في ميادين الدراسة الفلسفية، فإذا كنت قد اخترت فلسفة اللغة موضوعا لمحاضراتي طوال عام دراسي كامل؛ فذلك لأني قد أردت فيما أردته، أن أضع طلابنا في مناخ عصرهم.
لكنني قبل أن أمضي فيما أعتزم المضي فيه من حديثي هذا، مطالب بأن أوضح للقارئ ما الذي نعنيه من قولنا «فلسفة اللغة»، أو قولنا «فلسفة العلم» أو قولنا «فلسفة الفن»، أو فلسفة أي فرع من فروع المعرفة؟ وبرغم أني قد أوضحت ذلك في أكثر من مناسبة، فالخير كل الخير أن أعيد التوضيح مرة بعد مرة، لعلي أوفق آخر الأمر في أن أمحو من الأذهان تلك الأوهام التي علقت بها عن الفكر الفلسفي، وما يؤديه في أي بنيان ثقافي ظفر بشيء من السواء والاكتمال، وفي ذلك أقول - في إيجاز شديد - إن الإنسان في حياته العادية تصادفه ظواهر يلتزم العيش فيها وبها ومعها؛ لأنه لا سبيل أمامه إلا أن يفعل ذلك، فهنالك ظاهرة المطر في فصل الشتاء (في مصر)، وظاهرة الخماسين في فصل الربيع، وهنالك تاريخ وراء ظهره ، وهنالك نظام أسري معين، وهنالك لغة معينة يتعلمها لتكون أداة التواصل مع سائر المواطنين، إلى آخر ما هنالك من أدوات العيش ووسائطه، وليس الفرد العادي مطالبا بشيء تجاه تلك الظواهر كلها، إلا أن يعيشها ويعيش بها ومعها، لكن رجل العلم - في أي فرع من فروعه - فوق كونه يعيش مع سائر الناس فيما يعيشون فيه وبه ومعه من أوضاع طبيعية أو اجتماعية، يرى لزاما عليه أن يبحث في كل وضع من تلك الأوضاع، عن القانون أو القوانين، التي على مقتضاها تفعل تلك الأمور فعلها وتسير سيرها، فما الذي يحدث في جو السماء فينزل المطر؟ وما الذي يقع في حركة الهواء فتهب الخماسين؟ وهكذا، وبهذا تتكون عند الإنسان حصيلته «العلمية»، على أن تلك الحصيلة العلمية ليست هي آخر المطاف، كلا، ولن تكون؛ إذ لا بد أن يظهر في هؤلاء العلماء أنفسهم - أو من هم على شاكلتهم - من يقلقه ألا تكتمل المسيرة حتى نهايتها؛ لأننا إذا وقفنا عند المرحلتين السابقتين، وهما أن نعيش الظواهر عيشة عملية، ثم أن ينفرد رجال العلم بعد ذلك باستخراج قوانينها العلمية، أقول إننا إذا وقفنا عند هذا الحد، أخذنا القلق الفعلي لما في ذلك من نقص، وكأننا نرى كيانا قد بتر رأسه، فيلح علينا السؤال: أين الرأس الضائع من هذا الكيان؟ لماذا؟ لأن المرحلة الثانية، التي هي المرحلة «العلمية»، من طبيعتها أن تقيم نفسها على أساس ما، تأخذه مأخذ التسليم، ولا تطالب نفسها بأن تسأل: ما الذي كان قبل هذا الأساس الذي يقام عليه البناء العلمي؟ فعالم الرياضة يبني علم الحساب على أساس «العدد»، ثم يتناول ذلك العدد جمعا وطرحا وضربا وقسمة، وما بعد ذلك من مراحل تصعد به إلى الرياضة العليا، وعالم الضوء يجعل ظاهرة الضوء نقطة البدء، وعالم الاجتماع يتخذ من النواة الأسرية خطوته الأولى وهكذا، فلا عالم الرياضة قد سأل نفسه عن حقيقة «العدد»، كيف تولدت في عقل الإنسان، ولا عالم الضوء يهمه أن يسأل: وكيف نشأ في العالم ضوء ؟ ولا عالم الاجتماع يعنيه أن يغوص إلى ما قبل التقاء إنسان بإنسان فينشأ منهما نواة اجتماع، فإذا فعل أي من هؤلاء ذلك، أعني إذا أغراه حب الاستطلاع أن يبحث عما وراء نقطة البدء التي بدأ منها خطواته العلمية، كان في بحثه عن ذلك «الماوراء» فيلسوفا للعلم الذي قد اختص فيه.
فمرحلة «العلم» - إذن - بالنسبة لأي ظاهرة طبيعية أو إنسانية، هي استخراج قوانينها؛ فإذا ظهر من حفزه القلق والتطلع، إلى الحفر تحت تلك القوانين ليقع على منابتها وجذورها - كان فيلسوفا في مجاله، وكان عمله «فلسفة»، حتى إذا ما جاد زمان الناس بنابغة مقتدر، بحيث استطاع ألا يقف في العملية الفلسفية عند مجال علمي واحد، بل أن يكون له تلك النظرة الشاملة، والأفق الواسع، فيضم شتى مجالات المعرفة في قبضة واحدة من يديه، ويكشف عن الجذر الواحد الذي انبثقت منه تلك المجالات العلمية والمعرفية والفنية كلها - كان ذلك الموهوب واحدا من جماعة الفلاسفة الكبار، الذين لا تجود بهم الحياة إلا حينا طويلا بعد حين طويل.
واللغة ظاهرة يعيشها الإنسان - كل إنسان، في أي زمان ظهر، وفي أي مكان وقع - وربما قد مضت من تاريخ البشر دهور بعد دهور، وهو يمارس اللغة مع سائر أعضاء مجتمعه، دون أن يظهر بين الناس من يبحث في لغته التي يمارسها، عن قواعدها التي على أساسها تجيء الجملة المعينة مقبولة أو مرفوضة، عند أصحاب اللغة التي منها جاءت تلك الجملة، ثم حان للناس حين شهدوا فيه مثل ذلك العالم الذي يستخرج من لغته قوانينها وقواعدها، بل وظهر كذلك العالم الذي يجمع مفردات اللغة في معجم واحد، بعد أن كانت متفرقة على الشفاه كلاما، وعلى الأوراق أو ما يشبه الأوراق كتابة، وإننا جميعا لنعلم عن لغتنا العربية أن أمثال هؤلاء العلماء، بالنسبة إلى اللغة العربية، قد ظهروا لأول مرة، بعد ظهور الإسلام بوقت قصير، لم يزد على قرن واحد، وكان الحافز إلى البحث العلمي في اللغة العربية، تمهيد السبيل نحو أن يفهم المسلم كتاب الله حق الفهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
إلى هنا وقد نشأت للغة العربية «علوم»، تستخرج من تاريخ استخدامها الفعلي قوانينها وقواعدها، في النحو والصرف والاشتقاق، وهي قوانين وقواعد - كما هي الحال في أي علم طبيعي آخر حيال الظاهرة المحددة التي يبحث فيها - تستخلص من الظاهرة المبحوثة كما تقع، وليست - بالبداهة - مفروضة على الظاهرة من سلطان خارج حدودها، والحق أن ازدواجية المعنى في كلمة «قانون» أو في كلمة «قاعدة»، كثيرا جدا ما يحدث شيئا من الغموض في أذهان الدارسين، فبينما نجد في حياتنا الاجتماعية قوانين وقواعد، تسنها الدولة لأبنائها بالطرق الشرعية، فتكون بمثابة «أوامر» أو «نواه» تأمر الناس بفعل هذا وتنهاهم عن فعل ذاك، فإن «القانون» العلمي لظاهرة من الظواهر الطبيعية، لا أمر فيه ولا نهي، إنما هو صورة نظرية مستخلصة من الظاهرة نفسها وطرائق فعلها، وسيكون لهذه النقطة الهامة شأن فيما سوف نورده خلال هذا الحديث.
نعود فنقول إن اللغة العربية قد عرفت قوانينها العلمية وقواعد استخدامها، منذ القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) وما بعده، ولكنها لم تجد من يفلسف لها تلك القوانين والقواعد، بالمعنى الذي حددناه فيما أسلفناه لطبيعة الفكر الفلسفي، اللهم إلا جوانب قليلة متفرقة، وكان عليها أن تنتظر المحاولة الوحيدة الجادة في هذا السبيل، عند «ابن جني» في كتابه «الخصائص»، وماذا تكون فلسفة اللغة إلا البحث عن الخصائص المشتركة بين متفرقات القوانين والقواعد. وكان من الجوانب القليلة المتناثرة في طريق الفكر الفلسفي عن اللغة العربية، قبل خصائص ابن جني، ذلك الحوار بين رجال الفكر عن اللغة من حيث مفرداتها، أهي «توقيف» أم «اصطلاح»؟ ومعنى السؤال هو: هل جاءت مفردات اللغة وحيا من الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان متمثلا في آدم عليه السلام، أو أن تلك المفردات إنما جاءت نتيجة اتفاق على مر الأيام، بين أبناء اللغة المعينة؟ وكانت الكفة الراجحة في ذلك لأصحاب «التوقيف»، والعجيب أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون كان قبل ذلك بعدة قرون، قد خصص إحدى محاوراته، وهي محاورة «إقراطيلوس» لهذا الموضوع نفسه، وأخذ بما يشبه مذهب التوقيف؛ لأنه حاول البرهنة على أن مفردات اللغة إنما اشتقت اشتقاقا مباشرا، من طبائع الأشياء التي جاءت تلك المفردات اللغوية لتشير إليها، وإننا لنذكر هنا على سبيل التمجيد، أن «ابن جني» قد ذهب المذهب الآخر، الذي هو أن اللغة نتيجة اتفاق اصطلح عليه الناس وكذلك كان مما يقترب من فلسفة اللغة، منذ اشتغال العلماء بدراسة اللغة العربية دراسة «علمية»، ذلك النقاش الحاد، الذي دار بين علماء اللغة في البصرة من ناحية، وعلمائها في الكوفة من ناحية أخرى، حول الأساس الذي تقام عليه الأحكام بالصواب أو بالخطأ في الاستعمال اللغوي، فبينما كانت جماعة الكوفة (بسبب كونهم عربا خلصا) يرون أن الأساس في التفرقة بين صحيح وخاطئ في اللغة، هو الطريقة التي اتبعتها العرب في الجاهلية، كما نراها متمثلة فيما خلفوه من شعر بصفة خاصة: فما قاله العرب الأولون هو الصواب، وما لم يقولوه هو ما لا يجوز للخلف أن يقولوه، في حين أن جماعة البصرة، قد حاولت على أيدي الخليل وسيبويه، أن يقيموا أساسا «عقليا» يبين متى يكون الصواب صوابا والخطأ خطأ، ويمكن تطبيقه على القدماء أنفسهم؛ إذ لا يكون من التناقض أمام ذلك الأساس العقلي، أن يقال عن شاعر قديم أنه أخطأ في كيت وكيت مما استخدمه في شعره من كلمات وتراكيب.
وبعد هذه الفرشة التمهيدية التي فرشتها عن اللغة «علما» و«فلسفة»، أرجع بالقارئ إلى حيث كنا في بداية الحديث، حين أنبأته كيف ولماذا اخترت موضوع «فلسفة اللغة» للمحاضرة طوال عام دراسي كامل، مع طلبة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ولقد أدرت المحاضرات حول محورين أساسيين، تتفرع منهما الفروع؛ فأما المحور الأول فقد كان عن «علمية» اللغة، فماذا توجب علينا الوقفة العلمية الخالصة أن نفعله إزاء اللغة؟ إن اللغة - كما قلنا - هي ظاهرة اجتماعية كأي ظاهرة أخرى تنشأ من تفاعل الناس بعضهم مع بعض عندما يشتركون في حياة واحدة، وقد كان يمكن لظاهرة اللغة في أمة بعينها - كالأمة العربية مثلا - أن تقوم قائمتها في مجرى الحياة العملية، بحيث يعرف أبناء اللغة كيف يتبادلون بها الحديث، فيفهم كل عن كل ما يريد أن ينقله إليه، أقول: إن تلك الحياة العملية للغة كان يجوز لها أن تقوم، دون أن يتصدى لها أحد من رجال العلم بالنظر، ليستخرج مما هو قائم بالفعل ما استبطن فيه من قوانين وقواعد، وعندئذ يكون بين الناس لغة، ولا يكون لتلك اللغة علومها عند العلماء، أما وقد تصدى للغة العربية في القرن الثاني الهجري وما بعده، من تصدى من علماء، فقد أصبح لدينا «علوم» للغة العربية، تضبط طرائق استعمالها، ولو أن تلك اللغة كانت على غير ما كانت عليه، لاختلفت عند علمائها تلك القوانين الضابطة؛ فعالم اللغة لا يسن لها قوانينها على نحو ما تسن الدولة قوانين القضاء في المحاكم، لتكون هي الأوامر والنواهي وقد هبطت على رءوس الناس من عل، كلا بل يستخرج العالم من الظاهرة التي بين يديه قوانينها من جوف الظاهرة نفسها، فقواعد النحو العربي كانت متجسدة في أقوال فعلية قالها العرب، فكانت المشكلة الأولى التي طرحتها بين أيدي الطلاب، لا لأملي فيها رأيا، بل لنجعلها معا موضع تدبر وتفكير؛ لأنها - في الحق - مشكلة تنطوي على مفارقة قد تستعصي على الحلول العقلية النظرية، فلا يبقى أمامنا إلا أن نحتكم فيها إلى جوانب أخرى من حياتنا غير جانب العقل الخالص، والمشكلة هي هذه: أن الناس على أرضنا، ممن يشكلون الشعوب العربية، ويشكلون - بالتالي - الأمة العربية في صورتها الراهنة، يستخدمون لغات تقرب من العربية المأثورة حينا، وتبعد عنها حينا، فماذا تكون الوقفة العلمية العقلية الخالصة إزاء هذه اللغات العربية في صورها الجديدة؟ ألا تكون تلك الوقفة مماثلة تماما لوقفة علماء اللغة العربية في القرن الثاني الهجري وما بعده، إزاء اللغة العربية كما وجدوها آنئذ؟ وإذا كان هذا هكذا، أفلا يكون واجب العلم اليوم كواجبه بالأمس، وهو أن ينكب رجاله على اللغة كما هي قائمة في كل مجموعة سكانية من الوطن العربي، فيستخرجوا من جوف ما هو قائم، قواعده المستبطنة فيه؟
نعم، إن هذا - كما يبدو للوهلة الأولى - هو ما يوجبه منطق العقل المنزه عن الهوى: وإنه هو ذاته ما أخذت صيحات الدعاة في أوروبا وفي أمريكا تنادي بوجوب الأخذ به، كل في لغته، ولقد أتيح لكاتب هذه السطور أن يطالع كثيرا مما كتبه هؤلاء الدعاة الجدد ترويجا للفكرة القائلة بأن اللغة - أي لغة شئت - إنما خلقت لأداء وظائف معينة، فما يؤدي تلك الوظائف في أي عصر لأي شعب، يكون هو لغته التي تستوجب عناية علماء اللغة في ذلك الشعب، وإنه لمن العسف أن تأخذ ظاهرة لغوية في عصر معين لشعب معين، بقواعد كانت قد استخرجت من ظاهرة لغوية أخرى في عصر آخر، بل أتيح لكاتب هذه السطور أن يتعقب فيما مضى، حركة شاعت إلى حد ملحوظ بين مدرسي اللغة في بلد أوروبي، وهي أن يحاسبوا تلاميذهم فيما يكتبونه، لا على أساس القواعد الموروثة عن قرون سلفت، بل على أساس الميزان الجديد، وهو عندهم: هل أدت العبارة المعينة ما أريد لها أن تؤديه كاملا غير منقوص ولا غامض، فإن كان الجواب بالإيجاب، كان للعبارة صوابها.
لكنني حين طرحت المشكلة على هذا النحو بيني وبين طلابي في ذلك العام، ألحقتها بوجه آخر من أوجه الموضوع: وهو أن سألتهم: أحقا خلقت اللغة لتقضي حوائج اليوم الراهن بين الناس وكفى؟ إن حياة الإنسان لا تقتصر على يومه، بل تمتد من الخلف إلى أمسه؟ كما تمتد من الأمام إلى غده؟ فإذا صدقت هذه الرؤية، وجب أن يؤخذ الماضي والمستقبل في الاعتبار، عند النظر في لغة ما من حيث صلاحية قيامها أو وجوب مجاوزتها إلى سواها، ولم نلبث طويلا، حتى انتهينا معا إلى جواب قاطع عن موقفنا من اللغة العربية في هذا الصدد، وهو أنها هي اللغة التي تحمل ماضينا الثقافي، وبتلك اللغة جاء القرآن الكريم، وجاءت أحاديث الرسول عليه السلام، وجاء الشعر العربي وغير الشعر من أدب أبان عبقرية تلك اللغة في الأداء، على أن ذلك كله لا ينفي أن يضاف جديد قديم، حتى يكون لعصرنا كل ما يستحقه من اعتبار عند أبنائه، الذين كتب لهم أن يحيوا على أرضه وتحت سمائه.
كان ذلك عن المحور الأول، من المحورين اللذين - كما أسلفت - كانا مدار محاضراتي عبر فلسفة اللغة التي أشرت إليها، وكانت له - بالطبع - تفريعاته الكثيرة، التي انعرجت بنا نحو فطرة الإنسان التي طبعت فيه من حيث هو إنسان، وما تؤدي إليه تلك الفطرة في عملية التقاط الطفل لغته الأم، وغير ذلك من فروع الحديث، فلقد اختلف الفلاسفة المحدثون بصفة خاصة في كل هذه الأمور، كل ذهب فيها مذهبا يتفق مع وقفته الفلسفية الشاملة، مما لا تدعو الضرورة إلى ذكره الآن.
وأما الذي تدعو الضرورة إلى ذكره، فيما يختص بالمحور الثاني، فهو وضع اللغة «العامية» في الميزان، لنرى حقيقة أمرها في دقة، ما استطعنا إلى هذه الدقة سبيلا، وإنه ليطيب لي في هذا المقام، أن أذكر موقفا في حياتي الفكرية، خاصا بالفصحى والعامية، إما أن أكون قد أسأت التعبير عما أردت قوله، فساء الظن عند قرائه، وإما أن يكون التسرع في القراءة هو الذي أخرج هؤلاء القراء بما خرجوا به؛ وذلك أني في كتابي «تجديد الفكر العربي» (1970م) خصصت فصلا للغة، قلت فيه ما خلاصته أن الكاتبين بالفصحى، استعصى عليهم أن يطوعوها لتساير الحياة الجارية، فنتج عن ذلك أن سارعت العامية بحيويتها إلى أن تلتقط الخيط، فوجد فيها أنصارها أداة ألين وأطوع في صدق التعبير عن النبض الحي، فاستخدموها، وكأنها عندهم تصلح بديلا للفصحى في عجزها، فتوهم كثيرون، أني بهذا القول أدعو إلى العامية على حساب الفصحى، وواقع أمري هو أبعد ما يكون عن ذلك؛ إذ كان كل ما أردته هو وجوب أن تنهض الفصحى نهضة تساير بها عصرها، حتى لا يظن بها عجز أو قصور.
لم تكن مصادفة عفوية أن نجعل المحور الثاني لسلسلة المحاضرات التي أشرف عليها، يتضمن محاولة التعريف الدقيق لمفهوم «اللغة»، وكان الهدف من تلك المحاولة هو أن نتجه بالنتيجة التي نصل إليها نحو «العامية» في العربية وغير العربية؛ إذ يكاد يكون أمرا شاملا لسائر شعوب الدنيا ، أن تزدوج بهم لغاتهم، بحيث يخصص أحد الوجهين للغة المنضبطة بأحكامها، والتي بها تكون الكتابة في مجالات العلم والفكر، والأدب الرفيع، ويخصص الوجه الآخر المتراخي في ضوابطه، لشئون الحياة الجانبية، وكذلك لبعض الصور الأدبية الشعبية التي لا يكون من حظها أن يدوم لها ذكر في صفحات التاريخ الأدبي، فإذا نحن اتجهنا بنتيجة البحث في مفهوم كلمة «لغة» نحو «العامية»، كان سؤالنا عندئذ هو: هل تعد «العامية» لغة بناء على تلك النتيجة التي وصلنا إليها؟ فإذا وجدناها لا تندرج تحت هذا المفهوم في دقة تعريفه، استرحنا من مشكلة ما تنفك قائمة بين الأدباء والنقاد عندنا، حول سؤال كهذا: هل يجوز للكاتب أو للشاعر أن يبدع ما يبدعه في «عامية» مصرية أو غير مصرية على مدار الشعوب العربية ما دمنا نتحدث عن ثقافة عربية؟
وإن نظرة فاحصة لعناصر الموقف لترتد إلينا بجواب قاطع، لا أدري كيف يمكن أن يدحض ويرفض؛ وذلك أننا لا نكاد نفرق بين «اللغة» من ناحية وصور «استخدامها» من ناحية أخرى، حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فهنالك لغة عربية رصدت مفرداتها في معاجمها، رصدا يقبل الزيادة كلما كانت زيادة، بل وربما يقبل الحذف أيضا كلما طال الزمن على لفظة أخرجها التاريخ من حياة الناس، ثم هنالك قوانين اللغة وقواعدها في كل جانب من جوانب العلوم التي تقنن اللغة، وربما جاز لنا أن نضيف إلى تلك العلوم الخاصة باللغة الفلسفة التي تكشف عن الجذور الأولية الكامنة في تلك العلوم، والتي في استطاعتها أن تضم تلك العلوم اللغوية المتفرقة في «مبدأ» واحد، وتلك هي «اللغة العربية»، وأما ما تراه من مكتوب بها، وما تسمعه من منطوقه فهو صور من استعمالاتها، كل صورة منها تنتمي إلى كاتبها أو قائلها؛ فدواوين الشعر العربي - مثلا - ليست هي «اللغة العربية»، وإنما هي صور منها استخدمها الشعراء كل شاعر بصورته، ثم بقيت بعد ذلك «اللغة العربية» تعرض نفسها لمن يأخذ، دون أن تنقص هي بما أخذ منها، ولأضرب لذلك مثلا أو مثلين لأوضح هذه التفرقة الخافية، التي قد يتعذر تصور إدراكها للوهلة الأولى: خذ مثلا أستاذا عالما في مادة علمية معينة، كالتاريخ الإسلامي مثلا، يحاضر طلابه مغترفا من محصوله العلمي، فكل طالب ممن يستمعون إليه، سيخرج بما أعانته قدرته على أن يأخذ، ويبقى علم الأستاذ في رأسه كما كان، بل ربما ازداد دقة ووضوحا بما أعطى، ومن هنا قيل قديما «العلم يزكو بالإنفاق». إن أي طالب واحد من الذين أخذوا عن الأستاذ لا يصبح هو «الأستاذ بناء على ما أخذ، وهكذا يكون ينبوع» اللغة العربية، قائما هناك، فإذا نضح منه ناضح ليقول شعرا أو نثرا، أو ليتحدث مع من يتحدث إليه، فذلك كله إنما هو إحدى صور الاستعمالات التي يبلغ عددها ما يبلغ عدد الذين يستخدمون اللغة العربية كلاما وكتابة، من الطفل الذي يلثغ بجملة أو جملتين فصاعدا إلى المتنبي وأبي العلاء. وخذ مثلا آخر: صندوق به عدد من المكعبات المرسومة على جوانبها رسوم، والتي نقدمها لأطفالنا الصغار، ليقيموا من تلك المكعبات بيوتا وغير بيوت، مما يمكن أن يقام من تلك الوحدات، فهذا طفل قد شيد من مكعبات الصندوق بيتا، ثم انصرف ليأتي طفل آخر يقيم منها حظيرة للسيارات، ثم انصرف ليأتي طفل ثالث فيبني مطارا أو مسجدا أو محطة للقطارات، ثم جاء من جمع المكعبات ليضعها في صندوقها؛ فالصندوق بما احتوى عليه من وحدات، هو الذي يقابل «اللغة»، والمشيدات التي ابتناها الأطفال، كل بما أملى عليه مزاجه، تقابل الاستخدامات الكثيرة المنوعة للغة على ألسنة أبنائها أو أقلامهم.
والشرط الأساسي فيما يصح له أن يكون ينبوعا لغويا، يأخذ منه من شاء وبقدر ما استطاع، هو أن تكون المادة اللغوية في ذلك الينبوع مقننة، فمفرداتها معلومة ومرتبة، وقواعد نحوها وصرفها واشتقاقها قد استخرجت منها وصيغت بحيث يدرسها الدارسون، فتكون هي فيصل الصواب والخطأ، وذلك التقنين هو الذي جعلنا اليوم نقرأ ما كتبه العربي منذ خمسة عشر قرنا، فنفهم عنه ما أراد، بالدقة نفسها التي فهم عنه بها معاصروه.
والعامية لا تحقق شيئا من هذا الشرط الضروري للغة، التي تصلح أداة للعلم والفكر والأدب الرفيع، وإلا فهل نتصور العامية وقد كتب بها التاريخ أو الفقه، أو القانون، أو الفلسفة، هل نتصور العامية وقد كتبت بها علوم الفيزياء، والجيولوجيا، وعلوم الحيوان والنبات والطب والهندسة؟ هل نتصور العامية وقد كتبت بها الصحف والمجلات؟ حاول أن تكتب خطابا بالعامية الخالصة، وانظر كم ينفر منك القلم، وكم تتأذى عيناك ويتعثر لسانك وأنت تراجع ما قد كتبت، ففيم الضجة التي نقيمها حول مشكلة تحل نفسها بنفسها؟ أهي مشكلة جاءت لتنحصر في أزجال الزجالين وفي بعض الروايات والمسرحيات، إننا لا نريد أن ننكر على العامية ما تستطيعه في أمثال تلك الضروب من القول، وهو قول لا يخلو في هذه الحالة من أن يتجاوب معه وجدان شريحة عريضة من الجمهور، لكنه إلى هنا وفي هذا الحد المحدود تنتهي المشكلة، وأما الخلود النسبي الذي يظفر به الأدب الرفيع، كما تظفر به طائفة كبيرة من الكتابة العلمية، كالذي أبقاه لنا فقهاء الشريعة وعلماء اللغة ونقاد الشعر، وغير ذلك، فهو موقوف على ما قد صيغ من «اللغة» المنضبطة بقوانينها وقواعدها، وعلى من اختار العامية أداة، أن يقنع بعصره المحدود؛ لأن الستار الذي ينسدل ليطوي ذلك العصر عند ختامه، هو نفسه الستار الذي سوف يطوي العامية وأصحابها.
فطرة الإنسان تهديه
سأبذل في هذا الحديث جهدا فوق الجهد المألوف؛ لأجعل الموضوع صالحا للعرض على جماعة المثقفين، لعله يصلح بعد ذلك أساسا من الأسس الأولية أو مبدأ من المبادئ الأساسية، في مناقشاتنا حول الموضوعات التي يثار عليها الخلاف فالجدل فالخصومة، فالتطرف، فالتعصب، والذي يجعل موضوع هذا الحديث في حاجة إلى جهد فوق الجهد المألوف، هو أنه - كما أراه - يتطلب منا دقة في تحليل الأفكار التي سوف نتناولها في مراحل سيرنا، تحليلا قد يبلغ بنا حدا تضيق له الصدور، اللهم إلا تلك الفئة القليلة، التي يأخذها القلق إذا هي استراحت إلى الأفكار مأخوذة في إجمالها، دون العناء في تحليلها وتأصيلها، ولكن لماذا عناء التحليل والتأصيل؟ الجواب هو أن معظم ما يعترك حوله الناس حتى لتنشب بينهم الحروب، إنما ينشأ عن غموض في فكرة ما، أساسية في حياتهم، فتفهم هنا على نحو، وهناك على نحو آخر، إن شيطانا، أو ربما هو جيش من الشياطين يوهم الناس عن الأفكار الأساسية في حياتهم بأنها واضحة أمام العقل وضوح الشمس، يستطيع كل فرد من غمار الناس أن يتصورها، وأن يفهمها، ويسلك على أساس ذلك الفهم سلوكا صحيحا، حتى إذا ما اعترضه سالك آخر بسلوك مخالف، بناه على فهم آخر، اشتعل صاحبنا غضبا دفاعا عن فكرته، وحماية لسلوكه، وتسألني بعد ذلك: فيم عناء التحليل والتأصيل؟ فأقول: إنه إذا كانت صنوف الدواء التي نعالج بها مرضانا بحاجة إلى معرفة دقيقة بالعناصر التي ركبت منها، حتى نكون على بينة كاملة بمحتواها، وأن نكون - بالتالي - على بينة من صلاحيتها بشفاء ما يراد منها شفاؤه، أقول إنه إذا كان هذا هو موقفنا من مركبات الدواء، فيجب أن نكون أشد حرصا في حالة «الأفكار» التي تلعب برءوس الناس، حتى ليطير صوابها بسبب تلك الأفكار، مع أنها صيغت أول الأمر، لتكون للناس سبيلا إلى هدى.
على أن متابعة الفكرة المعينة إلى أصولها وعناصرها، ليست بالأمر المستطاع بغير مران وتدريب. وأضرب لك مثلا: صديقا عرفته حق المعرفة، وعرفت فيه قدرا عظيما من التعليم ومن الثقافة، لكن وجهته في كل ذلك، لم تتجه بصفة خاصة ومباشرة، نحو تحليل الأفكار لتوضيحها، فحدث في لقاء لنا ذات يوم، أن دار حديثنا عن الإنسان وفطرته، فكان لا بد لنا في هذه الحالة أن نبعد من حسابنا ما يتفق فيه الإنسان مع سائر الكائنات الحية، من نبات وحيوان، فنبعد الاغتذاء، والنمو، والتكاثر، والغرائز المشتركة إلخ؛ لأنها وإن تكن «فطرة» إلا أنها فطرة لا تقتصر على الإنسان، ثم حاولنا بعد ذلك أن نحدد ما نظنه علامة مميزة للإنسان من ناحية الفطرة، وليس الرأي في هذا المميز الفطري للإنسان، على إجماع المفكرين في هذا المجال، فمنهم - أو قل أكثرهم - من يجعله «العقل» ومنهم من يجعله «الإرادة»، ومنهم من يجعله «الوجدان» الذي هو وسيلته إلى الإيمان، وهكذا، لكننا - صديقي وأنا - في تلك الجلسة الهادئة المتأملة اتفقنا على «العقل» محددا لفطرة الإنسان.
لكن قولنا: «عقل»، هو أبعد ما يكون عن الكفاية والوضوح؛ لأن هذا «العقل» المزعوم، هو بدوره فكرة مركبة تحتاج إلى تحليل لكي تفهم فهما واضحا، فماذا عسى أن تكون تلك العناصر البسيطة المتعاونة والمتفاعلة، التي من مجموع أوجه نشاطها يتكون ما نسميه في الإنسان «عقلا»؟ «فالعقل» - بداهة - ليس عضوا من أعضاء الجسد كاليدين، والقدمين، والقلب، والمعدة، بل إنه ليس هو «المخ» الذي هو كتلة من مادة تملأ تجويف الجمجمة، بل العقل «وظيفة» يؤديها من أجهزة البدن ما يؤديها، وأرجوك أن تفرق بين العضو ووظيفته، فليست اليد هي عملية القبض على الأشياء، وليست الرجلان هما عملية المشي، وهكذا، وعلى هذا الغرار يكون «العقل» وظيفة تؤديها أجزاء معينة من البدن، وتتميز تلك الوظيفة بنمط معين من البدن، وتتميز تلك الوظيفة بنمط معين من البدن، وتتميز تلك الوظيفة بنمط معين من الأداء، هو الذي نسميه عقلا؛ وذلك لأن مصادر السلوك البشري متعددة، فمن السلوك ما تتجسد فيه عاطفة، أو انفعال، ومنها ما يتجسد فيه «تفكير». وإذا شئت فقارن بين رجلين، رأيت أحدهما يحطم أثاث بيته من شدة الغضب، والآخر يجلس إلى مكتبه محاولا إقامة البرهان على نظرية هندسية، فكلتا الحالتين سلوك، لكنهما سلوك من نمطين مختلفين، وثانيهما دون أولهما هو «عقل».
إلا أننا - صديقي وأنا - بعد إذ بلغنا هذا الحد من التحليل، بدأ اختلافنا في طريقة التفكير، فلقد رأى هو أننا قد بلغنا نهاية الطريق، بينما رأيت أنا أننا عند نقطة البداية؛ لأن الغاية المنشودة لا يوصل إليها، إلا إذا مضينا في التحليل حتى نبلغ به الوحدة البسيطة، التي لا يكون وراءها ما هو أبسط منها، فما هي تلك الوحدة التي تبلغ من بساطة التكوين حدها الأقصى؟ وكان الرأي الذي عرضته على صديقي نقلا عن بعض من قرأت لهم على امتداد السنين، أن البذرة الأولية الأولى، لما سوف ينمو فيصبح «عقلا »، هي القدرة على إدراك الشبه بين شبيهين؛ لأنه بغير تلك القدرة الأولية، يستحيل على إنسان أن يتكون له تصور لأي شيء، وبالطبع إذا استحال علينا تصور الأشياء فقد استحال - بالتالي - «التفكير»؛ لأن ما نسميه تفكيرا ليس إلا إيجاد الروابط بين تصورين أو أكثر، فإذا قلت - مثلا - «إن من الطيور ما يبني أعشاشه على فروع الشجر» كان لا بد لي أن أكون قد كونت لنفسي - من تجاربي الماضية - تصورا عما أسميه «طير» وما أسميه «عش»، وما أسميه «شجرة» و«فرع»، فضلا عن تصوري للعملية التي أسميتها «بناء»، وإذا دققت النظر في أي تصور من تلك التصورات، وليكن تصورنا «للطير»، كيف نشأ لدينا بادئ ذي بدء، وجدت أن الرائي قد رأى طائرا مرة، ثم رأى طائرا مرة ثانية، فأدرك «الشبه» بين الحالتين (وما هو أكده) فجمع المتشابهات في صنف واحد أطلق عليه اسما واحدا، فإذا نحن افترضنا عجز الإنسان عن إدراك الشبه على هذا النحو، يظل كل طائر يراه حقيقة مفردة قائمة بذاتها، مقطوعة الصلة بغيرها، ومن ثم تمتنع عنده عملية الربط، فتمتنع معها عملية التفكير.
وتعالوا لنحصر انتباهنا معا في عملية إدراكنا للتشابه بين شبيهين، وما تنطوي عليه، فافرض أنك قد رأيت صورة فوتوغرافية لأخيك، فقلت: هذه صورة أخي، فما الذي مكنك من رؤية العلاقة بين الطرفين؟ لاحظ جيدا أنك قد رأيت كلا من الطرفين على حدة، فهذه هي صورة أمامك، وذلك هو أخوك، فكيف جاءت النقلة من طرف إلى طرف؟ إن بصرك قد التقط لك شيئين، كل منهما مستقل عن الآخر، فأين، وكيف انبثق الإدراك الثالث، الذي لا هو إدراك لأخيك، ولا هو إدراك للصورة، وإنما هو إدراك ثالث أدركت به «علاقة» بين الطرفين، مرة أخرى أقول: إن هذه «العلاقة» - علاقة التشابه - لا هي الإدراك الأول، ولا هي الإدراك الثاني، إنما هي شيء آخر مضاف، وإذا كان البصر هو الذي قام بالإدراكين الأولين «فالعقل» هو الذي قام بالإدراك الثالث، ومن هذه البداية البسيطة، حين تتسع وتنمو وتتركب، تنشأ للإنسان حياته العقلية، تلك الحياة التي لا هي استغنت عن مدركات الحواس، ولا هي اقتصرت عليها، وإذا تفاوت الناس في قدراتهم العقلية بعد ذلك، فإنما هم يتفاوتون في قدرتهم على إدراك «الشبه» بين ما هو متشابه، ومن هنا نفهم قول أفلاطون: «دلني على من يدرك الشبه بين الأشياء، وأنا أتبعه كما أتبع الإله.» وإنك لتزداد فهما بمعنى هذا القول، إذا علمت أن أوجه الشبه قد لا تكون ظاهرة للعين، وإلا فأين الشبه الظاهر بين «4 + 2» و«6»؟ أو بين دوران الأرض حول الشمس، وسقوط الحجر إذا ألقيت به من الهواء، فيسقط على الأرض بعد حين، إن الشبه بينهما هو «الجاذبية» وفعلها.
وأترك الآن صديقي وما دار بيننا من حديث، انتهى بنا إلى تحديد لفطرة الإنسان بأنها «العقل» ثم إلى تحديد «العقل» ذاته بأنه أساسا قدرة على إدراك الشبه بين المتشابهات، وما يمكن أن يبنى عليه، لأستطرد في حديثي إلى القارئ، موضحا وشارحا، لأنتهي به إلى النتيجة التي أردتها له، على أن الأمانة تقتضي أن أقرر عن صديقي ذاك، قبل أن أنتقل بالحديث إلى خطوته التالية، بأنه وإن يكن قد تركني لأحدد فطرة الإنسان بأنها «العقل»، وبأن أحدد «العقل» بأنه في أساسه إدراك الإنسان لوجه الشبه بين الشبيهين، إلا أنه - وأعني صديقي عليه رحمة الله - قد تركني لأسترسل في تحديداتي تلك وهو على مضض؛ لأنه برغم علمه وسعة مطالعاته وحدة ذكائه، لم يستطع أن يرى ما أراه في العملية الإدراكية التي ندرك بها «التشابه» من أنها عنصر «ثالث»، يجيء فوق إدراكنا لأحد الطرفين المتشابهين من جهة، وللطرف الثاني من جهة ثانية؛ إذ الرأي عنده، هو أنها لمحة إدراكية واحدة، ولا حاجة بنا إلى تحليلها، وقد يكون الفرق بين ما أراه وبين ما ليس يراه، أن خطه الدراسي مختلف أشد اختلاف عن خط دراستي.
والآن فلننتقل إلى الخطوة التالية في حديثنا، راجيا من القارئ الكريم جمال الصبر وتركيز الانتباه، وسيجد جزاء ذلك في أهمية النتيجة التي ستتولد لنا من هذه الخطوة، ولنعد معا إلى موقف التشابه بين شيئين، كأن يكون موقفا طرفاه هما فرد معين من الناس نعرفه، وصورته الفوتوغرافية، فنرى الصورة وحدها لنقول من فورنا إنها صورة فلان، وهنا لا بد لي من لفت نظرك إلى حقيقة رياضية، وهي أن علماء الرياضة يحددون معنى «التشابه» بأنه «علاقة واحد بواحد» - كما يقولون - بمعنى أن كل نقطة في أحد الشبيهين تقابلها نقطة في الشبيه الآخر، فإذا تحقق ذلك، لا يهمنا أي اختلاف يكون بين الطرفين؛ فالفرد المعين وصورته مختلفان في كل شيء، إلا في ذلك التقابل بينهما نقطة لنقطة، فالرجل من لحم وعظم ودم، والصورة من ورق، والرجل يمشي ويأكل ويفكر، وليس في الصورة شيء من ذلك، ومع هذا كله فهما شبيهان؛ لما بينهما من «علاقة واحد بواحد» بالمعنى الرياضي الذي أسلفت لك ذكره.
وبعد هذا التنبيه، نعود إلى الرجل وصورته، فمهما يكن من أمر السرعة الخاطفة التي ننتقل بها من طرف إلى طرف، فواقع الأمر هو كما أنبأتك، من أنك قد لمحت بين الطرفين ذلك التقابل الذي ذكرناه، ولكن السؤال الذي لا بد من مواجهته بكل الجدية التي في مستطاعنا، هو هذا: إذا كان محالا علينا أن نجري تلك المقابلة بين الشبيهين، إلا إذا انتقلنا بانتباهنا من الطرف الأول إلى الطرف الثاني، وهو انتقال يتطلب فترة من الزمن، ولا يغير من هذه الحقيقة شيئا أن تكون تلك الفترة بالغة من الصغر، حتى يصعب قياسه بكل أجهزة قياس الزمن، أقول: إذا كان الأمر كذلك، فنحن عند انتقالنا من الطرف الأول إلى الطرف الثاني، نكون قد عهدنا إلى «الذاكرة» أن تحتفظ بصورة الطرف الأول، لتكون معنا ونحن ننظر إلى الطرف الثاني، فالسؤال هو: ماذا يضمن لك صدق الذاكرة فيما تقدمه إليك؟ هذه واحدة، والأخرى هي: ماذا يضمن أن تكون قد تقصيت بلمحتك السريعة، نقاط الطرفين، ليجوز لك بعد ذلك أن تزعم لهما تشابها قائما على قيام علاقة التقابل نقطة لنقطة، إنه لا ضمان، ومع ذلك يجد كل منا نفسه، وهو في موقف كهذا، مدفوعا بفطرته إلى أن يمتلئ بروح الثقة واليقين، بأنه قد وجد تشابها بين الطرفين، فإذا حاولنا نحن تحليل مثل هذه الثقة الواثقة باليقين، ما مصدرها؟ لم نجد إلا شيئا نابعا من فطرة الإنسان أيضا، يطمئنه بأن ما قد رآه هو صحيح، وأنه إذا لم يكن في مستطاعه إقامة البرهان على صحته، فذلك لا يغير شيئا من الثقة في صحة ذاك الإدراك، فعلى أي أساس تشعر النفس بمثل هذه الطمأنينة؟ الجواب هو نفسه الجواب الذي أجاب عليه الإمام الغزالي عن سؤال كهذا، حين تساءل عن السند الذي يستند إليه في وثوقه بأحكام العقل، هو أنه «نور يقذفه الله في الصدور»، ومعنى ذلك هو أن كل عملية إدراكية في حياة الإنسان، إذا ما حللناها إلى أصغر وحداتها، وجدنا دائما فجوة تحتاج إلى تعليل، ولا تعليل بين أيدينا، سوى أنها هداية من الله سبحانه، فقد جعل للإنسان فطرة تملأ الفجوة في طمأنينة الواثق باليقين.
أرأيت إلى عظمة هذه النتيجة التي انتهينا إليها؟ لكنك قد تسألني: ألم تكن يا أخي مسرفا حين قلت إن تلك الفجوة قائمة في كل عملية إدراكية؟ لقد كنت تحدثني عن رؤية التشابه بين الأشياء، فما الذي جعلك تقفز من موضوع التشابه إلى تعميم الحكم على كل عملية إدراكية في حياة الإنسان؟ فهل ترى أن كل عملية إدراكية بالحواس، أو بالعقل، أو بالوجدان المباشر، تتضمن موقعا فيه «تشابه» بين طرفين أو عدة أطراف؟ وعن مثل هذا التساؤل المفترض، أقول: نعم، فإذا رأيت بعينك شجرة أمام دارك، موقنا بصدق ما قد نقلته إليك عينك، فكأنك قد أقمت طرفين: المعطى البصري من ناحية، والوجود الواقعي من ناحية أخرى، فبين الصورة البصرية والواقعة الحادثة بالفعل أمام دارك، مقابلة الواحد بالواحد، التي هي تعريف «التشابه» عند علماء الرياضة، وإذا أنت رسمت صورتك البصرية تلك، في جملة تكتبها هكذا: «أمام داري شجرة»، كان صدق هذه الجملة مستندا إلى تشابه في التكوين بينها وبين الواقعة القائمة في عالم الأشياء، فلو أردنا مراجعة الصورة المكتوبة على الأصل الموجود في دنيا الواقع، اضطررنا إلى الانتقال من طرف إلى طرف لنجري عملية المقارنة، وذلك معناه أن نركبه إلى الذاكرة في الاحتفاظ بأحد الطرفين حتى نهيئ فرصة الانتقال، وهنا يجيء السؤال الذي أسلفناه: وهو: كيف تأمن للذاكرة في وصولك إلى يقين؟ فلا يكون الجواب إلا بشعور فطري يحمل معه الطمأنينة بغير برهان، وذلك هو - ونقولها مرة أخرى - ما قد أشار إليه الغزالي بأنه «نور يقذفه الله في الصدر.»
بهذا تكون «كل» عملية إدراكية، نعم «كل» بلا استثناء، منطوية على قيام أطراف تشابهت، وفي الوصول إلى المعرفة عن طريق التشابه بين الأطراف، تقع لنا فجوة كان حقها أن تثير فينا القلق على صدق تلك المعرفة، لكننا على العكس نشعر بالطمأنينة برغم الفجوة، وهي طمأنينة تمليها فطرة الإنسان عليه إملاء، وكأنما هو وحي داخلي في طبيعة الإنسان، بأن الله سبحانه قد أراد لنا الهداية بما يشبه النور الذي تراه القلوب ولا تراه الأبصار.
وإذا وجدت نفسك - أيها القارئ - على قلق من أن يكون للتشابه كل هذا الثقل في عمليات المعرفة، فهات أي مثل تريد، لموقف فيه معرفة أدركتها، وانظر، فمثلا: قد ترى صديقا لك في الطريق، فتعرف أنه هو فلان، فكيف عرفت ذلك؟ إنك عرفته من مقارنة سريعة أجريتها بين صورة ذلك الصديق كما هي مختزنة في ذاكرتك، وبين صورة الرجل الذي رأيته في الطريق، فوجدت تطابقا، أي أنك وجدت تشابها بين الصورتين، ومن هذا المثل البسيط، تستطيع أن تتصور كيف أنك في كل موقف تتعرف فيه على شيء أو تدرك فيه حقيقة شيء، تلجأ إلى مقارنة تجريها بين قديم عرفته وجديد طرأ عليك وتريد أن تعرفه، وفي مثل هذه المقارنة تكمن علاقة الشبه التي هي محور الإدراك.
ومضت بعد الإمام الغزالي سبعة قرون أو نحوها، وظهر ديكارت ليتناول ما يعرفه بالمراجعة ابتغاء اليقين، وارتكز في ذلك على الركيزة التي استند إليها الغزالي، وهي أن نبدأ من صور أولية في فطرة الإنسان، لنخرج منها نتائجها، وبينما هو سائر على هذا الطريق في خطواته الأولى، وجد أنه إذ هو يستدل يقينا من يقين، تنشأ له تلك الفجوة التي أشرنا إليها، فمثلا إذا قال: إن الخط «أ ب» يساوي الخط «ج د»، لكن هذا الخط يساوي خطا ثالثا هو «ه و»، إذن يكون الخط الأول «أ ب» مساويا للخط الثالث «ه و»، فنشأ له السؤال: كيف تركبه إلى هذا اليقين الرياضي، مع أنك تنتقل من خط إلى خط، وتستغرق عملية الانتقال فترة من الزمن، لا حيلة لك فيها إلا أن تركن إلى ذاكرتك، لتحفظ لك حقيقة الخط الأول ومساواته للخط الثاني، وتحتفظ بها ريثما ينظر في مساواة أخرى بين الخطين الثاني والثالث، ألا يجوز على الذاكرة أن تسهو فتدس شيئا من الخطأ فيما كان قد وكل إليها حفظه، فلم يكن أمام سؤال كهذا من سبيل، سوى التسليم بأن ذلك ممكن من الناحية النظرية، لكن شعورا بالطمأنينة ينبثق من فطرة الإنسان، بأن مثل هذا التضليل من الذاكرة لا يحدث بالفعل، مما يجعلنا نظل على يقيننا بصحة الاستدلال الرياضي، ولماذا لا يحدث ذلك التضليل من الذاكرة؟ كانت الإجابة عند ديكارت هي: أنها رحمة الله بالإنسان، إن صنعت له فطرة تهديه إلى ما هو حق.
إنك لا تجاوز الصواب، إذا قلت إن كثرة غالبة من عمليات الفكر، حتى في أدق العلوم، ومنها العلوم الرياضية بأسرها، تعتمد على ما يسمونه بالعلاقة «المتعدية»، وأبسط مثل نوضح به تلك العلاقة، هو أن نقول: إذا كانت «أ» تساوي «ب» وكانت «ب» تساوي «ج»، إذن تكون «أ» مساوية ل «ج»، فها هنا قد ربطنا بين «أ» و«ج» عن طريق «ب» التي تجعلها حلقة اتصال بين الطرفين، ثم تتعداها، ولو دققت النظر في هذه العملية الاستدلالية، التي تمثل الطريقة التي يعمل بها العقل في معظم عملياته العملية، وجدتها تتضمن تلك الفجوة التي حدثتك عنها، أي أنه لا بد للعقل من قفزة يقفز بها من موقف إلى موقف ثان، لكي تتاح له أن يقفز قفزة أخرى يربط بها الطرف الأول بالطرف الأخير، وهو في قفزاته تلك يكون في فراغ؛ لأنه يبعد مؤقتا عن الموضوع المطروح للتفكير فيه، وكما ذكرنا من قبل، أن العقل خلال هذه الانتقالات، يعتمد في صحة سيره، على أمانة الذاكرة، حين تحفظ له الجزء الأول، ريثما ينتقل إلى الجزء الثاني، فإذا سألنا: كيف يمكن أن يقام بناء العلوم، وفي مقدمتها علوم الرياضة المعروفة بيقين صحتها، أقول: كيف يمكن أن يقام بناء العلم على أساس الثقة في صدق الذاكرة وأمانتها؟ فيكون جواب السؤال، الذي لا جواب سواه، هو أن فطرة الإنسان تدفعه دفعا إلى الطمأنينة، فإذا لم يكن يدري لماذا تدفعه تلك الفطرة إلى الثقة فيما لا يستحق كل هذه الثقة - وأعني «الذاكرة» - أجابه مفكر كالإمام الغزالي، أو فيلسوف مثل ديكارت، بأنه نور يقذفه الله في صدورنا لنهتدي به في تلك اللحظات الحرجة! إبان السير في عمليات التفكير العلمي؛ لأنه بغير تلك الهداية الإلهية، لم يكن لينشأ علم وعلماء.
وإذا تركنا مجال التفكير العلمي، إلى ما سواه من سائر المجالات، التي هي كثيرة ومتنوعة، ولا تكتمل للإنسان حياة بغيرها، مثل «الإرادة» التي بها يختار الإنسان أهدافه التي يسعى إلى تحقيقها، ومثل «الإيمان» بعقيدة دينية، أو «الاعتقاد» في فكرة سياسية أو غير سياسية، وأمثلة أخرى من مجالات أخرى كالفن والأدب وغيرهما، أقول إننا إذا تركنا مجال «العلوم» إلى شتى المجالات الأخرى، التي هي ضرورة في حياة الإنسان، كضرورة العلوم، إن لم تكن أكثر لزوما، وجدنا ما يشبه الفجوات التي وجدناها في التفكير العلمي، والتي قلنا عنها إنها تظل بغير تعليل، إذا لم نعللها بلطف الله بعباده على حد ما قاله ديكارت في هذا الصدد؛ وذلك لأننا في أي مجال من تلك المجالات الأخرى، واجدون حتما ما يدعونا إلى التساؤل قائلين، ما الذي يبرر هذه الفكرة لصاحبها، ولماذا لم يقع على فكرة أخرى؟ فمثلا، خذ مجال «الإرادة» حين نجد الكثرة الغالبة من البشر قد «أرادت» أن تكون «الحرية» هدفها الذي تسعى إليه، فنسأل: لماذا لم تقع إرادة الإنسان على «العبودية» مطلبا؟ فلست أظن أنك واجد لنفسك جوابا مقنعا ، إلا أن تقول إنها فطرة فطر الخالق سبحانه وتعالى الإنسان عليها، تماما كما قلنا عن افتراض الأمانة في الذاكرة عند الانتقالات القصيرة، من المقدمات إلى نتائجها، في التفكير العلمي.
وهكذا يرى الإنسان، في كل خطوة يخطوها بعقله في العلم، أو بوجدانه في العقيدة، أو بإرادته في دنيا الغايات والوسائل، إشارة دالة على أن الله معه، يهديه بما ألهم فطرته، ذلك إذا أحسن الإنسان إصغاءه إلى فطرته وهي في نقائها، لم يفسدها التضليل وخبث النوايا.
طريق القدماء طريقنا ... ولكن
كنت ذات يوم من شهر ديسمبر سنة 1953م، أسير في شوارع نيويورك، ومررت في طريقي بمكتبة فدخلتها، وإذا أول ما يواجهني عند دخولها، قائمة خشبية صغيرة، ذات طوابق أربعة، وكان الرف في كل طابق فيها مربعا، رصت على كل جانب من جوانبه الأربعة مجلة أو مجلتان، وقد وضعت تلك القائمة الخشبية مستقلة بذاتها عند المدخل، وكأنها عالم متوحد بذاته، لا شأن له بما احتوت عليه المكتبة من كتب وغير كتب مما تعرضه المكتبات، فأخذت أدور ببصري حول المجلات، واحدة واحدة، في الرفوف الأربعة جميعا، ومن تلك اللمحة السريعة عرفت لماذا استقلت تلك المجموعة بمكان خاص يعزلها عن المعروضات الأخرى، ويبرز وجودها في الوقت نفسه أمام الزائرين؛ وذلك أنها كانت كلها مجلات أوغلت في تخصصات بعيدة بعدا شديدا عن التيار العام، وكان بينها مجلة جعلت عنوانها: «من أدب الثقافات الأخرى»، فالتقطتها لأرى محتواها، وإذا بعيني تقع أول ما تقع في فهرس الموضوعات على اسم طه حسين، واسم توفيق الحكيم، وأمام كل اسم منهما عنوان الموضوع الذي ترجم عنه من أصله العربي إلى الإنجليزية، فاشتريت المجلة ومضيت في سبيلي، مكتفيا من تلك المكتبة بهذا الغنم الكبير.
وما كدت أستقر في مكمني مع قدوم الليل، حتى جعلت المجلة سميري، وبدأت، طبعا، بقراءة الترجمة الإنجليزية للنصين المنقولين عن طه حسين وتوفيق الحكيم، ولا بد لي هنا أن أشير إلى الفرحة الهادئة التي سرت في كياني وأنا أقرأ، وهي فرحة المزهو بنفسه إذا ما وجد بضاعته تغزو أسواق الآخرين، وكأنما أنا الكاتب الذي ترجم عنه النصان معا، قل إنها فرحة صبيانية إذا شئت، لكنني أقص عليك واقعا بحذافيره، إلا أن الذي استوقف نظري فيما بعد، عندما فرغت من القراءة وأخذت أسترجع انطباعها في نفسي، هو أنني أحسست فيما قرأته مترجما عنا، وكأنه في إنجليزيته كالغريب في غير وطنه، نعم أحسست وكأنما المعاني في المقطوعتين، لم تخلق إلا لتكون في ثوب عربي، وهو شعور يشبه ما كنت أشعر به أحيانا في أوروبا إذا صادفت عربيا يلبس قبعة، فلأمر ما لم أحدده لنفسي حتى الآن، كنت أرى القبعة غريبة على الرأس العربي، وقلما وجدت انسجاما بين الرأس العربي والقبعة، وهكذا أحسست بشيء من الغرابة أو قل من الغرابة أو الإغراب، بين المضمون العربي والثوب الإنجليزي الذي وضعوه فيه، ولم تكن الغرابة من جنس واحد تماما، في طه حسين والحكيم؛ فأما طه حسين فقد رأيت في جلاء كيف أن الإنجليزية قد ناءت بفيض القول على معناه، فكلمات كثيرة كانت لها طلاوتها في العبارة العربية، بدت وكأنها زوائد قليلة المعنى في الترجمة الإنجليزية، وأما في حالة توفيق الحكيم فقد كانت القطعة المترجمة، فيما أذكر عن بيعة الخليفة أبي بكر الصديق تحت السقيفة؛ فالنص العربي الذي يقرؤه أي قارئ عربي مهما خفت موازينه في عالم الثقافة، دون أن يشعر بحاجة إلى شرح وتوضيح، قد تطلب من المترجم الذي نقل النص إلى الإنجليزية، أن يقف عدة مرات في الجملة الواحدة ليشرح في الهامش ماذا يقصد بهذا وبهذا وبذاك، مما ورد في كل جملة على طول النص من أوله إلى آخره؛ ففي حالة طه حسين، لم يكن المضمون، بل ثوبه العربي هو موضع الغرابة على قارئه في سياق الإنجليزية، وأما في حالة توفيق الحكيم فلم تكن الغرابة في نقل النص العربي إلى ما يقابله في اللغة الإنجليزية، بل كانت الحقائق المروية هي التي بعدت عن الطريق العام بالنسبة إلى القارئ الإنجليزي؛ ولذلك احتاجت من المترجم إلى تعليقات شارحة كثيرة، لماذا؟ لأننا ونحن نقرأ عن موقف هام من تاريخنا الإسلامي، نقرأ عن أشياء ألفناها وتعودنا سماعها، حتى ولو لم نكن على علم بتفصيلاتها، ولكن الأجنبي عن تاريخنا يحس غربة شديدة.
سواء أكان موضع الغرابة في ثوب إنجليزي يرتديه أدب أو فكر عربي، من الصنف الذي شعرت به في القطعة المترجمة عن طه حسين، أم كان من الصنف الثاني الذي وجدته في القطعة المنقولة عن الحكيم؛ فقد كان الدرس الذي خرجت به من الحالتين واحدا، وهو أن للعربي مناخه الثقافي المتميز الفريد، لفظا ومضمونا، ولست أقول هذا لأدهش منه أو لأزعم أنه هو الدرس الجديد الذي تعلمته يومئذ، فلكل ثقافة في الدنيا شيء من هذه الخصوصية، التي يألفها أصحابها ولا يألفها الغرباء، وإنما أقول هذا لأشتق منه نتيجة أراها حجة قوية تبين صلتنا بأسلافنا، ألا وهي التشابه الذوقي بين الأحفاد والأجداد، ولعل ذلك التشابه في الذوق الفني والذوق الأدبي أقوى ما يعمل على ربط الثقافة الواحدة عبر عصورها، في تيار واحد، حتى وإن اختلفت مراحله اللاحقة منها عن السابقة، بل لا بد لها أن تختلف، فهناك الذوق المشترك من حيث الأساس، يربط ولدا بوالد. وأسوق لك مثلا بسيطا، غاية في البساطة، هو «المفعول المطلق» في اللغة العربية، كم هو يشبع مسامع العربي، في حين أن اللغات الأخرى لا تعرفه، ومن هنا كانت ترجمته إلى تلك اللغات مستحيلة، واستمع إلى قول القرآن الكريم:
إذا دكت الأرض دكا دكا ، إن الأذن العربية إذا ما سمعت رنين المفعول المطلق أينما ورد لا تحمل صاحبها على أن يسأل ما معناه؟ إذ يكفيها أنها قد طربت للنغم، برغم أن للنغم معناه أين هو العربي الواحد، الذي ظفر ولو بقدر متواضع من العلم والمعرفة والتذوق، ثم يقرأ ما طاب له أن يقرأه مما أنتجه الأقدمون وأبدعوه، دون أن يحس من أعماق نفسه أنه يعلو مع المادة المقروءة عقلا وروحا؟ ولست أرغم أحدا على قراءة ما لا يستطيب قراءته؛ لأنني أعلم أن للأفراد اتجاهات مختلفة: فواحد له استعداد لقراءة الشعر، وآخر يقرأ التاريخ والرحلات، وثالث يفضل أن يقرأ عن هذا العلم أو ذاك عند العلماء في مختلف علومهم: الفلك، والرياضة، وعلم الضوء، والكيمياء، وغيرها، فأيا ما كان مزاجك، وقرأت شيئا مما خلفه الأقدمون مما يتفق مع ذلك المزاج، وجدت ما قد ذكرته لك وهو الشعور من داخلك بأنك تعلو مع صاحب النص المقروء، وأرجوك أن تلحظ المعنى الذي أقصد إليه حين أقول إنك تشعر بالتسامي والارتفاع؛ لأن ذلك شيء يختلف عن موقف التفرقة بين الصواب والخطأ، أو التفرقة بين مزاج ومزاج في عالم الفن والأدب، فقد تقرأ لعالم الفلك أو الطب أو الكيمياء من علمائنا الأقدمين، فتقع على خطأ صححه العلم الأحدث بعد ذلك، وقد تقرأ لشاعر من شعراء الجاهلية مثلا، أو حتى لمن جاءوا في العصور التالية، فترى روحا تختلف عن روح الحياة الحاضرة التي نحياها اليوم، لكن ذلك كله لا يغير من شعورك بأنك أمام وأمام قدرة قادرة، وجادة، وأمام ضمير علمي أو أدبي، يتحكم في صاحبه فلا يأذن له بأن يتهاون أو يستهتر، نعم إنك تشعر شعورا قويا إذا ما أخذت في مطالعة ما كتبه أولئك العلماء في مختلف ميادينهم، والشعراء الكبار في مختلف عصورهم، بأنك أمام رجل أحس بالتبعة فيما يكتبه أو يبدعه، فهو لم يصنع ما صنعه ليلهو، أو ليهيئ وسيلة للهو لمن يتلقى ثمرة عمله من معاصريه أو ممن ستأتي بهم العصور التالية، أما أن يكون العلم قد جاء بعد ذلك بنتائج جديدة تصحح أخطاء السابقين، وتضيف إلى صوابهم صوابا جديدا، وأما أن يجيء الشعر بعد ذلك أو غير الشعر من صور الأدب، مبدعات تسري في أوصالها روح جديدة، فذلك أمر لا بد منه بحكم الزمن، لكنه لا ينفي ذلك الشعور بالهيبة والتوقير الذي يحس به العربي المعاصر، إذا ما جلس ساعة بين يدي سلف من أسلافه في الميدان الذي يهمه من ميادين العلم والفكر والأدب.
لقد وردت على خاطري الآن قصة «ه. ج. ولز» «آلة الزمن» وهي نوع من الخيال العلمي، بمعنى أن يتصور الروائي أجهزة العلم لكنه بقوة خياله يتقن الصورة التي يصورها لنفسه، إتقانا يتيح للقارئ أن يعيش في دنيا روايته دون أن يشعر، وهو في تلك الدنيا التي تسيرها قوانينها، أن ثمة خللا في التفكير، أو أن هناك استحالة يرفضها العقل، ورواية «آلة الزمن» قائمة على أن تصور الروائي جهازا آليا، لا يسير في المكان كالسيارة والطائرة والقطار والسفينة، بل يسير عبر «الزمن» فيستطيع راكبه أن يضغط على أزرار معينة فيه، فتنطلق به الآلة إلى أي زمن يحدده لها من الماضي، أو يضغط على مجموعة أخرى من الأزرار، فتنطلق به نحو أي زمن يحدده لها من المستقبل، أي أن الآلة لها قدرة السير في أي من الاتجاهين، الماضي والمستقبل، وفق اختيار الراكب، ثم لها فوق ذلك قدرة على تحديد اللحظة المعينة المطلوبة، سواء أكانت لحظة مضى بها الزمان أم كانت لحظة سيأتي بها من المجهول.
أقول إنه قد وردت إلى ذاكرتي رواية «آلة الزمن» فقلت لنفسي: إنها والله فرصة جاءت في وقتها، فلماذا لا أركب هذه الآلة الآن، وأنا بصدد الحديث عن أسلافنا، لأطير بها قافلا إلى لحظة اختارها من تاريخنا الثقافي، لأجلس مع رجال الفكر ساعة أو يوما قد يمتد إلى أيام لو طاب لي المقام، لأستمع إلى ما يقولونه ومتى وكيف يقولون، ولأسهم معهم في الحديث إذا وجدت عندهم قبولا، وإذا رأيت في نفسي قدرة، وعندئذ أعلم بحق إلى أي حد نتقارب أو نتباعد، فإذا كانت بيني وبينهم في دنيا الفكر والثقافة صلة كصلة الرحم، عرفت أننا أسرة واحدة حقا، عاش بعضها يوما، وبعضها الآخر يوما آخر، وهكذا إلى أول الزمان فيما مضى، وإلى آخر الزمان فيما هو آت، وكأبناء الأسرة الواحدة أو العشيرة الواحدة، قد يبلغ الاختلاف بين أفرادها آمادا بعيدة، ومع ذلك يظل بينهم الرابط العجيب، الذي يظل يربطهم في أسرة أو عشيرة واحدة.
وهممت بالتنفيذ، واخترت أن أضبط أزرار «آلة الزمن» على تلك الأيام التي عاشها أبو حيان التوحيدي في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ولماذا أبو حيان التوحيدي؟ إنه اختيار له أسبابه الفكرية والعاطفية عندي، فأما الأسباب العاطفية فمنها أن المرحوم عباس محمود العقاد قال عني ذات يوم إنني «فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة»، أي أنني كنت في رأيه بين جماعة الأدباء أقربهم إلى التفكير الفلسفي، وبين جماعة المشتغلين بالفلسفة أقربهم إلى الأدب، وكنت إذ قال هذا الذي قاله العقاد على علم بأن تلك العبارة نفسها، قيلت عن أبي حيان التوحيدي بالنسبة إلى أهل زمانه، ومن هنا اشتدت الرابطة في نفسي بين التوحيدي وبيني، ومن الأسباب العاطفية أيضا، أن أبا حيان التوحيدي قد لقي الإهمال من معاصريه، برغم أنه ربما كان في الثقافة أوسعهم أفقا، وأغزرهم مادة وأبعدهم عمقا، وأقربهم إلى أن يكون نموذجا حيا لما وصلت إليه الثقافة العربية عندئذ، بعد أن تشربت أصولها بفروع نقلت إليها من الثقافات الأخرى واليونانية منها بوجه خاص، ولقد بلغ إهمال معاصريه له أن بلغ من العوز أدناه، حتى لقد كتب ما ينفث به الحسرة على أن يرى نفسه في مثل ما كان فيه من فقر، بينما غيره من شعراء وغير شعراء يتقلبون في نعيم بما خلعه عليهم الأمراء والوزراء، وأحسب أني لبثت أعواما تعد بالعشرات دون أن أجد من الصدى إلا رجعا خافتا، تكاد لا تسمعه الآذان ولطالما أخذتني الدهشة، ولا أقول الحسرة ولا ما يقرب منها لأنني والحمد لله أعمل ما يريحني، بغض النظر عن الآخرين تجاهي إهمالا أو اهتماما، أقول: لطالما أخذتني الدهشة أن أرى هذا أو ذاك من كبار المثقفين، يقع له كتاب من كتبي لم يكن قد سمع عنه ظانا أنه قد نشره لتوه، مع أن الكتاب قد صدر منذ أربعين عاما أو ما يدور حولها، فمن حقائق حياتنا الثقافية التي تدعو إلى الأسف، أن القدرة على الدعاية عند من ينتسبون إلى عالم الثقافة إنتاجا لها، أهم بكثير جدا من القدرة على ذلك الإنتاج الثقافي نفسه، حتى لقد نجح عدد ليس بالقليل، في أن يصعدوا على درجات الهرم الثقافي إلى قمته، ثم أمسكوا هناك بزمام الرأي والتوجيه، دون أن يكتبوا في حياتهم كتابا واحدا يشهد لهم أمام الله يوم الحساب، وعلى الجادين في البذل والعطاء، أن ينتظروا رحمة الله.
وشيء يقرب من هذا المصير اليائس، كان مصير أبي حيان التوحيدي، لولا رحمة الله الذي قيض له من عرف فضله وعلمه وأدبه، وهو «أبو الفداء المهندس» فذكره للوزير «أبي عبد الله العارض»، فدعاه الوزير ليكون من سماره فسامره التوحيدي سبعا وثلاثين ليلة، بمعنى أن يطرح عليه الوزير أسئلة فيما شاء من موضوعات، فيجيب التوحيدي بما عنده من معرفة واسعة، ويبدو أن «أبو الوفاء المهندس» الذي كان واسطة خير بين الطرفين، لم يكن يحضر جلسات السمر التي تحدث فيها التوحيدي؛ إذ نراه قد استدعى التوحيدي، بعد أن قضى فترة السمر بلياليها السبع والثلاثين، وطلب منه أن يكتب له ما دار فيها من أحاديث، ويبدو كذلك أن التوحيدي قد ظهرت عليه علامة القلق من هذا الطلب، فذكره أبو الوفاء بفضله عليه في إيصاله إلى مجلس الوزير، بل وهدده بالانتقام إذا هو لم يفعل ما أراده له أن يفعله، فاستجاب التوحيدي آخر الأمر وكتب أحاديثه مع الوزير في كتاب من ثلاثة مجلدات جعل عنوانه «الإمتاع والمؤانسة».
تلك هي الأسباب العاطفية التي دفعتني إلى اختيار الفترة التي قضاها التوحيدي في مسامرة الوزير العارض، لتحملني إليها «آلة الزمن» التي أشرت إليها، وأما الأسباب العقلية لهذا الاختيار فواضحة، وهي أنني ما دمت أستهدف من رحلتي «بآلة الزمن»، أن أجالس رجال الثقافة من أسلافنا القدماء عندما كانوا في عز عزهم لأرى على الطبيعة، كما يقولون كم يكون بين العربي من أبناء القرن العشرين، وبين هؤلاء الأسلاف، من تجانس أو تنافر، فمن ذا يكون أفضل من اختيار مجلس ثقافي تعطى الكلمة فيه لأبي حيان التوحيدي، وذلك ما قد كان، ركبت «آلة الزمن» وضغطت على الأزرار المناسبة، التي تحرك الآلة إلى الوراء، حيث الماضي البعيد، ولقد ضبطت تلك الأزرار لتكون محطة الوصول لآلة الزمن هي بغداد في أيام التوحيدي.
واستأذنت الوزير في حضور جلسات السمر، وتفضل فأذن فتابعت الحضور ليلة بعد ليلة، لم يفلت مني إلا بضع ليال، وأشهد أنني ما ضقت صدرا بالحديث الدائر في ذلك المجلس، بل إنني أحسست بأني واحد من أبناء ذلك العهد، بدأت الليلة الأولى بحديث عن الحديث نفسه: متى يطيب ومتى يسخف ويثقل على الآذان؟ وكانت متعتي بلا حدود في الليلة الثانية؛ إذ كان الموضوع عرضا للأعلام من أهل العلم في يومهم، يتناولهم التوحيدي واحدا واحدا بالوصف المركز الواضح الجميل، وكانت له أحكامه على من ذكرهم، تشم فيها رائحة الدقة والنزاهة، وتتابعت بنا الليالي حتى جئنا إلى الليلة السابعة، فكان السؤال المطروح هو عن المقارنة من حيث تربية القدرة العقلية، بين دراسة العلوم الرياضية ودراسة البلاغة، وقد أجاد التوحيدي في العرض الذي وضح به الفوارق والفواصل، ما ذكرنا بمقارنة تحدث في أيامنا أحيانا، بين دراسة العلوم ودراسة الآداب، على أن أمتع ليلة عندي كانت الثامنة بالرغم من أن أبا حيان التوحيدي لم يشارك في الحديث؛ وذلك لأن الوزير قد رأى أن تقام «مناظرة» يدعو إليها صفوة المشتغلين بالحياة الثقافية والمهتمين بأمورها، وكانت المناظرة في المقارنة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، فلقد كان علم المنطق كما صاغه الفيلسوف اليوناني أرسطو، في مقدمة ما ترجمه العرب عن اليونانية، بل إنه ما كاد ذلك المنطق يتخذ صورته العربية، حتى أدرك أهميته رجال العلم والفقه والفكر بشتى ميادينه، وأصبح ضرورة محتومة على كل من ينتسب بصلة إلى عالم الثقافة، أن يكون على أتم دراسة بذلك العلم الذي هو ميزان التفكير السليم، وهنا ضاقت صدور فئة تكره أن ترى علما يأتيها من اليونان، لتكون له كل هذه المكانة التي لم يكن في رأيهم يستحقها، ولماذا رأوا ذلك فيه؟ كان ذلك لأنهم رأوا أن ذلك المنطق إنما بني على لغة اليونان، وأما لغة العبر فمنطقها هو في «نحوها»، وبدا التعارض بين الرأيين خطيرا بالنسبة إلى البناء الثقافي كله.
ولهذا رأى الوزير أن تقام تلك المناظرة في قصره بين رجل في نحو الأربعين من عمره، عرف بعلمه وتقواه وظهرت على وجهه الوسيم دلائل الورع ، وهو «السيرافي»، وبين رجل كان في نحو الثمانين من عمره، لا يكاد الناس يرونه إلا مخمورا، وذلك هو «بشر متى بن بولس»؛ فأما السيرافي فمن الذاهبين إلى أن العربي لا يحتاج إلا إلى إلمام بعلم النحو الخاص بلغته ليستقيم فكره، وأما «بشر متى» فكان دارسا للمنطق الأرسطي ويدرسه للشباب، ولقد قدمت لك وصف الرجلين لأقول إن الفارق بين الشخصين كان كفيلا وحده منذ البداية أن يجعل الرجحان في المناظرة للسيرافي على مناظرة بشر متى، ولقد تتبعت المناظرة بشغف شديد؛ لأنني وقد أتيت من عالم القرن العشرين، وممن عرفوا الكثير عن المنطق وعن النحو العربي معا، فقد اشتدت بي الرغبة في أن أرى ماذا يقول فيهما أبناء القرن العاشر (الرابع الهجري)، وكانت مفاجأة لي أن أعلن الوزير عن وجودي زائرا جاء إليهم من مستقبل بعيد لم يولد لهم بعد.
وطلب إلي في ختام المناظرة أن أدلي برأيي فيما سمعت، فاضطررت أن أبين للحاضرين في تواضع أربكه الخجل، بأن عقدة الاختلاف بين المتناظرين، إنما نشأت من محاولة المقارنة بين موضوعين، وكأن هذين الموضوعين يقعان معا في مستوى واحد من مستويات الفكر، وحقيقة الأمر هي أننا إذا حللنا اللغة، أية لغة كائنة ما كانت، تحليلا نصل به إلى أصولها وجذورها، ألفينا أنفسنا نخطو على درجتين متتابعتين؛ ففي الدرجة الأولى منهما نصل إلى «القواعد» العامة، التي نستخلصها من طرق الناس في استعمالهم للغتهم، كأن نجدهم مثلا يرفعون الفاعل، فتكون القاعدة التي نستخلصها هي أن الفاعل مرفوع دائما، ومن مجموع تلك القواعد يتكون «علم» النحو، ولنلحظ جيدا كلمة «علم» هنا؛ لأن علم النحو كأي علم آخر يستخلص قوانينه وقواعده مما هو كائن بالفعل، لكننا إذ نخطو على الدرجة التالية في طريق التحليل، نجد أنفسنا وقد وصلنا إلى «الصور» التي تجيء عليها حالات الفكر البشري، أيا كانت اللغة التي يستخدمها ذلك الفكر، فبينما يكون علم النحو مختلفا باختلاف اللغات، تكون تلك الصور العامة التي يصاغ بها الفكر البشري، صادقة على اللغات جميعا، كأن تقول مثلا، إذا كانت «أ» هي «ب» وكانت «ب» هي «ج» حكمنا بأن «أ» هي «ج».
وهذا هو المنطق الذي هو أقرب إلى أن يكون فلسفة العملية الفكرية، من أن يكون علما يوضع في صف واحد مع سائر العلوم؛ فالسيرافي يتكلم على مستوى العلم الخاص بقواعد لغة معينة هي اللغة العربية، وبشر متى يتكلم على مستوى فلسفة الفكر التي تصدق على اللغات جميعا، فكيف إذن تجوز المقارنة بين الطرفين؟
وركبت آلة الزمن لأعود بها إلى وطني وإلى زمني موقنا بأن ثقافة العربي في القرن العشرين، هي بالضرورة امتداد لثقافة العربي في القرن العاشر مع القرون التي سبقته، والقرون التي لحقته من امتداد التاريخ العربي، إلا أن مر الزمن الذي يخرج من جذع الشجرة فروعا تنتمي إليه، ولكنها من جهة أخرى تنفرد بخصائصها، فكذلك يفعل الزمن بشجرة الثقافة في أمة بعينها، تظل الفروع تنبثق من جذعها لتجمع بين انتمائها إلى ذلك الجذع وانفرادها بوجودها الخاص.
ولنتعلم من درسنا من عبرة تاريخنا؛ فقد كانت هنالك ثقافة عربية في العصر الجاهلي قوامها الشعر، مع إضافات نثرية هي في طبيعتها أقرب إلى الشعر، ثم كانت هناك ثقافة عربية فيما جاء بعد نزول الإسلام، فإذا باللغة العربية لا تقصر نفسها على الشعر، بل تمد فروعها لتشمل ميادين لم يكن مثقف العصر الجاهلي يحلم بها، فظهر النثر على نطاق واسع، ونستطيع القول إن البطل الحقيقي في تثبيت النثر أداة للإبداع الثقافي جنبا إلى جنب مع الشعر هو الجاحظ، حتى إذا ما استقرت العبارة النثرية وازدهرت، رأينا الفكر العربي يتدفق به أنهارا أنهارا، فهذا فقه وهذا كتاب في علم من علوم اللغة وذلك كتاب في النقد الأدبي، ورابع في الفلسفة وخامس في التاريخ وسادس في وصف الرحلات، وسابع في علم الفلك وثامن في علم الضوء وتاسع في علم الكيمياء، وعاشر في علم من علوم الرياضة وحادي عشر وثاني عشر، إلى ما شئت من عدد.
ولقد كان للقوم عندئذ، برغم هذه الكثرة الكثيرة في تفجر الفروع من جذع الشجرة الثقافية، مشكلة حول التراث العربي شبيهة جدا بمشكلتنا اليوم حول التراث العربي، إلا أنهم عرفوا كيف يحصرون المشكلة في حدودها، إذ حصروها في موضوع اللغة وحدها، دون أن يجعلوها تمتد لتزج أنفها في الميادين الثقافية الجديدة، التي نشأت عندما أرادوا أن يدرسوا اللغة دراسة علمية شاملة كاملة، فكان لا بد لهم عندئذ من الوقوع على معيار يجعلونه فيصلا بين ما هو صواب وما هو خطأ في استعمالات اللغة، وانشقوا حول هذا المعيار منبهين تركز أحدهما في علماء البصرة وتركز الآخر في علماء الكوفة؛ فأما الأولون فقد أرادوا أن يقيموا أساسا عقليا لمعرفة الصحيح من الفاسد، وفي هذه الحالة يكون من حقهم الحكم على أقوال السابقين من أبناء العصر الجاهلي.
فيقولون مثلا: إن فلانا قد أخطأ في اللفظة الفلانية أو في تركيب الجملة الفلانية، بناء على المعيار العقلي الذي وضعوه أو حاولوا وضعه، وأما علماء الكوفة فقد رأوا غير ذلك؛ إذ رأوا أن المعيار هو ما قاله أولئك السابقون، فالصحيح هو ما قالوه والخطأ هو ما لم يقولوه، وبناء على ذلك يصبح من التناقض أن تصف واحدا من السابقين بالخطأ؛ لأنه هو هو معيار الصواب، وغني عن الذكر أن نعلل هذا الاختلاف بين المذهبين؛ إذ يكفي أن نتذكر بأن علماء الكوفة كانوا جميعا عربا خلصا، في حين كان علماء البصرة على مقربة من التأثر بالفرس، ومن هنا رغب أهل الكوفة في أن يحافظوا على أن يكون للعربي وحده سلطة الحكم على صحيح اللغة ماذا يكون، وأما علماء البصرة فقد أرادوا التخلص من أولوية العربي في أحكام اللغة، فاحتكموا إلى «العقل» وحده يقيمون المعيار على أساسه.
فلو أننا تعلمنا الدرس من أسلافنا فيما يختص بالتراث وموقفنا منه، لكان طريقنا واضحا أمامنا فطريقهم هو طريقنا، وهو أن نحصر مشكلة التراث فيما ورثناه عنهم، لكن هذا الذي ورثناه هو قطرة من بحر العلوم وميادين الفكر وأشكال الأدب والفن، مما استحدث بعدهم تماما كالذي رأيناه من فرق بعيد بين مجال القول في العصر الجاهلي ومجالاته الكثيرة التي ظهرت بعد ظهور الإسلام، على أن تلك الحالات الجديدة لم تنبثق كلها دفعة واحدة في لحظة واحدة، بل أخذت تزداد فروعا على تعاقب القرون، فهل نضل سواء السبيل في يومنا هذا إذ نحن قصرنا مشكلة التراث على التراث، وأما ما استحدث من علوم وفنون فنخرجه من مواضع الإشكال، إن طريق القدماء هو طريقنا، ولكن أضيف إلى ثقافة الإنسان فكر جديد.
ضمائر العلماء
هذا حديث لا أصدر فيه عن فكر نظري بحت، فليس هو من ذلك النوع الذي أستمد خيوطه من داخل النفس، وهي على فطرتها البكر، ثم أنسج تلك الخيوط في ديباجة، أقرأ سطورها ولا يقرؤها معي أحد سواي، وكأنها صفحة عرضت لصاحبها في رؤى أحلامه، لا بل هو حديث أستخرجه من لحم الخبرة الحية، ومن أعصابها التي طالما ارتعشت كلما احترقت بأسياخ من حديد ملتهب، نعم فمن تلك الخبرة أستقي هذا الحديث خيوطا خيوطا، ثم ديباجة منسوجة ومسطورا عليها بأحرف من نار.
وأبدأ بتلك اللحظة منذ عشرات السنين، حين جلست في مكتبة جامعية على أرض لم تكن أرضنا، وتحت سماء لم تكن سماءنا، أقرأ كتابا عرفته من إشارة إليه وردت بالحرف الدقيق في هامش صفحة من مرجع علمي، لجأت إليه وكان الكتاب عن الفكر العربي قديمه وحديثه، ولم أكد أستكمل فرحتي بما ذكره المؤلف الإنجليزي، عن الفكر العربي في عصوره الأولى، حيث كان للعلماء ما يثير العجب، من جلد، وصبر، وصدق، وإخلاص وزهد إلا عن الحقيقة العلمية يتعقبونها في مخابئها، أو إن شئت اختصارا لعظمة هؤلاء العلماء من العرب الأقدمين، فقل إنهم ليبهروننا بما حملت أفئدتهم من «ضمير علمي»، لا يخلي بينهم وبين الراحة سبيلا، حتى يبلغوا مأربهم البعيد؛ أقول إن فرحتي بهذا الذي ذكره مؤلف الكتاب عن أسلافنا من العلماء، حتى أخذ مني الغم ما أخذ، حين استطرد المؤلف في حديثه، ليعقد مقارنة بين «العلماء» العرب في وقتنا هذا وأولئك السلف، وهي مقارنة يمكن تلخيصها أيضا في كلمة واحدة، وهي أن الضمير العلمي قد خفت صوته - بالقياس إلى نظيره عند الأقدمين - حتى ليتعذر سمعه عند صاحبه، وربما كان هذا نتيجة جزئية من ظاهرة عامة، هي «المظهرية» الطاغية، بحيث يبدو العربي على شيء غير الذي يخفيه، وتطبيق ذلك على الحياة العلمية، هو أن يكتفي العالم بأن يبدو للناس وكأنه عالم، ولا يؤرقه بعد ذلك أن يعلم بينه وبين نفسه أن الأمر معه قد غلب عليه الخطف السريع من هنا ومن هناك، ولا يتعذر عليه بعد ذلك أن يضم الحواشي والفهارس، التي يشحنها شحنا بأسماء «المراجع» من مختلف اللغات، شهادة له بأنه قد عانى ما يعانيه العلماء.
ومضت بعد ذلك أعوام وأعوام، نسيت فيها ذلك الكتاب ومؤلفه، ولم يبق لي في الذاكرة إلا ما كنت قد أحسسته في نفسي عندئذ من حسرة حزينة، لم يخفف حدتها إلا وهم أوهمني بأنه - أعني مؤلف ذلك الكتاب - مستشرق مغرض كذاب، ولعلي اندفعت إلى تلك العداوة الهوجاء، التي لا تفرق بين حق وباطل، ضد مستشرق درس الفكر العربي من قديمه إلى حديثه، كنت متأثرا بما عبئت به من قراءات معادية للمستشرقين، قرأتها لبعض كتابنا قبل سفري، ولم أكن قد وعيت بعد إلى أي حد يملأ هؤلاء الكتاب أقلامهم بمداد الكراهية لما يجهلونه، فهم يميلون بالعاطفة أولا، ثم يكتبون ما يشبع تلك العاطفة لديهم سواء أصدقت أقلامهم أم كذبت، وكيف لهم أن يعرفوا وأن يفرقوا بين الأبيض والأسود، إذا كانوا يستبيحون الكتابة فيما لم يقرءوا عنه سطرا واحدا، معتمدين كل الاعتماد على إشاعات يتناقلونها جاهلا عن جاهل، ولو أنهم قرءوا، ودرسوا، وتدبروا ما قرءوه ودرسوه، لكان الأرجح أن يجدوا عند المستشرقين صوابا ممزوجا بخطأ، أو خطأ ممزوجا بصواب، وأن الأمر ليس كله ضلالا وتضليلا، وإلا فمن ذا الذي ينكر أن لبعض هؤلاء المستشرقين - والكبار منهم على وجه الخصوص - بحوثا في الفكر العربي، وفي الأدب العربي، لها من النفاذ ما كشف لنا نحن العرب، كنوزا من فكرنا ومن أدبنا، لم نكن لندركها بكل هذه الدقة والوضوح اللذين انكشف بهما ما انكشف، من ذا الذي ينكر أن المشتغلين بهما بتحقيق التراث، قد أخذوا عن هؤلاء المستشرقين شيئا من الأسس المنهجية في عملية التحقيق، من ذا الذي ينكر على أولئك الباحثين أنهم هم الذين قاموا في العصر الحديث بأهم الترجمات التي نقلت بها عيون من عيون تراثنا، علما، وتاريخا، وأدبا وشعرا، إلى هذه اللغة أو تلك من لغات الغرب؟ على أن هذا الجانب الإيجابي كله ليس هو الذي يعنيني الآن، وإنما الذي يعنيني بالدرجة الأولى هو أننا قد ألفنا أن نهاجم كاتبا أو كتابا، دون أن نكون قد قرأنا للكاتب أو من الكتاب حرفا واحدا، ثم لم يقتصر الأمر في ذلك على مستشرقين، بل تجاوز هذا إلى أن يهاجم بعضنا بعضا فيما لم نقرأه؛ فالإشاعة وحدها تكفينا يلقفها لسان عن لسان وينقلها قلم عن قلم، وإذا أنت تعقبت الموقف إلى أوائله وجدت المسألة كلها - في كثير جدا من الأحيان - حقدا أعمى في أول الأمر، ولد وهما في الرءوس، ثم انتقل الوهم إلى السادة «العلماء»، وإلى حملة الأقلام من صفوة الكاتبين، فإذا لحظ من لحظ عن الثقافة العربية الحديثة أنها - بالقياس إلى الثقافة العربية في عصور مجدها القديم - أنها قد باتت فاترة ضعيفة، ينقصها العمل العظيم الذي يتحقق له شيء من البقاء، لقوته، ودقته وشموله؛ ولأنه - فوق ذلك - ينم عن «ضمير علمي» عند صاحبه، لم يكن يأذن له بالتساهل في البحث عن حقيقة ما يكتب عنه، أو يجيز له أن يكتفي في إسناده على إشاعة تناقلتها الأفواه، لا سيما إذا كانت رائحة الحقد والكراهية والتعصب والضغينة تفوح منها حتى لتزكم الأنوف؛ أقول إنه إذا لحظ من لحظ نقصا كهذا في ثقافتنا العربية الحديثة، فلا ينبغي لنا أن نسرع إلى قذفه بالشتائم، عن جهالة، وإنه لأولى لنا ثم أولى أن نتمهل حتى نتبين حقيقة الأمر، لعلنا واجدون عند من تقدم إلينا بفكرة، ما قد ينفع. فما هو ذلك الشيء الذي يطلقون عليه اسم «الضمير العلمي»، والذي زعم لنا الزاعم بأننا قد فقدنا أكثره ، فافتقدناه منذ فترة ليست بالقصيرة حتى لأصبح غيابه يبيض في حياتنا ويفرخ، بحيث اختلطت أمامنا السبل، ولم نعد ندري لمن نصيخ بسمعنا لنستمع، ولمن نصم الآذان عن باطل يريد نشره فينا عن غير علم؟ إن «الضمير العلمي» جانب من الضمير العام، إلا أنه اختص برقابته أمانة «العلماء» فيما يطالبون به الناس، وأما الضمير العام، فهو كما تدل كلمة «ضمير» نفسها، محكمة «مضمرة» لا يراها الناس بل ولا يراها حاملها، ولكنه يسمع صوتها؛ إذ هي تأمره بهذا وتنهاه عن ذاك، على أن أمرها ونهيها - بالطبع - لا يضمنان التنفيذ فهناك قوة أخرى في طبيعة الإنسان هي قوة الإرادة، فإما وجدت تدريبا يعصمها من الزلل ويروضها على الإذعان لما يمليه الضمير، من أمر ومن نهي، وإما تركت تلك الإرادة التي هي بذاتها قوة عمياء لتجمح مع نزواتها؛ وعندئذ يأمر الضمير وينهى، ولكن أوامره ونواهيه تذهب أدراج الرياح، وأمره ونهيه في مجال التفكير العلمي، يدوران حول أمانة الصدق فلا يأخذ العالم بفكرة، إلا إذا استوثق أولا أنه على علم صحيح بمداخلها ومخارجها وأنه يفهمها حق الفهم، في حدود ما يستطيعه؛ إذ إن للبشر حدودا تقيدهم، ومن ذلك نستدل نتيجة هامة، وهي أن الضمير - في مجال العلم وغيره - محكمة تخص صاحبها في فرديته، فقد تجيء ضمائر الناس في جماعة من الناس ملتقية بأفرادها عند حكم واحد، وقد يشذ ضمير بصاحبه إلى فكرة، أو إلى فعل، لا تقره عليه الجماعة، وهنا يجب أن يستمع إلى حكم ضميره هو في مواجهة آخرين، وبغير ذلك لا نتصور كيف ينشأ بين الناس مصلح، ينعطف بهم نحو اتجاه مغاير لما كانوا عليه، إن مثل هذا المصلح عندما يصيح في الناس صيحته الأولى، لا بد بالضرورة أن يشذ وحده عن المألوف، ولم يكونوا قلائل في التاريخ، أولئك الذين شذوا بفكرهم عن مألوف الناس شذوذا يتجه بهم نحو ما هو أصلح وأكثر تقدما، فحدث الصراع بينه وبينهم وإما انتصر هو بقوة فكرته ومضاء عزيمته، وإما انتصر عليه جمهور فضاعت على الحق فرصة الظهور، وأرجئ ذلك إلى حين يشاء له الله ظهورا على باطل، وإن ذلك المؤلف الذي قرأت له كتابه عن الفكر العربي في سيرته الطويلة من قديمه إلى حديثه، ليزعم أن ذلك الفكر في مرحلته الحديثة، قد غاب عنه الكثير من سلطة الضمير العلمي في أوامره ونواهيه، على خلاف ما كانت عليه الحال في القرون التسعة الأولى من تاريخه، ولقد كنت على خطأ ظالم - أنا كاتب هذه الكلمات - حين قرأت ما كتبه ذلك المؤلف عن حياتنا الثقافية في مرحلتها الحديثة، فسارعت إلى اتهامه بما تعلمته من بعض كتابنا من رمي المؤلفين الغرباء بجهالة قبل مراجعة ما كتبوه على واقع حياتنا، ولبث هذا الخطأ الظالم يلازمني حتى وقعت فريسة في شباك الظالمين، الذين حرموا هداية «الضمير»، فاستباحوا أحكاما يطلقونها دون أن تكون لديهم ذرة من علم بما راحوا يطلقون عليه أحكامهم تلك، فإذا تناولت في إيجاز قضيتي معهم، أو قضيتهم معي، فلن يكون ذلك من قبيل العناية بأمر خاص بقدر ما هو أمر عام، يمس حياتنا الثقافية وضرورة تحديثها وتنقيتها من شوائبها، فلقد حدث لي في أول الأربعينيات، أن نشرت مقالة في عيد الهجرة النبوية، وأذكر أني جعلت عنوان مقالتي تلك «هجرة الروح»، واستلهمت فيها هجرة الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة، مما كان سببا في رسوخ الإسلام وانتصاره وانتشاره؛ أقول إني استلهمت تلك الهجرة لأحفز نفسي على هجرة مما كنت فيه حتى ذلك الحين من نقل أفكار الآخرين، إلى موقف جديد أقف فيه مع فكرتي ما دمت مؤمنا بصوابها، وذلك أني منذ ذلك العهد البعيد، أحسست إحساسا غامضا باتجاه رأيت فيه الصواب، وكان الأساس فيه أن تعزل الحقائق «العلمية» وحدها، لتكون لها شروطها فيما يقبل منها وما يرفض، وأما ما عدا تلك الحقائق العلمية فهو أنواع كثيرة، تشترك كلها معا في كونها لا تخضع لأحكام العقل، بالمعنى الذي يجعل العقل حركة استدلالية تبدأ من نقطة أعدت له من قبل، إلى نتيجة تلزم عنها، أي أنه بمنزلة قطار ينتقل بين محطتين: إحداهما محطة القيام والأخرى محطة الوصول؛ فأما الأولى فهي ليست من صنعه وأما الثانية فهي التي يصل إليها، وبذلك تصبح ملزمة للإنسان العاقل، ما دام هذا الإنسان نفسه هو الذي أعد للقطار محطة قيامه، التي حتمت عليه أن يصل إلى ما وصل إليه، لكن ما ليس بعقل (بالمعنى الذي حددناه) من مجالات النشاط البشري، فهو فروع كثيرة - كما قلت - ولكل فرع فيها خصائصه التي تميزه، وأهم ما يفصلها جميعا عن دائرة العقل، أنها ليست انتقالية بين محطة للقيام ومحطة للوصول، بل هي تسكن عند موضوعها، سكون «المؤمن» إذا كان الموضوع عقيدة ما دينية أو غير دينية، وسكون «المتذوق» إذا كان الموضوع ناتجا من فن أو من أدب، أو غيرهما من مواضع الجمال حيثما وجده.
كانت تلك هي رؤيتي - بما كان يكتنفها عندئذ من غموض - عندما نشرت مقالتي «هجرة الروح» في أول الأربعينيات، ثم شاء الله تعالى بعد ذلك أن أسافر طالب علم، وهناك وجدت تيارا فكريا حديث عهد بالظهور، أنشأته جماعة من علماء في ميداني العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، أي أنها جماعة لم تكن «الفلسفة» موضوع دراستها الأولى، وقد عن لأعضائها - لأمر ما - أن يعرضوا مسائل الفلسفة على عقولهم العلمية الصرف، ليروا ماذا عساها أن تعني عند «العلم»، فإذا بهم يتوسعون بحثا وتدقيقا، ليصلوا آخر الأمر إلى ضوابط للتفكير فيما هو «علم» من جهة وما هو «فلسفة» من جهة ثانية، ثم ما هو شيء آخر، فلا هو إلى العلم ولا هو إلى الفلسفة من جهة ثالثة، وذلك الشيء الآخر إنما يراد به كل الميادين التي تقام على إيمان أو تذوق، ولقد كانت تلك الضوابط التي أحكموا صياغتها بمنزلة «منهج» للنظر، كلما أردنا أن نحدد طبيعة عبارة لغوية بين أيدينا، من أي الأقسام الثلاثة هي؟ أهي من «العلم» فنطالبها بما يتطلبه العلم من معايير التطبيق؟ أم هي «فلسفة» فنراها في هذا المجال، أم هي تعبير عن «إيمان» بعقيدة فنزنها بموازين الإيمان، أم هي عبارة قيلت تعبيرا عن تذوق لأثر من آثار الفن والأدب، فنقيسها بمقاييس ميدانها، ولقد أطلقوا على منهجهم النقدي هذا، اسم الوضعية المنطقية آنا أو اسم التجريبية العلمية آنا آخر، فلماذا هي «وضعية»؟ ولماذا هي منطقية؟ كأن هذا الاسم مقصود به ما يخص العلوم الطبيعية بصفة خاصة، فإذا زعم لنا زاعم فكرة ما، تتصل بأي شيء من أشياء الواقع، كان لزاما على فكرته تلك أن تجيء مطابقة بل زعم لها أنها تطابقه، ومن هنا جاءت كلمة «الوضعية» في عنوان المنهج، على أن الأمر لا يقتضي أن نخرج بالعبارة المزعومة إلى الواقع الفعلي، لنرى أهي مطابقة لواقعها أم غير مطابقة، بل لا بد لنا قبل ذلك أن نفحص التركيبة اللفظية نفسها، التي سيقت بها الفكرة المعروضة للفحص؛ لأن هنالك ما يدل تركيبه اللغوي على بطلانه، فلا يكون بك حاجة إلى البحث عن إمكان تطبيقه، ومن هنا جاءت صفة «المنطقية» في العنوان.
وأظنه واضحا وضوح الشمس في سماء صافية أن اشتراط مطابقة الكلام على أشياء الدنيا الواقعة، واشتراط ما يجيء قبل ذلك وهو أن يكون ذلك الكلام بادئ ذي بدء مما يقبل أن يكون موضعا للتحقيق من معناه، إنما ينحصر في الحالات التي يتكلم فيها المتكلم عن دنيا «الأشياء»، كما هي الحال في العلوم الطبيعية، ويخرج من حسابنا في هذين الاشتراطين: اشتراط «الوضعية» واشتراط «المنطقية»، أقول إنه يخرج من حسابنا كل ما يتصل بميادين الأقوال الأخرى؛ لأن لكل ميدان منها مقاييسه، إننا بهذين الاشتراطين نحصر أنفسنا فيما هو متصل بدنيا الأشياء، مما نريد أن يكون الكلام عنه محكوما بشروط التفكير العلمي، مهما يكن موضوع الحديث إذا ما كنا جادين في القول لا مازحين، فقد يكون كلامنا منصبا - مثلا - على السد العالي، أو المزارع السمكية، أو المفاعلات الذرية أو يدعم السلع التموينية، أو مناهج التعليم أو أي موضوع آخر يجري في هذا المجرى المتصل بدنيا الأشياء والمواقف والوقائع: فها هنا يجب مراعاة الضوابط التي تجعل كلامنا علمي النزعة لكي نضمن إمكان تطبيقه، ولكننا ونحن في سبيلنا إلى تفصيل القول في تلك الضوابط، مضطرون إلى معرفة دقيقة بالفواصل التي تفصل ما هو متصل بالتفكير العلمي عما هو إيمان بالقلب، وما هو تذوق في دنيا الأدب والفن، فلكل صنف ضوابطه الخاصة بطبيعته.
وليس تحديد تلك الفواصل أمرا هينا؛ إذ هو يقتضينا أن نكون على بينة دقيقة من خصائص العلم الرياضي ومن خصائص العلم الطبيعي، وعلى بينة دقيقة كذلك من خصائص المواقف الذوقية في عالم الفن والأدب، وإلا تعرضنا للخلط بين أنواع من القول مختلفة، ولكل منها أحكامه وهنا تجدر الإشارة إلى حقيقة هامة، قد لا يعرفها كثيرون، ولها نتائج بعيدة المدى، وهي أن الفكر الإنساني في كل عصوره السابقة، وقع تحت وهم بأن العلوم كلها سواء في معاييرها المنهجية، لا فرق في ذلك بين علم رياضي وعلم طبيعي، إلى أن جاءت هذه التحليلات العلمية الفاحصة، والتي بدأت بوادرها منذ منتصف القرن الماضي، فعرفنا على سبيل اليقين القاطع أن الحقيقة الرياضية؛ كقولنا 3 + 4 = 7 مختلفة كل الاختلاف تكوينا ومنهجا، عن الحقيقة في أي علم من علوم الطبيعة، والفرق الجذري بينهما هو أن صدق الحقيقة الرياضية يأتي من كونها تذكر الشيء الواحد مرتين ولكن برمزين مختلفين، فما تقوله «3 + 4» هو نفسه ما تقوله «7»؛ ولهذا فليس هناك مجال للخطأ ما دام التحليل الرياضي قد سار على الطريق السليم، أي أن صدق أية حقيقة رياضية لا يتوقف على أي شيء من أشياء الواقع، بل هو متوقف على تركيب الجملة الرياضية نفسها، وذلك على خلاف العلوم الطبيعية، فصدقها مرهون بصدق تطبيقها على واقع الدنيا الخارجية، ولهذه التفرقة أهمية لا نهاية لحدودها في تقديرنا لما يديره الناس في حياتهم من أفكار؛ وذلك لأن ما قلناه عن الحقيقة الرياضية من أن صدقها غير مرهون بالرجوع إلى واقع الأشياء، يقال كذلك على أي فكرة في أي مجال يكون قوامها موضوعا وتحليله؛ كأن تقول - مثلا - إن الشقيقين جاءا من أب واحد وأم واحدة، فأنت في هذا القول لا تقول أكثر من أن تكرر الشيء الواحد مرتين، ولكن برمزين مختلفين، فإما أطلقت على ذلك الشيء كلمة «شقيقين»، وإما أطلقت عليه من أب واحد وأم واحدة؛ لأن هذه العبارة الثانية هي مجرد تعريف للعبارة الأولى لا أكثر ولا أقل، وتسألني ما أهمية ذلك؟ وأجيب: أهميته أن نسبة ضخمة، أضخم جدا مما تتصور مما يطرحه الناس في حياتهم الفكرية، هو من هذا القبيل الذي يكرر نفسه، ولا يكون بذي شأن بحقائق الواقع، أعني أن صدقه هو في طريقة تركيبه، وليس صدقه في الرجوع به إلى معيار التطبيق؛ لأنك قد تقول ما قلنا عن الشقيقين حتى إذا كنت وحدك على كوكب المريخ، ولا والد هناك ولا والدة ولا أشقاء، وكل ما هو مطلوب منك إذ ذاك، هو أن تكون على علم باللغة العربية، فتعرف معنى الكلمات: شقيق، ووالد، ووالدة، ولست أريد إثارة القلق في نفسك، بأن أؤكد لك كم هو حجم الأفكار، التي يظن الناس أنهم يقولون بها شيئا عن الواقع الفعلي، في حين أنها مجرد ألفاظ معينة وتعريفها على أساس العلم بمعاني الكلمات.
تلك هي بعض التفصيلات التي منها يتكون منهج التحليل المنطقي الجديد، الذي أطلق عليه أصحابه - وكان جميعهم من علماء الرياضة والطبيعة - اسم «الوضعية المنطقية» آنا واسم «التجريبية العلمية» آنا آخر، والهدف المقصود منه هو الزيادة من دقة التفكير العلمي، وفي سبيل ذلك الهدف تراه يعمل على التمييز بين معنى الصدق في العلم الرياضي من جهة، ومعناه في العلم الطبيعي من جهة أخرى، ثم التمييز بين هذين العلمين معا في دائرة وبقية فروع المعرفة في دائرة أخرى، وترك لمن يشاء من أصحاب الاختصاص في هذه الدائرة الثانية، أن يمايزوا بين معايير الصدق في العقائد الإيمانية من ناحية وفي الأدب والفن من ناحية أخرى وهكذا، ولقد كانت قاعدة الانطلاق هي الوقوف طويلا عند «اللغة»، التي هي في معظم الحالات أداة التبادل في ضروب المعرفة والثقافة على اختلافها، نعم كانت الوقفة عند اللغة طويلة وعسيرة لاستخراج فلسفتها، ليعرف الباحث أسرار اللغة ومركباتها في نقل الأفكار، ونقل الحالات العقلية والنفسية على اختلافها، وكان كل ذلك الجهد يبذل التماسا لضوابط الدقة في عرض الإنسان لأفكاره ولسائر حالاته الوجدانية كذلك.
ولقد أنبأتك فيما أسلفته، أنني كنت قبل سفري طالبا للعلم، قد سجلت رؤية رأيتها فيما كنت أعتزم أن أجعله منهجي في التفكير، وكان ذلك في مقالتي «هجرة الروح» التي نشرت لمناسبة عيد الهجرة في أول الأربعينيات، وكنت قد اقتصرت في عرض رؤيتي على الإطار الهيكلي لما أردت له أن يكون منهجي في التفكير، فلما سافرت كان أول ما استوقف نظري ذلك التيار الفكري الجديد الخاص بمنهج التحليل المنطقي، الذي يضمن للمفكر مزيدا من الدقة العلمية في تفكيره، ورأيت في شيء من الدهشة والسرور كم هو قريب جدا هذا التيار الفكري مما كنت قد رأيته لنفسي، غير أنني كنت قد تركت الهيكل عاريا خاليا من تفصيلاته، أما التيار الفكري الذي وجدته هناك فقد كان - بالطبع - مليئا بتفصيلاته لكثرة العقول العلمية التي تناولته بالعرض والشرح أو بالنقد وبيان مواضع النقص فيه، ومهما يكن من أمر ذلك كله، فقد أعطيت ذلك التيار جزءا من وقتي وجهدي لألم بجوانبه ونواحيه، على الرغم من أنه لم يكن هو موضوع دراستي الذي سافرت من أجله.
ولماذا صادف ذلك المنهج التحليلي قبولا عندي واهتماما؟ كان ذلك لأنني رأيت فيه وسيلة فعالة في نقد الفكر العربي الذي نعيش تحت مظلته؛ فلو أنني سئلت ما الذي تراه نقيصة أولى في الفكر العربي الحديث، تفرعت عنها كل النقائض من فقر في الإبداع الذي هدم للأمة العربية ما يحضها على النهوض والمشاركة في ركب الحضارة العصرية؟ لكان جوابي هو أن النقيضة الأولى هي ذلك الإسهال اللفظي الذي ندفقه دفقا بغير حساب نطقا باللسان، وكتابة بالقلم، فإذا أنت دققت النظر في هذه الزوابع الكلامية التي تعصف بالعقل العربي، لترى كم منها يتحول إلى فعل حقيقي يزيح عن الأمة العربية مشكلاتها، وجدت الجواب يبعث على الأسف والأسى، فمعظم تلك العواصف اللفظية كلام فارغ من المعنى الذي من شأنه أن يؤدي إلى عمل، فماذا يصنع المواطن العربي المخلص لأمته خيرا من أن يضع أصابعه على مواضع النقص، ليوضح العلة توضيحا علميا جادا لا يبتغي إلا الخير لأمته؟
وهكذا صنعت وأصنع وسوف أظل أصنع حتى يحين الأجل، فالذي ينقصنا هو جدية التفكير ودقته، والصدق في الإيمان وفي الإبداع وفي كل جانب آخر من جوانب الحياة الثقافية كلها، إلا أن ما لقيته وما ألقاه وما سوف أظل في أغلب الظن ألقاه من السادة «العلماء» ورجال الفكر والنقد، يدعو إلى العجب، فلو أنهم درسوا وعرفوا ثم غضبوا من منهجي في التحليل المنطقي للأفكار، حتى نقيم المستقيم ونمحو المعوج لاستبشرنا خيرا؛ لأن ذلك الأخذ والرد في الحياة الثقافية هما علامة الحياة، شريطة أن يصدرا عن ضمير علمي حي، لا يفتري على الحق كذبا وجهلا، أما أن يتصدى الناقد لما ليس يعرف عنه شيئا، ولما لم يقرأ عنه سطرا، فذلك هو الحقد الأعمى الذي يهدم ولا يبني. بدأت المعارك الهوجاء منذ أوائل الخمسينيات، فلقد هم «عالم» من علمائنا الذين كنا نود من صميم قلوبنا أن يكونوا «أجلاء» في أواسط الخمسينيات، وأخذ ينشر في الناس أن صاحب هذه الكلمات «عميل» للمستعمرين! سبحانك اللهم فإياك نستعين على البلاء، أهو «عميل» للمستعمرين. ذلك الذي يدعوك إلى مزيد من ضوابط الدقة في التفكير، كلما أردت لذلك التفكير أن ينتج فكرة علمية صحيحة، تعين الناس على حل مشكلة من مشكلاتهم؟ وهل قرأ ذلك العالم ما كنت قد كتبته وقتئذ قراءة فيها العناية التي تبرر له أن يتجهم بمثل تلك التهمة الشنعاء؟ اللهم لا، وإلا فقد قرأ ولم يفهم ما قرأ، وحسبنا أنه أخذ يصول ويجول في نقد المذهب الوضعي الذي ينسب إلى أوجيست كونت، حاسبا أنه هو هو منهج التحليل المنطقي الذي تستهدفه الوضعية المنطقية! ثم تعاقب المهاجمون «عالما» بعد «عالم» وناقدا بعد ناقد، وإني بعد أن أستغفر الله من الحلف به سبحانه وتعالى، في أمثال هذه الصغائر التي كتب علينا أن نشقى بها، أحلف بالله العظيم إن علماءنا هؤلاء الذين كنا نتمنى أن يكونوا أجلاء، قد هاجموا شيئا لم يقرءوا عنه حرفا واحدا، وربما لو قرءوا بمثل قراءتهم القلقة العجلى لما فهموا شيئا.
فهل أخطأ مؤلف الكتاب الذي تحدث فيه عن الفكر العربي قديمه وحديثه، حين أشاد بما كان لأسلافنا من «ضمير علمي» بقدر ما فجع لغياب هذا الضمير في الفكر العربي الحديث؟
لجاج واختصام
سألني كاتب عربي خلال حديث طويل جرى بيننا، تشعبت معنا أطرافه حتى شمل جوانب كثيرة من حياة الثقافة العربية في أيامنا هذه، وكان هو في أغلب الحديث سائلا وكنت مجيبا؛ لأنه من أجل هذا زارني، ولقد سعدت بحديثه، وشرفت بفضله، سألني في ختام حديثه قائلا: ماذا تقول في أوجز عبارة ممكنة، إذا أردت أن تحدد للناس دورك الذي أردت أن تضطلع به في حياتنا الفكرية؟ فأجبته: إنه محاولة لتوضيح الأفكار المحورية التي تدور حولها ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، تلك هي الإجابة الموجزة عن سؤالك. ولكني أريد أن أضيف إليها هامشا شارحا، حتى لا يساء فهم ما أعنيه، وهو أني لم أقصد بذلك التوضيح للأفكار السياسية الشائعة، إلى القول بأني ملم بتلك الأفكار، وعلى علم كامل بمضموناتها، فذلك ادعاء لا يدعيه لنفسه إلا جاهل مغرور، وإنما الذي قصدت إليه هو أني أحاول لنفسي أولا أن أحلل الفكرة الغامضة إلى عناصرها؛ لأفهم منها ما استطعت فهمه، حتى إذا ما خيل إلي أن قد استطعت إلقاء بعض الضوء على تلك العناصر الداخلة في تكوين الفكرة، هممت بعرض ما وصلت إليه على الناس.
وليس هو من قبيل الاستطراد المخل، أن أستطرد بالحديث قليلا، لأبين طرفا مما أداه ويؤديه الفكر الفلسفي في كل عصوره، وعلى أيدي جميع أعلامه، وذلك هو قيامه بدور شبيه جدا بعالم الطبيعة، حين ينظر خلال منظار مكبر إلى الظاهرة التي يريد دراستها، فهو عندئذ لا يبتغي أن يضيف من عنده شيئا إلى الظاهرة لم يكن فيها، فهو - مثلا - إذا نظر بمنظاره إلى ماء في كوب، ورأى حشدا هائلا من الكائنات الحية الدقيقة سابحة في الماء، ولا تراها عين الإنسان المجردة، فهو لم يضف شيئا من ذلك إلى الماء ، بل رأى ما هنالك، فعرف - بفضل المنظار المكبر - ما لا يعرفه الإنسان العادي في حياته العملية، وشبيه بهذا ما يصنعه الفكر الفلسفي عند تمحصه لفكرة معينة، يستخدمها الناس قولا وكتابة، وهم على اعتقاد بأنهم إنما يستخدمون فكرة يعلمون عنها ما يراد بها أن تعنيه، وأما ما يقابل المنظار المكبر في هذه الحالة، فهو عمليات التحليل التي يجريها الفيلسوف على الفكرة المراد توضيحها، وعندئذ قد يجد في مضمونها من العناصر ما لم يتنبه إليه أحد، وأقل ما يقال في هذا الصدد، هو أن عملية التحليل تبين أن ما قد ظنه الناس «واضح» المعنى، هو في حقيقة أمره غامض وفي حاجة إلى إضاءة وتحديد.
وقد تسأل: وهل تنزل علينا أفكارنا كما ينزل المطر، ويكون علينا أن نفحص ما قد نزل علينا من عالم مجهول، لنعرف محتواه؟ ألسنا نحن الذين نضع أفكارنا ونختار لها الألفاظ التي تؤديها، وإذن تكون معانيها هي ما أردناه نحن لها؟ والإجابة هي: نعم، ذلك صحيح بالنسبة إلى «العلوم» التي تقدمت؛ كالكيمياء والفيزياء، ففيها يصنع علماؤها لغتها بعيدا عن لغة الحياة الجارية، أما ما عدا ذلك من مجالات القول، مما تستخدم فيه لغة مأخوذة من لغة الناس في حياتهم اليومية، فالأفكار المعروضة تكون مشوبة دائما بدرجة من الغموض، لماذا؟ لأن الألفاظ الواردة في لغة الناس الجارية، تشحن بكثير من مشاعر هؤلاء الناس عند استخدامهم للغة، ومن هنا تأتي اللفظة، أو العبارة، جامعة بين وظيفتها في الإشارة إلى الأشياء التي تتحدث عنها، وبين ما قد شحنت به من مشاعر؛ كالفرح، والحزن، والتفاؤل، والتشاؤم، وهكذا. والذي يحدث بالفعل، هو أن جميع «الأفكار» التي تدار حولها الحياة الفكرية، في السياسة والاقتصاد، والاجتماع، وعلم النفس، وفي القيم المختلفة التي تقوم بها المواقف والأشياء والأشخاص؛ كقولنا: شريف، صادق، شرير، حر، عادل، جميل، وفي، غني، فقير، مثقف، إلخ إلخ، أقول إن جميع الأفكار التي تجيء كلمات كهذه لتدل عليها، هي على كثير جدا من الغموض، وموضع المأساة، هو أن هذه الكلمات الغامضة بطبعها، هي هي نفسها التي تثير في أصحابها التعصب، والانحراف ، والخصومة، والقتال.
فهي إذن تحتاج منا دائما إلى نوع من التحليل، والتوضيح، والتحديد، ليكون المتجادلون بها على علم فيما يتجادلون حوله، وأن الفكرة المعينة لتصبح «واضحة» كل الوضوح، في حالة واحدة فقط، وهي أن نعرف ما هي «الإجراءات» العملية التي يصبح في وسعنا أن نجريها بالفكرة عند معالجتنا للأشياء التي تضطرنا حياتنا العملية إلى معالجتها. فمثلا نحن جميعا نريد لقول القائل أن يكون «صادقا»، فكيف نعلم عن قول معين أنه «صادق»؟ هنا تجيء العملية التحليلية الموضحة للإجراءات التي نجريها على ذلك القول لنميز فيه بين الصدق والكذب، وليس ذلك بالأمر الهين السهل في كثير جدا من الحالات.
ويكفيني هذا استطرادا في مجرى الحديث، أردت به تحديد ما قصدت إليه، حين أجبت عن سؤال الكاتب العربي الفاضل، الذي طلب مني أن أوجز القول في الدور الذي حاولت الاضطلاع به في حياتنا الفكرية، وكان جوابي هو أنني حاولت الإسهام في توضيح المعاني الأساسية التي تدور بها الألسنة والأقلام، دورانا يفترض فيها الوضوح وما هي بواضحة، فيلزم عند ذلك أن ترانا «نلت ونعجن» أياما وأعواما، في أفكار لها أهميتها، ومع ذلك لا يتسرب من ذلك شعاع إلى سلوك الناس في حياتهم العملية، ليتغير بما أردنا له أن يتغير به.
وإذ كنا نتحدث في هذا، أمدتني الذاكرة من تلقاء نفسها، ببيتين من شعر العقاد، أوردهما في قصيدته المعروفة، التي أسماها «ترجمة شيطان» وهي قصيدة طويلة تمتد بضع صفحات، أراد بها أن يترجم لحياة الشيطان: فما الذي اقترفه من إثم، وكيف أنه عوقب على ما اقترف، بأن أنزل من سمائه إلى أرض الناس هذه، فأراد أن ينتقم لنفسه بغواية البشر، وبينما هو ينتقل من محاولة فاشلة إلى محاولة فاشلة، لمعت في رأسه فكرة «شيطانية»، وهي أن ينصب للناس فخا لا نجاة لهم من شره، وهو أن يلقي فيهم فكرة اسمها «الحق»، ولما كان الشيطان على يقين بأنهم لن يصلوا عن هذا «الحق» إلى نتيجة حاسمة يقبلونها جميعا، فلا مفر لهم من خصومات حولها؛ إذ ما يرى أحدهم، أو جماعة منهم، أنه هو «الحق» سيراه آخر، أو جماعة أخرى أنه هو عين «الباطل»، فتشتعل الحروب إلى غير نهاية، وهو مطلوب الشيطان، وهاك نص البيتين:
ورمى أول فخ فأصابا
ودعاه «الحق» فاستلقى فنام
وأناب «الحق» عنه فاستجابا
وإذا الحق لجاج واختصام
هكذا جعل العقاد شيطانه يستلقي وينام مستريحا مطمئنا إلى أن الفخ الذي نصبه لبني آدم كفيل وحده بأن يثير فيهم اللجاجات والخصومات، وما تؤدي إليه هذه الانقسامات من ضروب القتال، وبذلك تتحقق له الغواية التي أرادها لهم لتنحرف بهم نحو الشر، ولم يكن ذلك الفخ اللعين سوى وهم - في ظن الشيطان ومن جرى مجراه - يوهمهم بأن ثمة في هذه الدنيا شيئا اسمه «الحق»، وإذا بهم لا يملكون سوى وجهات للنظر إزاء أحداث العالم، والأرجح أن تنبثق لكل منهم وجهة نظره من جوف منافعه كما يراها.
لكن شيطان العقاد هذا لم يصب كل الصواب، ولا هو أخطأ كل الخطأ، فهو مصيب في ظنه إذا كان الأمر مقصورا في حقيقته على ما هو واقع فعلا في حياة الناس كما هي واقعة؛ إذ هم بالفعل متنازعون أبدا متخاصمون أبدا، وإن تعددت أسباب ذلك وتنوعت، بتعدد العصور والظروف وتنوع مشكلاتها. وتكفيك نظرة واحدة سريعة إلى أمة واحدة هي الأمة العربية، في عصر واحد هو عصرنا، فبينما منطق التاريخ كان يوجب عليها التوحد إزاء ما يتهددها من خطر جسيم، إذا بها تتخاصم وتتقاتل بعضها مع بعض، على نحو قد يكون فريدا بالقياس إلى كل ما قد شهده تاريخها، فإلى هنا في وسع الشيطان أن يقول صادقا: انظروا! لقد نجح الفخ فيما أردت له أن ينجح فيه؛ إذ ترى كل جزء من الأجزاء المتنازعة يظن أنه هو الذي التزم «الحق»، وأما سائر الأجزاء المخالفة فهي على باطل!
لكن اقلب المنظار لترى الأمر من طرفه الآخر، ترى الشيطان قد أخطأ الرأي؛ وذلك لأنه إذا أقام رأيه ذاك على واقع حياة الناس في منازعاتهم، فاتته الحقيقة التي هي أن الناس لم يتنازعوا على ما أسموه «بالحق»، إلا لأن فكرتهم عن «الحق» قد شابها ضباب كثيف من «الغموض» حجب عنهم وضوح الرؤية، فتعثرت أفهامهم، كما تتعثر أقدام السائرين في جوف الضباب وهم لا يشعرون، فالعلة كل العلة هي امتناع «الوضوح» عن أفكارنا، ولما كانت الأفكار في الرءوس هي التي توجه أصحابها في مسارهم، تحتم على حملة الأفكار الغامضة أن يتخبطوا على الطريق، تخبطا بمعنى الكلمة الحقيقي وبمعناها المجازي في آن واحد، فهم بالفعل يتصادمون بالأجسام فيخبط بعضهم بعضا بنيران المدافع وقنابل المقاتلات، فوق ما يتقاذفون به من كلمات مسمومة تكتب أو تذاع، ذلك هو التخبط بمعناه الحقيقي، وأما التخبط بمعناه المجازي، فهو ما يحدث نتيجة لأفكار غامضة، يأخذها حاملها على أنها واضحة المعاني، فيضل بضلالها وهو يتوهم أنه يسير على هدى.
ولعل أخطر مصدر للغموض الذي يشوب الفكرة المعينة، فيغمض بالتالي وسائل تطبيقها عند صاحبها، هو الخلط بين واحدية «الاسم» المعين وتعددية «مسمياته». خذ - مثلا - هذا الاسم الواحد: «العربي» وانظر كم هي الشعوب التي تنضوي تحت هذا الاسم على مدى تاريخ طويل، ثم انظر في كل شعب من هذه الشعوب، كم هم الأفراد الذين تألفت منهم حقيقة الشعب الواحد، إننا لو أردنا أن نتحدث بعضنا إلى بعض عن «العربي»، والتزمنا أن نذكر قوائم بأفراد الناس الذين يندرجون تحت مسميات لهذا الاسم، لانقضى الدهر قبل أن يخطو المتحدثان في حديثهما خطوة واحدة؛ لذلك قد تواضع الناس، منذ أن كان على وجه الأرض إنسان يتحدث إلى إنسان، على أن يستخدموا لكل أسرة من أفراد أو مفردات، كأسرة الإنسان وأسرة الطير، وأسرة الشجر، وأسرة الحجر، رمزا واحدا يدل عليها اختصارا للزمن، وعند هذه النقطة ذاتها يبدأ انفتاح الزاوية بين «وضوح» و«غموض» في الأفكار التي يتبادلها المتحدثون، فأما من شاء له ربه وضوح الفكر، فلا يفوته هذا الفارق بين «واحدية» الاسم و«تعددية» مسمياته؛ فالمسميات الكثيرة التي تندرج تحت الاسم الواحد، يختلف كل منها بما يميزه عن بقية أفراد أسرته أو مفرداتها، لكنه كذلك يشترك في أسس واحدة مع بقية أسرته، ولولا تلك المشاركة لما جاز أن يطلق «اسم» واحد على مجموعة «مسمياته»، لا في يوم واحد ولا في قرن واحد، بل إنه يطلق على تلك المسميات، بكل ما مضى منها، وكل ما حضر، وكل ما سوف يكون، وفي هذا الضوء نعود إلى المثل الذي ضربناه، وهو اسم «عربي»، فقد كان هذا الاسم ليخلو من دلالته إذا لم يكن هنالك الأسرة التي يشير ذلك الاسم إلى أفرادها، وإذا لم يكن كذلك بين هؤلاء الأفراد ما يشتركون فيه، لكنه كذلك يكون مصدرا للغموض الفكري، إذا ظن المتكلم به، أو السامع أنه ما دامت الأمة العربية عربية بجميع أقطارها، وجب أن يكون التطابق كاملا بين شعب عربي وشعب عربي آخر، أو بين عصر من التاريخ العربي وعصر آخر.
ونزيد الموضوع دقة علمية فنقول: إننا إذ نقول إن فلانا هو فلان، وكأن نقول: إن العقاد هو العقاد وهو بالطبع قول صادق صدق اليقين، لا بحكم التجربة، بل بحكم العقل الخالص في محض فطرته، سواء أكانت لصاحبه تجربة مع واقع حياة العقاد أم لم يكن، فإننا برغم هذا اليقين النظري نكون على شيء كثير من غموض الفكر، إذا لم نتذكر أننا حين أطلقنا على شخص العقاد اسم «العقاد»، فإنما أطلقنا اسما واحدا على سيرة من حياة امتدت خمسة وسبعين عاما، في كل عام منها كذا يوم، وفي كل يوم منها كذا ساعة، وفي كل ساعة كذا دقيقة، ومحال ألا تكون تلك السيرة «الواحدة» قد اجتازت ألوف الألوف من «حالات» مختلفة، وليس فقط هي مختلفة باختلاف مراحلها، من طفولة إلى شباب فكهولة، بل هي كذلك مختلفة اللحظات، بين صحة ومرض، وصحو ونوم، وعمل وراحة، وانشراح صدر وضيق صدر، وهكذا وهكذا، كل ذلك نجعله مضمرا في نفوسنا حين نتحدث عن العقاد، وإلا فلو ظن متحدثان أن موضوع حديثهما متجانس تجانس ذرة الأوكسجين حين نعزلها وحدها في تجربة علمية، كان ذلك أول الطريق المؤدي حتما إلى نتائج مختلف عليها، ومن ثم تنشأ الخلافات والمنازعات.
إننا نعلم كذلك أن بين قوانين العقل بحكم فطرته، أنه إذا كان هناك نقيضان، فلا بد أن يكون أحدهما - دون الآخر - موجودا؛ فمثلا اللون «الأبيض» و«غير الأبيض» نقيضان، وإذن فلا بد لأي شيء من الأشياء الملونة بلون ما، أن يكون في حالة من حالتين لا ثالث لهما، فهو إما «أبيض» وإما «غير أبيض»، إلى هنا والكلام واضح، لكن يبدأ الغموض مع صاحب الفكر الغامض، إذا لم يتذكر أن اللون الأبيض ليس دائما على «بياض» واحد؛ إذ البياض - كأي لون آخر - كثير الدرجات، ولقد شهد كاتب هذه السطور صورة فنية من روائع الفن الحديث، في متحف من متاحف هذا الفن، اسمها «اللون الأبيض»، وليس فيها إلا ضغومة متسقة من عشرات الدرجات، وأصل اللون الأبيض (وقد نسيت اسم الفنان)، إذن فلو اكتفينا بقولنا «أبيض» فلا بد أن يكون المتحدث وسامعه معا، على بينة بأن اتفاقهما على المعنى، هو اتفاق تقريبي، أما إذا نشأ موقف يقتضي دقة علمية، فيجب الإشارة إلى درجة البياض، ومن هنا نجد علم الضوء، لا يتحدث عن الألوان بأسمائها المعروفة في اللغة، بل يتحدث بأطوال الموجات الضوئية في كل حالة من الحالات، وأما الشق الثاني في قولنا إن الشيء الملون «إما أبيض وإما غير أبيض»، فكثيرا ما ننسى أن «غير الأبيض» يشتمل على ألوان كثيرة؛ الأحمر والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، ومرة أخرى نقول إننا في غير المواقف التي تتطلب الدقة العلمية، نتفاهم على المعاني «بالتقريب»، فلا يحدث بيننا اختلاف ولا خلاف، لكننا إذا نسينا تعدد التفصيلات في الكائنات الدنيا، ثم إذا نشأ لنا - مع هذا النسيان - موقف يستوجب الدقة، فها هنا يظهر للناس كم هم مختلفون.
لقد قدمنا مثلين، هما أوضح ما يكون الوضوح فيما يتبادله المتحدثون من أقوال، ومع ذلك فقد أشرنا إلى بعض مواضع القصور في تحديد ما يريد القائل أن يقوله بأي منهما، فماذا في حياة الناس الجارية أوضح من أن يقول القائل: إن العقاد هو العقاد، أو أن يقول إن الشيء الملون إما أن يكون أبيض وإما أن يكون غير أبيض؟ لكن هذا الوضوح الشديد فيما يرى الإنسان في حياته اليومية العادية، يراه الفكر العلمي - إذا ما كان الموقف يقتضي من المسئول دقة علمية - في حاجة إلى مزيد من التحديد، فالعقاد كأي فرد من الناس بل كأي كائن من كائنات الدنيا، ليس عنصرا ثابتا على صورة واحدة تدوم، بل هو في حقيقته خط من الأحداث، يجعله «سيرة» أي أنه يجعله «تاريخا» وليس عنصرا ثابت الصفات، وإذن فحين يتطلب الموقف دقة علمية، بحثنا في تلك «السيرة» ماذا كانت طبيعة اللحظة المعينة من سيرته، التي تثير اهتمامنا به، فافرض - مثلا - أن جريمة قتل ارتكبت، فعندئذ يهم رجال القضاء أن يعرفوا حالتي المتهم العقلية والنفسية في لحظة اقتراف الجريمة، ولا يكفي عندئذ أن يقال إن المتهم هو فلان، وكذلك قل في المثل الثاني الذي ضربناه عن الشيء الملون، بأنه يكون إما أبيض وإما ليس أبيض، فها هنا كذلك لا يتطلب إنسان في حياته العادية وضوحا أشد من هذا الوضوح، لكنه - مع ذلك - درجة الوضوح لا تقنع من أراد دقة علمية إذا ما تطلب الموقف مثل هذه الدقة؛ فاللون «الأبيض» كثير أطياف، فأي طيف منها هو المقصود؟ وقولنا «ليس أبيض» قول يحمل في جرابه ألوانا أخرى كثيرة.
فإذا كان هذا هو الأمر بالنسبة إلى أمثال هذين القولين الواضحين اللذين قد يقال عنهما إنهما لشدة وضوحهما قد جاءا صورتين بغير مضمون، أقول: إذا كان هذا هو الأمر بالنسبة إلى هذين القولين، فماذا نقول عن الكثرة الغالبة مما يقوله القائلون أو يكتبه الكاتبون، حين نجدهم يسوقون كلمات هي أبعد ما تكون الكلمات عن وضوح المعنى، ومع ذلك نراهم يسوقونها على زعم منهم بأنها أوضح من أن تحتاج إلى تحديد وتوضيح، وماذا - في رأيهم - يحتاج إلى توضيح في معنى «العدل» أو «المساواة» أو «العلم» أو «الفن» وغيرها وغيرها مما له أهمية كبرى في حياة الناس مما كان يقتضي أن تصب أضواء شديدة على تلك المفاهيم الخطيرة، حتى يعرف المعنيون بها عن أي شيء بالضبط يتكلمون أو يكتبون، ومع ذلك نرى أغلب الناس، حتى المثقفين منهم، أقرب إلى أن يسخروا ممن يطالب بضرورة تحديد تلك الأفكار، منهم إلى أن يطالبوا به لخطورته وضرورته.
ومن هنا يجيء موقف الشيطان - الذي ترجم العقاد لحياته - حين أراد غواية بني آدم، فلم يجد لذلك حيلة أقوى من أن يوكل الأمر إلى شيء اسمه «الحق»؛ لأنه من الغموض في معناه، بحيث يكفل أن تقوم بين الناس حوله لجاجات وخصومات لا تنتهي، لكن الذي خلع على فكرة «الحق» هذه الصفة السلبية، هو أن الناس قد استخدموها على «غموضها» بحسبان منهم أنها «واضحة» لا تحتاج إلى مزيد من وضوح، فكان ما كان من أمرها، مما أغرى الشيطان - أو من يشبهونه من أفراد الناس - أن يجعل «الحق» فخا ينصب للتضليل، فالذي ينقصنا هو توضيح فكرة «الحق»، وعندئذ يصبح محالا على عاقل أن يضل بسببه.
فما هو «الحق» على سبيل التحديد الواضح؟ إننا سنترك الآن مؤقتا كون هذه الكلمة اسما من أسماء الله الحسنى؛ لأنها بهذا الاعتبار تحتاج إلى النظر إليها من زاوية أخرى غير الزاوية التي نتحدث عنها عن البشر في حياتهم على هذه الأرض، على أن هذه التفرقة بين الاستعمالين، ليست مقصورة على اسم «الحق»، بل تجاوزها لتشمل سائر هذه الأسماء بما تحمله من صفات، فحديثنا عن «علم» الله سبحانه وتعالى، غير حديثنا عن «علم» الإنسان، وكذلك قل في «الإرادة» و«العدل» و«التصوير» و«الإبداع» وهلم جرا؛ ففي حياة البشر يتحدد معنى «الحق» في كل حالة من حالاته، بمطابقة بين طرفين، أحدهما يؤخذ على أنه المعيار، والآخر يكون هو الحالة المعينة، التي يتم فيها انطباق المعيار؛ ففي الرياضة - مثلا - يكون من «الحق» أن نقول «العشرة أكثر من الثلاثة» (وهو مثل ضربه الإمام الغزالي)، والتطابق هنا هو بين هذه الجملة في طرف، ومبدأ منطقي أولي في طرف آخر، يقول: إن الجزء أصغر من الكل الذي يحتوي عليه، وفي علوم الطبيعة يكون من «الحق » أن شعاع الضوء إذا انعكس على سطح مستو مصقول كالمرآة، فإن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس، وعملية التطابق هنا تكون أحد طرفيها في تجربة عملية يجريها العالم الباحث من جهة، وصيغة هذا القانون الطبيعي من جهة أخرى؛ حيث نجد أن في التجربة العملية مصداق القانون المذكور، وهكذا وهكذا في جميع الحالات التي يتبين لنا فيها أن فكرة ما «صحيحة»، وتستحق أن توصف بأنها «حق».
على أن الإنسان، بحكم تكوينه العقلي، لا يدع متفرقات خبرته متناثرة، كل حالة مفردة منها تقوم وحدها، بل هو يستخلص من المتفرقات التي منها تتكون أسرة متجانسة، الجانب المشترك بينها، ليجعله في ذهنه تصورا واحدا، ويطلق عليه اسما، فيضم ذلك التصور العقلي الواحد تحت عباءته جميع أفراد الأسرة المتجانسة، ويصبح ذلك الاسم الواحد رمزا يشير إلى كل حالة من الحالات ذات الطابع الواحد، وعلى هذا الأساس فإنه مع تعدد الحالات الواقعية، التي تتوافر فيها صفة «الحق» فإن العقل يستخلص منها تصورا واحدا عاما وشاملا، ويطلق عليه اسما هو كلمة «الحق» في تجريدها وشمولها.
ومع ذلك فلا بد لنا، كلما أردنا أن نتحقق من مشروعية اسم من تلك الأسماء الكلية المجردة، من أن نرده إلى حالة واحدة معينة، على الأقل، من مجموعة الحالات التي كونت أسرة، والتي أنشأنا لها ما أنشأناه من «تصور» عقلي، ثم أطلقنا عليه اسمه الدال عليه، فإذا قيل لنا: هل فكرة «الحق» على إطلاقها، ذات معنى واضح؟ أجبنا قائلين: تعالوا نبحث عن مفرد من مفردات أسرتها في الحياة الواقعة في خبرات الناس؛ فإذا وجدنا ذلك المفرد - ودع عنك أن نجد عدة مفردات - فقلنا: نعم إنها فكرة واضحة المعنى، ووضوحها راجع إلى قيام الحالات الواقعية التي منها استخلصت تلك الفكرة، ولعل هذا الموضع من الحديث، هو الموضع الذي نذكر فيه بإيجاز، شيئا عن صفة «الحق» حين تكون اسما من الأسماء الحسنى، فلئن كانت هذه الصفة صالحة لوصف مواقف في حياة الناس، منظورا إليها من زاوية القدرات الإدراكية عند البشر، فهي في هذه المواقف جميعا صفة «نسبية»، أما «الحق» الذي هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، فهو العلم بحقائق الكون علما مطلقا لا يتعرض لبطلان؛ لأنه ليس لعلم الله تعالى مزيد يضاف إليه، فهو علم كان منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد علما كاملا: يكون به «الحق» حقا كاملا.
لقد عدل الشيطان - كما صوره العقاد في قصيدته «ترجمة شيطان» - على فخ «الحق» في غوايته وتضليله لبني آدم، افتراضا منه بأن «الحق» فضفاض المعنى، يختلف حوله الناس باختلاف منافعهم وأهوائهم؛ فلو أن هؤلاء الناس قد تعلموا كيف يحددون معنى «الحق»، استنادا إلى حالاته التطبيقية في واقع حياتهم، منتهين من تلك الحالات الجزئية إلى تصور «الحق» في عموميته وتجريده، لا بادئين بهذا التصور العام المجرد، لخاب رجاء الشيطان في غوايتهم؛ لأنه كلما اختلف اثنان على «حق» جزئي في موقف معين معلوم، لجأ الخصمان إلى الموقف بطرفيه اللذين ذكرناهما: الطرف المقيس من جهة وطرف المعيار الذي يقاس به من جهة أخرى، فلا يلبث ضباب الغموض أن ينقشع، ولا يسع المخاصمين إلا أن يتفقا، ويقف الشيطان في هزيمته رجيما.
صورة مصغرة
كان في حياتي العلمية موقف، ظننته أول الأمر حجر عثرة على الطريق، يضاف إلى عشرات من العقبات التي شاء لي ربي أن أمتحن بها؛ فإما أفلحت في اجتيازها، وإما هويت في القاع، لكن ذلك الموقف الذي أشرت إليه، لم يلبث أن تكشف عن نعمة كبرى؛ وذلك أن الأستاذ الذي وكل إليه الإشراف علي في إعدادي لرسالة الدكتوراه في جامعة لندن، كان في رؤيته الفلسفية على نقيض رؤيتي، وعلى الرغم من أن البحث العلمي بحث علمي، ومن شأنه أن يقيم خطواته ونتائجه على أسانيد موثقة، إلا أن وراء ذلك السطح العلمي الخالص توجها يميل بصاحبه نحو أن يختار موضوعه من مجال فكري معين، وهذا في ذاته يضع أمام الباحث نقطة بدء يكون لها تأثيرها في اتجاه السير، كان الأستاذ ممن يؤمنون بأن المعرفة البشرية وليدة أفكار أولية مفطورة في العقل، وكنت ممن يؤمنون بأن المعرفة البشرية صنفان: صنف منها قائم على العقل الخالص وما فطر فيه ، وصنف آخر لا بد له أن يكتسب من معطيات تجريبية تأتي من مصادر خارج الإنسان وتؤثر في حواسه، فالموجات الضوئية تؤثر في العين، والموجات الصوتية تؤثر في الأذن، وهكذا، ولكل من وجهتي النظر نتائجها في فهم الإنسان لحقيقة نفسه، وحقيقة العالم الذي يعيش فيه، وإلى هذا الحد من التباعد النظري منذ البداية، بل قبل البداية، كان الموقف بين الأستاذ المشرف، والباحث الذي جاء ليهتدي بما يرسمه له أستاذه من خطوات السير، وبرغم هذا التباعد النظري، أقبل الأستاذ على مهمة الإشراف سعيدا بها، وأقبل الطالب على خوف من أن تكون الحياة قد وضعت له حجرا يتعثر به، كما عودته في سابق أيامه ألا تدع له مرحلة واحدة منسابة الخطوات في غير خطر من عثرة فسقوط.
وكان بين الطالب وأستاذه لقاء أسبوعي، يعد له الطالب نفسه إعدادا ليس في قدرته إعداد يزيد عليه، وكان الأستاذ في غير حاجة إلى إعداد سابق لأي شيء، فهو ذو علم واسع يمكنه من الكشف عن مواضع الضعف فيما أعده الطالب، وأغلب المواضع التي يكشف عنها، إنما هي مواضع نقص من وجهة نظره التي ترد كل معرفة إلى صورة في فطرة العقل - كما أشرت فيما أسلفته - وبالطبع كان على الطالب إما أن يجد ما يرد به معتمدا على الأسس الحسية التجريبية التي اقتنع بها، وإما أن يجد نفسه مضطرا إلى تغيير الإطار المنهجي بأسره، فكان هذا التحدي، أسبوعا بعد أسبوع، هو النعمة الكبرى، التي جاءتني من قلب الخطر الذي كنت أخشاه؛ إذ أتيح لي أن أرهف قدرتي النقدية إرهافا، لم يكن ليتحقق لي جزء منه، لو لم أجد أمامي أستاذا، كان بحكم تكوينه العقلي على مذهب مخالف قادرا على إخراج المواضع الإشكالية بين المذهبين، والحق أنه كثيرا ما كان يواجهني مشكلات يرفضها السامع لأول وهلة؛ لأنها تبدو مفتعلة وغير معقولة، ولكن دارس الفلسفة سرعان ما يفيق من سذاجته الفكرية؛ لأنه مما يميز الفكر الفلسفي أنه فكر لا يريد بادئ ذي بدء أن يسلم لفكرة كائنة ما كانت بأنها تفرض نفسها على العقل لنصوع صوابها، بل لا بد لكل فكرة عند دارس الفلسفة من سند منطقي تقام عليه. وأضرب لذلك مثلا مما ورد في الحوار بين ذلك الأستاذ وطالبه، فلست الآن أذكر ماذا كان سياق الحديث بينهما، الذي دعا الطالب أن يقرر - بغير برهان - بأن الإنسان وحده، دون سائر الحيوان هو القادر على توليد المعاني استدلالا لبعضها من بعض، فاعترضه الأستاذ قائلا: من أين لك بهذا الحكم؟ وأجاب الطالب قائلا: كان ديكارت وكلبه ناظرين إلى المدفأة، وهي اللحظة التأملية الديكارتية المعروفة، التي أشرقت فيها على ديكارت فكرة الشك المنهجي، الذي يدعوه إلى إعادة النظر في كل ما يعرفه، ليبحث أولا عن مبدأ أولي يجيء الشك فيه مناقضا لنفسه، فيؤخذ مثلا هذا المبدأ اليقيني أساسا يقام عليه البناء المعرفي كله، خطوة مستولدة من خطوة، فهل كان مثل هذا التأمل وما نتج عنه، في مقدور كلبه الذي أقعى بجواره ينظر إلى المدفأة؟
هكذا أجاب الطالب أستاذه إجابة جاءت تحمل بدورها سؤالا. فقال له الأستاذ: أنا لا أملك حق الإجابة على سؤال كهذا؛ لأني لم أكن قط كلبا لأخبر بخبرة مباشرة ماذا في مقدور الكلب، وماذا يجاوز ذلك المقدور!
من هنا تعلمت كيف أرد الأفكار إلى أصولها، محاولا ألا أنخدع فأظن أصولا ما ليس بأصول، بل هي فروع تفرعت عن أصل لها، ولن تفهم حق الفهم إلا إذا تعقبناها إلى منابعها الأولى، التي لا يكون وراءها وراء، فأيا ما كانت المشكلة التي بين أيدينا، ويراد لها أن تحل، سواء أكانت مشكلة في الاقتصاد كهذا التضخم النقدي الذي تنوء تحته أثقال بما أدى إليه من تصاعد في الأسعار بسرعة تفوق الخيال، أم كانت مشكلة تعليمية كالتي أشكلت علينا، وجثمت على مدارسنا وجامعاتنا، وأخذت تبيض هناك وتفرخ حتى بلغت حدا يجاوز كل معقول، تجلى في صورة من الغش في لجان الامتحان، غشا علنيا تذاع فيه الإجابات على التلاميذ بمكبرات الصوت، «أو هكذا قرأنا في الصحف» وغير ذلك من صور لم نشهد لها مثيلا في كل ما عرفناه فيما مضى في التعليم، أم غير هذه وتلك من مشكلاتنا الكبرى، أقول إنه أيا ما كانت المشكلة التي بين أيدينا، فلا بد من فهمها أولا فهما صحيحا، كيف نشأت؟ وكيف تفرعت حتى أصبحت على ما أصبحت عليه؟ وبمثل هذا التفصيل، يمكن لأبصارنا أن تقع على موضع العلة، وأما أن ثمة علة خطيرة فبرهانه هو أن كل فرد منا «يحسها»، وتأمل هذه العبارة جيدا، وهي أننا ما دمنا «نحس» القلق من هذه الناحية أو تلك، إذن فلا بد أن يكون هنالك خطأ ما قد أثار فينا هذا القلق، وانظر إلى نفسك وما قد تتعرض له من ضروب المرض، إنك لا تشعر بوجود العضو السليم، فلا تشعر أن لك عينا ترى، ما دامت تؤدي وظيفتها على صورة طبيعية، فإذا ما أصابها شيء، أحسست عندئذ بوجودها، وهكذا قل في كل جزء من أجزاء البدن: القلب، الرئتان، المعدة، إلخ.
إذا ما سارت في صحة وسلامة، لم تشعر بوجودها، فالشعور بوجود عضو ما، دليل على أنه قد تعرض لعلة، وهكذا الحال في الحياة العامة، يكون الشعور عند الفرد من الجماعة بثقل هذا أو ذاك من مقومات العيش، متناسبا مع الخطأ الذي أصابه. وهكذا تخف الحياة على الناس أو تثقل، بمقدار متناسب مع صحة تلك الحياة أو مرضها.
ولقد ثقلت الحياة علينا في كثير من نواحيها، فأول خطوة سديدة في طريقنا إلى مخرج، هو أن نسأل: أين موضع «الخطأ»؟ لأن خطأ ما لا بد أن يكون قد وقع، وما إن وجهت سؤالا كهذا إلى نفسي، بالنسبة إلى مجال التعليم ومجال الثقافة، وهما - كما نعلم - مجالان متصلان منفصلان، على نحو كثيرا ما يتعذر معه التحديد: أين ينتهي أحدهما ليبدأ الآخر، أقول إني ما كدت أطرح سؤالا كهذا على نفسي، حتى قدمت إلى ذاكرتي - عن غير دعوة مني إليها بذلك - عدة فصول كنت طالعتها مجموعة في كتاب، لمجموعة من رجال الفكر في الغرب، يعالجون فيها، كل من وجهة نظره، عوارض الحياة في هذا العصر ، وكيف انحرفت بالإنسان عن حياة طبيعية ميسرة؟ فكان كل منهم يبحث عن موضع العلة، أو عن مواضع العلل إذا رآها متعددة، وهذا مساو لقولنا إن كلا منهم قد أخذ يبحث عن «الخطأ» أو «الأخطاء»، التي أحدثت ما أحدثته من قلق في النفوس.
كان الانطباع العام الذي تركته تلك الفصول في نفسي، ومن ثم سهل على ذاكرتي أن تحفظه إلى أن تحين لحظة مناسبة، هو أن ما يراه رجال الفكر هناك أفدح الأخطاء وأخطرها، ليس هو ما يرد على خاطر رجال الفكر عندنا، ولا لأننا لا نعانيه كما يعانونه هناك، بل ربما أكثر مما يعانونه، ولكن لأننا في الحقيقة نجهله ولا نعرف عنه إلا ما نردده لفظا، محاكين ما نقرؤه عن كتاب الغرب، دون أن نحس له عضة حقيقية في أحشائنا، فهم هناك يضعون في مقدمة الأخطاء والأخطار الأسلحة النووية وما عساها أن تفعل بالحياة كلها على الكوكب الأرضي، لو أن حربا بتلك الأسلحة نشبت بين الطرفين، اللذين، هما - بصفة أساسية - القوتان العظيمتان، ثم تمتد إلى الفروع التي تتبع كل أصل من هذين الأصلين، ثم إلى فروع الفروع، التي هي العالم الثالث، بل إن حربا كهذه قد تبدأ في فروع الفروع هذه، قبل أن يتسع مداها لتشمل الأصلين الأولين، وثاني الأخطاء والأخطار هو - عند من قرأت لهم من كتاب الغرب - استنفاد ثروات الأرض استنفادا سريعا، بحيث يمكن أن يقال إن اليوم قد اقترب، الذي نبحث فيه فلا نجد بترولا، ولا فحما ولا هذا ولا ذاك مما نخرجه من الأرض ونفنيه بأسرع مما يجب علينا أن نفعل، وثالث الأخطاء والأخطار هو تلوث البيئة بما قد زاد وفاض في أيامنا من سموم تخرجها المصانع، والإشعاع الذري، وغيرهما مما نعلم بعضه ونجهل بعضه، وقد يضيف هؤلاء المفكرون مشكلة التفجر السكاني إلى مشكلاتهم تلك، وغير هذا وذاك من جوانب، إننا هنا في بلادنا نعرف عن تلك المشكلات أسماءها ولكننا - كما قلت - لا نكابدها أو نعانيها بالمعنى الصحيح للمكابدة والمعاناة؛ ولذلك فإن كتابتنا عنها أشبه بمحفوظات الشعر حين يلقيها أمام معلمه تلميذ صغير، اللهم إلا - ربما - مشكلة التفجر السكاني لأن مأساته قد باتت جزءا من طعامنا اليومي.
تلك مشكلات نشارك فيها العالم كله، على نحو ما تجيء الصورة المصغرة متشابهة الملامح مع نظريتها المكبرة، ثم نضيف إلى صورتنا المصغرة طائفة أخرى من أخطاء وأخطار لها عندنا صدارة يستحيل معها أن نتغافلها، كما تغافلنا المشكلات الكبرى التي تشغل رجال الفكر في الغرب؛
بحيث نتساوى جميعا في همومها، فليس الأمر كذلك فيما يمس مشكلة الاقتصاد؛ لأن الفرق بينها عندهم وعندنا هو الفرق بين من يأكل ومن يجوع، فهم حقا «الشمال الغني»، ونحن حقا مع أمثالنا «الجنوب الفقير». وكذلك مشكلة التعليم فالتعليم مشكلته عامة وشاملة، لكنها عندنا قد تعقدت واستعصت. فإذا كان السؤال عندهم هو: كيف تجعله تعليما أفضل، فالسؤال عندنا هو: كيف نجعله تعليما يستحق الحد الأدنى من معنى هذه الكلمة؟ وكذلك الأمر في مشكلة السكان، فهي قد تكون مشتركة لكنها بلغت عندنا ذلك الحد الذي يقال عنه إنه مسألة حياة أو موت.
كان العدل ألا تزر وازرة إلا وزرها، لكن هذه الحياة الظالمة قد حملتنا أوزارنا وأوزار غيرنا، وتكدست كلها في صورة مصغرة، إنها صورة تعكس على سطحها كل ما يعانيه عالم الأغنياء - العلماء - الأقوياء من أخطاء أوقعته في مشكلات الحرب النووية إذا وقعت، والإشعاع الذري وفضلات المصانع وما تؤدي إليه من تلوث.
ثم تضيف إليها أخطاء عالمها هي بفقره وجهله وضعفه، إلى هنا ولم نذكر إلا مشكلاتنا كما هي عائمة على السطح، تراها الأعين المجردة بغير حاجة منها إلى مناظير التحليل العلمي ومجاهيره، فماذا نحن واجدون وراء هذا كله - في الصورة المصغرة المكثفة التي تصور حياتنا وأخطاءها - إذا نحن أعملنا فيها مشرط التحليل النفسي، الذي هو في حقيقته ووظيفته، محاولة البحث عن العلة الأولى، أي عن الجذر الأول الذي منه نبتت شجرة الأخطاء - والأخطار الناجمة عنها - كل فروعها وفروع فروعها، إنني أجيب على سبيل المحاولة . إن علة العلل هي - عندنا بصفة خاصة - قلة المعرفة في رءوسنا عما هو حولنا، وأستغفر الله إن كنت مهاجما بغير حق، وأود القارئ ألا يستثني هذا الكاتب من ذلك الحكم العام؛ لأنه يستثني نفسه، لا بل هو أدرى الناس بقصوره وتقصيره في معرفة حقائق العالم الذي نعيش فيه، وهاك مزيدا من شرح ما أوجزناه:
كان لسقراط مبدأ خلقي، قد يدهش له سامعه للمرة الأولى، لكنه إذا تأمله وجد فيه من الحق ما لا ينكر، وإنه لمبدأ يوضح لنا ما نحن الآن بصدد توضيحه من حيث العلاقة بين «المعرفة» ومقدارها ودقتها من جهة، وقابلية الوقوع في الخطأ، ثم في الخطر تبعا لذلك، وأما ذلك المبدأ السقراطي فخلاصته أن من يعرف، محال عليه أن يقترف الرذيلة بكل أنواعها، أو بعبارة أخرى تؤدي المعنى نفسه: أن من «يعرف» لا بد له أن يسلك في حياته مسالك الفضيلة، دون أن يحس شيئا من الضيق والعنت. إن من اقترف رذيلة إنما اقترفها لأنه «يجهل» عواقبها، ولو «عرف» تلك العواقب معرفة جيدة كاملة واضحة لاستحال عليه استحالة تنبع له من تلقاء نفسها، أن يقترف الخطأ، وهنا يقال - كما يقال في هذا الصدد دائما - إن الإنسان قد يعرف عن الخطأ أنه خطأ، لكن إرادته أضعف من أن تحول بينه وبين ارتكابه، فيكون جواب سقراط على مثل هذا القول: «إن المعرفة بحقيقة الأمر عندئذ تكون غامضة أو ناقصة، أما حين تكون معرفة الإنسان بحقيقة الموقف المعين، كاملة وواضحة، امتنع عن اقتراف الخطأ بمانع داخلي؛ لأنه ليس بحاجة إلى مواقع تأتيه من خارجه لتنهاه، إذا كنت على ظمأ، ووجدت كوبا مليئا بماء أنت «تعرف» حق المعرفة أنه مسموم، فإنك برغم الخطأ تكف عنه من تلقاء نفسك، بأمر أنت صاحبه ولا يأمرك به سلطان، لماذا؟ لأنك «تعرف» أن الماء مسموم، وتعرف أن السم مميت، وأنت لا تريد أن تموت، نعم، هناك حالات كثيرة جدا يقول فيها الإنسان إنه يعرف ضررها، ولكنه عاجز بإرادته الضعيفة أن يكف عنها، كما نسمعه من المدخنين، ومدمني المخدرات والمسكرات مثلا، لكن حقيقة هذه الحالات كلها، هي أن المعرفة المزعومة ليست كاملة ولا هي واضحة مهما ادعى صاحبها غير ذلك.
وننتقل من ذكر المبدأ السقراطي وشرحه إلى تطبيقه في مجال حديثنا هذا، والمجال هو صورة حياتنا وما قد اجتمع فيها من أوزارنا وأوزار غيرنا، فماذا نحن صانعون في معالجتها؟ وأقول في ذلك: إن الخطوة الأولى هي بث «المعرفة» الصحيحة الواضحة بحقائق الأمور. وإنني لعلى دراية تامة على الأقل نتيجة اشتغالي بالتعليم مدة أوشكت الآن على بلوغ الستين، على دراية بسرعة ما يخلط الإنسان بين ما «يعرفه» حقا وما «يظن» أنه يعرفه، كم عاما مضت علينا ونحن نجاهد في سبيل تنظيم الأسرة؟ بمعنى أن ينسل الوالدان بمقدار قدرتهما على التربية الصحيحة، وكم بذلنا من جهود وأنفقنا من مال؟ ومع ذلك لم نحقق إلا نجاحا أضأل من الضئيل، مما يقطع بأن الآباء والأمهات لا «يعرفون» على درجة قريبة من الوضوح وقريبة من الدقة، مقدار الخطأ - والخطر - في اطراد التضخم السكاني، ومع ذلك فما أكثر ما تسمع منهم أنهم «يعرفون»، ولكن الإرادة لا تسعفهم، فمن الواضح أنهم لا يفرقون بين حالتين: من «يعرف» ومن «يظن» أنه يعرف؛ فالعارف الحق يستحضر في ذهنه كل النتائج وكأنها ناصعة أمام عينيه، ومن تلك النتائج أن يرى أبناءه أو أبناء أبنائه بلا طعام، لا تسترهم ثياب كافية، وبغير سكن يؤويهم.
وعلى منوال ما قلناه في مشكلة الانفجار السكاني، نستطيع أن ننظر إلى ما شئت من مشكلاتنا الأخرى، في السياسة والاقتصاد والتعليم، وغيرها لترى أن تحليل الموقف تحليلا يرد الفروع إلى أصولها، والنتائج إلى أسبابها سينتهي بك في آخر الشوط، إلى أن علة العلل كافية في ضحالة «المعرفة» التي نحملها في رءوسنا عن أي موضوع مطروح للنظر. وغموض تلك المعرفة القليلة غموضا لا يمكن العارف من رؤية النتائج المتوقع حدوثها، بكل تفصيلاتها: رؤية ناصعة وكأن كل تلك النتائج المرتقبة حاضرة أمام حواسنا، فما من مشكلة إلا وهي في صميمها موقف فيه نقص لعناصر معينة إذا أضيفت زالت المشكلة، أو فيه زيادة من عناصر معينة، إذا حذفت زالت المشكلة، وإدراكنا لحقيقة الموقف - من نقص في عناصره - أو من زيادة، يتطلب الدراسة العلمية ثم يتطلب بعد ذلك أن تبنى نتائج تلك الدراسة على درجات متفاوتة من التعقيد والتبسيط، تتوازى من درجات الثقافة التي يتلقاها أفراد الشعب لتصبح جزءا من حياته اليومية الجارية، فأما الدراسة العلمية لما يحيط بنا من مشكلات، فهي مهمة العلماء ومعاهد التعليم والجامعات ومراكز البحث العلمي، وأما بث النتائج في أفراد الشعب لتصبح «معرفة» عامة وكافية ودقيقة، فذلك أوجب واجب تؤديه وسائل الإعلام، وليس المقصود «بالمعرفة» التي ندعو إلى غزارتها ووضوحها ودقتها، أن تكون مخزونات محفوظة في الذاكرة، نكرها كرا كلما نشأت مناسبة لتسميعها، بل المقصود والمأمول أن تتحول تلك «المعرفة» عند حاملها إلى سلوك فعلي يتضمن عملا مؤداه أن تتحقق لنا حياة جديدة بالفعل، على صورة يضاف فيها ما كان ناقصا، أو يحذف منها ما كان زائدا، لقد قلنا فيما أسلفناه إن العالم كله يواجه مشكلات اقتضاها هذا العصر وطبيعة الحياة فيه، شأنه في ذلك شأن كل عصر مضى؛ إذ لو أن التاريخ قد شهد عصرا خلا من النواقص والزوائد، لدام ذلك العصر إلى نهاية التاريخ البشري، إلا أننا قد ذكرنا كذلك فيما أسلفناه أن صورة حياتنا نحن ومعنا ما يسمونه بالعالم الثالث قد أفرزت مشكلات خاصة بها، أضيفت إلى المشكلات العامة التي تعترض سكان الأرض جميعا، من تقدم منهم ومن تخلف على السواء، إذن فنحن وأمثالنا نتحمل العبء الأكبر، ومع ذلك فليست ضخامة العبء هي جوهر الكارثة، بل يكمن جوهر كارثتنا في الطريقة التي نواجه بها الموقف الصعب، فبينما نرى الشعوب المتقدمة، بفضل جهود علمائها ومعاهد تعليمها ووسائل إعلامها، قد استطاعت إدراك حقيقة الموقف ومشكلاتها، فحاولت وتحاول بكل الوسائل المستطاعة، أن يكون الإنسان العادي من أبنائها على «وعي» بما يحيط به، وبما هو متوقع الحدوث لو تركت الأمور لتجري كما تجري، وهو «وعي» ينتقل بالوعي في الأغلب إلى تغيير سلوكه في حياته العملية درءا للخطر، ننظر إلى أنفسنا، فلا «وعي» الناس بحقيقة الحياة المعاشة وعي كاف، ولا هو - على ضعفه - قد صيغ على نحو يحمل أصحابه على أن يتكيفوا بسلوكهم الفعلي لما يقتضيه عصرهم، وإن شئت اختصارا يوضح الفرق بيننا وبين الشعوب المتقدمة، في هذا الصدد الذي نتحدث عنه لقلنا: إنهم هناك مشغولون بنظرة «مستقبلية»، لا يكتفون بأن تتجه أبصارهم إلى مواضع أقدامهم، بل يشخصون تلك الأبصار إلى غد وبعد غد، في حين ترانا وقد انصبت على آذاننا إذاعات وسدت الطريق أمام أعيننا كتابات، تجعلنا في محصلتها الأخيرة نغيب عن دنيانا غيابا تاما، وكأنها لا هي دنيانا ولا نحن أبناؤها، فيضيع علينا يومنا، كما يضيع علينا يقينا غد مأمول أو غير مأمول. «المعرفة» نور، وإذا قلنا إننا - بوجه عام - فقراء «معرفة» بأشد مما نحن فقراء مال، فكأننا نقول إننا نتخبط في ظلام ليس فيه من «النور» ما يهدي إلى سواء السبيل، وتستطيع أن تنظر وراءك لترى حياتنا الثقافية خلال النصف الأول من هذا القرن، لترى كيف كان «التنوير» مداد الأقلام الكاتبة، وأن تنظر بعد ذلك - على سبيل المقارنة السريعة - إلى هذه المرحلة الزمنية الراهنة التي نجتازها، ونحن في الربع الرابع من القرن العشرين، لترى كم مما يذاع وما يكتب صرفا للأنظار عن هذا العالم بكل ما فيه؟ ونحن إذا فرضنا جدلا أن ذلك السيل من الإذاعات والكتابات قد حقق غايته، فتزهد الناس ونفضوا أيديهم من غبار الأرض، فماذا يبقى لهم من مشكلات تحل على أيديهم أو لا تحل؟ فلا سياسة ولا اقتصاد ولا تعليم ولا شيء قط من أمور هذه الدنيا الدنية يعينهم! الحق أن أملنا كله معقود على أن تخطئ تلك الإذاعات والكتابات أهدافها، حتى تبقى لنا بقية ولو قليلة من «وعي» بهذا العالم وما يجري فيه، لعلنا نمد أنظارنا من حاضر موبوء إلى مستقبل مرجو نرسم صورته بدقة العارفين، لنعمل جادين على تحقيق الرجاء.
علة العلل - إذن - هي فقر «المعرفة» أو قل هي ضآلة «النور»، في حياتنا الفكرية، وما يترتب على ذلك من حياة عملية لا تتبين أهدافها، وحتى إن تبينت شيئا من تلك الأهداف تعذرت عليها - لفقر المعرفة - تحديد الوسائل، ولقد كان من أفدح النتائج التي تولدت عن فقر المعرفة، أننا ونحن في عصر يوصف بحق بأنه عصر «العلم» ترانا في أعماقنا لا نؤمن بالعلم، نعم، إننا نرسل أبناءنا إلى الجامعات ألوفا ألوفا، وهم قد «يحفظون» ما يتلقونه من «علوم»، كل في مجال تخصصه، ولكنهم برغم ذلك العلم المحفوظ، يرفضون - عن مبدأ - أن ينصاعوا في حياتهم اليومية، وفي تكوينهم لوجهة النظر، التي من خلالها ينظرون إلى الكون وإلى الإنسان، أقول إنهم في ذلك كله، يرفضون - عن مبدأ - أن ينصاعوا للعلم ومقتضاه، بحيث يرفضون «الخرافة» عند تعليل الظواهر، أو عند التقدير والتدبير لحياة رد الظواهر إلى غير أسبابها الحقيقية.
لقد سبق لهذا الكاتب في مناسبات كثيرة سابقة، أن لفت الأنظار إلى حقيقة الهيكل الذي تقام عليه حياتنا العلمية والثقافية جميعا، وخلاصة ذلك هي أننا ننقل عن العصر علومه لتدريسها في مدارسنا وجامعاتنا، لكننا نأبى - ربما عن عمد - ألا يلقط الدارس مع علومه التي يدرسها، «منهج» البحث الذي أدى بمن أنتجوا تلك العلوم في الغرب - بصفة خاصة - إلى أن ينتجوها، فكان الحاصل عندنا هو: متعلمون يعدون بمئات الألوف، يتفاوتون - بالطبع - في قدراتهم، إلا أنهم يتساوون جميعا في جانب هام، هو غياب المنهج العلمي، ولا يخدعنا أن نرى رجال العلم وهم في مقار تخصصاتهم، يمارسون طرائق البحث العلمي؛ وذلك لأنهم هناك يعيدون ما كانوا حفظوه من مادة وطريقة، لكن المعول الحقيقي في اكتساب المنهج العلمي، هو أن يتطبع به صاحبه في مجالات الحياة على اختلافها، فتكون لديه عادة أن يربط المسببات بأسبابها الحقيقية، كلما أراد تعليلا مقبولا لها.
لقد استطاعت مصر، عبر الحضارات المختلفة التي جاءتها من خارج حدودها، بعد أن أكملت شوطها الإبداعي في الحضارة المصرية القديمة، أقول إنها استطاعت أن تهضم الحضارات الجديدة هضما، مكنها من الإبداع فيها، ومن التفوق حتى على أصحاب الحضارة الوافدة إليها، وكان السر في ذلك هو إيمانها بما قد تلقته، ولعل ما ساعدها على ذلك الإبداع والتفوق أن جوهر الحضارات الجديدة كان ذا صلة بجوهر الحضارة المصرية القديمة، في كونه دينيا أخلاقيا، لكنها حين تلقت حضارة هذا العصر، وجدت أساسها شيئا آخر هو «العلم» بمعنى جديد لكلمة «علم»، ولم يكن عسيرا على المصري المتحضر بكل ما قد تحضر به، أن يهيئ نفسه لهذا الجديد الوافد، مادة ومنهجا، لكنه - وا أسفاه - قد ضيع على نفسه الريادة التي ألفها وعرف بها فيما مضى، بأن استمع إلى من جعلوه يقصر نفسه على «حفظ» العلوم الجديدة، مع الحذر حتى لا ينتقل معه منهج تلك العلوم، كلما انتقل من أماكن عمله العلمي، إلى حيث الحياة اليومية في صورها المختلفة، إذا أرادوا له هناك أن يخلع عن عقله منهج العقل، كما قد خلع عن جسده ثياب العمل.
وللحرية شيطانها
الخيط رفيع بين الحرية والتمرد، فهو في دقته يشبه الفرق بين الحرم والحرام، ومن هنا جاءت سهولة الخلط بين الصفتين، فهي حركة يسيرة تتحرك بها قدم، تبدي ملائكة الحرية في أعين الناس وكأنهم من مردة الشياطين: أو تبدي مردة الشياطين في أعين الناس وكأنهم الملائكة بين البشر، قد رفعوا لحرية الإنسان لواءها، فلا عجب أن فصلت اللغة بحرف واحد بين «الحرم» في طهره وقداسته، و«الحرام» في لعنته ونجاسته، إنه خيط رفيع ذلك الذي يفرق بين المرغوب فيه والمرهوب الجناب؛ كالخيط الرفيع الذي فرق بين بكاء الحمامة وغنائها، حتى لقد وقف أبو العلاء على مسمع منها، يتساءل في حيرة:
أبكت تلك الحمامة أم غنت؟
حتى النور والظل اللذان تراهما من بعيد: فكأنك ترى ضدا بجوار ضده يتمايزان، لكن اقترب من الفاصل بينهما، تجده خليطا بين ظل ونور، فلا تدري أين يفترقان.
ولو لم يختلف الأمر بين ملائكة الإنسانية وشياطينها، لما صعب على القضاة في أثينا القديمة؛ إذ هم يحاكمون سقراط على ما أساء به - في زعمهم - إلى شباب المجتمع الأثيني، فقد أخذتهم حيرة، أيضعون تلك المنارة البشرية مع جماعة الملائكة لنورانيته أم يحشرونه في زمرة الشياطين لتمرده على أعراف المدينة وتقاليدها؟ ولو لم يكن الخيط رفيعا بين الضدين لما اختلط الأمر على القضاة الذين حاكموا جان دارك، فلقد شيطنوها فأحرقوها، ثم جاء التاريخ بعدئذ ليقوم ما قد انحرفوا به من ضلال، ولولا اختلاط الأمر على الناس في التفرقة بين الضدين لما حوكم أحمد بن حنبل محاكمة لقي فيها من التعذيب ما يشيب له الولدان. والأمثلة على مدار التاريخ لا تقع تحت حصر.
ولم يكن خطأ المخطئين حين رفعوا بعض شياطين البشر إلى صف الملائكة، وهبطوا ببعض الملائكة البشر إلى حضيض البشر، راجعا إلى طبائع الأشياء بقدر ما كان صادرا عن خبث في طبيعتهم، بحيث تملكهم الهوى، فلم يروا الحق إلا فيما يحقق لهم هواهم، على أن عصور التاريخ بعد ذلك، تختلف عصرا عن عصر؛ فعصر تكون فيه تلك الحيرة التي تخلط الحق بالباطل أمثلة فردية متناثرة، لا تغير كثيرا من الصفة الغالية؛ كأن تكون قلة قليلة من الناس هي التي تجعل من الحق باطلا، وأما بالنسبة إلى الكثرة الغالبة فالحق حق والباطل باطل، يتميزان حتى ولو كان الذي يفصل بينهما خيط رفيع، وعصر آخر تكون فيه القلة القليلة هي التي تحق الحق وتدعم الباطل في وضوح لا ينقص منه شيئا أن يكون ما بينهما خيط رفيع، وأما كثرة الناس الغالبة، فهي عند التفرقة بين ملائكة البشر وشياطينهم، في تخبط وضلال.
وكثيرون هم أولئك الذين يراقبون عصرنا، ويراجعونه، ويحاكمونه أمام ضمائرهم، فيرونه عصرا أعتم حتى ليتعذر على أهله أن يتبينوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لقد اضطربت الأمور في عصرنا اضطرابا، بات عسيرا معه أن ترى الفرق بين صواب وخطأ، فإذا بحثت عنه كنت كمن يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء، ولماذا اضطرب إلى هذا الحد البعيد الخطير؟ كان مرجع ذلك إلى أن عصرنا هذا كتب عليه أن يكون مرحلة انتقال بين حضارتين: حضارة تشققت جدرانها في الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، ثم انهارت تلك الجدران في الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، فأسدل ستار على مشهد كان، ليرفع على مشهد آخر في طريق التكوين، وذلك هو المشهد التاريخي الذي نحن ممثلوه، إن كل شيء في سبيله إلى أن ينسج نسجا جديدا، بعد أن اهترأ نسجه القديم: لم يعد الطفل هو الطفل الذي كان، ولا الشاب هو الشاب، ولا المرأة هي المرأة، لم تعد النظم الاقتصادية، والنظم التعليمية، ونظم الحكم هي النظم التي كانت، فكل شيء في حالة تحول كما تتحول الدودة إلى شرنقة، والشرنقة إلى خيوط الحرير، وهذا هو عصرنا، ومن ثم جاءت صعوبة التحديد بين خطأ وصواب؛ لأنك لا تكاد تفرغ من حكمك على الدودة بأنها دودة حتى تتحول بين يديك إلى شرنقة، وهكذا تحكم على الضياء بأنه ضياء؛ لأنك قد تغمض الطرف عنه لتنتبه بعد لحظة، فإذا الضياء قد لفه ظلام، أو تحكم على الظلمة بأنها كذلك، فلا تلبث أن تراها وقد صارت إلى ضياء.
في هذا العصر المضطربة أحكامه، اختلط على الناس أين الحرية وحدودها، وأين أضدادها من أصفاد وأغلال، وقد يخيل إلينا أن الفواصل بين الحرية وأضدادها واضحة في بعض الحالات، كما هي الحال - مثلا - في مجال السياسة بين حاكم ومحكوم، أو في مجال التجارة بين حركة تنساب بلا قيود، وأخرى تقيدها قوانين، لكن تلك الفواصل شديدة الغموض - يقينا - في حالات أخرى، ومنها حرية العلم إذا ما خيل لأولياء الأمر أنها قد أخرجت نتائج تتعارض مع ما قد جرى في حياة الناس مجرى العقائد، ها هنا قد تأخذ الحيرة برقاب العلماء، فهم - من جهة - حريصون على ألا يتقيد العلم إلا بقيود نفسه، فله مناهج تقيد خطاه حتى لا تنحرف عن سواء سبيله هو، ولكنهم في الوقت نفسه - شأنهم شأن سائر عباد الله - حريصون على أن تسلم لهم عقيدتهم فلا تشوبها شائبة من شك وانحلال، وفي حيرة كهذه يكون من حق العلماء أن يتساءلوا: أين المفر؟ فلا يكون لمثل هذا التساؤل - فيما يبدو - إلا واحدة من اثنتين: فإما عقيدة تصمد على حساب العلم ، وإما علم تطلق له حرية البحث والوصول إلى نتائجه حتى ولو جاء ذلك على حساب العقيدة، وربما كان في «فاوست» وقصته مع الشيطان «ممفستوفولس» ما يصور هذا التضاد المزعوم بين الطرفين؛ فقد كان فاوست محبا للبحث العلمي في حقائق الطبيعة، وكان في مستطاع ممفستوفولس أن يمده بالعون في هذا السبيل، لكنه اشترط لعونه هذا أن يدوم عددا من السنين، ظنه فاوست عددا كبيرا بطيئا ما يزول، حتى إذا ما بلغت الفترة الموعودة ختامها، أماته الشيطان على غير إيمان، وإن الرواية لتروى عند من يروونها - رواها «جوتة» ورواها «مارلو» الإنجليزي في عصر النهضة - أقول إن الرواية تروى عن فزع فاوست، حين رأى أنه قد باع إيمانه من أجل علم ما ترتعش له أبدان القارئين.
ولكن من حقنا أن نسأله: أصحيح أنه إما علم وإما دين؟ وعن سؤال كهذا، كان أبو العلاء المعري قد أجاب في بيتين من الشعر، بما معناه: نعم، إما هذا وإما ذاك ولا جمع بين الطرفين، على أنه جعل المقابلة بين العقل والدين والحاصل واحدا أن تتحدث عن العقل أو عن العلم؛ إذ الأول هو وسيلة الثاني، ففي بيتي الشعر اللذين أشرت إليهما، قال المعري ما معناه: إن أهل الأرض هم أحد رجلين، فإما أن يكون الإنسان ذا عقل وعندئذ يتحتم أن يكون بغير دين (على أساس أن الدين يبنى على إيمان بالقلب)، وإما أن يكون ذا دين فيتحتم أن يكون بغير عقل، وهو موقف من المعري لا يسايره فيه كاتب هذه السطور؛ إذ يرى هذا الكاتب أن أبا العلاء قد خلط بين أمرين، هما «الإنسان» في مجموع تكوينه إنسانا، و«اللحظات» المتفرقة التي تتعاقب عليها حياة الإنسان، فبينما هو صحيح - في رأي هذا الكاتب - أن «اللحظة» الزمنية التي يكون الإنسان المقيم منشغلا فيها بعملية عقلية في علم من العلوم؛ كأن يستدل بمعادلة رياضية من معادلة أخرى أو يجري تحليلات كيماوية في معمله، هي لحظة محايدة بالنسبة للعقائد على اختلافها؛ لأننا قد نتصور مثل ذلك العالم الرياضي، أو هذا العالم الكيماوي على أية عقيدة كائنة ما كانت ، دون أن يتأثر عمله العلمي في لحظته تلك، ثم تأتي في حياته لحظة أخرى يذكر فيها الله سبحانه وتعالى، عابدا إياه على طريقة دينه في عبادة الله، وعندئذ لا يكون علمه ذا شأن، ومجموع اللحظات بنوعيها هو «الإنسان»، إذن فليس صحيحا أن «الإنسان» إما ذا عقل علمي وإما ذا دين، بل الصحيح هو أن في الإنسان الواحد يلتقي الدين والعلم، ولا ينفي ذلك أن يكون لكل جانب منهما لحظاته.
إلا أنه لوهم ثقيل، قاتم، مخيف، دق أوتاده ونصب خيامه في صدور الناس، منذ أن كانت الإنسانية في فجر تاريخها تحبو، وذلك هو الوهم الذي خيل للإنسان تناقضا بين وجدانية القلب ومنطقية العقل، وشيئا فشيئا رسخ في النفوس أنه إذا كان عقله ومنطقه الصارم المسنون، لم يكن دين وما يحيط به من طمأنينة الإيمان، حتى لقد جعلت حدة الذكاء صفة للشيطان أكثر منها صفة للمؤمن النقي العابد، ومن هنا كان أخف على الإنسان بأن يتهم في ذكائه، من أن يتهم بجحود قلبه وجموده، بل سبق إلى ظنون الناس في شتى العصور، وفي العصور الأولى بصفة خاصة، أن «العلم» بحقائق الأشياء، هو بكل معانيه أمر متروك لله وحده - سبحانه وتعالى - بحيث عدت زندقة من الإنسان إذا حاول السير في طريق العلم مهتديا بعقله، ومن هنا كذلك نفهم أسطورة «برومثيوس» عند اليونان القدماء؛ إذ أراد برومثيوس أن يخرج الإنسان من ظلمات جهله، ولما كان ذلك متعذرا إلا بنور العلم، ثم لما كان العلم كله حكرا على الآلهة في ذلك العهد القديم، لم يجد برومثيوس من سبيل أمامه، إلا أن يسرق من الآلهة قبسا من نور علمها، ليهبط به من قمة الأولب إلى أرض الناس، وكان جزاؤه عند الآلهة أن ربطوه على جذع شجرة، وسلطوا عليه النسور الجارحة لتنهش جسده نهشا، وكلما فرغت سباع الطير من افتراسها لجسده، جددت له الآلهة جسدا لتعاود تلك السباع الفاتكة عملها.
وهكذا لبث الإنسان طويلا تأخذه الحيرة إزاء العقل وذكائه، مع أن العقل عقله هو، والذكاء ذكاؤه هو ، ومع ذلك فهو يخشاه ويتردد في الأخذ بحسابه وتدبيره؛ لأن ذلك كله أقرب في ظنه إلى أفاعيل الشيطان، وإذا كان الإنسان قد أخذ يطمئن إلى «عقله»، وما ينتجه له ذلك العقل من «علوم» تكشف له عن بعض أسرار الكون، فإن تلك الطمأنينة كادت تقتصر على قلة قليلة، وأما الأغلب الأعم من جمهور الناس، فهو يؤثر أن تسير أموره «بالبركة» فلا حساب ولا قلاب، ولا أظن أنه قد مضى وقت يزيد على ثلاثة أعوام قبل هذا اليوم من عام 1988م، منذ قرأت في حديث أملاه شيخ جليل، بأن يحذر الناس من الثقة بالعلوم العقلية، فإنما يفعل ذلك خشية أن يقوى الإنسان بعلمه فيطغى، واستشهد بالآية الكريمة:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى .
واعجب ما شئت وما استطعت من عجب أن يطول الزمن بهذه اللعبة الخبيثة من شيطان خبيث، أراد أن يخاصم بين الإنسان وعقله، فنجح فيما أراد نجاحا قد اتسع حتى حمل الكثرة الكاثرة، ولم ينج من براثنه إلا نفر قليل، لمعت عقولهم فأضاءوا الطريق لمن شاء السير على هدى، وكان ذلك النفر القليل في ركونهم إلى «العقل» يبدون لمن لا يعلم، أنهم هم الشياطين الذين غلظت قلوبهم ويبست فلم تعرف طريقها إلى الإيمان، ولقد شهد عصرنا من هؤلاء الأعلام الهداة، من وضع يده على المفتاح السهل البسيط الذي يحل اللغز القديم، لغز الحيرة بين عقل وقلب، كأنما هو حتم على الإنسان أن يلقي بزمامه إلى أحدهما دون الآخر، على نحو ما تصور أبو العلاء فيما قدمته إليك عنه، وكأنه ليس أمرا تدركه البديهة الفطرية، أن يكون الإنسان إنسانا بقلبه وبعقله معا، كما أراد له خالقه - جلت قدرته - أن يكون، ولن يكون بين القطبين شد ولا جذب، إذا ما عرف كل منهما أين مجاله وما هي حدود ذلك المجال، فللعقل مجال «الاستدلال» الذي يستند إلى ركيزة مقبولة حتى ولو كان ذلك القبول مؤقتا ومأخوذا على سبيل الفرض، ومن تلك الركيزة يلتمس طريقه إلى نتيجة يستدلها، وذلك هو العقل وحدوده في إيجاز شديد ، وأما ما عدا ذلك كله - وهو كثير وأكثر من كثير - فهو متروك للوجدان بمختلف وسائله، على أن ما يوقع كثيرين في خطأ وخلط، بالنسبة إلى الميدان الوجداني الواسع، الذي يشتمل فيما يشتمل عليه على الإيمان الديني بكل أهميته في حياة الناس، أقول إن ما يوقع الناس هنا في خطأ وخلط، هو أن يروا موضوعات الميدان الوجداني، مطروحة أمام رجال التفكير العلمي، فيظنوا بناء على ذلك أنها من «العلوم»، ويفوتهم أن يفرقوا بين أن يقبل الإنسان ما تقبله بنبضة مباشرة من قلبه، وقد يكتفي بهذا القبول المباشر، وبين أن يظهر من الناس من يتناول الحقيقة نفسها التي نبض لها قلب من أخذ بها، ليجعلها ركيزة يستدل منها ما أمكنه استدلاله من نتائج، وهي عملية عقلية تجعل من القائم بها رجل علم، بسبب التزامه منهج العلم في عملياته الاستدلالية.
ولا علينا من هذه الفوارق، التي قد يسهل إدراكها وقد يصعب، وحسبنا الآن هذه الحقيقة البسيطة، التي باعد الشيطان بين الناس وبينها حتى لا تقع عليها بصائرهم، وهي أن للإنسان الواحد مجالين، يتوحدان بتوحده، كما أن له عينين، وشفتين، وذراعين، ورجلين، فلا يقال إنه بسبب هذه الثنائيات قد انشطر اثنين، وليست أهمية إبراز «العقل» وجودا ووظيفة في الكيان البشري، مقصورة على أهمية «العلم» الذي هو من صنائع العقل، بل إن أهميته لتجاوز ذلك إلى جانب خطير في حياة الناس، ألا وهو «الحرية»؛ فالحرية بأهم معنى من معانيها هي السيطرة على ظواهر الطبيعة، التي لو تركت مجهولة، لأمكن أن تقف عقبات في سبيل الإنسان، وأما إذا كشف العلم قوانينها، انقلبت رهائن ملك يديه، يسيرها كيفما شاء وأينما شاء.
لا، ليس ما نريده لأنفسنا موقفا شبيها بموقف مفستوفوليس؛ إذ هو يقايض فاوست علما بإيمان، ويندفع فاوست بدافع حبه للعمل، لتمضي به السنون بعد ذلك، ويجيء الأجل المحتوم، فيرى كم كانت صفقته مع الشيطان خاسرة، ويأخذ منه الندم مأخذه «ولات ساعة مندم» كلا، ولا الذي نراه في الأمر هو ما رآه المعري، من أنه إما عقل (أي علم) ولا دين، وإما دين ولا عقل، ظنا منه بأنهما ضدان لا يجتمعان، مع أن الحق في ذلك واضح أبلج، وهو أنهما بالفعل مجتمعان في كل إنسان فرد، وشاهد ذلك هو الإنسان نفسه؛ إذ يراه آنا مركزا انتباهه في عملية فكرية استدلالية، وآنا آخر موجها انتباهه إلى الحق سبحانه وتعالى، نابض القلب بإيمانه الديني، فقوة الانتباه واحدة، كشعاع الضوء، يوجهه الممسك بالسراج إلى ما أراد أن ينصب عليه الضوء ليراه، لكن الذي نريده لأنفسنا هما الجانبان معا، لكل من العقل والقلب مجاله، وفي الإنسان وحياته يلتقي الطرفان، على أن المجالين وإن تجاورا فاعلية وأداء، فقوة أي منهما تضفي قوة على الآخر، وضعف أي منهما يضفي ضعفا، إنهما كالعينين أو الأذنين، يستقلان ويتعاونان في آن معا.
لقد كان الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل، من ألمع من شهدهم عصرنا الراهن، وإنا لواجدون في حياته من بعض جوانبها، عبرة ودرسا؛ فقد كان من أعظم علماء الرياضة ثم كان من أعظم فلاسفة الرياضة (وقد كنت في مناسبة سابقة شرحت الفرق بين علم معين وفلسفته) على أن برتراند رسل، إلى جانب المجال الرياضي - علما وفلسفة - قد تعرض لموضوعات عامة لم يجر العرف على إدراجها في زمرة العلوم، فقد كتب عن «الحرية والسبل المؤدية إلى تحقيقها» وعن «نظام الزواج وعلاقته بالأخلاق»، وكتب عن «قوة السلطان» وأنواعها المختلفة، وكتب عن «التربية والنظام الاجتماعي»، وغير هذه الموضوعات، مما يدور مدارها حول الإنسان وقيمته وحريته، حتى لقد أسست اللجنة التي قررت له جائزة نوبل في الأدب، قرارها على كونه نصيرا للإنسانية وحرية الإنسان، لكنك إذ تقرأ له شيئا من هذه الموضوعات التي ناقش فيها الإنسان وحياته، تبهرك دقة العبارة التي تبلغ عنده غاية ليس وراءها ما هو أبعد منها، إن العبارة على قلمه تجيء وكأنها حد السيف القاطع، فلا لبس فيها ولا غموض ولا زيادة في كلماتها ولا نقصان، فمحال محال أن تقرأ جملة كتبها برتراند رسل، وتسأله: ماذا يعني؟ لأن مفرداته والطريقة التي رتبت بها، لا تدع مجالا لسائل يسأله هذا السؤال، فهل نخطئ التعليل إذ قلنا إن الدقة «الرياضية» التي درب عليها في مجال الرياضيات، عالما بها وفيلسوفا لها، قد انتقلت معه على سن قلمه، كلما تناول موضوعا إنسانيا عاما، فإذا كانت المعادلات الرياضية هي «العقل» تجسدت خاصته التحليلية الاستدلالية في رموزها، فكذلك كل ما جرى به قلمه في حياة الإنسان ووسائلها بأهدافها وقيمها، هو أيضا «عقل» تجسد في كل فكرة معروضة من حيث تصويرها باللفظ الذي يبينها، ومن حيث استدلالها من مصادرها، والاستدلال منها ما عساها دالة عليه من نتائج.
وعلى نحو ما انتقلت دقة الفكر مع برتراند رسل من مجال الرياضيات إلى مجال الإنسانيات، التي قلما تبلغ كل هذه الدقة عند كاتب آخر، نقول إن مجال العلم ومجال الدين، وهما اللذان يفصحان عما انطوى عليه الإنسان من «عقل» و«إيمان»، وأن يكونا مستقلين أحدهما عن الآخر موضوعا ومنهجا، إلا أن التقاءهما معا في الإنسان الواحد الفرد، الذي يحيا بهما معا، كما يبصر بالعينين، ويسمع بالأذنين، ويتنفس بالرنين، يجعل كل جار منها يشع على جاره من قوته قوة، ومن ضعفه ضعفا؛ فالعالم في العلوم الكونية، أيا ما كان موضوع تخصصه العلمي: علم الفلك، أو فرع من فروع الفيزياء، أو علم الكيمياء في أي فرع من فروعه، أو علم النبات أو الحيوان، أقول إن العالم في أي جانب من تلك الجوانب الكونية، إذا ما حمل بين جوانحه قلبا مؤمنا بالدين، فيستحيل ألا يزداد إيمانه الديني نورا على نور؛ لأن علمه بأسرار الكائنات، هو في الوقت نفسه علم بعظمة من خلق تلك الكائنات، وبراها، وسواها، وأجراها على سنن منظومة، هي نفسها السنن (حرف السين هنا مفتوح، والمعنى هو «القوانين»)، أقول إنها هي نفسها السنن التي يكشف عنها العلماء ويطلقون عليها اسم «القوانين العلمية»، وهكذا يزداد الإيمان إيمانية عن طريق العلم، والعكس صحيح أيضا، وهو أن العلم بدوره يزداد علمية عن طريق الإيمان الديني؛ لأن هذا الإيمان يحمل في أصلابه قيما يسلك الإنسان على معيارها، ومن تلك القيم: أفضلية العلم على الجهل، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إذن فها هي ذي قيمة دينية واحدة كفيلة وحدها أن تحفز العالم على المضي في علمه، مهما لقي في سبيله من مشقة وعنت وشظف في العيش، ومن قيم الدين أن تكون «أمينا» على الحق، صادقا في إعلانه، فإذا كان من المرجح أن يتصدى لعلمك جاهلون، فعليك «بالصبر» والصبر في ذاته قيمة أخرى من وعاء الدين، وهكذا وهكذا.
على أن هذا التساند بين علم ودين في الفرد الواحد من الناس، لا ينفي - كما قلنا - أن يكون لكل منهما استقلاليته في الموضوع وفي منهج النظر، ومن أبرز الفوارق بينهما، مما لا بد لنا أن نكون على وعي شديد به، هو أن مبادئ الدين ثابتة عند المؤمنين بذلك الدين؛ لأنها في آخر المطاف «معايير» يقاس بها السلوك ليجزي خيرا بخير وشرا بشر، ولا بد للمعيار أن يحتفظ بمعنى واحد، وإلا فقد معياريته، فانظر إلى حال الناس إذا ما كان «المتر» - مثلا - مختلف الأطوال عند مختلف المتعاملين في سوق البيع والشراء، وأما «العلم» فهو متغير مع تقدمه في تعاقب العصور؛ لأن عصرا لاحقا يصحح أخطاء العلم في عصر سابق، وليس ذلك لذبذبة في طبائع الأشياء لا، فالضوء هو الضوء في طبيعته، والكهرباء هي الكهرباء، لكنها قدرة الإنسان المحدودة، هي التي تجعله يعلم جانبا من الظاهرة المعينة ويغيب عنه جانب، فتجيء معرفته العلمية منقوصة، يكملها خلفاؤه من العلماء.
وهنا أعود بك إلى الحديث عن برتراند رسل، وكيف نرى في بعض جوانب حياته العبرة والدرس، فمن أقواله التي كان يرد بها على مهاجميه، قوله: إنني لا أخجل من تغيير فكرتي إذا رأيتها على خطأ، فقد كان مهاجموه يأخذون عليه أنه ما ينفك يستبدل رأيا برأي، وهذا صحيح، فلقد سار الرجل في حياته الفكرية سبعين عاما أو يزيد، وكان على تعاقب مراحل حياته يصحح نفسه كلما وجد ضرورة ذلك، وفي شرحه لنقطة الخلاف بينه وبين نقاده، قال ما خلاصته: إن مصدر الخطأ عند النقاد، هو أنهم ينظرون إلى «الفلسفة» على أنها أقرب إلى طبيعة «الدين» منها إلى طبيعة «العلم»؛ ولذلك فهم يطالبون الفيلسوف بأن يثبت على فكرة واحدة، وحقيقة الأمر في الفلسفة هي أنها أقرب إلى العلم منها إلى الدين؛ لأنها تحليلات عقلية تنصب على ما تريد أن تعرفه؛ ولذلك فهي في ضرورة تغيرها إنما تلاحق العلم في ضرورة تغيره عصرا بعد عصر، وواضح أن مثل هذا التغير الذي يشير إليه «رسل» هو تغير نحو الأكمل والأصح، وليس هو كما يتغير المريض بعلة تصيبه بعد عافية.
فما أكثر ما تتحجر في عقول الناس أفكار، فتظل ثابتة عندهم ثبات الحجر، وهنا يتسلل الخطأ الخطير، وهو أن يفسر ذلك الثبات عند الناس بأنه ثبات الحق، متأثرين في ذلك بثبات المبادئ في الدين: فماذا يصنع من يريد للناس أن يغيروا من أفكارهم ما لا بد أن يتغير، فلا هي من مبادئ الدين فيجب أن تثبت وأن تدوم، ولا هي في مجال العلم حيث لا يجد العلماء مبررا لقيامها حتى ولو تبين منها وجه الخطأ، إنه مضطر إلى التسلل وراء الجدران المنهارة ليدكها بالديناميت، قبل أن تتهاوى على رءوس الناس، وعلى غرار ما يقال عن الشعر وشيطان الشعر الذي يلهم الشاعر بما يقوله، فكذلك للساعين إلى حرية الإنسان من دواعي جموده على خطأ وضلال، شيطان يلهم المصلحين إلى طريق الخلاص.
رواية وراويها
أتذكر يا صاحبي، ذلك اليوم البعيد البعيد، عندما كانت الشمس الغاربة قد أوشكت على الغروب، تجر وراءها أذيالا من الشفق، امتدت وراءها حتى اكتسبت بها رقعة تبلغ من السماء ثلثها أو ما يزيد على الثلث، وقد جلسنا معا فوق الصخرة الناتئة على شاطئ البحر؟ أتذكر كيف نظرنا معا إلى ذلك الشفق الجميل وهو يزف الشمس إلى مغيبها، فقلت أنت إنه نار تأجج أوارها، ورددت عليك قائلا: بل هو فرش من أوراق الورد؟ أتذكر يا صاحبي تلك اللحظة من ذلك اليوم البعيد؟ ألم نلحظ معا كيف جاء اختلافنا في الوصف ، دليلا على اختلافنا في رؤية الأشياء وتأويلها؟
ولقد امتدت بنا الأعوام، بعد تلك اللحظة البعيدة، فطوحت بك في شرق وطوحت بي في غرب، نلتقي آنا هنا أو هناك لقاء قصيرا عابرا ثم نفترق سنوات، لكن رؤيتك للدنيا لم تزل رؤيتك، ورؤيتي لم تزل رؤيتي، فما تراه نارا حارقة أراه وردا، والشيء المرئي هو هو ذاته الذي تراه أنت وأراه، إن دنيانا وأحداثها - يا صاحبي - هي كأحرف الهجاء كل يصنع منها الرواية التي يشاء، ولقد صنعت أنت من أحرفك رواية يائسة حزينة، وصنعت أنا من أحرفي رواية راجية راضية مستبشرة، والعجب هو أننا متصاحبان على طريق الحياة، ونحرص على أن نبقى متصاحبين، ولعلك أنت الذي قلت لي ذات يوم، أن بتهوفن، وهو على فراش مرضه وقد جلس بجواره بعض أصدقائه الأقربين، قد التفت إليهم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وقال: هيا الآن يا أحبائي، أنزلوا الستار فقد انتهت الملهاة - قالها وأسلم الروح.
وأذكر أن حوارا جادا قد دار بيننا، حول ذلك الذي رويته لي عن بيتهوفن وما نطق به عند موته، فسألتك بعد لحظة صامتة: أيمكن حقا أن تكون حياة الإنسان «ملهاة»، ودع عنك أن يكون ذلك الإنسان هو بيتهوفن، أو أيا ممن دارت حياتهم على أفلاك العظماء، كما دارت حياة بيتهوفن؟ نعم لقد أدرنا بيننا يومئذ حديثا مسترخيا خفيفا لكنه جاد، حين بادرتني - كعادتك - بسؤال تريد به أن تتقصى الأمور إلى منابتها، فقلت لي: لماذا تفرق في وصفك للحياة بين ملهاة ومأساة؟ أتحسب أن الملهاة ضحك ليس وراءه إلا الضحك، وأن المأساة بكاء ليس وراءه إلا البكاء؟ الملهاة والمأساة كلتاهما تصوير للإنسان الأولى تصوره في متناقضاته، وتصوره الثانية وهو يسعى إلى حتفه بظلفه، فيوجه مسيره نحو التهلكة، ظانا أنه يصعد به إلى مجد، وربما قصد بيتهوفن بقولته تلك: أن عظمة موسيقاه حين تنتهي بصاحبها إلى موت، إنما تشير إلى تناقض كالتناقض الذي تبنى عليه الملهاة، وكان ذلك الرجل العظيم لم يفرق بين موتين: أن يموت هو وأن تموت موسيقاه، فالعمل العظيم باق مع الناس، وأما صاحبه فهو فان بجسده حتما محتوما ، ولا تناقض في ذلك؛ لأن العمل العظيم ليس ملكا لصاحبه بقدر ما هو ملك للناس أجمعين.
قلت: لا عليك يا صاحبي من بيتهوفن وما حكم به على حياته لحظة خروجه منها بأنها كانت ملهاة، حتى طلب من أصدقائه الذين جلسوا بجواره خاشعين وهو يحتضر أن يسدلوا ستار المسرح؛ لأن الملهاة قد بلغت ختامها، لا عليك يا صاحبي فقد قال بيتهوفن ما قاله وهو في برزخ بين عالم الفناء وعالم الخلود، فهو وأمثاله من شوامخ الرجال - ربما عن غير وعي منهم - قد تحقق لهم الخلود مرتين: مرة أولى حين رسمت أسماؤهم في قلوب البشر، ومرة ثانية حين نقشت أسماؤهم بالنجوم على صفحة السماء، ولنوجه أبصارنا إلى أمثالنا ها هنا على هذه الأرض وفي زحمة الناس، نعم فلنوجه أبصارنا إلى من هم مثلك ومثلي من ملايين الرجال والنساء، الذين لا هم بلغوا من درجات الصعود ما بلغه بيتهوفن وأبو العلاء، ومن هم على هذه الشاكلة التي تتحول حياتها إلى نور يقشع الظلام أينما كان، ولا هم نزلوا على درجات السلم حتى تسطحت حياتهم مع أديم الأرض، وإنما هم بقدراتهم المتوسطة معلقون بين أرض وسماء، فلا هم يريدون أن يقروا على الأرض مع عامة الناس ولا سماء الخلد تريد أن تفتح لهم الأبواب، إنهم كطائر هيض له جناح وبقي جناح فلم يعد يعرف له مكانا: أهو مع الطير محسوب، أم هو محسوب مع ذوات الرجلين؟ أو هو كمن بترت له ساق فوقف على رجل واحدة لا يعرف الناس أهو مقعد يحملونه؟ أم هو ماش فيسير؟
إنه لا إشكال في العمالقة، ولا إشكال في الأقزام؛ فالعملاق في ميدانه عملاق يرغم الناس من حوله إرغاما على أن يثنوا رقابهم، حين يتجهون بأبصارهم إلى أعلى، إذا أرادوا رؤيته أو التحدث إليه، والقزم في ميدانه قزم لا حيلة لمن أراد النظر إليه إلا أن يتجه ببصره إلى أسفل، أما الإشكال فهو في «الأواسط» فأمرهم كثيرا ما يختلط على المشاهدين، فتارة يتوهم مشاهدوهم أنهم أعلى، وتارة يتوهمون أنهم أسفل، وإن ذلك ليذكرنا برواية «رحلات جالفر» للكاتب الإنجليزي «جوناثان سويفت»، وهي رواية مشهورة تلقى إعجابا عند الكبار وعند الصغار على حد سواء، ففيها أخبار «جالفر» إذ وجد نفسه خلال أسفاره بين قبيلة من عمالقة الأجسام، بحيث كان الواحد منهم يحمل جالفر على كفه، فلم يكن يزيد على إصبع واحدة، وهكذا أخذ العمالقة يلهون بتلك الأعجوبة البشرية، فلما شاء الله أن ينجو من تلك المحنة، واستأنف السفر وقع على قبيلة من الأقزام، فانعكس الوضع هذه المرة؛ إذ كان هو العملاق الذي أخذ يلهو بتلك الأجسام الصغيرة، يضع الواحد منهم على كف يده، أو في جيب صداره، لقد كان «جوناثان سويفت» يريد بتلك الرواية سخرية بالحياة السياسية في إنجلترا على أيامه «إبان القرن الثامن عشر»، لكنها سرعان ما جاوزت هدفها الأساسي لتكون متعة للأطفال وتسرية للهم عند الكبار، ومشكلة «جالفر» في أسفاره سواء أكان مستصغرا بين العمالقة أم كان مستضخما بين الأقزام، هي بعينها مشكلة «الأواسط» الهوامل في عالم الفكر والفن والأدب في حياتنا، محنة هؤلاء «الهوامل» هي أن حقيقة أقدارهم لن يكشف عنها نقابها، إلا على أيدي أجيال آتية، فإما رفعتهم تلك الأجيال إلى حيث يستحقون من رفعة، وإما خفضتهم إلى حيث يستحقون من حضيض.
ومضت بيني وبين صاحبي بضع دقائق صامتة، فلا أنا مضيت فيما كنت أتحدث فيه، ولا هو علق على حديثي بشيء، فعدت إلى خطابي إليه قائلا: لقد خطر لي خاطر ذات يوم، وكنت عندئذ أسير في شارع مزدحم بالمشاة وبالراكبين، وهو أن كل واحد من هؤلاء الناس، إنما يضمر في دخيلته «رواية»، هي رواية حياته التي عاشها، ولست أدري كم مجلدا ضخما تملؤه رواية كل منهم، فالأحداث التي مرت به والأحاديث التي دارت على مسمع منه، شارك فيها أم لم يشارك، والمشاهد التي رآها والأنباء التي سمعها عن الآخرين، إنما هي أكداس فوق أكداس، أين منها مخزونات أي جهاز إلكتروني حاسب؟ وإني لأتمنى حقا أن أصادف روائيا قديرا يعد في بلده من «الهوامل» الذين ترفعهم الأقدار وتخفضهم كما تشاء الأوهام والأغراض، لا كما يشاء الحق والإنصاف، أقول: إني لأتمنى أن أصادف مثل هذا الروائي القدير من فئة «الهوامل» ليروي لي رواية حياته، فهو بالفن الروائي يستطيع أن يستخلص من أكداس الحوادث هيكلا فيه اختصار وفيه شمول في آن واحد، فمثل هذه الصورة الهيكلية الصادقة هي تصوير لما يعانيه الهوامل من عنت وظلم وتجاهل أحيانا، أو ما ينعمون به أحيانا أخرى من رواج وشهرة وتقدير، والأمر في كلتا الحالتين لا يرتكز على حق يستحقه من يعاني أو من ينعم، بل هو معتمد على مهارة صاحب المصلحة أو خيبة أمله وضعف حيلته، أقول إن ذلك كله مما يلاقيه الهوامل من إقبال وإدبار ومن سعود ونحوس، هو من أصدق الشواهد شهادة على صحة الحياة في المجتمع أو مرضها، فالعمالقة محكوم لهم بغير إشكال، والأقزام محكوم عليهم بغير إشكال كذلك، ويبقى «الأواسط» الهوامل وحدهم نهبا لأحكام متسرعة بإنصاف أو بإجحاف.
وإنك يا صاحبي لهو ذلك الروائي القدير من جماعة الهوامل، ففي مقدورك أن تحقق لي ما تمنيت له أن يتحقق، وهو أن ترسم لنا صورة مكثفة لكنها وافية لرواية حياتك، فلعلها تشير إلى أي نوع من مجتمع ثقافي يعيشه هذا البلد الحبيب، فتردد صاحبي ضاحكا أو ضحك مترددا، ثم قال: إنك إذا طلبت من صانع السيارة أن يصف لك كيف صنعت فما أيسر عليه أن يذكر أجزاء السيارة جزءا جزءا، ومراحل تركيبها مرحلة مرحلة، فترى الحلقات كيف تتابعت منذ بدأت مع خام المعدن، حتى أصبحت سيارة تجري على عجلاتها، لكن مثل هذه التجزئة وهذا التتابع بفواصل حادة بين جزء وجزء، غير وارد في تكوين الكائن الحي وتتابع المرحل في نضجه ونمائه، فمهما دق التحليل العلمي بالعلماء، فمحال عليه أن يرسم الخطوط الفاصلة، يقول إن في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني، انتهت مرحلة الطفولة وبدأت مرحلة المراهقة، وأكثر منه استحالة أن تروي عن إنسان، أو يروي إنسان عن نفسه، قائلا: إنه في اليوم الفلاني من السنة الفلانية، وردت على ذهنه الفكرة الفلانية، فأصبحت تلك الفكرة بعد ذلك ملازمة في تفكيره، أو أنها تبخرت كما تتبخر قطرة الماء في وقدة الشمس، فتختفي كأن لم تكن، وما أبلغ الآيات الكريمة التي قارنت كلمة طيبة بشجرة طيبة؛ فالكلمة هنا «فكرة» خصبة، ولود تنسل لصاحبها أفكارا، وتتجسد الأفكار في أعمال وتنتهي الأعمال إلى ثمر، فانظر إلى الشجرة الطيبة تلك، وافرض جدلا أنها قادرة على التعبير عن حياتها الداخلية، تعبيرا يحدد لنا كيف نمت وتطورت وأثمرت، فماذا هي قائلة؟ إن الذي هو في وسعها أن تقوله هو ما قالته عنها الآيات الكريمة وهو منحصر في ثلاثة أطراف، فهناك أصلها الثابت في الأرض وهنالك فروعها التي ارتفعت فبلغت السماء، وهنالك الثمر الطيب الذي تخرجه حينا بعد حين، وهي أطراف ثلاثة تشير إلى مقابلات لها في حياة الصالحين؛ إذ هي حياة تنفع أهل الأرض في دنياهم، وهي في الوقت نفسه حياة ترضي ربها يوم الحساب، فنفع الناس هنا مشروط بأن يكون في حدود ما يرضي الله سبحانه وتعالى، وليست هي بالحياة التي تنفع الناس، وترضي الله مرة واحدة ثم تجمد وتعقم، بل هي حياة منتجة في هذا السبيل نتاجا يبقى ويتكرر ما دامت هي حياة سليمة معافاة، لكن هل تستطيع تلك الشجرة الطيبة - إذا فرضنا فيها النطق - أن تصف كيف اعتملت فيها الحياة من داخلها، منذ كانت بذرة، حتى نمت وتفرعت وارتفعت فروعها، ثم أثمرت ثمرات تعاقبت حينا بعد حين؟ لا أظن ذلك وحتى لو فرضنا فيها تلك القدرة لما كانت بذات نفع للسامعين.
ورواية حياتي كما تسعني روايتها، يمكن أن توصف على هذا النحو الإطاري الواضح، الذي هو في غنى عن ذكر الأحداث الصغرى مفصلة حدثا بعد حدث، فهي حياة - في جملتها - من ذلك النوع الذي يسير به صاحبه في مراحل ثلاث: فكرة فموقف يجسدها، فمستقبلون يقبلون أو يرفضون، وإنه لتتابع مألوف في الحياة الفكرية أينما ظهرت، ولا يعني ذلك شيئا بالنسبة إلى «مستوى» تلك الحياة الفكرية ، فقد تكون حياة يطير بها حاملها، أو تطير هي بحاملها إلى أعلى عليين، ولكنها كذلك قد تكون فكرية على مستوى متواضع، فهذا التفاوت في الدرجة، لا ينفي الصفة العامة التي تتميز بها حياة فكرية كيفما كانت، وتلك الصفة العامة هي أنها أولا: تنفع الناس في اعتقاد صاحبها، وثانيا: يرضى عنها الله سبحانه، وثالثا: هي حياة متواصلة الأثمار على فترة طويلة من العمر.
وليس في مستطاعي الآن أن أحدد ماذا كانت أول فكرة مما أنبته رأسي، بحيث كانت نسبته إلى شخصي كنسبة الولد إلى والده، حتى وإن يكن هنالك من العوامل الخارجية ما أوحى بالفكرة؛ لأن مثل هذا الإيحاء لا ينفي صحة النسبة، بل إنه ليكاد يكون شرطا ضروريا ولازما عند كل فكرة تولد لصاحبها، لكنني مع ذلك أقول صوابا إذا قلت إن أول «حالة فكرية» عشتها عن أصالة لا أقلد فيها أحدا، هي تلك الحالة التي تبينت فيها بوضوح، كم يتفاوت الأفراد في أقدارهم من الدنيا، تفاوتا لا يستند قط على تفاوت القدرات فيما يتفاوتون فيه، بحيث يكون النصيب الأعلى للقدرة الأعلى والأصغر للأصغر، بل إنه تفاوت يقوم معظمه على عوامل أخرى، لا شأن لها بطبيعة المجال الذي يتفاوتون فيه، وذهبت بنا هذه المفارقة إلى حد يأباه كل إدراك فطري سليم، ومع ذلك فقد حدث ووقع، بحيث جاز لمن لم يكتب في حياته صفحة واحدة - أو ما يقارب من ذلك - أن يعد «كاتبا»، كما جاز لمن لم يضطلع ببحث علمي واحد أن يعد «عالما»، فكان ذلك التناقض العجيب أول ما رسخ في نفسي رسوخا ليبيض بعد ذلك ويفرخ، وهنا لا بد لي أن أذكر لك - يا صاحبي - حقيقة هامة، تعين على فهم الحياة المنتجة وكيف تنتج، وتلك هي أن الفكرة المعينة إذا ما تبلورت وتعينت حدودها في ذهن صاحبها، ولو على صورة تقريبية يشوبها شيء من غموض تتداخل به مع غيرها من الأفكار فإنها - على الأرجح - لا تثبت على حالها إلى آخر العمر، بل هي تظل تزداد وضوحا وتفرز مضمونا ، وتتسع تطبيقا كلما ازداد صاحبها مع الخبرة توضيحا لها، فقد يستخدم أحد الناس كلمة «علم» مثلا، حين يكون مدى علمه بمعناها محدودا في دائرة ضيقة هي غالبا دائرة علومه المدرسية، ثم يكبر الناشئ ليكون طالبا في الجامعة، فأستاذا بتلك الجامعة فباحثا علميا ينشر نتائج أبحاثه على الناس، وفي كل خطوة من خطوات طريقه، نرى معنى «العلم» يزداد وضوحا ودقة واتساعا، وهكذا قل في أية فكرة يفرزها ذهنه أو يتلقاها من سواه، عندما يكون في أوائل الطريق فهي تضخم عنده معنى مع الأعوام والخبرة، وتكثر عناصرها وتفصيلاتها، ويصبح أقدر على رؤيتها مجسدة في مواقف الحياة العملية، بعد أن كانت في رأسه - أول الأمر - حبيسة صورتها المجردة.
وهكذا كانت الحالة مع أوائل الأفكار التي تراءت لي منذ مرحلة الشباب مأخوذة من آخرين بالقراءة، أو مستوحاة من ظروف الحياة العملية كما تلقيتها وتأثرت بها، ولقد أسلفت لك مثلا من فكرة غامضة، جاءتني في أول الشباب محصلة من مجرى الحياة العملية التي مارستها في ميدان التحصيل العلمي والثقافي؛ إذ استخلصت لنفسي كم بنيت حياتنا في ذلك الميدان على كثير من المفارقات، التي كان محالا عليها أن تكثر كما كثرت، إلا إذا كان المجتمع الذي عشت شبابي بين جنباته، قد أقيم على غير قليل من الظلم والعدوان، بحيث أتيح لمن لا يستحق شيئا أن يملك الحصاد على حساب من كان صاحب حق، ثم خرج من جهده المبذول صفر اليدين، أو ما يقارب من هذه الحالة، ولست أعني بصفرية اليدين هنا خلاءهما من مال مكسوب، فذلك كان - وما يزال - آخر ما يسترعي اهتمامي، ولكني عنيت بصفرية اليدين تجاهل الناس للحق، من ذا يكون صاحبه وأين يكون موضعه.
كانت الفكرة أول أمرها منصبة على أسس التعامل بين الناس، كما رأيتها وتأثرت بها، وبدأت التعبير عن تلك الصور في كتابات تأخذ صورة التحليل الموضعي آنا، وصورة الشكل الفني من آداب المقالة آنا آخر، وكانت هذه الصورة الثانية أحب إلى نفسي، ولو كان الفن الأدبي رجلا يعيش بيننا، لأعلن في الناس بأعلى صوته أن قلمي قد جرى عندئذ ببدائع ، لا أظن أن الأدب العربي يشتمل على كثير مما ينافسها إبداعا، لكن الفن الأدبي - وا أسفاه - لم يكن رجلا يعيش بين الناس لينبئهم حقيقة ما أغمضوا عنه الأعين، وليكن من أمر بذلك ما يكون، وإنما أردت أن أتعقب فكرتي عن الإنصاف أو الإجحاف في حياتنا العملية والثقافية، كيف رأيتها ثم دارت لي الأيام فالأعوام، فأخذت الصورة الفكرية الأولى تتلون وتتشكل وتتعمق وتتسع، حتى أصبحت وكأنها شيء آخر؛ وذلك أني ارتفعت بالفكرة إلى فلك التحليل العقلي، فإذا بأنسال لها تتفجر من جوفها، وكان من تلك الأنسال المتفرعة التفرقة بين «العلم» و«الهوى»، ومن الهوى ما يذهب إليه الإنسان من أحكام على الناس والأعمال والأشياء، لا عن تحقق من الواقع كما وقع، بل عن تحيز مسبق مع الشيء المحكوم عليه أو ضده، وعلى أساس هذه التفرقة المبدئية تقوم الفواصل بين ما هو «علم» يشترك في صحته أهل الأرض جميعا على معيار واحد، و«عاطفة» تميل أو تنفر، تحب أو تكره، تغضب أو ترضى، فإذا ارتقى فرد من الناس أو أمة من الأمم، عرفت كيف تفرق بين ما هو «علم» وما هو «عاطفة» بمقدار ما ارتقت، ولئن كان للعاطفة وأحكامها رخصة الجموح، اعتمادا على أنها لا تعبر إلا عن صاحبها وحده، دون أن تحمل معها دليلا على أن الشيء الخارجي هو في حقيقته على الصورة التي رآها العاطف بعاطفته، أقول: لئن كان لأحكام العاطفة رخصة الجمود والجنوح، فليس لأحكام «العقل» من رخصة يتجاوز بها حقيقة الأمر، كما هو واقع تراه الأعين، وتسمعه الآذان وتمسه الأيدي، وكما أن الاحتكام إلى العقل وقيوده كلما كان الشيء المحكوم عليه أمرا يهم الناس أن يعلموا عنه الحق، هو معيار يقاس به ارتقاء الفرد من الناس أو الأمة من الأمم، فطغيان العاطفة على الحياة بكل ما رأيناه للعاطفة من جنوح عن الحق وجموح عن العدل، إنما هو معيار كذلك لكنه معيار يقيس ما قد تردى فيه الفرد، أو ما تردت فيه الأمة من تخبط ومن جور.
تلك - إذن - كانت «فكرة» وذيولها تعلقت بها محورا أدير عليه النظر والتفكير والفصل بين مواضع النقص ومواضع الكمال، أو ما يتجه نحو الكمال، في حياتنا، فإذا عقبت عليها بفكرة ثانية كانت هي الأخرى باكرة الظهور في حياتي النظرية، وأعني حياة الفكر المتأمل الحر، قلت إنها فكرة «العظمة» في عظماء الرجال والنساء من كان منهم، ومن هو كائن بأي العناصر تقوم، لقد رأيتها منذ البداية «فكرة» جديرة بالنظر الفاحص والتحليل الدقيق لماذا؟ لأن صورتها في الأذهان ثم إخراج تلك الصورة فيما يكتبه الكاتب، هو الموجه الذي يوجه الوالد في تربية أبنائه، ويوجه الدولة في تنشئتها للجيل الجديد، ولست أريد بذلك أن عظمة العظماء قد هانت لتصبح ملكا مباحا لأبناء الأمة جميعا، فذلك مطمع تأباه طبائع الأمور، بل أردت أن تصورنا لعظمة العظيم - فردا أو شعبا - يرسم غاية عليا من شأنها أن تعين على اتجاه السير إلى أين يكون؟ وهذا جانب لا يستهان به لمن شاء لنفسه أو لولده أو لأمته أن تهتدي في سيرها إلى جادة الطريق.
ولقد بدأت فكرة «العظمة» عندي أول الأمر - كما بدأت فكرة الخلط بين عقل وعاطفة - على كثير من الغموض، ثم جاءت خبرة السنين لتجلوها ولتزيدها غزارة واتساعا، وربما كان بيت «المتنبي» عن «العظيم» أول ما نبهني إلى أهمية الفكرة، وهو بيت يقول فيه:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
وإني لأذكر الآن كيف امتلأت إعجابا بهذا البيت عندما وقعت عليه أول مرة، وحفظته وأخذت أعيده لأمتع سمعي بموسيقاه، لكنني في شك كل الشك في أن أكون في تلك السن الصغيرة قد أدركت أبعاد المعنى وأغواره، وأقل ما يقال في هذا الصدد هو السؤال عن «صغار» الأمور ما هي؟ وما هي «عظائم» الأشياء؟ فقد يكون أمر معين صغيرا في عين زيد، عظيما في عين خالد، فماذا يكون مرجعنا الذي نستند إليه في التفرقة بينهما على أساس صحيح؟
وإذا ألقيت سؤالا على نفسي الآن لكان لي جواب لم يكن ليخطر على ذلك الفتى الصغير وهو يردد بيت المتنبي معجبا، فمن أبرز العناصر في عظمة العظيم كما أراها أن يتمثل عصره ويمثله تمثلا وتمثيلا يعينانه على معرفة جوانب القوة وجوانب الضعف في حياة عصره. وهنا تأتي الصفة الثانية من صفات العظيم، وهي أن يحمل تبعة المصير لتلك الحياة وكأنها كلها حياته هو، فترتسم في ذهنه صورة تثبت ما هو قوة في عصره وتنفي ما هو ضعف، وعلى أساس ذلك التصوير يبدأ كفاحه وجهاده نحو التغيير والتطوير للمجتمع كله، نحو ما هو أفضل فيما كان قد رأى، وإن وسائل الكفاح والجهاد لتختلف بين العظماء باختلاف مواهبهم؛ فالقلم أداة لهذا والحرب أداة لذلك والثورة خطة لثالث، والتعليم والإعلام سبيل لرابع وهكذا.
وانظر إلى أبطال التقدم البشري على مدى التاريخ فمن هم؟ إنهم رجال تمثلوا عصورهم وكأن كلا منهم كان هو عصره، فعرف أين يقع النقص فدفعته العظمة الكامنة في جبلته أن يتبنى قضية الإصلاح، وكأنما الله سبحانه وتعالى قد خلقه بهذا الواجب الإنساني الملزم، وخير ما نقرؤه تنويرا لأنفسنا في هذا الجانب من الفكرة، هو كتاب «كارلايل» عن البطل والبطولة «وأظنه قد ترجم إلى العربية»، ولست أرى أن التركيز على عظمة العظيم إجحاف بالجمهور ودوره في حركة التقدم؛ لأن العظيم إنما امتص خبرته من معايشته لمواطنيه، بل وللإنسانية كلها متمثلة في تاريخها وتراثها.
فرواية حياتي - يا صديقي - هي رواية فكر وأفكار سايرته مهنة قوامها دراسة وتدريس، ونتج عن الخطين المتعاونين قلم يكتب وينشر لستين عاما خلت، ما أظنه قد استراح منها عاما، وإنها لرواية - كما ترى - ارتكز بناؤها على رءوس ثلاثة: أولها فكرة وثانيها موقف يجسدها، وثالثها نشر لها فيتلقاها من يتلقى وعند الله حسن الجزاء.
على سبيل الفكاهة
بدأت الطريق جادا، وانتهيت هازلا، إنه إذا ثقلت الكارثة على قلب المكروث، أخذ بادئ ذي بدء أخذ المحزون، فإذا استعصت حتى رزح تحت همومها، تفجر صدره عن ضحكات بلهاء الرنين، قد تتحول إلى قهقهة الجنون، تدمع لها العينان دموعا ، تمهد لدخوله في غمرة البكاء، وبين أصوات الضحك وأصوات البكاء شبه قريب، حتى ليحدث لنا أن نظن الباكي ضاحكا، ونسمع الضاحك فنحسبه باكيا، وقديما قال المعري: «وشبيه صوت النعي بصوت البشير.»
كانت جلسة جلستها إلى مكتبي، كما أفعل عندما أعد نفسي للكتابة، فالموضوع في رأسي، والورق أمامي، والقلم في يدي، ولم يبق إلا أن أمسك عدسة مكبرة بيسراي تهديني إلى الأسطر فيسطر القلم، لكني تركت العدسة ملقاة إلى جوار الورق، وسرحت سرحة كان أمرها عجبا، سألت بعدها ساعتي كم طالت، فأجابت بأنها زادت على ثلاث ساعات، وأما وقعها في حساب النفس، فكان كوقع الطيف، بغير صوت وبلا كثافة، يظهر ويختفي في أقل من نبضة واحدة ينبض بها قلب، وفيم سرحت تلك السرحة الطويلة القصيرة؟
لقد كان الموضوع الذي هممت بالكتابة فيه، هو ذلك التناقض في حياتنا كما أراها، فحياتنا في حقيقتها الواقعة، مترامية الأطراف، كثيرة الحركة، منوعة المناشط، لكني لا أملك - بالطبع - إلا أن أراها بمنظاري، فلا أرى منها إلا ما ينتسب إلى الكتب والكتابة، والفن والأدب، والرواية والمسرح، والنحت والعمارة، وهي رؤية تجاوز - بطبيعتها - فواصل الزمن، فالماضي حاضر مع الحاضر، وهما معا يتجاوران مع صورة مستقبلية لا مكان لها إلا في خيال صاحبها، وهي كذلك رؤية تتخطى حواجز المكان، فليس ما يمنع فيها أن ترى الأفكار قد وفدت إليك من بعيد ومن قريب، وكلها عندك سواء، تكتسب وهي في خاطرك حق «الجنسية» لا فرق فيها بين فكرة وفكرة إلا بقوة الحق الذي حملته في جوفها، فإذا نظرت إلى «حياتنا» من هذه الزوايا، رأيت منها ما أحيا به وما أحيا من أجله، ولقد كنت هممت ألا أكتب في «حياتنا» التي أصبحت أراها متقاطعة الخطوط، مسكوبة الماء، شاردة هنا وهنا وهناك كأنها هوامل البعران في صحراء، فإذا سألنا سائل: أين الثمرة؟ أسقط في أيدينا، ولم نحر جوابا.
وليس الذي يحيرنا في الإجابة عن سؤال السائل: أين الثمرة؟ هو أنه لا ثمار، كلا، كلا، فثمارنا - والحمد لله - كثيرة، ومنها الرفيع الجيد. كل في موضوعه، لكني كنت أتحدث عما أراه في حياتنا من تقاطع الخطوط تقاطعا يكاد يجعلها تلغي بعضها بعضا، فهي إلى ذلك أقرب منها إلى أن تحدث زخرفا متكاملا، أو أن تقيم شكلا هندسيا، إن المربع - مثلا - هو خطوط أربعة، لكنها تتكامل جميعا في شكل واحد، أما ما يصنعه طفل صغير لاعب حين يعثر على ورقة وقلم فيضرب على الورق بالقلم ضربا مجنونا، فهناك ترى الخطوط، مستقيمة ومنحنية ومتعرجة ومن كل شكل، لكنها خطوط لا تبني شيئا وعندئذ إذا سأل سائل: ما هو الشكل الذي أنتجته الخطوط؟ أخذتنا الحيرة ولم نستطع الجواب، وذلك هو ما قصدت إليه من حيرتنا أمام من يسألنا عن حياتنا: أين الثمرة؟
وليكن أمر ذلك ما يكون، فلقد أردت الكتابة فيما أراه من صورة حياتنا، وأمسكت بالقلم، لكن خاطرا دعاني أن أتمهل قليلا، لأستعرض في ذهني عددا من المحاور في تلك الحياة متمثلة تلك المحاور في أشخاص بأعينهم، أو في أعمال بذواتها، لكي يجيء ما أكتبه مستندا - في رأسي على الأقل - إلى شواهد من واقع تلك الحياة، إلا أنني عندما شخصت ببصري إلى لا شيء، غفوت ذهنا، فسرحت خيالا، وهي سرحة بدأت - فيما يبدو - حين تخيلت أني أجوب المدينة باحثا عن المحاور التي كنت أريدها، ثم رأيتني وكأنني أنسحب من المدينة، وشيئا فشيئا أخذت ضجة المدينة تخفت صوتها، حتى لم يبق منها سوى طنين خفيف، ولم يلبث ذلك الطنين أن زال، فساد صمت أين منه صمت القبور. آه! - هكذا صحت لنفسي في سرحتي - ألا يذكرك هذا الذي حدث لضجة المدينة بشيء؟ وما الذي حدث لضجة المدينة مما تعنيه؟ - هكذا سألت نفسي - وجاءني جوابها: كنت أعني أنها ضجة تصم أذنيك وأنت في قلبها، حتى إذا ما بعدت عنها قليلا وقليلا، نقص حجمها، وقل شأنها بمقدار ما بعدت عنك أو بعدت عنها، فعدت إلى سؤال نفسي، وما الذي ذكرتك به - يا نفس - تلك الزيادة وهذا النقصان؟
وأجابت النفس إجابة أذهلتني بغرابتها أولا، وبصدقها ثانيا؛ إذ قالت: إن ذلك قد ذكرني بما يحدثه البعد الزمني بأحجام الرجال، فهم في حياتهم يضجون ويصيحون، ويهرجون، ويمرحون، و«أشطرهم» هو أعلاهم صوتا، وأكثرهم هرجا، وأشدهم مرحا، حتى إذا ما انزلق الحاضر منبطحا على ظهره ليصبح ماضيا، ثم أخذ الماضي القريب ينأى عن الناس ليصبح ماضيا بعيدا، أخذت قامات هؤلاء الرجال تتغير في أنظار الناس أطوالا؛ فرب عملاق صار قزما، ورب قزم صار عملاقا، ثم يزداد عصرهم بعدا، فتأخذ أعداد هؤلاء الرجال، عمالقتهم وأقزامهم على السواء، تقل، وتقل إلى أن يجيء يوم للناس - وا عجبا - لا يذكر فيه من هؤلاء الرجال رجل واحد، فقد غاصت أصواتهم جميعا في هوة العدم، اللهم إلا أن يكون فيهم واحد من أبناء عبقر، فذلك العبقري يبقى أبد التاريخ رغم الألوف.
مهلا! مهلا! هكذا همست لنفسي، وكنت لم أزل في سرحتي، أتريد أن تجعل سيرة التاريخ أفرادا جبابرة، يحملون العلم والفن والفكر والأدب على أكتافهم، فأين دور «الجمهور» في حركة التاريخ، إنك حين وجدت ضجة المدينة الصاخبة قد أخذت تخفت رويدا رويدا، كلما بعدت أنت عنها قليلا قليلا، قفز إلى ذهنك التشابه بين موت الإعصار الصوتي مع بعد المكان، وموت الأسماء التي لمعت إبان عصرها في دنيا العلم والثقافة مع بعد الزمان، ورأيت أنه لا يغلب العدم ويقهره من تلك الأسماء إلا أفراد قلائل من أسرة عبقر، فكنت بهذا التشبيه كمن يقول إن المعول في الحياة الثقافية بجميع أطرافها هو على «أفراد» نوابغ، فأين دور «الجمهور» الذي كان هو - في الحقيقة - صاحب الضجة الصاخبة في شوارع المدينة؟ ومن الذي صنع أولئك «الأفراد» النوابغ، إذا لم يكن كل منهم صنيعة أمته؟ لكني لم ألبث إلا قليلا، بعد أن طرحت على نفسي تلك الأسئلة - وكنت لم أزل في سرحتي الغافية - حتى وجدت الإجابة، وما دمت قد اتكأت على تشبيهات أوضح بها المعاني، فلألجأ إلى الوسيلة ذاتها في توضيح الإجابة، فالأمر في العلاقة بين جمهور الناس ومن يعلو منهم برأسه ليجاوز حدودهم، فينخرط في زمرة العمالقة على المستوى «الإنساني» العام الذي لا يعرف الفواصل بين جمهور معين من الناس وجمهور آخر، أقول إن الأمر في العلاقة بين جمهور ومن ينبغ من أفراده، هو كالأمر في العلاقة بين المحيط وموجه العاتي، فلتصمد الموجة الجبارة حتى تبلغ أن تكون كرواسي الجبال، لكنها ستظل ماء من ماء المحيط، وإلا فمن أين جاءت بكل ما يقيمها من مقومات، إذا لم تكن قد انبثقت من المحيط جزءا منه، وإن العبقري في جبروته من علم أو فن أو أدب أو ما شئت، لتراه في ساعات هدوئه وسكوته، يحيا على مستوى واحد مع سائر الأفراد، كأن لا فرق بينه وبين أي فرد آخر، ولكم قرأنا وسمعنا عن زائر غريب يزور موطن نابغة من هؤلاء النوابغ، فيدهش كل الدهشة أن يراه واحدا من الناس، يمشي على الأرض، ويسكن البيت، ويأكل الطعام! نعم إن العبقري واحد من أفراد الجمهور في أمته يكابد ما يكابده الآخرون، وينعم بما ينعم به الآخرون، لكنه في الوقت نفسه - دون الآخرين - قد أراد له ربه سبحانه وتعالى، بما ألهمه من مواهب وقدرات؛ أن يصبح في أمته عقلها وقلبها ولسانها.
وبرغم تميز العبقري عن سائر مواطنيه، فهو ما يزال واحدا منهم، يتلقى ما يتلقاه الآخرون من مؤثرات، لكن الذي يختلف بعدئذ بينه وبين الآخرين هو طريقة الاستجابة لتلك المؤثرات، ولا تقتصر هذه المقارنة على دنيا التعبير في عالم الفن والأدب، بل إنها مقارنة نراها قائمة في مجال العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، وذلك أمر يدعو إلى العجب، لكنه حقيقة واقعة، فكأنما صدور الناس في العصر الواحد، وبسبب الظروف المعينة، تختلج بإرهاصات من نوع معين، تتطلب ما يعينها على أن تولد كيانا مجسدا في عالم الوجود، فما هو إلا أن يتحقق ذلك على يدي عبقري موهوب بقدرة تعينه على أداء ما هو مطلوب أداؤه، وإذا لم يكن هذا هكذا فكيف تفسر الحالات الكثيرة، التي يحدث فيها أن يتوارد الخاطر الواحد في العصر الواحد على أحد العلماء النوابغ في بلد ما، وعلى عالم نابغ آخر في بلد آخر؟ ففي العصر الواحد، وفي الأمة الواحدة، تحدث أحداث يكون لها وقعها في نفوس الناس جميعا، موهوبا وغير موهوب، فيدب فيهم قلق يريد ألا يستريح إلا إذا وجد مخرجا من مأزقه، لا فرق في ذلك بين الحياة العلمية، والحياة السياسية والحياة الاجتماعية، فيكاد يكون محتوما عندئذ، أن يخرج من الجمهور المأزوم من يقدم له الحل الذي يريد؛ ولذلك كان أغلب الظن عند هذا الكاتب، أن بين جمهور معين ونوابغه، موقفا استدلاليا متبادلا، وأعني أن من عرف ما كانت تضطرب به صدور الناس في فترة معينة، استدل نوع المواهب القادرة التي لمع بها أصحابها من أفراد، والعكس صحيح أيضا، وهو أنه إذا عرف باحث من هم النوابغ في أمة معينة إبان عصر معين، استطاع أن يستدل منهم آمال تلك الأمة وآلامها وهمومها واهتماماتها في ذلك العصر.
لقد أتيح لهذا الكاتب أن يزور متاحف الفن في كثير من بلاد العالم، وكانت عادته في تلك الزيارات أن يمهل الخطى وأن يطيل النظر، ولما كان الأغلب في تنظيم تلك المتاحف، أن تتسلسل عصور التاريخ مع تسلسل الغرف، بمعنى أن تكون مع فن القرن الخامس عشر في هذه الغرفة، ومع فن القرن السادس عشر في الغرفة التي تليها، وهكذا، أو أن تكون هنا مع فن مصر القديمة، وهناك مع فن اليونان أو الرومان، فقد كانت العادة عند هذا الكاتب، أن يحاول الوقوع على فارق جوهري يلحظه بين عصر وعصر في تاريخ الأمة الواحدة، أو بين أمة وأمة، مقيما استدلالاته على ملامح مميزة هنا أو هناك، مما يدل على أن لكل عصر مناخه العام، ولكل أمة طابعها المتميز، فإذا صح هذا حق لنا السؤال: ما الذي أدى إلى هذا التجانس بين مختلف المواهب، في الأمة الواحدة، أو في العصر الواحد؟ وأمكن الجواب عن هذا السؤال، ألا وهو أن وحدانية الأمة الواحدة، ووحدانية العصر الواحد، مبعثهما مما زخرت به قلوب الناس في زمانهم، من مشاعر ومن خواطر استجابوا بها لمؤثرات حياتهم، وهكذا تجيء الصلة الحميمة بين جمهور الناس ومن ينبعث من عمالقة المواهب في بنيه.
انظر - مثلا - إلى الفن التشكيلي في عصرنا هذا في مختلف اتجاهاته وتياراته: التجريدي، والتكعيبي والسريالي إلخ، ألا تشعر أمام هذا التنوع العجيب بسؤال يتردد في نفسك: لماذا؟ وهل يمكن أن يكون لهذا السؤال من جواب إلا وهو منتزع من روح العصر، فقد يكون العنصر المشترك في هذه المنوعات كلها، هو هروب إنسان العصر من واقعه الأليم بالقياس إلى نفسه من باطن، حتى ولو كان نافعا ودافعا إلى القوة والسيطرة والتقدم، بالقياس إلى صور الحياة العملية من ظاهر، فها هنا خرج الفنان ليحقق بموهبته شيئا كان كل إنسان من عامة الناس يتمنى أن يحققه لنفسه، وهو أن يجد مهربا من الحياة في صورتها الواقعية، إن الفنان الحديث يتمرد على «الواقع» ليخلق لنفسه على اللوحة واقعا آخر يرتضيه، إذا أعجبك أيها المشاهد، فعش معه فيه، وإن لم يعجبك فاترك الفنان في دنياه، وارحل أنت عنه «إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم»، وماذا يصنع الفنان السريالي - مثلا - سوى أنه يرسم على لوحته «حلما» من نوع ما يراه كل حالم في نعاسه، كما هي الحال في فن «سلفادور دالي»، إن ما يفعله الفنان السريالي هو نفسه الذي فعلته فطرة الإنسان لتخفف عنه عناء صحوه بأحلام نومه، وعسير على كاتب هذه السطور أن يذكر حياة الإنسان بين صحوه ونومه، دون أن تستعيد له ذاكرته نعمة الله عليه، من قدرة على أن مجيء صور أحلامه في لوحاته متسقة ناصعة، حتى ليجوز أن يختلط عليه الأمر، في كثير جدا من الحالات، أيكون مشهد معين بأحداثه، مما وقع له بالفعل في الحياة الصاحية، أم هو - يا ترى - ورد له في رؤياه؟ (أرجو من القارئ أن يفرق بين «رؤية» و«رؤيا»؛ فالأولى لرؤية العين، والرؤيا للحلم.)
وعند هذا الحديث مع نفسي، وعلى ذكر الفن السريالي والأحلام، دخلت من غفوتي السارحة، في منعطف جديد، إذ رأيتني مع جماعة من أقطاب حياتنا الثقافية فيما يشبه الحلم، أو ما يشبه لوحة من الفن السريالي، بمعنى أنني رأيت هؤلاء الأقطاب على أشكال ترمز إلى حقائقهم، أكثر منها صورا فوتوغرافية لقسمات وجوههم، مما جعلني أنظر إلى اللوحة محاولا فك رموزها، تماما كما أحاول إزاء حلم رأيته ثم صحوت لأشغل نفسي بما عسى أن يكون تأويلا له، مؤسسا على حقائق حياتي في عالم الواقع، فكيف تسلسلت معي الرؤى في ذلك الحلم العجيب؟
كنت أصعد في مصعد إلى طابق علوي من عمارة شاهقة، قاصدا إلى زيارة طبيب؛ إذ فوجئت في أذني بطنين مزعج، ينقلب آنا بعد آن إلى صفير، بدأت رحلتي في الصعود وحيدا، أو هكذا ظننت، لكن فجأة وجدت معي صديقا قديما، توفي من زمن ليس بقصير، إلا أن هذه الحقيقة عنه لم تكن هي حقيقته عندي في الحلم، ومع ذلك فقد كنت أعلم أنني لم أره منذ فترة أطول مما ألفناه معا في صداقتنا، فلما فوجئت بوجوده في المصعد، أخذتني دهشة متعددة الجوانب، ورحبت به معاتبا بأنه ذهب عني كل تلك الأشهر التي لم أره خلالها، وأما جوانب دهشتي لرؤيته، فهي أنه كان يرتدي جلبابا أبيض، وعهدته ممن يلبسون البدلة، ثم رأيته وقد أخرج من جيبه غليونا وضعه بين شفتيه وهم بإشعال التبغ في وعائه، ولم أكن قد رأيته قط يدخن الغليون، أو ربما فعل ونحن في سن المراهقة ثم أقلع، لم يكن قد أكمل إشعال التبغ حين وصل المصعد إلى غايته.
كان الظن أننا سنخرج من مصعدنا لنجد عيادة الطبيب الذي قصدت إلى زيارته ولم أكن قد عرفت من صديقي إلى أين مقصده، لكننا خرجنا لنجد أمامنا بوابة واسعة، كتب عليها بأحرف مضيئة بأنابيب «النيون»: وكالة البلح. فوقفت وقفة مفاجئة وسألت مأخوذا بما أرى مما لم أكن أريده ولا أتوقعه: وما هذا؟ أين نحن؟ فأجاب صديقي: إنها «وكالة البلح» ماذا أردت لها أن تكون؟ قال ذلك صديقي في نغمة جادة ووجه عابس، وتلك علامة أخرى فيه عندئذ مما أدهشني، ولم أكن عهدتها سمة من سماته؛ إذ هو - كما عرفته - ضاحك ساخر، إني كما كنت في الحلم لم أكن قد سمعت بشيء اسمه «وكالة البلح»، فلما رأيت العبارة مكتوبة ووجدت صديقي على علم بها، بل لعله كان يقصد إليها، سألته: وماذا عسانا واجدين هنا؟ قال - وكنا ما زلنا واقفين أمام الباب الكبير المغلق - إن «وكالة البلح» مؤسسة تجارية قديمة، فيها كل ما ترغب في شرائه، تعرض الجديد والمستعمل، فيها كل أنواع الثياب، والأجزاء النادرة من العدد والآلات وفيها أحذية وقبعات وطرابيش، فيها أقدم صنوف الأزياء والأوعية والقدور والقلل، وأحدث صنوف الثلاجات وأجهزة الطهو والغسل، إنها تعرض المسروق والمستورد والناتج المحلي، ولا أطيل عليك؛ ففي هذه السوق العجيبة كل ما تشتهي الأنفس والأبدان وما لا تشتهي.
كان صديقي قد أشعل التبغ في غليونه، ووضعه بين أضراسه وتركه يرسل دخانه حلقات حلزونية في الهواء، ولم تستطع عيني أن تتابع ما فعلته أصابعه في الباب، ولعله ضغط على زر هناك، فانفتح الباب الكبير عن بهو فسيح، فيه ما بدا للعين في اللمحة الأولى أنه جماعات من أطفال وغلمان وقفوا، وتحركوا وانبعث زياطهم على نحو يتركك تنظر ذاهلا، لا تدري ماذا أنت واجد هناك: ولقد ظننت أنني وحدي كنت الذاهل لغرابة المكان ومن فيه، ونظرت إلى صديقي مع حركة من يدي، وكأنما أردت أن أنبئه بأني تهيأت للدخول، فإذا بي أجد صديقي شارد العينين، وكأنه تائه في فلاة لا يعرف لها شمالا من جنوب، ثم سمعته يهمس قائلا: ما هذا الذي أرى؟ هل أخطأنا طريقنا؟ لكن اللافتة رأيتها على الباب، وانفتح لنا الباب كما أردنا له، فوا عجبي مما أرى: ومع ذلك فهيا إلى الدخول لعل سرا ينكشف عنه الغطاء، لم تكن جماعات الأطفال والغلمان التي رأيناها من خارج الباب تتجمع وتتفرق هي التي ينتسب إليها المكان؛ إذ يبدو أنها جماعات جاءت لاهية لتتفرج على المشاهد المعروضة، وما نحن إلا وقد أمسكنا الخيط في أيدينا، وأعني أننا عرفنا طريقنا، فمن أين نبدأ، وكيف نسير، فالعارضون يعرضون أنفسهم وأفعالهم، في صمت لا يخلو من إشاعة الرهبة في نفوس المشاهدين.
كان المشهد الأول قوامه شخصان وقفا ظهرا لظهر، كل منهما أمسك بسوط طويل، وأمام أحدهما قطة سوداء مقيدة أرجلها، وأمام الآخر قطة بيضاء مشدودة في عنقها بحبل رفيع، وقد ارتديا ملابس غريبة فأحد الرجلين تلفع بأردية عربية لم يحسن حبكها على جسده، فكانت مع حركة ذراعيه العنيفة، تميل إلى السقوط فيسرع إلى إعادتها، وأما الثاني فكان يلبس سترة وسراويل، لكنها أوسع جدا من حجمه، فكانت تثير الضحك لولا أن جهامة الرجل كانت تنشر الرعب فلا يجرؤ متفرج على ابتسامة، ودع عنك أن يضحك بصوت مسموع، ولم يكن يفعل هذان العارضان شيئا أكثر من أن يلهب أولهما بسوط القطة السوداء، وبأن يصنع الثاني الصنيع نفسه مع القطة البيضاء، والقطتان تموءان بأصوات مخيفة وكأنهما تحولتا إلى عفريتين من الجن، ترى ما هذا الذي يفعلانه؟ لا صديقي القديم ولا أنا استطاع أن يفهم معنى الذي يراه، إلا أن الأمر الواضح في الرجلين معا هو ذلك الغل الذي يملأ قلبيهما إذ هما يهويان، كل منهما بسوطه اللاهب على قطته، مما يدل على أن كلا منهما قد وجد العداء المر في فريسته، ورأى لا منجاة له إلا بقتل عدوه، وعندما أخذنا صديقي وأنا نتحرك إلى مشهد آخر، رمى إلينا القدر بمن يهمس لنا قائلا: أرأيتما كيف جعل أحدهما من الغرب عدوا، وجعل الآخر من العرب عدوا، فطفق كل منهما يفتك بعدوه في غيظ مسموم وجهالة عمياء، فما زادنا الهامس بهمسته تلك إلا حيرة على حيرة.
وانتقلنا إلى المشهد الثاني، وقد ذكرني بخطباء الأحد في حديقة «هايد بارك» في لندن، حيث يقيم كل خطيب منبره، ويلقي خطابه بأعلى صوت يستطيعه، سواء أكان أمامه سامع أم لم يكن؛ ففي المشهد الثاني وجدنا رجلين، كل منهما على منبره، وقد نصب المنبران ظهرا لظهر، لكن ما أشد ما كان بينهما من اختلاف؛ فأحدهما يخاطب جمهورا ضخما تجمع أمامه ليستمع، وأما الآخر فلم يكن أمامه إلا سامع واحد. واقتربنا فأدركنا العلة، فأولهما يقول لجمهوره ما يحب ذلك الجمهور أن يسمعه، دون أن يعرف المتكلم أو السامع كيف يمكن أن تتغير صورة الحياة بما يقال ويسمع ، فالذي يقوله القائل يعرفه السامع قبل أن يسمعه، فلا المتكلم تغيرت حياته بما قال، ولا السامع ستتغير حياته بما يسمع، وأما الخطيب الثاني فهو يخطب بلغة غير لغتنا، وفي موضوع لا يؤرق أحدا منا؛ ولذلك فقد استحق عقابه، وذهبت كلماته أدراج الرياح.
وانتقلنا إلى المشهد الثالث، فرأينا منظرا مثيرا حقا، وداعيا إلى تساؤل: إذ رأينا صندوقا زجاجيا مستطيلا، طول ضلعه الأكبر نحو ثلاثة أمتار وطول ضلعه الأصغر نحو متر ونصف المتر، وأما عمقه فيبلغ نصف المتر على وجه التقريب، والصندوق مركب على قائمة خشبية مسدودة الجوانب، وفي أحد جانبيه الأصغرين ثقبان مستديران، وفي الجانب الصغير المقابل باب صغير، ينفتح وينغلق بلوحة زجاجية تنزلق في اتجاه جانبي، وقفنا عند هذا الصندوق ولم يكن بداخله شيء، لكن لم تمض دقيقتان حتى جاء الحارس بأرنبين صغيرين، فتح لهما الباب وأدخلهما ثم أغلق دونهما الباب: وأخذ الأرنبان يقطعان الصندوق طولا وعرضا وثبا سريعا وكأنهما يتسابقان، إلى هنا والمنظر لافت للأنظار لكنه غير مفهوم، وفجأة أطلت من الثقبين المستديرين عينان حمراوان تثيران الرعب، ولا بد أن تكونا عيني حيوان داخل القائمة الخشبية المغلقة، على أنهما ما كادتا تظهران وتسلطان النظر على الأرنبين حتى تجمد الأرنبان كل في موضعه - وكأنما هما مقدودان من حجر.
أحسست بالقشعريرة تسري في بدني، ونظرت إلى صديقي لأجده على جهامته وعبوسه، وكأن لا شيء مما نراه قد اهتزت له شعرة في بدنه، وقد ذكرت لك أن عهدي بصديقي ذاك الذي لم أكن قد رأيته منذ سنوات، أنه ضاحك دائما ساخر دائما، قلت له إني لم أعد راغبا في رؤية شيء من هذا المعرض السخيف، وبينما نحن في طريقنا إلى الخروج، وقعت عيني على غرائب، فهنالك تيجان معلقة في الهواء بلا ملوك، وبجوارهما ملوك على عروشهم ولكن بغير تيجان، وهنالك نافورات تحسبها من بعيد تنفث قطرات الماء في حوض مرمري أقيمت فيه، وتقترب فإذا هي أقلام تنفث نثارا من كلمات على ورق أبيض، وهكذا.
قلت لصديقي: لم أفهم شيئا من هذا الخليط العجيب.
فقال: كنت بادئ الأمر في مثل حيرتك، عندما توقعت أن أدخل «وكالة البلح» كما عرفتها، وإذا الذي أراه هو هذه المشاهد، لكني حين أدركت أنها هي وكالة البلح، إلا إنها استبدلت بضاعة ببضاعة، فبضاعتها اليوم هي ذلك الشيء الذي يسمونه «ثقافة».
قلت في دهشة صارخة: ثقافة! وأين الثقافة في عينين ساحرتين وأرنبين مسحورين؟
قال الأمر واضح، أما العينان فهما الرأي العام يرقب، وأما الأرنبان فهما رجال الثقافة جمدت أوصالهم برقابة الرأي العام!
هنا تنبهت من غفوتي السارحة، فوجدت القلم لم يزل بين أصابعي - والورق أمامي - فسألت نفسي: ماذا أكتب بعد تلك المساخر التي رأيتها، فأجابت النفس قائلة: اكتب عن تلك المساخر التي رأيتها.
اختلط الحابل بالنابل
هي صيغة لفظية جميلة، حفظناها عن الأقدمين، لنلخص بها - كما فعل قائلوها الأولون - كثيرا جدا من حقائق الحياة التي تحيط بالإنسان أحيانا، فيصعب عليه فهمها لاختلاط بعضها ببعض، ولو أنه عرف كيف يرتبها ترتيبا صحيحا لاستقامت له واستقامت حياته تبعا لذلك، والأصل في هذه الصيغة اللفظية هو أنها قيلت لتصف موقفا كان فيه جماعة من الصيادين، اختلفت أنواعهم اختلافا أمكن تلخيصه في نوعين: فنوع منهما هو جماعة الصيادين الذين كانت وسيلتهم في الصيد، هي أن يضعوا شباكا من حبال يخفونها بغطاء من الرمل والحصى، فإذا جاءت المصادفة بصيد كبير، كأن يكون سبعا أو نمرا، وقع في الفخ وقبضته شبكة الحبال قبضة يحكمها الصائد الحابل، ليحمل صيده إلى سوق البيع والشراء، ذلك هو الحابل، وأما النابل فهو من جعل أداته في الصيد «نبلة» أو مجموعة نبال، والأرجح في هذه الحالة أن يكون الصيد طيرا من مختلف أنواع الطير، ويبدو أنه قد أقيمت سوق يعرض فيها الصيادون صيدهم.
الحابل منهم والنابل جميعا، كما يبدو كذلك أن شيئا حدث في السوق، مما جعل الصيادين وصيدهم يتداخلون في خليط مزدحم، بحيث تعذر على الصائد أن يميز صيده في ذلك الزحام، كما يتعذر على الشاري أن يجد البائع ، فقد اختلط الحابل بالنابل.
شيء كهذا هو الأصل الذي جاءت هذه الصورة اللفظية لتصوره، لكنها صورة كان لها من بلاغة التعبير ما جعلها - عند التطبيق تجاوز أصلها لتصدق على كثير جدا من مواقف الحياة العملية، مما يدعونا أن نسأل: ماذا في الصورة الأصلية كان هو الجانب الذي استطاعت به أن تنال من سعة الشمول ما نالته بالفعل على ألسنة الناس، ليس في جيل واحد، ولا في عشرة أجيال، بل عبر عصور لا أدري كم طال أمدها، منذ كان القائل الأول، وإلى هذه اللحظة التي يريد فيها هذا الكاتب أن يستثمر ذلك القول القوي، الغني مبنى ومعنى.
كان ذلك الجانب من العبارة، الذي مكنها من البقاء هو الحقيقة الصورية المنطقية، التي هي إحدى الصور العقلية البسيطة التي على منوالها ينسج الإنسان ما ينسجه من فكر صائب، في حالات لا تكاد تقع تحت حصر، وأعني بتلك الحقيقة الصورية البسيطة، وجوب الفصل بين نوعين، إذا لم يكن بينهما ما يجعل أحدهما يتداخل مع الآخر، حتى لا يختلط - في عالم الأفكار - ضأن وماعز، أو قمح وشعير.
إن من أهم ما جعل علوم الرياضة تبلغ ما تبلغه من الدقة حتى لقد ظلت العلوم الطبيعية - ودع عنك العلوم الإنسانية - قرونا طويلة لم ينفك فيها أصحابها عن البحث، لعلهم يقعون على الطريقة التي يطبقونها في علومهم تلك، لعلها تظفر بمثل اليقين الذي ظفرت به العلوم الرياضية، أقول: إن من أهم ما حقق ذلك اليقين الجازم في العلوم الرياضية، هو أن «أفكارها» من نوع يسهل تحديده وتعريفه، بحيث لا يتداخل أبدا مع نوع آخر، فمحال أن يختلط علينا الأمر بين «مثلث» و«مربع» و«دائرة»، ومحال أن يختلط علينا المعنى بين العدد «صفر» والعدد «1» والعدد «2»، أو بين عدد وعدد آخر في سلسلة الأعداد؛ لأن لكل منها تعريفا حاد الفواصل، يضمن له ألا يختلط فيه الأمر مع سواه، ومثل هذا الفصل الحاسم القاطع بين معنى ومعنى، أو بين نوع ونوع، هو الذي طمع العلماء في دوائر العلوم الأخرى أن يحققوه بعلومهم، ولم يكن الأمر يسيرا، لصعوبة تلك التحديدات الحاسمة في أنواع الكائنات التي تبحث فيها العلوم الطبيعية، ودع عنك العلوم الإنسانية وما تتخبط فيه من تداخل المعاني واختلاط الأنواع، ولعلي قد أنبأتك في مناسبة سابقة، لا أدري أين ومتى، كيف كانت أهم المواقف الفكرية التي أسدلت الستار على عصر مضى، لترفع الستار عن بشائر عصر جديد آت، هي قيام نابغة يضع بين أيدي الناس طريقة جديدة تحدد بها المعاني، أي تحدد بها أنواع الكائنات، تحديدا لا يسمح باختلاط بعضها في بعض، فيقع الناس في مثل الحيرة التي وقع فيها أولئك الذين ذهبوا إلى سوق الصيد، فوجدوا أن الحابل قد اختلط بالنابل.
وكان سقراط أحد أولئك النوابع الذين أقاموا الحدود بين معنى ومعنى، في أصعب المجالات انصياعا إلى مثل ذلك التحديد، وهو مجال المعاني «الأخلاقية»، فما أسهل على المتحدثين أن يتبادلوا الأحاديث حول «الأمانة» و«الصدق» و«العدل» و«التقوى» إلخ، لكن ما أصعب على أي منهم أن يرسم الحدود الحاسمة، التي تفصل معنى عن معنى في هذا الباب، وذلك ما جاء سقراط ليبين طريقته، فقيل فيما بعد عنه إنه قد نجح في «ترييض» الأخلاق (وأقصد بالترييض إخضاع المعاني الأخلاقية للمنهج الرياضي في ضبطه ودقته)، وكان «ديكارت» نابغا آخر، افتتح بمنهجه عصرا فكريا جديدا، هو الذي يصفونه بالعصر الحديث، ويكفيني هنا أن أجتزئ من منهجه جزئية واحدة، تلائم هذا السياق الذي نسوق فيه حديثنا هذا، وأعني بها ضرورة أن تتصف الفكرة المعينة «بالوضوح» و«التمييز»، مشيرا إلى خطوتين لا بد أن تكمل إحداهما الأخرى، وإلا تعرضت الفكرة المطروحة للغموض والخلط، فلا يكفي أن تقيم الحدود الحاسمة التي تحدد مجال الفكرة التي تتقدم بها، مهما بلغ ذلك التحديد من «الوضوح»، بل لا بد أن تكمل هذا الوضوح بخطوة أخرى، تبين بها موضع الاختلاف الذي تختلف به تلك الفكرة مع غيرها، فلا يكفي - مثلا - أن تبين معنى «العدل» ما حدوده وجوهره، فذلك هو «الوضوح» لكن يبقى عليك أن تبين موضع تمايزه مما ليس عدلا، وذلك هو التمييز، وواضح لنا أن هذه الخطوة الثانية في منهج التفكير الصحيح، لم تكن ظاهرة في المنهج السقراطي، حتى وإن تكن متضمنة فيه فجاء ديكارت ليبرزها حتى لا تفلت ممن أراد لنفسه فكرا صحيحا.
كان الذي أدى إلى فوضى الأفراد والأشياء مما انطلق به لسان القائل لتلك العبارة المعروفة، «اختلط الحابل بالنابل» هو - في عمقه النظري - ذلك الذي شرحناه؛ إذ كان الذي أدى إلى الفوضى، هو إن تداخلت دائرتان، لم يكن ينبغي لهما أن يتداخلا لاختلاف المدلول في إحداهما، عن المدلول في الأخرى، ومثل هذا الخلط بين مختلفين هو ذاته ما يحدد لنا معنى «الخطأ»، وربما كان تحديد معنى «الخطأ» أعسر منالا من تحديد معنى «الصواب»؛ لأن الخطأ في التفكير، لا يحدث إلا إذا أخذت معرفة الإنسان تزداد وتكثر، فلو فرضنا جدلا أن إنسانا ما، يعرف «معلومة» واحدة بسيطة (وأعني ببساطتها عدم قابليتها للتحليل إلى عناصر في تكوينها) فلا يكون في مثل هذه الحالة مجال للخطأ، أما إذا ازدادت معرفته، فأصبحت «معلومتين» بدأ الاحتمال بأن يختلط الأمر عليه في أيهما الصواب، طفل رضيع - مثلا - لم تقع عيناه على شخص إلا أمه، فتحدث الرابطة بينه وبينها في غير حيرة، ثم يحدث أن يرى امرأة أخرى تصاحبها آنا بعد آن، فتبدأ معه حيرة التميز بين خطأ وصواب.
الخطأ ليس صفة مما يمكن أن يوصف به شيء واحد قائم برأسه، لا رابطة بينه وبين سواه، إنك لا تنظر إلى شجرة - مثلا - وتقول إنها خطأ، ولا تنظر إلى لفظة منفردة وحدها؛ كأن تصادف كلمة «هواء» منطوقة أو مقروءة،
بروابط جعلتها لا تطابق الواقع، فإذا قلت لك جملة كهذه: «الشمس تطلع من الغرب». قلت: هذا خطأ، وليس الخطأ هنا منصبا على «الشمس» قائمة بذاتها، ولا على «الغرب» مأخوذا وحده، بل ينصب الخطأ على الصورة الذهنية التي تكونت، عندما جاءت العلاقة التي أشارت إليها كلمة «تطلع» لتربط بين الطرفين .
إنني أقدم إليك هذه المقدمات كلها، تمهيدا للغاية التي قصدت إليها والتي سأطالعك بها بعد حين، ومن أهم ما يهمني أن يلتفت إليه النظر، هو نتيجة تترتب على الحقيقة الأخيرة التي ذكرتها لك عن «الخطأ» وعلى أي شيء يقع، وتلك النتيجة هي أهمية «ترتيب» العناصر؛ فمعظم ما يتعرض له الإنسان من صعوبات ومشكلات، ليس ناشئا عن الأشياء في ذاتها بل عن «الترتيب» الذي رتبت به تلك الأشياء، بما في ذلك مواضعها التي وضعت فيها لينشأ بوضعها هناك موقف معين، فإذا رأيت ترابا تعفرت به غرفتك، فليس الخطأ في «التراب» من حيث هو شيء من أشياء الدنيا، بل الخطأ في أن تكون الغرفة مكانا له يستقر فيه، فلو نقل ذلك التراب إلى حقل زراعي، لما كان في موضعه ذاك مجاوزة لما ينبغي أن يكون، واضرب لنفسك أي أمثلة شئت لمواقف اعترضت حياتك فأساءت إليها، تجد قلب المشكلة كامنا في الطريقة التي رتبت بها عناصر ذلك الموقف، ولو أعيد ترتيبها على صورة أخرى، أو حذف فيها عنصر أو أضيف إليها عنصر، لانجلت المشكلة وصحح الخطأ الذي كان سببا في قيامها، فأين الخطأ مثلا فيمن نصفه «بالتطرف» الفكري أو الديني، إنه قد لا يكون في أية معلومة من معلوماته مأخوذة على حدة، بل إنه قد لا يكون في اجتماعها معا في رأسه؛ لأنه ربما أحالك إلى كتاب استمد منه تلك المعلومات، فتكون معلوماته صحيحة بالنسبة إلى ذلك الكتاب، فالذي في رأسه مساو للذي في ذلك الكتاب، لكن «التطرف» أضاف إلى الموقف عنصرا هو الذي رجح به نحو التطرف، وذلك أنه وضع في رأسه اعتقادا بأن مصدره هو وحده المصدر، وأن محصوله المعرفي هو وحده المحصول، فدخل «الخطأ» مع دخول ذلك العنصر المضاف.
ونتوسع في هذا المعنى قليلا ليزداد وضوحا، فنقول إنه ليس هناك شيء في هذه الدنيا، يمكن «فهمه» إلا إذا وضح جزءا من سياق يحتويه، فأي مفرد لغوي لا يكتسب معناه إلا وهو جزء من جملة مفهومة؛ وذلك لأن الجملة ستربطه بما يوضح معناه، خذ فردا من الناس، فهل لو ظللت تنظر إليه تكون قد عرفت من هو، لا، بل تبدأ معرفتك به حين تأخذ في كشف العلاقات التي تربطه بأطراف أخرى، فاسمه كذا وأبوه فلان، وهو طالب في الجامعة الفلانية، ويسكن مع أسرته في المنزل الفلاني، وهكذا كلما اتسع السياق الذي يوضح فيه اتسع علمك به، إن الحقيقة المعينة في أي ميدان من ميادين المعرفة، لا تفهم لمن لا يفهمها إلا إذا انتسبت إلى أسبابها؛ فقد يرى التلميذ الصغير المطر، ولا يفهم لماذا أو كيف ينزل المطر، فيكون سبيل إفهامه أن نضع له الظاهرة في إطار أسبابها - من رياح جاءت حارة على محيط الماء - ومن حرارة مقدارها كذا، إلى آخر العوامل التي إذا اجتمعت كان المطر، إن الجريمة من الجرائم تظل لغزا أمام القاضي، إلى أن يجتمع له من شهادات الشهود ما يرسم له صورة متسقة الأجزاء لما قد حدث، وعندئذ «تفهم» الجريمة.
ونلخص ما أسلفناه على ضوء ما بدأنا به من قصة اختلاط الحابل بالنابل، فنقول: إن سر الفكر الصحيح، هو في تحديد الفكرة المعينة تحديدا لا يجعلها تتداخل في فكرة أخرى، لا من حيث معناها المدرك في الأذهان، ولا من حيث الأشياء في عالم الواقع التي أريد للفكرة أن تشير إليها، فلو كان الحابلون من الصيادين قد وضعوا صيدهم في مكان لا يتداخل في المكان الذي وضع فيه النابلون صيدهم، لما اختلط حابل بنابل، وتعذر البيع والشراء، والذي يساعد على تحديد الفكرة المعينة، متمثلة في اللفظ الذي يحملها - هو أن توضع في سياق يبين صلاتها بأطراف أخرى.
وهنا ننتقل إلى الغاية التي قصدنا إلى الوصول إليها؛ ففي حياتنا الاجتماعية اليوم تفكك للعرى التي كانت موصولة بين الأفراد، وهو تفكك يكاد يجمع عليه الرأي العام، وتلتقي عليه المشاهدات وتؤيده أبحاث علمية كثيرة، مما يقوم به الباحثون الجامعيون من طلبة الدراسات العليا، وهو يتخذ صورا مختلفة باختلاف المجال الاجتماعي الذي يحدث فيه، فمنه صورة في تفكك الروابط داخل الأسرة الواحدة، بحيث لم تعد العلاقة بين والد وولد، بالوضوح نفسه الذي كان في أجيال سبقت، ومنه صورة أخرى بين الأستاذ والطالب، ومنه صورة ثالثة بين صاحب العمل والعامل، ومنه صورة رابعة بين الصديق وصديقه، وخامسة بين الجار وجاره، وبين المواطن والمواطن، بصفة عامة على أن هذه الصور كلها تتلاقى في أس واحد، إذا نحن حفرنا الأرضية الاجتماعية وجدناه ألا وهو انحباس الفرد في حدود نفسه، وما ينفعها نفعا عاجلا، وبهذا يضعف عند كل فرد إحساسه بوجود الآخرين، أنه يتصرف كما لو كان المجتمع الذي يعيش فيه قائما على التصور الذي تصوره «تومس هوبز» في جماعات الأفراد قبل أن ينخرطوا في بناء اجتماعي موحد، وهو أن ينظر كل فرد إلى كل فرد آخر على أنه عدو محتمل، أو قل إن كل فرد يتصرف كما يتصرف ساكن عمارة قيل عنها إنها وشيكة السقوط، إذن فليجمع من المتاع أكبر كمية ممكنة في أقل وقت ممكن، ولقد أشار بعض الباحثين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بلدان العالم الثالث، التي هي بلاد - في كثير منها - قد نالت استقلالها وحريتها ممن كان يستعمرها منذ وقت قريب، وآلت مزايا الحاكم الأجنبي - وأعني به من يتولون مقاليد الأمور على تتابع المستويات في الهرم الاجتماعي - آلت تلك المزايا لأبناء الوطن، فشاع في نفوس أكثرهم شعور بالقلق، خشية أن تتغير الحال فيعود كما كان، ومن هذا الشعور القلق اشتد إحساسه بذاته والخوف عليها، بقدر ما وهن إحساسه بذوات الآخرين ورعاية مصالحها.
واختر أمثلة مما وقع لك في خبرتك الخاصة، لترى كم بلغت بالأفراد درجة الانفراد - حتى بالنسبة إلى ذويهم الأقربين: كثر تمرد الأبناء على الآباء - فإن صلح الولد صلح بالمصادفة، وإن فسد فسد بالمصادفة كذلك، أي أن البناء النسقي في الأسرة الذي كان فيما مضى ضمانا مؤكدا تقريبا، بأن يبقى الولد في قبضة أبيه ومؤتمرا بأوامره ومنتهيا بنواهيه، وبترت العلاقة بترا بين المدرس والتلميذ على كل مستويات التعليم؛ ففي مراحل التعليم فيما قبل الجامعة لا يكون لقاء شخصي بين مدرس وتلميذ إلا في حدود الدرس الخصوصي، وأما في الجامعة فلا لقاء، ويندر أن تنعقد بين أستاذ وطالب صلة إنسان مرشد بإنسان يسترشد، وأما صلة الصداقة فقد اتخذت عند الصديقين معنى آخر، ينزع منها لبها، ولبها هو «الصدق»، فأصبحت الصلة بينهما مقصورة على أن يتسلى كل منهما بلقاء أخيه، على أن يكون كل منهما على حذر من خديعة تأتيه من حيث ظن أنه في مأمن يعين ولا يغدر، وهكذا قل في بقية الروابط الثنائية، وليس أسعد لي من لحظة يقول فيها قارئ بحث أمثلة مأخوذة من حياته، إنه وجدها على خلاف الصورة التي قدمتها، وبالطبع هذا حكم - كسائر الأحكام التي تطلق على العلاقات الإنسانية - يكون المعول فيه على الترجيح لا على اليقين.
وإذا نحن وضعنا هذا التفكك الذي فصم العرى بين الأفراد - أو أوهنها ولم يبق منها إلا خيط رقيق - أقول إذا نحن وضعنا هذه الظاهرة في المصطلح الذي قدمناه فيما أسلفناه من عرض نظري، قلنا: إن كل فرد نزع من سياقه فاشتدت فرديته، ولكنه فقد من معناه بقدر ما انفرد، فلقد بسطنا القول فيما أسلفناه، كيف لا يكون للجزء معنى إلا بالقدر الذي يخلعه عليه السياق الذي ورد فيه ذلك الجزء، ألا تذكر كيف تلجأ المعاجم الكبرى، في توضيحها لمعاني المفردات اللغوية إلى ضرب أمثلة، مما وردت فيه اللفظة المراد توضيح معناها، إنك واجد هناك أبياتا من الشعر، وعبارات من أقوال الأدباء، مسبوقا كل هذا بآيات من الكتاب الكريم، وردت فيها اللفظة المراد توضيحها؛ لأن وضوح معناها لا يتم إلا عند رؤيتها في سياقات استعمالها، وهكذا قل عن أي كائن في الدنيا تريد أن تزداد به علما، فذلك إنما يتحقق لك برؤية ذلك الكائن منسوبا إلى غيره من كائنات، فإذا نحن زعمنا بأن عقد المؤسسات قد انفرطت حباته، فإننا بهذا الزعم نكون قد قررنا بأن تلك المؤسسات قد فقدت معانيها، وأن الأفراد أنفسهم بعد انفراطهم عن عقودهم، يفقد كل منهم من معنى وجوده بمقدار ما انسلخ وحده لينفرد.
وقد يجوز لنا في هذه الحالة الجديدة المفككة أطرافها، القول أنه لم يعد فيها تلك «القيم» الاجتماعية، التي كانت بمثابة الملاط الذي يشد البنيان بعضه إلى بعض، لكن هذا الكاتب يفضل في عملية التعليل لما قد حدث، ألا يعلق الظاهرة المراد تعليلها على «غياب» القيم؛ لأن القيم قائمة وليس للإنسان من بد في قيامها، ما دامت له حياة يحياها؛ إذ ما «القيمة» من القيم إلا أن تكون اسما يسمى هدفا يقصد إليه السالك من سلوكه؟ فحتى إذا قلنا إن الفرد من الناس قد انفرد وحده عن روابطه بالآخرين، فنحن في هذا الوضع الجديد، بمثابة من يجد سلوك الفرد «قيمة» أخرى قد اختارها لنفسه، غير «القيمة» التي كانت تسود سلوك الناس في أجيال قبل هذا الجيل، لا أن هذا الكاتب لا يجد التعليل الصحيح في «غياب» القيم، بل يجده في تداخل القيم واختلاط بعضها في بعض، اختلاطا أفقدها وضوح حدودها، ومن هذه الرؤية، آثر الكاتب أن يبدأ حديثه بقصة الخلط بين حابل ونابل، لعله بهذه القصة يمهد الطريق إلى نتيجة مقنعة بصوابها.
إن ظاهرة الغش الجماعي، مكبرات الصوت، على مسمع ومرأى من المسئولين عن لجان الامتحان، لم يكن مردها إلى انعدام القيم، بقدر ما كان «لاختلاط» القيم بعضها في بعض وغموض معناها، لقد أراد الجميع «نجاحا» ورأى الجميع أن «يتعاونوا» على ذلك النجاح، وآثر المسئولون عن الامتحان، إما المشاركة في التعاون وإما النجاة من غضب الجمهور، والجمهور هنا هو مجموعة الطلاب في لجنة الامتحان؛ فإذا صورت لنفسك الموقف على هذا النحو، وجدت العلة الحقيقية هي ضباب غشي القيم المبثوثة في الموقف كله، ففقدت معانيها أولا ثم ازدادت فقدا لها حين اختلط بعضها ببعض؛ فقيمة «النجاح» كان المفروض فيها أن تصف سلوك الفرد وهو منفرد، فجعلوها صفة تصف مجموعة أفراد تآزرت، وقيمة «التعاون» كان المفروض فيها أن يعين الأفراد بعضهم بعضا، فيما يندرج تحت مظلة القانون، فأرادوا لها أن تقوم قائمتها خارج مظلة القانون، وإيثار السلامة من غضبة الجمهور قيمة اجتماعية مطلوبة في المواقف التي يكون للجمهور فيها سيادة، فنقلوها إلى جمهور (مجموعة الطلاب) في موقف لا سيادة له فيه، فانقلب الموقف كله ليكون شبيها بسوق الصيد الذي اختلط فيها الحابل بالنابل، فانهدمت الحدود بين مختلفات بعد أن كان ينبغي لها أن تظل قائمة ليكون لكل شيء معناه.
وسؤالنا الأهم، إزاء هذا كله - هو: لماذا حدث للقيم أن تغمض معانيها وأن يتداخل بعضها في بعض ليفسد بعضا؟ والجواب عندي مستمد من الرجة الاجتماعية التي قلقلت أوضاع الأفراد والأشياء والمعاني، ابتغاء إقامة نظام اجتماعي جديد، فبينما نحن في هذا أمام هدف مطلوب، لم نستطع أن نحكم حركة التغير لتحدث دون أن تترك وراءها خللا يشقق الجدران، فعندما تستقر الحياة في جماعة من الناس يكون معنى استقرارها هذا، ثبات المعايير الضابطة لتعامل الناس بعضهم مع بعض، ومثل هذا الاستقرار هو الذي - من ناحية أخرى - ينعكس في البناءات الفكرية التي يقيمها رجال الفكر - في أمة بعينها - وفي عصر معين، كما يتضح ذلك بصفة خاصة في الأنساق الفكرية التي هي حين تعلو في مستواها، وتتسع في شمولها تصبح «فلسفة» تصور عصرها، وفي شرح موجز سريع، أقول إن الفيلسوف في أمة بعينها، وفي عصر معين، عادة ما يضمر في نفسه رؤية لمبدأ أساسي يراد تحقيقه، وهو يستمد ذلك المبدأ - طبعا - من المناخ الثقافي الذي يحيط به، وبعد ذلك تراه ينتقي لنفسه موضوعات يصب عليها تحليلا يوضح حقائقها، فقد ينتقي - مثلا - الدولة، العدالة، الحرية، التربية، حقيقة الفن، شروط الفكر العلمي، السياسة، السلطة، تحليل ما يسمى بالمادة، تحليل ما يسمى «بالعقل» إلخ (لقد تعمدت أن أذكر موضوعات جعلها برتراند رسل مجالا لبحثه)، وعندما يحلل الفيلسوف أي موضوع مما قد اختار، تراه ينتهي بالتحليل إلى تأييد صدق المبدأ الذي كان قد أضمره في نفسه، استخلاصا من ثقافة عصره وعلومه، فإذا ما تلاقت الخيوط كلها عند المبدأ المفترض، كان ذلك بينة على تماسك الحياة الفكرية في المناخ السائد، ولسنا بهذا نحكم على صلاحية ذلك المناخ أو فساده بل نقصر الحكم على توحده، ومع التوحد يجيء التجانس بين الأفراد في «قيم» السلوك، ومرة أخرى لا نقول شيئا عن صلاحية ما تجانس أو عن فساده.
وأعود بالحديث إلينا نحن، وما قد ساد حياتنا من اضطراب شديد في العلاقات بين الأفراد، وبالتالي فهو اضطراب في فهم الأفراد «للقيم» التي تنضبط بها مسالكهم، فلو أن عقلا فلسفي المنهج قد نشأ فينا، وأراد أن يخوض تجربة إقامة بناء فكري يشمل جوانب الحياة كما تنعكس عليه من مجتمعه، لما استطاع؛ لأن «المبدأ» الواحد المفترض وجوده معدوم في حياتنا فتفرقنا فرقا، وتفرقت الفرقة الواحدة «أفرادا» تتقاطع خطوطهم، فيختلط حابل بنابل.
لقاء في الجسرة
«الجسرة» اسم يطلق على النادي الثقافي بالدوحة بدولة قطر، ولقد سعدت هناك بلقاء ثقافي ساده صدق مع النفس، فكان وطننا العربي هو مدار الحديث في أزماته وفي مستقبله، إلا أن حديثنا تناول الموضوع من ناحية الحياة الثقافية وكيف نوجهها، على نحو يتيح للأمة العربية أن تواجه عصرها قوية ورائدة، وكأن من رأي هذا الكاتب أن تكون نقطة البدء وعيا نبثه في النفوس، بالمحور الأساسي الذي تدور حوله رحى العصر بكل همومه الفكرية، وما ذاك المحور إلا بمثابة سؤال كبير مطروح للإجابات تأتيه من هنا ومن هناك ومن هنالك، شأن عصرنا في ذلك شأن كل العصور الحضارية التي شهدها التاريخ؛ فالذي يحدد أوائل العصور وأواخرها، هو استبدال مشكلة كبرى تشغل أذهان أصحاب المواهب بمشكلة أخرى كانت قائمة، ثم أشبعت بحثا حتى زال عنها إشكالها أو كاد، مع تغير في ظروف الحياة، تغيرا يفرز أشكالا جديدة، فإذا نحن وقعنا على المحور الأساسي الذي يطرح سؤاله على رجال الفكر في عصرنا، فإنما نكون قد حددنا لأنفسنا الهدف الذي تتجه نحوه مواهب الموهوبين من علماء، ورجال فكر وفن وأدب، محاولين بمواهبهم تلك أن يسهموا - كل من زاوية ميدانه - بالحلول التي يرونها من وجهة النظر التي تتلاءم مع ثقافتنا وتاريخنا ومستقبلنا الذي نرجوه.
وحول هذا الموضوع وما يتفرع عنه، دارت أحاديثنا في نادي الجسرة بدولة قطر، يسودها - كما أسلفت - روح الإخلاص والصدق، فنحن إخوة جمعتهم جميعا سفينة واحدة تتعرض للعواصف الهوج في وسط البحر المائج، بحيث لا يتحمل الموقف أن يجامل أحد منا أحدا في الرأي والتدبير، على أن المحور الأساسي الذي رأى هذا الكاتب أنه يبلور هموم المفكرين في عصرنا، والذي يستحق منا أن نشارك في تدبره ومواجهته، هو ما يمكن التعبير عنه بهذا السؤال: أهو عصر للثبات أم عصر للتغير؟ وإذا كان الجواب هو «التغير» ففي أي اتجاه نسير بحياتنا المتغيرة؟
فلما عدت إلى القاهرة، أحسست كأن أصداء الموضوع ما زالت تتردد في رأسي، ووجدت عندي ما أضيفه توضيحا لوجوب اهتمامنا بفكرة «التغير» محورا لنشاطنا الفكري، وعلى هذا النحو الآتي تدفقت خواطري:
إن معجزة المعجزات الإلهية هي معجزة «الحياة»، وأعني «الحياة» بكل درجاتها، من أدناها إلى أعلاها: من أبسط الكائنات الحية، وهي «الأميبا» ذات الخلية الواحدة، إلى أكثرها تعقيدا، وأكرمها عند رب العالمين، وهو «الإنسان»؛ فالأميبا تدرك ما حولها بكل جسدها، دون تخصص تتقاسمه حواس مختلفة، فكأنما هي بجميع جسدها «عين» ترى، وبجميع جسدها «أذن» تسمع، وبجميع جسدها «أنف» يشم، وبجميع جسدها «جلد» يلمس، وهكذا، وأما في الدرجات العليا من سلم الكائنات الحية فالتركيب العضوي يصبح أغنى تفصيلا، والإدراك تزداد حدته ودقته، مع ارتفاع الكائنات الحية، وهنا يحدث التخصص الإدراكي، ويمكن القول بأن الجلد «اللامس» هو الأساس العام، ثم يتخصص جزء منه، وهو «العين» في لمس ظاهرة واحدة معينة، وهي موجات الضوء، التي إذا ما لامسته العين المبصرة، تحولت فيها، وفيما يتصل بها من الجهاز العصبي، إلى «مرئيات» بما تتمايز به من ألوان، وتجدر الملاحظة بأن اللون ينشأ «داخل» الكائن المدرك، مترجما به الأطوال المختلفة لموجات الضوء؛ إذ ينفرد كل لون بموجات ضوئية ذات طول معين، أطولها «بالنسبة إلى العين البشرية» موجة اللون الأحمر، ثم تتدرج الألوان بعد ذلك، مع تدرج الموجات الضوئية في أطوالها، فبعد اللون الأحمر يأتي اللون «البرتقالي» فاللون «الأصفر» فاللون «الأخضر» فاللون «الأزرق»، يتلوه «الأزرق النيلي» أي الأزرق الداكن، وآخرها «عند العين البشرية» هو اللون «البنفسجي» فموجته الضوئية أقصر الموجات، مع ملاحظة أن ما دون «الأحمر» في طول موجته، وما فوق «البنفسجي» في موجته، هنالك ما يمكن رؤيته بأجهزة علمية، وقد تكون لبعض صنوف الحيوان قدرة على إدراكه، وأما الألوان السبعة التي ذكرناها، فهي حدود العين البشرية، وهي نفسها ألوان الطيف السبعة.
هذا الإدراك اللوني، هو - إذن - أحد التخصصات الإدراكية، يختص به جزء معين من البدن، وهو «العين» وتخصص آخر يضطلع به جزء آخر، وذلك هو تلقي الموجات الصوتية، والعضو الخاص بذلك هو «الأذن»، وهنا كذلك تجدر الملاحظة، بأن «الصوت» ينشأ «داخل» الكائن المدرك، الذي يتلقى موجاته، فلو لم تكن «آذان» لما كان في الكون صوت، وهكذا قل في سائر الحواس، التي تتعاون معا، وتتكامل معا، في الكائن الحي الواحد، فتتلقى بمجموع تخصصاتها شتى المؤثرات التي يكون الكائن الحي المعين بحاجة إلى إدراكها عن دنياه المحيطة به، ليفيد بما يريد أن يفيد به صونا لحياته من طعام وشراب وغير ذلك، وليتقي ما لا بد أن يتقيه من أعدائه.
حتى إذا ما كان «الإنسان» كانت معه «الحياة» على صورة تذهلنا بقدراتها - لو أن الإنسان عرف كيف يستخدم تلك القدرات، فليس الاختلاف بين الإنسان وما دونه، هو مجرد اختلاف في الدرجة، بمعنى أن يدرك من محيطه كما يدرك الحيوان من محيطه، مؤثرات توجهه نحو أن ينتفع بما ينفع، وأن يجتنب ما يؤذي ويهلك، لا، بل إنه اختلاف، إلى جانب لونه اختلافا في «الدرجة» أحيانا، فهو أيضا - وهذا هو المهم - اختلاف في «النوع»؛ لأن الإنسان بعد أن تلقى عن طريق حواسه ما يتلقى، فيتلقى مرئيات بالعين، ومسموعات بالأذن، وهلم جرا، فهو ينتقل بهذه الحصيلة كلها، إلى حيث يهضمها ويعتصرها، فإذا هي عنده قوة جديدة؛ إذ هي ما يصبح عنده «علما» في حالة العلوم، «وثقافة» في حالة الثقافة يختلف ميادينها، ثم هي كذلك قوة تصبح عنده وجدانا دينيا، فإذا كان الحيوان يشارك الإنسان في إدراك الحواس، فالإنسان ينفرد دون سائر الكائنات الحية ، بقدرته على تحويل مدركاته الحسية، إما إلى «علم» وإما إلى «ثقافة» وفوق هذا وذاك، تملي عليه فطرته أن يؤمن بدين، وإنا لنلحظ في التاريخ الفكري، كيف اختلف الفلاسفة في الصفة الجوهرية، التي تجعل الإنسان إنسانا متميزا عن الحيوان، وكان أغلب الرأي في ذلك أنه «العقل»، أي ذلك الجانب من قدرات الإنسان، الذي به يصنع من مدركاته الحسية «علما»، لكن كانت هنالك آراء أخرى، فهنالك من جعلوا الصفة المميزة للإنسان جانبا آخر، هو «الإرادة» التي تتجه بحصيلة المدركات الحسية، نحو تشكيل العالم الخارجي تشكيلا جديدا، يراه صاحب الإرادة أنه أكثر نفعا له من التشكيل القائم، على أن كاتب هذه السطور وإن يكن لا يعرف فيلسوفا جعل «الدين» مميزا للإنسان، أكثر مما يميزه علم وثقافة وإرادة، أقول إن هذا الكاتب لا يعرف أحدا قال ذلك بصورة واضحة ومباشرة، في حين أنه يرى التدين أشد تمييزا للإنسان من أي جانب آخر، وأذكر أني قلت هذا فيما كتبت ذات يوم، وكانت جاءتني بعض الرسائل، يذكرني فيها مرسلوها بما ورد في الكتاب الكريم، من أن الشجر، والجبال، والنجوم، وكل كائنات السماء والأرض، تسبح لله العلي العظيم، لكنني رأيت - وما زلت أرى - أن ذلك شيء وتدين الإنسان بدينه شيء آخر، وأقل ما يقال في الفرق بين الحالتين، هو أنه بينما يعبد الإنسان ربه وهو على وعي بتلك العبادة، وعيا يجريه في لغة مسموعة عند الآخرين، مقروءة في جيله وفيما يلي من أجيال، إذا كانت العبارة من دقة النسج، ومن غزارة المضمون، ما يستحق البقاء، أضف إلى ذلك أن إيمان الإنسان بما يؤمن به من عقيدة، هو إيمان إرادي مسئول، كان يستطيع أن يستبدل به جانبا آخر، وهو لقاء الإرادة الحرة في اختيار عقيدته، يثاب على اختياره إذا وقع به على الحق، ويعاقب على اختياره إذا انحرف به عن جادة السبيل، وأما سائر كائنات الكون إذ تسبح لخالقها العظيم، فذلك إنما يكون بلسان الحال، لا بلسان المقال، فضلا عن أنه ليس مرهونا بإرادة حرة تختار، وتسأل عما اختارت.
نعم، إن «الحياة» في شتى صورها، من خلية «الأميبا » في أدنى السلم، وصعودا متدرجا مع مختلف الأنواع الحية، من نبات وحيوان، حتى نصل في أعلى درجات السلم إلى الإنسان، فلئن كانت الحياة في كل كائن حي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، تستحق أن يوقف عندها طويلا طويلا، للتفكر في خلق الله، فهي في الإنسان آية الآيات؛ لأنها تضيف إلى المعجزة العضوية معجزات العقل، والإرادة، والوجدان، ونترك هذا الإنسان حينا لنتجه بلفتة سريعة إلى الحيوان، الذي هو مركب غريزي صرف، لا اختيار له فيما يفعل أو فيما يمتنع عن فعله، ومع ذلك فانظر إلى هذه الفطرة العجماء، كيف توجه نفسها في حياتها - بإلهام ربها - نحو ما يحقق لها البقاء، حتى ليخيل إلى المشاهد، أنها توجهات تخفي وراءها حكمة الحكماء وعلم العلماء في آن واحد، وأن هذا الكاتب ليستعيد الآن صورة من خبرة حياته الماضية، فقد حدث له أيام دراسته في إنجلترا، أن جاءه البريد بعددين من مجلة الثقافة التي كانت تصدرها يومئذ بالقاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، قرأ منهما واحدا وبقي الآخر بجواره فوق المنضدة، فما هو إلا أن جاء كلب تقتنيه الأسرة صاحبة البيت، والتقط بفمه عدد المجلة من فوق المنضدة، وحرصا من الكاتب على قراءته، أمسك بالعدد المقروء أمام الكلب، لعله يسقط من فمه ما فيه، وإذا بالكلب ينظر نظرة ناطقة بالحيرة الداخلية، وبسرعة البرق أسقط العدد من فمه ليضعه تحت أقدامه، ولقف بفمه العدد الثاني، فماذا يكون ذلك، إلا قدرة ذلك الحيوان على إيجاد مخرج من موقف فوجئ به، إن ما يلفت أنظارنا في أمثال هذه المواقف من حياة الحيوان، هو القدرة على التكيف لما يستحدث في مجرى الحياة من مشكلات، وإيجاد الحلول إذا استشكل عليها أمر، وروى عالم النفس «كوفكا» وهذا غير الأديب «كافكا» عن بعض مشاهداته وتجاربه، التي تدل على قدرة الحيوان فيما يشبه إدراك البصيرة الحيوانية، ومنها أن أرنبا طارده ثعلب في حقل، وكان محتوما أن يلحق الثعلب بالأرنب، لولا أن الأرنب لمح في طريقه «ماسورة» من فخار، تسعه ولا تسع الثعلب، فأسرع إليها واحتمى بداخلها، وترك الثعلب يدور حولها ناظرا بعينيه عند طرفيها، ثم انصرف عنها محبطا.
وما دمت في سياق الحديث عن الحيوان الأعجم، وقدراته على مواجهة الواقع وما يستحدث فيه من مشكلات، لا بد لي أن أذكر قصيدة للشاعر الأمريكي، «روبرت فروست» الذي هو في طليعة الشعراء المعاصرين في الولايات المتحدة الأمريكية «مات في الخمسينات على ما أذكر» والقصيدة غاية في البساطة الريفية، غاية في الروعة، ولقد تركت عندي أثرا أعمق الأثر حقا، وخلاصتها أن الشاعر إذ جلس إلى مكتبه ذات مساء، ووضع الورقة أمامه، وأنار المصباح، جاءت «هاموشة» صغيرة جدا، ووقفت على الورقة في طرفها البعيد، وما كاد الشاعر يقترب بسن قلمه من الورقة حتى فزعت الهاموشة واضطربت، لكنها عادت فسكنت سكونا حذرا كما سيظهر من سلوكها، فقد أخذ الشاعر - على سبيل التجربة - يدني قلمه من أطراف الورقة، هنا وهنا وهناك، في هدوء شديد، ليرى ماذا هي صانعة، وكلما اقترب القلم من الورقة عند أبعد أطرافها اضطربت الهاموشة، حتى إذا ما غاب القلم سكنت، وهكذا، سبحانك ربي، أين يكمن في هذا المخلوق الصغير، الذي لا تكاد تراه عين لشدة صغره، أين تكمن فيه هذه الحيطة كلها، وهذا التنبه الحاد لما يدور حولها من أحداث، قد يكون فيها خطر يهدد وجودها؟ وما أكثر ما نسمعه اليوم من روايات تقال عما هو أصغر من تلك الهاموشة، مما لا يراه الإنسان إلا وهو مستعين بالمجاهير، وأعني ما يسمونه «فيروس»، وهي روايات تخيل إليك أن هذا الكائن الضئيل، يحمل في جوفه فرقة بأكملها من رجال المباحث والمخابرات بكل ما لديها من وسائل التنكر والمخادعة لتوقع بالعدو المختفي، فنسمع أن هذا الفيروس، إذا ما أدرك أن خلايا الإنسان في موضع معين، مزودة بما يصونها من هجمة الفيروس تنكر الفيروس المهاجم بقشرة خارجية، توهم الخلية بأنها أمام فيروس آخر صديق، حتى إذا ما فتحت له أبوابها للدخول، ودخل في قلبها، خلع عن نفسه قشرة التنكر ، وفعل بالخلية أفاعيله، التي تنتهي بالقضاء عليه، وعلى الإنسان الذي هي جزء منه!
ألا إنها لأشبه بالملاحم الكبرى، بكل ما فيها من مهارة المحاربين ودهائهم، تلك الحياة التي يعيشها حيوان أعجم في بيئته، مترصدا لعوامل فنائه، باحثا عن عوامل بقائه ونمائه! فماذا عن الإنسان، آية الآيات في خلق الله عز وجل؟ إنه معد بكل ما أعد به الحيوان من حذر ويقظة وسعي، ثم يضيف إليها ما هو أكثر، فلئن كان الحيوان قادرا على «التكيف» لعوامل بيئته، فإن الإنسان قادر - بالإضافة إلى التكيف - على «تكييف» بيئته حتى تصبح أقرب منالا، فالإنسان هو صانع بيئته إلى حد كبير، ولا يكفيه أن يأخذ الأمر الواقع مأخذ التسليم، ثم يحاول التكيف له؛ ولذلك فإن ما قد تظنه بيئة واحدة معينة محددة بظروفها سرعان ما تراها وقد تحولت عدة بيئات، بمقدار ما يتعدد حيالها أفراد الناس، لكل فرد منهم إدراكه الخاص وخياله الخاص، فربما وقف ثلاثة أصدقاء - مثلا - عند ملتقى قناة السويس بالبحر الأبيض المتوسط عند بورسعيد، وبدوا من ظاهرهم وكأنهم ينظرون إلى ما حولهم نظرة واحدة، فإذا بأحدهم - وهو أديب روائي - قد أخذ يستلهم ما يراه رواية يكتبها عن حياة العمال المصريين، منذ سخروا في حفرها، وإلى اليوم حيث يعمل بها صنوف أخرى من العاملين، وإذا بالثاني - وهو فنان تشكيلي - قد لمح مشهدا تحركت له القوة الإبداعية، في لوحة يصور بها روح التشييد العمراني عند المصري، مقرونة بروح المقاومة التي صمد بها على امتداد التاريخ، فقريب من هنا عبر موسى عليه السلام وانشقت له مياه البحيرة التي عبرها، وقريب من هنا جاء الطفل عيسى عليه السلام مع أمه العذراء مريم، هاربة به من خطر أحاط بهما في موطنهما من فلسطين، وقريب من هنا جاء عمرو بن العاص وجنده فرفع بمجيئه لواء الإسلام، وقريب من هنا حدث، وحدث، وحدث، فأين هو الفنان الذي يقف هنا ولا تتحرك بين أصابعه أدوات التصوير والتشكيل؟ وإذا بالصديق الثالث، لا هو ممن يتمخض عنده ذلك المشهد عن رواية، ولا عن لوحة، بل هو تاجر، رأى ما رآه فلم يتخيل إلا سوقا يشارك فيها بالبيع والشراء، وتلك هي قدرة الإنسان، التي يزيد بها على تكيف الحيوان للظروف ببيئته، بأن يخلق لنفسه بيئة، يستحدثها استحداثا لتخدم خياله وطموحه وامتداد بصيرته إلى مستقبل لا يزال في مجاهل الغيب.
قف عند ملتقى طريقين في المدينة، وانظر إلى زحمة المشاة على الأرصفة، وتزاحم السيارات غادية ورائحة، لكن لا تقصر نظرتك على السطح المرئي ممن ترى من الناس، مشاة أو راكبين، بل انفذ بخيالك إلى أجواف الجماجم، وما تمتلئ به، وعندئذ يهولك ذلك التنوع الشديد، في أهداف الأفراد، وفي وسائلهم وفي شواغلهم، وفي مسراتهم وهمومهم، ولن تكون بهذا أول من اخترق بخياله جدران الرءوس، فهنالك من الأدباء - في أدب الرواية، وأدب المسرح - من تخيل أنه إذ يرى أمامه جماعة من الناس فهو في الحقيقة أمام عدة أبراج مغلقة على سكانها، وما عليه إلا أن يكشف السقف في كل برج بشري ليطل على ساكنيه، وعندئذ يرى عجبا وأعجب من العجب، فنحن في ظاهرنا أسرة واحدة، أو أمة واحدة، وأما على الحقيقة الباطنية فنحن أسر، أو أمم بعدد أفرادنا.
وليس هذا الذي أقوله شطحة شطح بها كاتب على جناح خياله، بل هو الحقيقة الواقعة بعينها وعين عينها، وإن شئت فخذ أي موقف تختاره لجماعة من الناس، تحسبهم من ظاهرهم - بل ويحسبون أنفسهم، بإزاء حقيقة موضوعية معينة، ولنقل إنها مسرحية تمثل وجلس المشاهدون على مقاعدهم صفوفا ينظرون ويسمعون، الست تقول للوهلة الأولى، إن تلك المجموعة من الأفراد المشاهدين، إنما يرون مشاهد معينة يشترك الجميع في رؤيتها على السواء، ويسمعون حوارا يدور بين الممثلين، بحيث يتساوى في السمع زيد وعمرو وخالد؟ لكن دقق النظر في الوهلة الثانية، تجد بين النظارة اختلافات، يختلف بها كل فرد منهم عن كل فرد، وذلك على مستويات ثلاثة: أولها تفاوت الحواس في قوتها، فذو بصر حاد إلى جاره ذي البصر الضعيف المحدود، بل ربما كان مكفوف البصر، وذو سمع قوي لا تفوته نبرة واحدة مما يقال على خشبة المسرح، ويجاوره ذو سمع ضعيف لا تصل إليه الأصوات إلا خافتة مبهمة الحدود والفواصل، إذن فلا هم سواء فيما يرونه، ولا هم سواء فيما يسمعونه.
ذلك - إذن - هو أول أنواع الاختلاف في إدراك الأفراد للشيء الواحد الذي وضع أمامهم ليشاهدوه ويسمعوه، وأما المستوى الثاني لما ينشأ بينهم من اختلاف فيما يدركونه عن ذلك الشيء الواحد المشترك، فهو «نفسي»، بعد أن كان الاختلاف عند المستوى الأول «حسيا» أي خاصا بالحواس وإدراكها، فبعد أن يتلقى الحاضرون في المسرح ما يتلقونه من مرئيات ومسموعات تأتيهم من خشبة المسرح، فإن تلك المعطيات المرئية والمسموعة لا تكاد تصل إلى الأذهان،
فرد حياته الماضية وذكرياتها، وعند كل فرد تتداعى تلك الذكريات المتصلة بما هو مرئي ومسموع، ولكل فرد طريقته في الحكم على ما قد رآه وسمعه؛ ولهذا كله يصبح من المرجح أن يخرج كل فرد بحالة ذهنية نتجت له عما قد شهده، مختلفة كثيرا أو قليلا عن الحالة الذهنية التي خرج بها أقرانه، فإذا قلنا عن النوع الأول من ضروب الاختلاف الذي نشأ عن تفاوت البصر والسمع عند مختلف الأفراد، إنه «فسيولوجي»، فهذا النوع الثاني الذي نضب عنه اختلاف الأفراد على الحالة الذهنية التي نشأت عند كل فرد منهم، «سيكولوجي».
ثم يجيء المستوى الثالث في اختلاف الأفراد بعضهم عن بعض، حتى حين يكون الموضوع المطروح للرؤية والسمع والتفكير، شيئا بعينه يشتركون فيه جميعا، وذلك المستوى الثالث «فزيائي»، أي أنه موضوعي متصل بالجسم المادي ذاته، الذي هو ملتقى الرؤية والسمع والتفكير عند مختلف الأفراد، وشرح هذا الجانب المادي هو أن كل فرد ممن جلسوا في المسرح، إنما يرى ما يراه، ويسمع ما يسمعه من «زاوية» خاصة، تختلف - حتما - عن جميع الزوايا التي يرى فيها الناظرون ويسمع منها السامعون، فلو أننا وضعنا على مقاعد المسرح آلات تسجل الصورة والصوت، بدل أجسام الأفراد البشرية، لحصلنا على أشرطة، كل شريط فيها يسجل ما دار على خشبة المسرح صورة وصوتا، ولكنه محال على شريطين أن يتساويا تساويا كاملا في زوايا الصور الملتقطة، وفي درجة الصوت المسجل؛ لأن الزوايا تختلف، والأبعاد عن خشبة المسرح تتفاوت.
فها أنت ذا ترى كل فرد من أفراد الناس، حتى حين يكون الموضوع المطروح شيئا واحدا يشتركون في تلقي معطياته الضوئية والصوتية، هو دنيا وحده، قائمة بذاتها، فما بالك والموضوعات والأشياء والمواقف التي تصادف واحدا في حياته، ليست هي ما يصادف الآخر، فالواقع هو - كما ترى - واقع متغير، في أشيائه، وفي أحداثه وفي الطرق التي يتلقى بها الأفراد ما يتلقونه منه، فانظر بعد هذا إلى الوهم الكبير الذي يعيش في سماديره وأشباحه متوهم يظن أنه سيحيا الحياة كما عاشها أبوه، وجده، ودع عنك أن يطير به ذلك الوهم إلى الجد العاشر ومن سبقه من أجداد! لا، يا صاحبي، لا، لقد خلقك الخالق - جلت قدرته - فردا لتكون فردا، ولفظة «الفرد» تتضمن بذاتها تفردا فريدا تختص به أنت، ولا يشاركك فيه - بكل تفصيلاته - أحد سواك، وإن هذا وحده ليكفيك برهانا على قيمتك ووزنك، فأنت نمط فعلا نسيج وحده بين سائر أنماط الحياة التي تمثلت في الآخرين، حتى لو بلغت عدتهم ملايين، وملايين الملايين! إن أحدا من هؤلاء الملايين لا تغني حياته عن حياتك، وبهذا التفرد العجيب المسئول، كنت «إنسانا» ويجب أن تظل إنسانا حاسا، مفكرا، مريدا، مؤمنا بما تؤمن به ما حييت.
وكأني أسمع منك صرخة تستنكر بها هذا القول العجيب، فإذا كنا - ونحن أفراد - على هذا الاختلاف كله فيما يدور في بواطن نفوسنا وعقولنا، فكيف يتم لنا موقف واحد نتفاهم حوله ونتفق؟ كيف تتكامل الأسرة أسرة، والأمة أمة؟ كيف يتحقق التواصل عبر الأجيال خلفا بعد سلف؟ والجواب يقدمه إليك علماء أتعبوا أنفسهم بالبحث حتى أوصلهم البحث إلى جواب، وهو ذو شقين، أولا، لطالما دق لك العلماء والأدباء أجراس التحذير، حتى لا تتوهم بأن التفاهم بين الناس هو كما يظنون ويزعمون، وثانيا وهو المهم، أننا إذا أحسنا عملية التحليل وجدنا أن بين الأنماط الفردية المختلفة في مجموعة من الناس، نقطة مشتركة، وإن لم تكن بالاتساع الذي نظنه ونزعمه، وخذ مثل المسرح واختلاف الزوايا بين رؤى المشاهدين، فليس هذا الاختلاف وهما، بدليل أن أجهزة التسجيل تؤيده، وهنا ينشأ السؤال: إذا كان مشاهدو المسرحية مائة، وكانت الصور التي تلقتها أبصارهم مائة كذلك، لانفراد كل متفرج بزاوية معينة للنظر، أفلا يكون للواقع الموضوعي الذي وقع بالفعل على المسرح حقيقة معينة محددة، بغض النظر عن تنوع الصورة عند المشاهدين؟ والجواب هو: نعم، للواقع الموضوعي صورة قائمة بذاتها، لا شأن لها بما اختلف عليه المشاهدون الأفراد، وذلك الواقع الموضوعي هو الجزء المشترك بين الصور الفردية المائة، وعلى أساس هذا الجزء المشترك يمكن أن تقام الحقيقة العلمية، وأما ما عداها فملك ذاتي لأصحابه الأفراد، وأود عند هذا المنحنى من حديثنا، أن أزودك بمعلومة، هي غاية في الأهمية، إذا أردت لنفسك تدريبا على النظرة العلمية في دقتها وضبطها، وتلك هي أن رجال الفكر في أوروبا عندما كانت أوروبا على عتبة نهضتها في القرن السادس عشر نبهوا ونبهوا، إلى فرق خطير بين نوعين من الصفات التي تتميز بها الأشياء، وأطلقوا على نوع منها اسم «الصفات الأولية» وعلى النوع الثاني اسم «الصفات الثانوية»، فأما هذه الثانية فهي تلك الصفات التي تخلقها العملية الإدراكية خلقا، عن الشيء المدرك «بفتح الراء» وليست هي في الشيء كما هو واقع، ولقد أسلفت لك في هذا الحديث أن «اللون» و«الصوت» مثلان مما يتكون داخل الكائن الحي، حين يرى الأشياء أو حين يسمع الأصوات، وأما النوع الأول من الصفات، فهو وحده الكائن في الأشياء المدركة «بفتح الراء» كالشكل الهندسي، والعدد، فإذا كان بين يديك أربع برتقالات - مثلا - فصفاتها «الأولية» هي أنها «أربعة» وأنها «كروية» الشكل تقريبا، وأما صفات لونها البرتقالي، وطعمها الذي تعهده في مذاقها، وبأي صوت تسمعه منها، إذا دحرجتها على الأرض، ونقرت عليها بأصابعك، فكل ذلك من أجهزتك الإدراكية.
ومعنى هذه التفرقة بين النوعين من الصفات، مهم وخطير، وهو أن الصفات الأولية وحدها، هي التي تصلح للعلم ودقته، وأما ما عداها من صفات ثانوية «تنشأ داخل الشخص» المتلقي، فهي أمور، إذا صلحت لأديب أو لفرد من عامة الناس، أن تكون مدار حديث، فليعلم هذا وذاك، أنهما إنما يجربان الحديث في دائرة غير دائرة العلم، ولقد كان الوعي بهذه التفرقة، عند مشارف النهضة الأوروبية مفتاحا من أهم المفاتيح لعصر الفكر العلمي بصورته الجديدة.
ولسنا نريد منك أن تضيق الخناق على نفسك، كلما أردت أن تتحدث إلى من تتحدث إليه، فتطرح من حسابك الجوانب الخاصة بك وحدك فيما قد أدركته من دنيا الأشياء، والأحداث؛ لأننا لا نريد، ولا نستطيع، أن نجعل من كل لحظة، في حياة كل فرد من أفراد الناس، لحظة علمية فيها دقة العلم، لكننا نلزم بهذه الدقة العلمية أولئك الذين يتصدون للشئون العامة في حياتنا المشتركة، فصورة الحياة لا تتغير - إذا شئنا لها أن تتغير - بالأمزجة الفردية الخاصة، بل هي تتغير بأداة واحدة وعن طريق واحد، وتلك الأداة هي «العلم»، وهذا الطريق هو منهج التفكير العلمي.
غمار الناس والصفوة
شيخنا قليل العمل كثير الفراغ، وهو معتصم بجدران داره، في عمله وفي فراغه معا، فكل ما يتحرك له بدنه، هو أن ينتقل من كرسي إلى أريكة، ومن أريكة إلى سرير، ثم يعود إلى كرسيه ليعيد الدورة كرة أخرى، وأينما كان مسقط البدن بين كرسي وأريكة وسرير، لم يعرف خياله إلا أن يجتر ماضيه، فللشيخوخة ماضيها الطويل، أما حاضرها فلحظة مخطوفة، وغدها معدوم أو في شحوبه كالمعدوم، ولقد كان له من الحظوظ في ماضيه ما حسن وما ساء، وأحسنها أن الله الحكيم العليم، قد شاء له أن يكون التعليم مهنته، ولا يعرف لذة الأستاذية العلمية إلا من خبرها، فذاق حلاوتها وطعم شذاها، فتلك الأستاذية وحدتها أستاذ وطالب، ينساب الفكر بينهما في تيار متصل، يروح ويغدو، حتى لتوشك الفواصل أن ترتفع، فلا تدري أيهما طالب وأيهما أستاذ؛ فالأستاذ يسأل حينا ليجيب الطالب، وحينا يجيء السؤال من الطالب ليجيب الأستاذ، فحقيقة الأستاذ هي أنه طالب علم، وحقيقة الطالب أنه مشروع أستاذ، أو قل إنه أستاذ في طريق التكوين.
ولقد أنعم الله الحكيم العليم على شيخنا فيما فيه بتلك النعمة الكبرى، التي هي أن يكون عمله الذي يأتيه منه الرزق، هو نفسه هوايته التي يمارسها، حتى ولو لم يكلف بأدائها لقاء رزقه، إن كثرة الناس الغالبة، تعمل ما ليس تهواه، وتهوى ما لا تعمله، وهو شقاء، لو قيل لي: ماذا تكون جحيم الدنيا التي تسبق جحيم الآخرة، لقلت إنه هو ذلك الشقاء الذي تشقى به كثرة الناس الغالبة، وربما كانت تلك القسمة الظالمة، أسوأ ما ينتجه نظام التعليم كما هو قائم، ولو صلح أمره، لأخرج كل متعلم إلى دنيا العمل، على نحو يجعل العمل والهواية شيئا واحدا، وكذلك قد يكون أنكد ما أتانا به هذا العصر بالنسبة إلى نظم التعليم، هو ما نسمعه اليوم وما نقرؤه في تقارير المسئولين، من أن التعليم إنما هو «للتنمية»! فكأنما الأناس قد انقلبوا على أيديهم قطع غيار تخرجها المصانع، تغني واحدتها عن الأخرى، ولو أنهم عكسوا الرؤية فقالوا سنعمل على تنمية المواهب الفردية ليخرج المتعلم مصحوبا بموهبة فطرية فيه، هذبها التعليم وصقلها وأثراها، لتصبح موهبته هي مجال عمله، لكانوا أقرب إلى الصواب.
وتطوف هذه الصورة البشعة بين خواطره التي تنساب بها ذاكرته؛ إذ هو في فراغه يستعيد ماضيه، فيزداد حمدا لله، أن قسم له ذلك النصيب المسعد المريح، وهو أن تلتقي في حياته هواية وعمل، فيكون هذا هو تلك، وتلك هي هذا! لكن شيخنا وهو يستعيد ذلك الماضي، لم يستطع قط أن يغمض عينيه عن مشهد رهيب، هو الانطباع العام الذي تركه في نفسه مجمل حياته، ولعله أن يكون هو الانطباع الذي ظل يدحرجه شيئا فشيئا نحو جدران بيته، يلتمس في حصنها الأمان، وها أنا ذا الآن أذكر ما كتبته - نيابة عن شيخنا - تصويرا لما شهدته بين غمار الناس من عراك مميت، كثيرا جدا ما انتثرت شظاياه حتى بلغت فردوس النعيم الهادئ، الذي قسمه لي ربي حظا سعيدا، وأستأذن القارئ في أن أعيد هنا جزءا من الصورة القلمية التي رسمتها لتلك المعارك، وكان ذلك على وجه الدقة سنة 1950م - أو قبلها بعام - أو بعدها بعام، كتبت فيما كتبت بعنوان «خيوط العنكبوت» (وهي في كتاب الكوميديا الأرضية) فقلت: (بعد أن وصفت كيف ضاقت نفسي ذات ليلة مقمرة، فذهبت لأقضي ساعة عند الهرم الأكبر، قلت): ... وعدت إلى جلستي فوق الصخرة الكبيرة، وشخصت ببصري إلى القمر، فامتلأت عيني بخيال عجيب، حاولت عبثا أن أصرفه عني فلم ينصرف - وظل ماثلا أمامي - يحجب الواقع عني، حتى صار هو الواقع الذي عشت فيه، جلست على تلك الصخرة العاتية، في حضن الهرم، رأيت القمر عنكبا ضخما قد تدلت منه، وأحاطت به، شبكة من خيوط رفيعة دقيقة، اتسعت وانتشرت حتى ملأت كل أركان الفضاء، وعلى الخيوط الممتدة هنا وهناك، رأيت ذبابا يمسك بتلك الخيوط، صاعدا عليها في طريقه إلى العنكبوت الضخمة الرابضة في قمة السماء، والذباب الصاعد، متفاوت السرعة: فهذه تصعد في سرعة كأنما هي تنزلق هابطة على سطح أملس، وهذه مبطئة، وتلك متعثرة تتقدم حينا وتتأخر حينا، وكثيرا ما تلتقي ذبابتان في طريق واحد، ولا يكفيهما الخيط الواحد أن تصعدا معا جنبا إلى جنب فتتشابكان بالأطراف، وتظل كل منهما تدفع الأخرى إلى أسفل، هذه تنقلب على ظهرها مرة، ثم تستقيم على أرجلها لتسرع الخطى، حتى تلحق بزميلتها التي ظنت أن قد خلا لها طريق الصعود، وما تكاد تمسك بأطرافها الخلفية، حتى تشهدها شدة عنيفة، توشك أن توقعها في الفضاء، لولا مهارة تسعفها، فتتعلق بذراعيها وتتأرجح بجسمها في الهواء، محاولة أن تثني بدنها إلى أعلى، رافعة أرجلها الخلفية، حتى تمسك بالخيط من جديد، وتأخذ في الصعود مرة أخرى.
هكذا كان شيخنا ينظر إلى تفاهات الذباب، في معاركه أملا في الصعود، ولم يكن الشيخ عندما صورت بقلمي هذه الصورة نيابة عنه، قد بلغ من الشيخوخة ما بلغه اليوم، لكنه إذا كان اليوم يصور صغار الصغار، لما حذف من الصورة شيئا، وقد يضيف إليها أن يلفت الأنظار إلى حقيقتين تفزعانه، أما أولاهما فهو أن المعركة كلها بين الذبان (الجاحظ يجمع الذبابة فيقول «ذبانا» كما ننطقها نحن في حديثنا الدارج) أقول إن المعركة بين الذبان - غالبا ومغلوبا - إنما تقع في حبائل عنكبوت. وإذن فكل ذبابة منها مأكولة أول الأمر أو آخر الأمر، وأما الحقيقة الثانية فهي أكثر بشاعة وفظاعة، وهي أن الذبابة الصاعدة إذا ما بلغت شأوها، فهي عندئذ تصب إمارتها وإدارتها على حشد بين العلماء والخبراء؛ إذ تصبح هي الآمرة، وعلى هؤلاء العالمين والعاملين أن يطيعوا، وهكذا يقع الخلل وتنقلب الموازين.
وكثيرا ما سمع شيخنا من يعلقون على هذا الوضع المقلوب، بقولهم «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق»، وهي قولة حق في ظاهرها، إلا أنها في جوفها تحمل باطلا؛ لأن الموقف المراد وصفه بها، هو من صنف أشد سوءا، من الموقف الذي قيلت فيه هذه العبارة أول ما قيلت، حتى ليصبح الاستشهاد بها غير مؤد للشهادة المطلوبة فقائل هذه العبارة هو «آدم سميث» وكان من أوائل - إن لم يكن أول - من كتبوا في علم الاقتصاد في العصر الحديث، وكان هذا الفرع من فروع العلم عندما أصدر «آدم سميث» كتابه «ثروات الأمم»، في القرن الثامن عشر، بل وفيما كتبه آخرون بعد ذلك بزمن طويل، يسمى «الاقتصاد السياسي»، على أن المقصود بكلمة «سياسي» هنا، هو - فيما أظن - الإشارة إلى الجانب الاجتماعي في تعامل الناس بعضهم مع بعض عندما يتبادلون السلع والأموال في سوق التجارة. وفي ذلك المناخ قال «آدم سميث» عبارته سالفة الذكر: «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق»، وهي حقيقة تصف ما يقع بالفعل، لا في زمانه فحسب، بل في كل زمان؛ لأنها حقيقة مستندة إلى الطبيعة البشرية، فإذا كان عندك ورقتان من ذوات الجنيه - مثلا - إحداهما قد ساء شكلها مع الاستعمال، والأخرى جديدة، أسرعت في عملياتك الشرائية، بتقديم الورقة السيئة، لتحتفظ لنفسك بالورقة الجديدة، ومعنى ذلك هو أن ما يدور به التعامل في السوق هو العملة السيئة، وأما ما يحفظ ويصان ، فهو العملة الجيدة، فتصبح العملة السيئة وكأنها تطرد العملة الجيدة من السوق.
وواضح أن اختفاء ما هو جيد - في هذا القول - إنما هو اختفاء تقديرا له وإعزازا به وصونا له من أن ينزل في دوامة الأسواق، فإذا نحن انتقلنا بالصورة إلى رجالنا من العلماء والعاملين، وقلنا عنهم إن من هم على جهالة وبطالة يظهرون في الحياة العامة، طاردين أولئك العلماء والعاملين من السوق، فليس ذلك الطرد من أجل أن يعززوا ويكرموا ويصانوا، بل هم يزاحون من مسرح الحياة ليدفنوا أحياء، حتى لا يبقى أمام الناس إلا العاجزون.
قال الشيخ لمن كان يتحدث إليهم من أبنائه: إنني يا أبنائي - كما لا بد أن تكونوا قد علمتم - من أشد الناس حرصا على حقوق الإنسان، وعلى رأسها حقوق الحياة، والحرية، والمساواة بين الناس، لكن الأمر في حقوق الإنسان ليس هو أن نردد بالألسنة والأقلام أسماءها، بل هو أن نكون على وعي بأبعاد المعاني، التي جاءت تلك الأسماء لتشير إليها، حتى إذا ما تبينت لنا حدودها، حولناها إلى سلوك نسلكه، وإلى عادات نعتادها، بحيث تجيء الأفعال مجسدة لما هو مقصود بحق الحياة وحق الحرية وحق المساواة، وغيرها من حقوق الإنسان، حتى ولو لم ننطق بأسمائها مرة واحدة.
فماذا نعني بأن يكون للإنسان حق «الحياة»؟ هل يقف المعنى عند حدود التنفس ودوران الدم في العروق؟ أنكتفي من معنى «الحياة» بألا يقتل أحد أحدا بغير حق؟ أم تجاوز هذا الحد، الذي هو مسلم به سلفا ولا يحتاج إلى خلاف وجدل؟ وأولى الخطوات التي نخطوها في سبيلنا إلى المعنى الموسع، هي أن نجعل فردية الفرد من الناس، أساسا أوليا للتعامل معه في حياة المجتمع، التي يتفاعل فيها «أفراد» من الناس، وإنها لضرب من اللجاجة الفارغة، أن نحتج على «فردية» الفرد، باستحالة وجود ذلك الفرد أساسا، ما لم يكن فردان من الناس قد تلاقيا في أسرة لينسلاه، هي لجاجة فارغة لا نجني منها إلا دورانا في دائرة مفرغة، أولها هو آخرها، وآخرها هو أولها، دون الوصول إلى شيء نطمئن إليه، فالفرد من الناس، ليس كالنملة المفردة في جماعة النمل ، بل يضاف في حالة الإنسان جانب، هو بمنزلة الحد الفاصل الذي يقطع لنا باليقين، ألا وهو أن الإنسان كائن «خلقي» وهو «مسئول» عما يفعل، ومسئول كذلك عما ليس يفعله مما كان مكلفا من ربه بفعله، و«المسئولية» الخلقية تستحيل على الفهم إذا لم يكن الفرد فردا كائنا بذاته، له حق في أن يقول «نعم» وفي أن يقول «لا»، وبهذه الحقوق المتفرعة عن كونه «فردا» مسئولا يفهم معنى حق «الحياة».
فإذا انتقلنا بهذه التوسعة لمعنى حق «الحياة» إلى مجال التربية والتعليم، وضح لنا وضوحا لا تشوبه شائبة من غموض، أنه إلى جانب ما يشترك فيه الناشئة جميعا، خلال عمليات التربية والتعليم حيثما وقعت: في البيت أو في المدرسة أو في غيرهما مما عسى أن يندمج فيه الناشئ متأثرا بما ينصب عليه انصبابا من عوامل مؤثرة، أقول: إنه إلى جانب ما يشترك فيه الناشئة جميعا، مما هو مؤسس على الجوانب التي يشارك فيها كل إنسان، بحكم كونه إنسانا، فهناك الجوانب «الفردية» المتفردة التي يتميز بها كل فرد دون سائر الأفراد أجمعين، وإنه لضرب من القتل أن يجيء نظام تعليمي فيغتال في الفرد فرديته التي تميز بها، أي إنه حرمان للفرد من حق «الحياة»، أن تطمس فيه ما قد ألهمه الله إياه ليكون إنسانا مع سائر الناس، ومتفردا دون سائر الناس، في وقت واحد.
ومضى الشيخ في حديثه مع أبنائه، يذكر لهم لقطات من ذكرياته في مجال التعليم، قائلا: إنني قد دربت نفسي تدريبا متعمدا، على أن أبحث في طلابي عن مواضع الاختلاف التي يتميز بها كل منهم دون سائرهم، فبهذا الاختلاف كانت تتكامل عندي صورة أقرب إلى الدقة عن ملامحه وقسماته، وإن موضع الاختلاف في الفرد هو نفسه موضع «الموهبة» إذا كانت موهبة، بل هو كذلك موضع العجز والقصور إذا كان هناك عجز وقصور به، وكيف أنسى «فلانا» حين جاءني فيما بين المحاضرتين من فراغ، جاءني وقسمات وجهه ترتعش؛ فالشفتان قد اضطربتا فاضطربت كلماته، والعينان كأنهما تنطقان بأن وراءهما نفسا تلتهب بالثورة ، كل شيء فيه كان مزلزلا ينبئ عن براكين تفجرت أو هي وشيكة التفجر، فلما أن نطق لي بما قد نطق، كان موضوع التعليق وموضوع السؤال مما يقتضي من العقل هدوءا بلغ غايته لكي يتاح للعقل أن يتأمل الموضوع الذي أثاره، فهل يمكن أن تمر هذه الظاهرة على إنسان خبر الناس ومسالكهم، دون أن يلحظ التناقض الشديد بين الجسد المزلزل من الداخل، وبين موضوع عقلي صرف طرح للمناقشة والسؤال؟ إذن فهذا شاب يكتم ما ليس يبديه ويبدي ما ليس يكتم، وربما دهش ذلك الشاب حينما وجدني أقفز من موضوعه المطروح لأسأله: هل أنت مقيم في أسرتك مع والديك؟ فما هو إلا أن يكشف عن خبيء، استحق مني أن أربت بكفي على كتفه قائلا: كان الله في عونك لتجتاز العاصفة وتخرج سالما، إنه شاب يبدي من علامات الذكاء الحاد ما يبديه، ولولا عواصف حياته الشخصية لكان له شأن في حياة أمته، ولقد كان له بالفعل شأن، لكنه كان شأن من ضربته عجلات المجتمع بأنيابها، فلو أنه أخذ على فرديته، ولم يصب في قوالب أعدت لسواه ولم تكن صالحة له، لأمكن أن يكون ثروة عقلية لبلده.
ومضى الشيخ في حديثه قائلا: وكذلك لست أنسى «فلانا» حين تلمست فيه مواضع الاختلاف، فكان أن وجدتني مع شاب بدت فيه البوادر قوية، تشير إلى ميله نحو أن يخرج على مألوف الناس، لا بالغباء الذي يشد صاحبه إلى قاع البئر، بل بالذكاء الذي يجذب صاحبه إلى أعلى، وأذكر أنه اجترأ ذات يوم بما لا يجيزه العرف بين طالب وأستاذه، لكنني قابلته بابتسامة المتسامح، مسرا في نفسي أن مجتمعنا قد بلغ من ركود الفكر، ما أصبح به في حاجة ماسة إلى مثل هذه الجرأة التي تخترق أقراص الشمع التي تجمدت على فوهة الزجاجة فكتمت أنفاسها، ولن أذكر مزيدا من قول عن ذلك الشاب الذكي الجريء؛ لأني لو فعلت لعرفه الناس؛ إذ هو الآن في حياتنا الفكرية سراج .
وسراج آخر شهدته حين بدأ وهو طالب فلسفة ينحو بموهبته نحو شيء يوازيها وإن لم يكن منها، نعم شهدته وهو لم يزل ذبالة ضئيلة، تضيء شعلة خافتة، في مصباح صغير مداده زيت، ومنذ تلك الولادة الأولى لم يكن لتخفى فيه رغبته في ألا يكون محسوبا على أحد، حتى خيل إلي آنئذ أنه يكره أن يقال عنه إنه طالب تلقى علمه على يد فلان وفلان من أساتذته، ولكنني أذكر جيدا ما كنت أسره في نفسي كلما لمحت منه لمحات أراد أن يرسخ بها فرديته المستقلة، فقد كنت أحس فرحة من يرى إنسانا فردا يولد، راجيا، وداعيا له بأن يصمد بهذا التفرد أمام مجتمعنا بموجه العاتي، وهي فرحة لا تقل عنها فرحتي الآن كلما وجدت له مقالا يقرأ أو سمعت له حديثا يذاع.
ونعود معا يا أبنائي - هكذا قال شيخنا - إلى حديث التربية والتعليم في وقت يراد فيه أن ننهض بهما نهضة تتناولهما من الجذور، فإنني لو استطردت في ذكر أمثلة مما وقع لي في خبرة حياتي من أفراد دفعتهم مواهبهم أن يتفردوا فكرا وسلوكا، لا بعون يتلقونه من نظام التعليم والتربية كما هو قائم، بل بالرغم منه، أقول: إني لو استطردت في ذكر أمثلة من هؤلاء، لاستغرقت الأمثلة وقتنا الذي اجتمعنا فيه لطرق باب الإصلاح الجذري للتربية والتعليم، فلعله قد بات واضحا مما قلته، ماذا أريد قوله بعد ذلك، فقد أردت أن أبسط بين أيديكم عقيدتي الراسخة، بأن مفتاح التقدم مرهون بأصحاب المواهب، والموهبة لا تكون إلا في «فرد» يختلف بموهبته تلك عن سائر الأفراد، والموهبة لا تكون من المواهب في شيء، إذا جاء صاحبها وهدفه أن يحاكي ما هو قائم بالفعل، إن مجرد المحاكاة العمياء قدرة يشترك فيها القردة، فليست هي إذن بموهبة يعتز بها صاحبها وتعتز بها أمته كلها عن طريقه، وإنما خلقت المواهب في الموهوبين لتكون أدوات حية يغيرون بها الحياة، فإذا كان غمار الناس يريدون ليومهم أن يجيء صورة مكرورة من أمسهم، فأصحاب المواهب - كل في ميدان موهبته - لا تستريح جنوبهم على مضاجعها ما لم تتغير على أيديهم أوضاع الحياة، إذا كانت تلك الأوضاع قد استنفدت زمانها.
وفي هذا القول ما يهدينا إلى موضع الجذر العميق الذي إذا تغير تغيرت معه الشجرة كلها جذعا وفرعا وزهرة فثمرة، وذلك الجذر العميق، هو البحث خلال عمليات التربية والتعليم عن المواهب وأصحابها، إننا إذ نضع جميع المواطنين في غربال العمليات التعليمية بكل درجة من درجاتها، يجب أن نفتح أعيننا لنرى الموهوب لنضعه بين قوسين، فيبرز وجوده وسط الخضم المستور، وعندئذ ندبر للمواهب طرقها التي تشحذ مواهبهم فترهفها، وإذا نحن أمام مجموعة ضخمة من علماء، ورجال فن وأدب وفكر وحكم وتنفيذ، إن تقدم الأمة مرهون بالموهوبين من أبنائها، وربما كانت الوظيفة الضرورية الموكولة لغمار الناس، هي أن يقاوموا خوارق المواهب ومغامراتها، فيعتدل من الجذب والشد ميزان الحياة.
كل هذا الذي وضعته بين أيديكم يا أبنائي - هكذا مضى الشيخ في حديثه - إنما هو بعض التوضيح لما يتضمنه حق «الحياة» الذي هو على رأس قائمة الحقوق المعترف بها للإنسان، وقد أردت أن أبين لكم كيف يتضمن هذا الحق - أن يتاح للفرد كل فرد - أن يظهر مكنون طبيعته، حتى لا يحيا بجانب من حياته دون جانب، فإذا انتقلنا بالحديث إلى حق آخر من حقوق الإنسان المقررة على كل لسان، وأعني حق «الحرية»، وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف، قد وصلنا إلى النقطة عينها التي انتهى إليها حق «الحياة» كما أوضحناه، بل إن مجموعة الحقوق الإنسانية كلها، إذا تعقبناها إلى ما يتفرع عنها، وجدناها كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضا.
وإنا لنلحظ قصورا شديدا في فهم الناس لحق «الحرية»؛ فلأننا كنا مقيدين بقيود سياسية نابعة من داخلنا، وآتية من خارجنا، ثم أشعلناها ثورات، تعاقبت ثورة بعد ثورة، خلاصا من تلك القيود، فقد رسخ في أذهاننا أن الحرية بذاتها هي عملية «التحرر» من أغلال كانت تقيدنا فحطمناها، وفاتنا المعنى الكبير للحرية في جانبها الإيجابي للبناء؛ لأنه إذا كان «التحرر» قد أزال قيودا كانت موجودة، فإنه بذلك يكون قد استوفى الجانب السلبي من الطريق، وبقي أمامه جانب الفعل الإيجابي الذي يبني، والأمر هنا شديد الشبه بخطوة إزالة الأنقاض التي هدم بها مبنى قديم، لكي تخلو رقعة الأرض لتشييد بناء جديد، فمرحلة «الحرية» تأتي بعد مرحلة «التحرير»، ويترتب على ذلك ألا تكون حرية إلا وهي مستندة إلى معرفة الإنسان الحر بما يلزم لما يريد أن ينشئه أو يقيمه أو يبنيه، ومن هنا كانت «الحرية» بهذا المعنى الإيجابي مستحيلة بغير «علم» و«خبرة» سابقين، وكثيرا ما حدث أن المستبد الطاغية الذي أمسك برقابنا في مرحلة القيود، قد سد في وجوهنا أبواب العلم الذي من شأنه أن ينتهي بصاحبه إلى «فعل»، فنحن نعلم - مثلا - كيف حرص المحتل البريطاني طوال فترة احتلاله لمصر، على أن يتجه معظم التعليم العالي إلى ما نطلق عليه اسم الدراسة «الأدبية»، وأما «العلوم» الطبيعية والمهنية فقد كان المسموح به منها لا يعدو قلة قليلة الدارسين، مع أن «الحرية» الحقيقية مستحيلة بغيرها؟ فالحر حر بما قد «علمه» من علم «ومن خبرة»، يؤديان به «فعلا» إلى تغيير وجه الأرض قليلا أو كثيرا، وأما الدراسة الأدبية، فأقصى مداها في هذا السبيل، هو أن تحدث في النفوس أثرا قد يكون فيما بعد مخاضا لولادة جديدة، إن دراسة «الآداب» كما يسمونها «وكان الأصح أن توصف بإنسانيتها»، فيقال: «علوم إنسانية» تؤدي إلى شعور الإنسان بحقوقه، فيعمل على استكمالها إذا كانت منقوصة، وذلك هو «التحرير» وأما دراسة العلوم الطبيعية فهي تؤدي إلى إقامة البناء الحضاري وما فيه «من عمران»، وتلك هي الحرية، والنظام التعليمي مطالب بأن يحفظ النسبة الصحيحة بين الدراستين، حتى يكون فيهما ما يرهف حس الإنسان بحياته وبحريته، كما يكون فيهما ما يعين على التشييد والتعمير، فينقل تلك الحقوق الإنسانية من مجرد أن تكون أدوات موقظة ومحركة، إلى مرحلة تالية تخرج فيها من «الأذهان» إلى «الأعيان»، أي أن تتحول من كونها فكرا، إلى حالة تتجسد فيها تلك الأفكار في حضارة.
كل ذلك التحول إنما هو دائما من صنع «المواهب»، حتى من تلقوا أعلى الدرجات العلمية في تخصص معين؛ كالهندسة أو الطب، فذلك وحده لا يكفل أن يكونوا من أصحاب المواهب بالمعنى المقصود هنا؛ لأنهم ربما ساروا بما درسوه على الطرق المدقوقة الممهدة بأقدام من سبقوهم سيرا على تلك الطرق، وبهذا وحده تبقى الحياة على نمطها، فلا تتغير نحو الأعلى، وإنما المواهب هي التي تستبدل بالنمط القائم نمطا جديدا، ورعاية تلك المواهب ينبغي أن تكون في استراتيجية التعلم هدفها الأخير، مرورا بإعداد المتعلمين المتخصصين الذين يديرون عجلة الحياة كما ألفها الناس.
وهل تسألونني: أين إذن حق «المساواة» إذا اتجهنا بكل هذا الاهتمام إلى نفر قليل من جمهور عريض؟ والجواب يملي نفسه إملاء؛ فالمساواة بين المتسابقين متمثلة في الخط الأبيض الذي عنده يقفون جميعا على حد سواء: فإذا صفر الحكم وانطلق المتسابقون، فكل له بقدر ما تسعفه قواه.
لكن السؤال الأهم - يا أبنائي - هو هذا: إذا كان ذلك هو ما كان ينبغي علينا فعله لرعاية «المواهب»، فماذا تقولون في مجتمع جرى منذ سنوات على عرف شيطاني مخيف، وهو أن يجعل مهمته طمس المواهب وأصحابها؟!
وثبة جبارة
نزل نيل أرمسترونج ذات يوم من صيف 1969م على تراب القمر لأول مرة في تاريخ البشر، وقد تكون هي أول مرة كذلك في تاريخ الكون، تحرك فيها كائن حي على ذلك الكوكب، فلما أن خطا أرمسترونج خطوته الأولى هناك قال كلمته التي لا شك في أن تكون قد وجدت طريقها - فور النطق بها - إلى سجل الخلود؛ إذ قال: «هذه خطوة واحدة يخطوها إنسان لكنها للإنسانية وثبة جبارة.» ولقد سمعه سكان الأرض وهو يقولها، فلقد كان ملايينهم يشاهدون الشاشات الصغيرة في منازلهم - أو حيثما كانوا - وكان هذا الكاتب واحدا من هؤلاء الملايين الذين شدت أبصارهم إلى صورة الرجل على شاشة التلفاز ينزل على درجات سلم قصير من حيث كان، ليقف بقدميه على تراب القمر، ولقد بدا في ملابسه المنتفخة من عالم الأحلام، ثم سمعناه وهو يقول عبارته تلك في صوت تهدج بزهو خلطته رهبة وخشوع.
ومن ذا الذي وهبه الله شيئا من بصيرة تخترق الأحداث إلى مدلولاتها، ثم لم يستطع أن يدرك الشبه الشديد بين لحظتين: لحظة أن غامر كرستوفر كولمبس بسفينته، فشق «بحر الظلمات» (المحيط الأطلنطي)، فكان عند كل موجة من جبال الموج الذي أخذ يشيل السفينة ويحطها، كأنها لعبة من ورق بعث بها شيطان مجنون، لا يدري ماذا هو واجد عند الموجة التي تليها، ولحظة أن انتهى العد التنازلي للصاروخ الواقف في تحفز للوثوب، وإذا هو ينطلق انطلاقة المارد مخترقا أطباق السماء، وهو مصحوب بذيل من نار؟ نعم من ذا الذي لم يربط بخياله اللحظة التاريخية الأولى، عندما غامر كولمبس في مجاهل البحر، باللحظة التاريخية الثانية عندما انقذف أرمسترونج بصاروخه في مجاهل السماء؟ فلقد كانت اللحظة الأولى بداية لثورة حضارية، لا نظن أن كولمبس توقع من حقيقتها جزءا من ألف جزء، فدون أن يقصد ودون أن يدري وقع على قارة جديدة، أو قل - إن شئت - قارتين، ودون أن يقصد ودون أن يدري، شاء الله سبحانه وتعالى أن تلوذ فئة من أهل الدنيا القديمة بتلك الدنيا الجديدة، ثم توالت بعد الفئة الواحدة الصغيرة فئات كثيرة، حتى نشأت في الدنيا الجديدة أمة - أو أمم - فلم يطو التاريخ من سجله الضخم صفحة أو صفحتين، حتى بذرت بذور حضارة جديدة تقوم على علم جديد - علم جديد - اقرأ هذه العبارة الموجزة، أرجوك، مائة مرة قبل أن تستأنف القراءة.
فتاريخ العلم قد طال ما طال التاريخ البشري؛ إذ ماذا يكون «العلم» بمعناه المطلق، إلا أن يكون معرفة حصلها الإنسان عما حوله، بحيث استطاع أن يصوغها في عبارات تحمل أحكاما عامة، هي التي تسمى بالقوانين العلمية عندما هذبت وبلغت درجة معينة من الدقة والصواب؟! لكن العلم - مع ذلك - أخذت صورته وموضوعه يتغيران مع تعاقب العصور، فإذا زعمنا لك الآن أنه في الدنيا الجديدة ولد «علم جديد» لم يلبث أن أقيمت عليه حضارة جديدة، فنحن نعني ما نقوله، فعلم المائة والخمسين عاما الأخيرة لا يشبهه علم سبقه في عصر سابق، وكانت نقطة الاختلاف الأساسية هي العناية الشديدة بابتكار «أجهزة»، تساعد الباحث على مزيد من دقة النتائج، وكان استخدام الأجهزة في البحث العلمي قبل ذلك منحصرا في حيز ضئيل لا يكاد يستحق الذكر، فلما أصبح هو الأساس الواسع العميق المتنوع، أطلق على ذلك المنهج الجديد اسم «التكنولوجيا» «ومعناها العلم بوساطة الأجهزة»، ثم جاء الاستعمال الشعبي بعد ذلك ليطلق هذا الاسم نفسه على الناتج الصناعي، الذي ينتج بفضل منهج الأجهزة، والذي يهمنا الآن من هذا كله هو أننا أصبحنا أمام علم جديد، أدى بالناس إلى الإنتاج السريع المتلاحق لأجهزة وآلات تصنع الأعاجيب، التي لم يكن في مستطاع الأحلام فيما مضى أن تجعلها موضوعا لشطح الأوهام!
تلك - إذن - كانت اللحظة الأولى وما تولد عنها وأعني لحظة إبحار كولمبس نحو عالم جديد، وما تولد عن ذلك من علم جديد وحضارة جديدة، وسرعان ما أصبح العلم الجديد هو العصر في شرقي الأرض وغربيها، وأصبحت الحضارة المترتبة عليه هي حضارة أهل الكوكب الأرضي كله، ولكن بدرجات تتفاوت في الشعوب ما تفاوتت علما وارتقاء، فمن إذن الذي لا يرتج فؤاده أمام اللحظة الثانية، لحظة أرمسترونج وهو يخطو بقدميه فوق تراب القمر وصخوره، ليسأل: ماذا - يا ترى - قد كتب للإنسان في تلك اللحظة من علم أجد من الجديد ومن حضارة أخرى غير الحضارة القائمة؟
هكذا يقف سكان الأرض على عتبة مجهول عظيم، نستطيع أن نطير في أجوائه بجناح الخيال، مهتدين بقبس نستضيء به مما ولدته لحظة تاريخية جريئة، رأيناها وعشناها علما جديدا وحضارة جديدة، فقل لي بالله إذا كان هذا هو الموقف الإنساني الراهن وحقيقته، فبماذا تنصح والدا يريد أن يربي ولده لزمان لن يكون كزمان والده؟ لا علما ولا حضارة؟ أتنصحه بأن يلوي عنق ولده لتتجه عيناه إلى ورائه، أم تنصحه بأن يشحذ بصره وبصيرته إلى أمامه تحسبا للمصير؟ أم توصيه بأن ينظر خلفه بالقدر الذي يسدد خطاه في سيرها نحو المستقبل الموعود؟ أما هذا الكاتب فيرى في الأولى انتحارا وفي الثانية انبهارا وفي الثالثة منطق الحكماء.
إن من الحقائق العلمية التي تلفت النظر، أن الجسم المعين، ولنقل مثلا جسم كوكب المريخ، تتغير كتلته بين من هو مقيم عليه، وبين من ينظر إليه من مكان آخر، كأن ينظر إليه إنسان يعيش على هذه الأرض، فإذا كنت قد فهمت هذه الحقيقة العلمية فهما صحيحا، فإن أي جسم متحرك تتغير كتلته بازدياد سرعة حركته، فكلما زادت السرعة زادت كتلة الجسم المتحرك، فأنت إذا سألت - على هذا الأساس - كم تكون كتلة الجسم الفلاني؟ قيل لك إن كتلته مقدارها كذا وكذا بالنسبة إلى إنسان يصاحبه في حركته، وأما بالنسبة إلى إنسان آخر يرقبه من مكان بعيد، فإن كتلته لا تثبت على مقدار معين، بل هي تزيد بزيادة سرعته، وتقل ببطء سرعته، وكذلك الحال بالنسبة لطول فترة معينة من الزمن، فهي بدورها تزيد أو تقل بزيادة السرعة أو بطئها، فإذا وضعت ساعتين مضبوطتين في مكانين مختلفين، أحدهما سريع الحركة والآخر بطيئها، اختلفت الساعتان في طول الزمن الذي سجلتاه، على أن حامل كل من الساعتين؛ لأنه يصاحب ساعته في سرعة المكان الذي يحلان فيه، فإن ساعته تظل في حسابه على ضبطها، وعلى ضوء هذه الأمثلة، تصور إنسانا أغرق نفسه إغراقا في مكتبة، كل ما فيها كتب كتبها أصحابها في زمن مضى منذ عهد بعيد، وقارن نظرته هو إلى ما يعلمه عن الدنيا، بناء على ما ورد عنها في تلك الكتب بنظرة إنسان آخر، في مكان مكشوف، يتعامل فيه مع دنيا الأشياء تعاملا مباشرا، إن صاحبنا الملازم لمكتبته القديمة قد تتغير من حوله الدنيا، وهو لم يتغير منه شيء فيما يعرفه عنها، بخلاف الثاني الذي تتاح له فرصة التغير بعلمه عن الأشياء، كلما كشف جديد عن حقائق تلك الأشياء، فالكتب القديمة - مثلا - تذكر عن نهر النيل أنه ينبع من الجنة، فلولا أن قيض الله للحقيقة الخارجية رجالا بحثوا عن منابع النيل كما هي واقعة في عالم الأشياء، لما عرفنا من أين يجيئنا الماء الذي نشربه ونروي به الزرع، فالرجلان المذكوران: من أنفق حياته داخل مكتبته القديمة العهد، ومن عاش في الفضاء المكشوف يقرأ العالم في ظواهره، سيختلفان حتما في نظرتيهما، اختلاف كتلة الجسم، وطول الزمن، باختلاف سرعة المكان الذي حل فيه الجسم، أو حلت فيه آلة قياس الزمن، إلا أن المصاحب للجسم أو لآلة قياس الزمن، لن يدرك أبدا أن شيئا تغير، وأما الذي يدرك التغير، فهو من وقف يرقب من بعيد.
إننا في حالات كثيرة لا نعرف هل نحن في حالة حركة أو في حالة سكون، إلا إذا نظرنا إلى شيء خارج المكان الذي نحن فيه، نفترض فيه الثبات فنقارن أنفسنا به لنعلم أنحن على حركة أم نحن في ثبات، فمثلا قد يتحرك بك القطار في بطء شديد أول قيامه من محطة القيام، فلا تدرك أنك قد تحركت مع حركة القطار، إلا بعد النظر إلى المباني الثابتة خارج القطار، وهل تستطيع أن تشعر بحركة الأرض التي نحن سكانها؟ إنها تتحرك حركتين في وقت واحد، ونحن معها نتحرك هاتين الحركتين، فحركة حول نفسها، وحركة أخرى تسير بها على فلكها دائرة حول الشمس، وأما الحركة الأولى فتتم مرة كل يوم، أما الحركة الثانية فتتم مرة كل عام، ولا نشعر نحن بأي من هاتين الحركتين، لكننا ندركهما استدلالا، فمن تعاقب الليل والنهار نستدل أن الأرض - ونحن معها - تدور حول نفسها، ومن تعاقب الفصول: شتاء وربيعا وصيفا وخريفا، نستدل أنها تدور - ونحن معها - حول الشمس مرة في العام، وعلى هذا الغرار نفسه نقول إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم على حياته، من حيث المعرفة والجهل، ومن حيث القوة والضعف، وبالتالي من حيث التقدم والتخلف، إلا إذا أجرى مقارنة بينه وبين إنسان آخر، وكذلك الشعب المعين بالنسبة إلى الشعوب الأخرى، وكذلك العصر المعين بالنسبة إلى عصور أخرى سبقته أو لحقت به.
إننا لا نقول بهذا كله شيئا جديدا لم يكن القارئ ليعرفه إلا إذا طالع هذا الحديث، فربما قال قائل موجها قوله إلى هذا الكاتب: إنه لم تكن بك حاجة إلى هذا اللف كله والدوران كله حول موضوع لا يجهله أحد، لم تكن بك حاجة إلى ذكر ما ذكرته عن نسبية الكتلة في أي جسم متحرك بسرعة هائلة؛ إذ تتغير الكتلة بتغير السرعة، تغيرا لا يدركه إلا مشاهد من كوكب بعيد، وما شاكل ذلك مما يقال كلما ذكرت لمحة من نظرية النسبية، نعم، لم تكن بك حاجة إلى هذا الشطح البعيد، لتؤكد لنا أن الإنسان لا يعلم عن نفسه حقيقتها إلا بالقياس إلى سواها. لكن ماذا يصنع كاتب أمام قارئ يغمض عينه حتى لا تشهد ما يقع أمامها، خوفا من أن تأتيه شهادة العين بما يكذب أوهاما في رأسه؟ فعصرنا واقف على عتبة الوثوب بوثبة جبارة يخترق بها أجواز السماء، فإذا كانت رحلة كولمبس عبر محيط مجهول، إلى قارة مجهولة، قد أعقبت نتائج لم تكن تخطر لأحد على بال؛ إذ بدأت هجرة المهاجرين إليها، ومن المهاجرين نشأت أمم جديدة، ومن الأمم الجديدة نشأت وجهة نظر جديدة، فعلم جديد، فحضارة جديدة فرضت نفسها على الدنيا فرضا، فماذا عسى أن تكون النتائج التي سوف تعقب عبور الإنسان حواجز الكون المجهول؟ إنه لا يعلم ذلك اليوم إلا علام الغيوب. ويحدث كل ذلك أمامنا ووراءنا، وعن يميننا وشمالنا، ومع ذلك يظل الصوت المسموع فينا، هو الصوت الذي حفظ أسطرا، أو صفحات، أو فصولا، من كتب تعكس على صفحاتها فكرا قديما، استمده أصحابه من واقع حياتهم، ثم لا يملك هؤلاء الحفاظ من علم يعرضونه على الناس بذلك الصوت المسموع، سوى أن يعيدوا على آذانهم ما كانوا حفظوه، وبهذه المحفوظات المكرورات، نمسي مع كل مساء، ونصبح مع كل صباح.
أقول هذا وأنا من أشد الدعاة حماسة لإحياء الماضي الثقافي، على أن نكون على وعي رشيد بالدور الذي نريد لذلك الماضي المبتعث أن يؤديه، فبينما أرفض رفضا لا تردد فيه، أن نعيد الماضي الثقافي عن طريق الحفظ الأصم الأعمى، لكي نجعل من أنفسنا تكرارا له، وكأننا خلقنا أذنابا لا رءوس لها، فإني لا أتجاهل ضرورة أن يكون الماضي مصدر وحي للحاضر، فتتواصل بهذا حلقات السلسلة بين ماض وحاضر، وتعالوا ننظر عن كثب إلى ما يحدث فعلا في جميع الحالات التي تستقيم فيها حياة الناس على نهج سليم، فإذا نحن استثنينا علوم الرياضة وعلوم الطبيعة (وسأعود إليهما بعد حين) وجدنا كل الفروع الأخرى في البناء الثقافي، أو قل في النهر الثقافي من تاريخ الأمة، تتطور في انسياب سهل من سابق إلى لاحق، بمعنى أن تثبت الحلقة الحاضرة وجودها ومميزاتها، لكن ذلك يتم لها في إطار به من العناصر ما يربط تلك الحلقة بالحلقة - أو الحلقات - التي سبقتها في تاريخ الفرع المعين.
فلقد كان لعرب الجاهلية شعر - وشعر عظيم - ثم جاء عصر الإسلام، بما شهد من مراحل تاريخه، فعصر الراشدين، وعصر بني أمية، فعصر بني العباس ... إلخ، فكان لا بد للشعر أن يتغير مذاقه مع التغير في العقيدة، وما نتج عنها من مناخ وجداني عام.
إلا أنه لم يكد يظهر في ساحة الشعر نقد ونقاد، حتى أقيمت قواعد الحكم الأدبي على أساس الشعر الجاهلي، لا من حيث المضمون، ولكن من حيث الشكل؛ كالعروض والأغراض الأربعة الأساسية التي يقصد إليها الشاعر، ليضمن أن تجيء حركته في إطار من الرصانة التي لا ابتذال فيها، وخذ من شئت من شعراء الجاهلية، ومن شئت من شعراء العصور الإسلامية، خذ - مثلا - امرأ القيس والمتنبي، تجد فرقا واضحا في المضمون الشعري، لكنك لا تتردد في أن كليهما شاعر عربي؛ أو خذ من شعراء الحكمة زهيرا وأبا العلاء، وانظر كم يختلف المذاق والنظر، وفي الوقت نفسه كم يتفق النسب العربي في كل منهما على سواء. ونقول ما هو أكثر من ذلك في حالة النثر الفني، فبينما العصر الجاهلي كاد يقصر نثره الفني على مقطعات حكمية، تجيء في وقعها وإيقاعها وكأنها إلهامات نطق بها عرافون في المعابد، ترى النثر الفني فيما بعد ظهور الإسلام، وقد تدفق أنهارا محملة بكنوز الفكر والبصيرة النافذة، فإلى جانب النثر العلمي عند الفقهاء وعلماء اللغة، هناك نثر الجاحظ والتوحيدي، متميزا بقوته لفظا ومعنى، وهكذا تستطيع أن تجد نموذجا حيا يصور لك كيف يرتبط الخلف بالسلف في مسلسل واحد، دون أن يتنازل أحد منهما عن طابعه المميز، إن الجاحظ والتوحيدي - مثلا - بينما اختلف النثر على أيديهما أشد ما يكون الاختلاف عما عرفناه في نثر الجاهلية، فلم يخطر لأحدهما قط أن يجعل ما يميزه عن سلفه خروجا على اللغة العربية في أصح صحيحها، أو استهتارا باللفظ العربي يمزج لغة الأدب بلغة العامة في مباذلها.
وانتقل من الأدب شعرا ونثرا، إلى مجال آخر كمجال الفقه الإسلامي، فها هنا كذلك نطلب منك أن تتعقب مراحل التاريخ في فقه الفقهاء، فبالطبع أنت واجد بينهم درجات متفاوتة في القدرة، لكنك كذلك ستجد الحلقات التاريخية بينهم موصولة لاحقا بسابق، بمعنى أنه لا يعد فقيها ذا وزن، من يقبل على عمله الفقهي غاضا بصره عمن سبقه في مجاله، فهو مطالب بأن يلم بالسابقين إلماما كاملا، ثم يمارس حقه الإنساني والعلمي في أن يعدل ويحذف ويضيف، فمن ذا ينكر بعد ذلك وجوب استرجاع الماضي إلى الحاضر ليتفاعلا؟ وفي الوقت نفسه، من ذا يحرم الحاضر من ممارسة حقه في التفكير؟ ولولا أن الماضي والحاضر موصولان على نحو ما، لما استطاع مؤرخ أن يؤرخ للشعر العربي في تاريخ واحد، أو أن يؤرخ للفقه الديني في تاريخ واحد.
وهكذا تستطيع الانتقال من فرع إلى فرع من فروع النهر الثقافي في حياة الأمة، لتعلم في وضوح حي، كيف تكون العلاقة بين ماض وحاضر، وهي صورة تصدق أيضا على كثير جدا من أوضاع الحياة العملية، من ثياب وطعام ومواسم وتقاليد الضيافة إلخ إلخ مما يخلع على الشعب المعين طابعا خاصا يميزه.
والأمر يختلف في مجال «العلوم» سواء منها العلوم الرياضية أم العلوم الطبيعية؛ فرجال هذه العلوم لا يقيمون حاضرهم العلمي على أساس ماضيهم العلمي، كما يفعل الشعراء أو الفقهاء؛ وذلك لأن تلك العلوم لا تقصر نسبها إلى وطنها وشعبها، بل تنتسب إلى «العلم» في ذاته أينما ظهرت نتائجه في أي رجي من أرجاء الدنيا، فعالم الرياضة منتسب إلى العلم الرياضي في عمومه - لا إلى العلم الرياضي كما ظهر عند أسلافه العرب - وعالم الكيمياء وغير الكيمياء من علوم الطبيعة، إنما ينتمي إلى تاريخ ذلك العلم في عمومه، ولا يقصر نفسه على سلفه من أبناء أمته. لكن هذا الفرق بين تعميم وتخصيص، لا ينفي عن «العلوم» مأخوذة في نسبها إلى الإنسانية كلها، أن يكون لها نهرها التاريخي الذي يجيء حاضره مؤسسا على ما قد سبقه، مبقيا على الصواب منه، مصححا ما قد ثبت فيه الخطأ، فإذا طالبنا علماءنا بالاطلاع على تاريخ علومهم عند أسلافهم العرب، كانت الغاية المرجوة من ذلك، هي شعور هؤلاء العلماء بالعزة القومية وبالثقة في أنفسهم، من جهة، وفي إيجاد الصلة بينهم وبين أسلافهم في مصطلحاتهم العلمية إلى آخر حد مستطاع.
وماذا تعني «الهوية» في الفرد الواحد، وفي الشعب الواحد أو الأمة الواحدة، إلا هذا الحبل الموصول من ماض إلى حاضر؟ خذ الفرد الواحد - أولا - وانظر ماذا يجعل الواحد واحدا؟ إنك أنت هو أنت، فلان الفلاني، مهما طالت بك السنون، ولكن كيف زعمنا لك هذه الواحدية الممتدة على الأيام مع أنك في كل يوم، بل في كل لحظة طائرة، تتميز بشيء ولو طفيفا، عما كنت عليه في اللحظة السابقة، وعما سوف تكون عليه في اللحظة الآتية؟ ألم تكن ذات يوم وليدا رضيعا، فطفلا يحبو، فطفلا يمشي على رجليه ويتكلم مع الآخرين لغة مشتركة، فغلاما، فمراهقا، فشابا، فرجلا؟ إنها صور متباينة أشد التباين، ومع ذلك تصر أنت، ويصر معك الناس، على أنك في مرحلة شيخوختك وفي كل مرحلة سبقتها من مراحل عمرك هو ذلك الوليد الرضيع ابن اليوم الواحد واليومين، فعلى أي أساس نقيم هذا الحكم؟ إننا نقيمه على أساس «الهوية» الواحدة، والتي تظل واحدة مهما تغير في جسدك وحالاته، وفي ظروف عيشك وتقلباتها، وجوهر الواحدية التي ننسبها إلى الشخص المعين، كامن في التواصل المستمر بين حاضره وماضيه، لا بمعنى أن الموجود الكائن في هذه اللحظة الحاضرة من حياته، هو هو نفسه بكل حذافيره وتفصيلاته، ما قد كان منه في أمسه القريب، ودع عنك أمسه البعيد، بل بمعنى أن كل لحظة حاضرة تأخذ شيئا مما سبقتها، وتستغني عن شيء، لتنشئ بدله شيئا جديدا، وهكذا تكون الصلة وثيقة دائما بين حاضر الوجود وماضيه وما نقوله عن الفرد الواحد، نقول مثله تماما على الشعب الواحد والأمة الواحدة.
وإذا كانت هذه الصلة الوثيقة - بالنسبة إلى الأمة العربية - قد كانت قائمة بالفعل في كل حلقة من حلقات تاريخها، فالأمة العربية الآن أحوج إليها اليوم أشد مما كانت في أي عصر سابق من عصور حياتها، ولست بذلك أقول إن الأمة العربية كانت دائما على سلام ووئام بين أطرافها، لا، فالتنافس والتقاتل لم ينقطع لهما وجود، لكن ذلك شيء وكونها أمة عربية موصولة حاضرها بماضيها، في سلامها أو في حربها، شيء آخر، وماذا في عصرنا هذا يوجب على الأمة العربية أن تحكم العرى بين أقطارها، لتشتد الواحدية في هويتها الواحدة، أكثر مما فعلت في أي عصر مضى؟ إنه هذا العصر العجيب بمتناقضاته الأعجب، فهو عصر قد أقام من مؤسسات ومنظمات يعلن بها أمله في الوحدة الدولية، ما لم يحلم به عصر مضى، ومع ذلك فهو هو نفسه العصر الذي تشتعل فيه النزعة الوطنية في كل مجموعة من الناس، ترى بين أفرادها تشابها يميزها عن سواها، على صورة لم يشهد لها مثيلا أي عصر مضى، فحتى لو كانت مجموعة الناس المتجانسة دينا، أو عرقا، أو تاريخا، لا تزيد على بضعة آلاف، فهي اليوم لا تطيق أن تنضوي مع غيرها تحت لواء وطني واحد، وتريد أن تستقل وحدها بسيادة وطنية قائمة برأسها، وهكذا يرى الرائي على مسرح العصر نزعة توحد الأمم، ونزعة تفرقها، في نفس واحد.
وفي هذا الإطار الذي يعيش فيه أبناء هذا العصر، وهم حيرى بين رغبة في اعتزال الجماعة المتميزة عن غيرها، من جهة، وخوف من العزلة من جهة أخرى، نرى الآراء عند رجال الفكر شتيتا بين النزعة الوطنية الضيقة، والنزعة الدولية الواسعة، أقول: إنه في هذا الإطار تتفرق الشعوب بعضها عن بعض، وتتكتل بعضها مع بعض في آن واحد، فتسمع عن حلفي شمالي الأطلنطي ، ووارسو، وتسمع عن منظمات الوحدة الأفريقية، وأمريكا اللاتينية، وجنوب شرقي آسيا، وهكذا ، وفي هذا المناخ الذي لا تعرف أهو أميل إلى تفكك الشعوب، أم هو أقرب إلى توحدها، تحت مظلة واسعة فيها هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها، وفيها كذلك انقسام خطير في بلاد الغرب ذاتها، بين ما يسمونه شرقا «الاتحاد السوفيتي وتوابعه» وغربا «الولايات المتحدة وحلفاؤها» - في هذا المناخ تقوم جامعة عربية لتجمع أقطار الوطن العربي على كلمة واحدة، لكن تلك الأقطار نفسها في حالة من التنافر بعضها إزاء بعض - لا أظن أن الوطن العربي قد شهد لها مثيلا في تاريخه الماضي، ومن أجل هذا كله، أسلفت لك القول بأن الأمة العربية أحوج في يومها هذا إلى التوحد منها في أي وقت مضى؛ لأن عوامل التفرقة في أرجاء العالم تضرب بفئوسها هنا وهناك، ومن لم يحصن نفسه بحصن من فولاذ، لن يلبث أن يجد نفسه قد تناثرت أجزاؤه في الهواء كأنها هباء.
لسنا في عصر كسائر العصور التي شهدها التاريخ من قبل، فبالرغم مما قد شهده فيما مضى من حضارات، وعلوم، وحروب، فهو لا يقاس إلى «ذرة» من القوى الكامنة في هذا العصر، ظهر فيها أقلها، وأما أكثرها فقد فتح له الباب عندما خطا «أرمسترونج» خطوته التاريخية على تراب القمر وصخوره، ناطقا بعبارته التي ستضاف بغير شك إلى أخواتها من كلمات كتب لها الخلود؛ إذ قال إنها خطوة واحدة يخطوها إنسان، لكنها للإنسانية وثبة جبارة. فأنواع «العلوم» التي انتهت بالإنسان إلى هذه الوثبة، ليست كغيرها من العلوم التي عرفها الإنسان ويعرفها، بل هي علوم «نووية» جبارة فيما تبنيه، جبارة فيما تدمره، عليها يقوم «سلام» قائم على أعاجيب الأجهزة العلمية، التي لو ذكر عنها للأسبقين جميعا، جزء من ألف ألف جزء من حقيقتها، لأخذهم الذعر وقالوا: بل إن ذلك من المعجزات، وعليها - كذلك - تقوم «حرب» قد تمحو الحياة من هذا العالم الأرضي محوا لا يبقي ولا يذر.
فهل بقيت لنا - نحن أبناء الأمة العربية - حيلة، إلا أن نعد عدتنا للدخول في هذا العالم الجديد، الذي هو الآن عند عتبة الباب؟ وأول ما نعده لأنفسنا ، هو الإسراع في غير تردد إلى تصور جديد، نثبته في أذهان أبنائنا عن الاستمرارية التاريخية التي يجب أن تربط ماضينا بحاضرنا، كيف تكون؟
وماذا عن عجوز البر؟
قال الراوي وهو يتحدث إلى هواء غرفته، فقد كان لا يعلم أن شيطانا من شياطين البشر، دس له آلة صغيرة تسجل عنه ما يرويه، ليكون له ولأصحابه - فيما بعد - مادة للسخرية والتفكه: قال ... ولعله لم يرد بقوله شيئا أكثر من مجرد إخراج الكلمات ليزيل الصدأ عن جدران الحلق، خشية أن يصيبه طول الصمت بحشرجة يتعذر بعد ذلك إصلاحها ... قال:
كان الوقت أواخر عام 1954م، أو أوائل 1955م (لم أعد أذكر) عندما أعلن في الصحف أن «إرنست همنجواي» قد ظفر بجائزة نوبل في الأدب، عن روايته «عجوز البحر» وكنت عندئذ ما أزال في بيتي مرتديا ثياب الصباح، وكان ذلك كله في فترة قضيتها في مطارح الغربة عن أرض الوطن، فارتديت من فوري ثياب الخروج، وقصدت إلى مكتبة قريبة، واشتريت رواية «عجوز البحر» التي فازت بالجائزة، وعدت إلى مسكني لأجعل «عجوز البحر» قراءتي في ذلك اليوم، والرواية صغيرة الحجم، لا ينتهي النهار إلا وقد فرغت من قراءتها، ومضمون الرواية - فيما أظن - معروف للقارئ العربي؛ لأن من لم يقرأها، فقد قرأ الإشارات الكثيرة إليها في كتابات النقاد، ومن لم يقرأ لا هذه ولا تلك، فقد شاهد الفيلم السينمائي الذي أقيم عليها، والمضمون في إطاره العام أبسط من البساطة؛ لأنه يكاد يدور كله حول رجل واحد، وهو يكافح لإنجاز عملية واحدة، فهو صياد في البحر تقدمت به السن، وأصابه مرض أقعده في كوخه فترة ربما طالت عليه بعض الشيء فلما استرد بعض عافيته، وأدرك أنه قد أوشك على نهاية العمر - دون أن ينجز إنجازا واحدا عظيما - جمع أطراف قوته وعزيمته، وركب قاربه الصغير الذي لم يكن مفروضا فيه أن يبعد عن الشاطئ أكثر من مسافة محدودة، لكن الصياد العجوز هذه المرة، أبى إلا أن يوغل بقاربه في المحيط؛ لأن الصيد الكبير لا يكون قرب الشواطئ: لا يعبأ بجبال الموج ترفع قاربه الصغير وتخفضه! وما هو إلا أن وقع له الصيد في الشبكة، فأخذ يجذب الحبال ليخرج الشبكة بصيدها، لكنه أحس وكأنه يريد بكل قوته أن يزحزح جبلا فلا يتزحزح، إنه لم يألف قط في حياته الماضية كلها أن ثقلت على ساعديه الشبكة بمثل ما ثقلت به اليوم! فبذل من الجهد المحموم ما بذل، حتى طفت الشبكة على مقربة من سطح الماء، وظهر الصيد الضخم في محاولته العنيفة اليائسة أن يتخلص مما وقع فيه، فهو سمكة أذهلت عجوز البحر بضخامتها! يزيد حجمها على حجم قاربه، فأين يضعها حتى لو تمكن منها ... أتقول: «لو تمكن منها»؟ إنك لا تعرف قدر العزيمة التي دبت في العجوز من رأسه إلى قدميه! لقد أصبح العجوز كله عزيمة لم يعد في كيانه إلا إرادة للفوز: ولكن أين يضع السمكة وهي أكبر من القارب؟ ليس أمامه إلا أن يشدها بالحبال إلى جنب القارب من الخارج، وبدأ المحاولة، ونجح بعد أن عرف بدنه كيف يكون الجهد الجهيد الذي يهد رواسخ الصخر! وما إن فرغ من جهاده حتى جاءت أسماك القرش المفترسة تنهش السمكة نهشا، وبدأت معركة بين العجوز وسمك القرش، يضربه بكل ما لديه من أدوات ليصرفه عن صيده لكن هيهات، إنه كلما طالت بينهما المعركة، تكاثر القرش وازداد شراسة، وها هو ذا العجوز لا يبقى من أدوات قاربه أداة إلا استخدمها؛ فالمجاديف قد تحطمت، وساريات القلاع والدفة، كلها تحطمت في ضرب أسماك القرش المهاجمة، لكن تلك الأسماك الضروس صمدت ناهشة لصيد العجوز، واقترب القارب من الشاطئ، وانصرف القرش، وذهبت السمكة الضخمة كلها إلى جوف القرش! ونزل عجوز البحر من قاربه ولم يكن المشدود بالحبال إلى جنب القارب إلا الهيكل العظمي للصيد الذي كان.
ذلك هو مضمون القصة، فليس فيها حب وغرام، وليس فيها مطاردة لمهربي المخدرات، وليس فيها تاريخ سياسي وتظاهرات، لا، ليس فيها شيء مما ألفناه في الروايات، إنما الذي فيها هو رجل واحد وعزيمته! رجل واحد وطموحه نحو الأكبر والأعظم والأضخم والأصعب، رجل واحد يقاتل العدو بما لديه، نجح بعد ذلك أو فشل! وكل الرواية من أولها إلى آخرها، هو تجسيد لتلك الإرادة القوية، كي نراها - نحن قراءها - رؤية العين، ماثلة أمامنا في كفاح مجسم مشهود.
ولم تكن متعة الفن الأدبي لتقل عندي - هكذا مضى الراوي في روايته إلى هواء غرفته - إذا وقفت تلك المتعة عند نشوة الفن الجيد لذاته، لقد رأيت «روحا» في الجمل القصيرة المتتابعة التي حكى بها الروائي حكاية عجوز البحر، لكن مع ذلك - لم أكد أفرغ من قراءتي - حتى بدأت أتأمل ما قرأت! فماذا فيها مما يعكس روح الحياة في العالم الجديد؟ فيها إرادة الإنجاز، فيها الجلد الصامد، فيها المغامرة والمخاطرة في سبيل الهدف البعيد، فيها قهر الطبيعة، ولم تكن الرغبة في قهرها لتعني شيئا، لو كانت تلك الطبيعة واهية القوى، مستسلمة في يسر إلى قاهرها، لكنها جبارة في قوتها، ضنينة بأسرارها، كتوم على كنوزها، ولا يفل حديدها إلا حديد بشر مكافح مريد طموح.
ومضى الراوي يقول لهواء غرفته: إنني كعادتي دائما، لا أسهو لحظة عن بلدي وقومي، فإذا رأيت قوة أينما كنت، أسائل نفسي: أين قوتي؟ إذا رأيت علما سألت أين علمي؟ إذا شهدت مغامرة ومخاطرة تتبقى مجدا، قلت: أين عندي من يقامر ويخاطر؟ ومثل هذا التساؤل هو ما حدث لي بعد أن فرغت من قراءة «العجوز والبحر»، إلا أني تريثت هذه المرة حتى أوازن وأقارن؛ فمسرح الأحداث في مصر ليس كمسرح الأحداث في أمريكا، هنالك فروق شاسعة بين الموقفين، لا بد لها أن تحدث اختلافا في تشكيل الصورة هنا والصورة هناك: فهنا مكان ضيق الحدود، مع زمان طويل التاريخ: فما معنى هذا الفارق بين الحالتين، وما مغزاه؟ معناه هو أن الأمريكي تحلل من قيدين: قيد المكان وقيد الزمان؛ أما المكان عنده فذو سعة واسعة، فإذا ضاقت به سبل العيش في الجانب الشرقي لبلاده، سعى غربا، فغربا، إلى أن يجد سعة العيش.
وبهذه المناسبة أذكر أني حين مررت بمدينة «سياتل» في أقصى الشمال الغربي للولايات المتحدة، وعلمت فيما علمته ، أن نسبة المنتحرين في تلك المدينة، تفوق نسبتهم في أي مكان آخر سألت لماذا؟ فكان الجواب هو أن الأمريكي الطامح، إذا لم يجد في الشرق (شرق الولايات المتحدة) ما يحقق طموحه، رحل غربا - ويظل يرحل غربا - حتى إذا ما بلغ أقصى الغرب في مدينة «سياتل» ولم يجد بغيته، لم يبق أمامه سوى أن ينتحر! هذا من ناحية المكان وسعته، وأما الزمان وقصر تاريخه هناك، فشرحه أن المهاجرين إلى العالم الجديد، بدءوا هجرتهم إليها في القرن السابع عشر، أي أن تاريخ ما قد أصبح يعرف «بالولايات المتحدة» عمره ثلاثة قرون، ومغزى هذه الحقيقة هو أن حمل التقاليد خفيف على ظهورهم، اللهم إلا من بقيت معهم تقاليد بلادهم الأصلية التي هاجروا منها، ومع ذلك فلا بد من الإشارة هنا إلى أن الروح الوطنية الوليدة في الولايات المتحدة تعمل جاهدة على أن «يتأمرك» الأمريكي، منسلخا بالتدريج عن روابطه بوطنه السابق، وإلا فلو ظلت لكل فرد رواسب ماضيه، لما نشأت أمة جديدة تربطها روابط الأمة، ومن هنا نلاحظ فيما يكتبه كتابهم، إلحاحا شديدا على ضرورة «التأمرك» لينصهر المواطنون جميعا في روح وطني واحد، وخلاصة القول - إذن - هي أن الأمريكي بهذا قد تحرر من القيود مرتين: مرة حين وجد المكان من السعة بحيث يمرح باحثا عن المجد، ومرة ثانية حين وجد التاريخ الأمريكي قصيرا وراءه، فلم تقيده رواسب تقاليده إلا بما هو أقل من القليل، فما عليه إلا أن «يريد» فلا يجد أمامه ما يحول دون تنفيذه لإرادته، ما وسعته قدرته، وما أذنت له قوى الطبيعة، استسلاما له، أو تأبيا عليه.
وننتقل إلى المصري في ظروف وطنه، مكانا وتاريخا، وليس الهدف مما سوف أقوله في هذا الصدد هو أن يتحلل المصري من قيد ظروفه، بل هو أن نرى ماذا في مستطاعه أن يفعل، وهو كما يحيا في إطار معين من مكان، وفي امتداد معين من التاريخ، أما المكان المعمور حتى الآن فهو - كما نعرف - منحصر تقريبا في الوادي الضيق! وأما التاريخ فقد امتد به عبر أربع حضارات - وهو الآن يخوض الخامسة - التي هي حضارة هذا العصر، وهكذا أخذت التقاليد تتراكم على كتفيه حضارة بعد حضارة حتى أصبحنا أمام مصري (لو أخذنا المصري على نقائه في الريف) له في كل خطوة يخطوها قيد يحد من حركته، فهنا تقليد يأمره بأن يراعي كذا، وهناك تقليد يأمره بأن يراعي كيت.
ومضى الراوي في خطابه إلى هواء غرفته، فقال: كان أول ما خطر لي من خواطر، بعد أن تحفظت بالمقارنة التي أجريتها، بين الظروف المحيطة بالأمريكي الذي يمكن اعتباره مؤشرا يشير إلى إنسان العصر الجديد، والذي انعكست صورته - بغير شك - في عجوز البحر عند «همنجواي»، وبين الظروف التي تحيط بالمصري، الذي يمكن بدوره، أن يؤخذ ممثلا للشعب العريق الذي يحمل في عروقه تاريخا طويلا، وما لا بد أن يحدثه ذلك التاريخ من تقيد بتقاليد الآباء والأجداد إلى حد بعيد أو إلى حد قريب، أقول إن أول خاطر خطر لي بعد تلك المقارنة السريعة، هو أن أتخيل «عجوزا آخر» أختاره من الحياة المصرية، أو من الحياة العربية على إطلاقها، يشبه «عجوز» همنجواي في تقدم السن من جهة، وفي الرغبة في الإنجاز قبل أن يأتي الأجل القريب من جهة أخرى؛ لأرى ماذا تكون الفوارق الأساسية بين العجوزين، ومن خلال ذلك ألمح الفوارق بين الحياتين! فكان أول ما لمع في الخيال، هو أن يكون عجوزنا المختار، عجوز «بر» لا عجوز «بحر»، نعم نحن نملك الإطلال الطويل على بحرين، إلا أن مسارح نشاطنا يغلب أن تكون في البر لا في البحر، إذن فليكن عجوزنا عجوزا بريا، ومن هذه البداية كدت بادئ ذي بدء، أن أقول: إن الدافع القوي يبدأ في صورة «العجوز والبحر» في رواية همنجواي، بالرغبة القوية في إنجاز كبير، وإن مثل هذه الرغبة لا يظهر واضحا عندنا، لا في العجوز ولا في الكثرة الغالبة من الشباب، لكني سرعان ما أمسكت قائلا لنفسي: أدر بصرك فيما عرفت من مواطنيك، تجد ضروبا لا تحصى ولا تعد من الطامحين في إنجاز شيء مذكور: فكم من أصحاب الملايين، إذا ما رويت روايات حياتهم، قيل لنا إن فلانا بدأ عاملا بأجر يومي ضئيل، وإن فلانا تحول من حالة الفقر إلى حالة الغنى بسرعة كأنما سحره ساحر! وكم من أصحاب المناصب العليا قد أمسكوا بصولجان القوة وهم بعد في مرحلة الشباب، وفي مجال التعليم ترى العجب إذ ترى ولي الأمر لا يملك قوت يومه، ويصر على أن يتعلم ولده حتى يبلغ من درجات العلم والشهادات أعلاها، لا يصرفه عن هدفه هذا أن يقال له - بل وأن يرى بعيني رأسه - إن حامل تلك الشهادات قد لا يظفر في ميادين الحياة العملية بأكثر من شظف العيش! وأمثلة المجاهدين في كل جوانب الحياة كثيرة، وأمثلة «الإرادة» القوية المصممة بين مواطنينا ظاهرة لمن شاء أن يرى، أفلا يكون في كل واحد من هؤلاء «عجوز بر» يقابل عجوز البحر عند همنجواي؟
ولأمر ما أمدني الخيال بصورة، وأريد ألا أختم هذه المرحلة من حديثي إلا بذكرها؛ لأنها صورة - هكذا أوحى إلي خيالي - قد تحمل من الخصائص ما يفتح أعيننا على شيء ذي بال في طبيعة حياتنا، برغم كل ما فيها من طموحات وعزائم، وأما الصورة فهي لعجوز من عجائز البر، جعل من «العلم» هدفه الأول، وهدفه الأوسط، وهدفه الأخير، لقد تتعدد صنوف القوى بين الطامحين: فهناك من أراد قوة النفوذ، ومن أراد قوة المال، ومن أراد قوة الشهرة، ومن أراد، ومن أراد، أما صاحبنا فلم يرد إلا أن يعلم ويعلم، وأن يعرف، ويعرف، وشاء له ربه أن يجعل له ميدان العلم والمعرفة مصدر رزقه، فنعم بنعمة الله عليه، نعيما ما فتئ له حامدا؛ إذ وجد عمله هو هوايته، وهوايته هي عمله، وتلك سعادة لا يعرفها إلا من عاشها! فلعل أشقى ما يشقى به بنو آدم في هذه الدنيا، هو محنة العمل الذي يجبر عليه عامله، إما كسبا للعيش، وإما تسخيرا من مستبد ظالم، وجنة الحياة التي هي توحد الهواية والعمل لم تكتب إلا لنفر قليل، ولا عجب أن رأينا مؤلفي «المدن الفاضلة» - كما يطلق عليها - لا يفوتهم أن يجعلوا حق العالم أن يختار عملا يتفق مع هوايته، وبذلك يصبح كل عامل «فنانا» في ميدانه، يسعد هو بحرية التعبير الفني فيما يؤديه، ويسعد سائر الناس بما ينتجه لهم.
ومثل تلك الجنة الأرضية هي ما شاءها الله سبحانه وتعالى لصاحبنا «عجوز البر»، الذي أرادني خيالي إلا أن أحكي حكايته، فلئن كان البحر الهائج المائج هو ما اختاره همنجواي مسرحا لعجوزه، فقد اختار القدر لعجوزنا مكتبته مسرحا، فليس صيده الكبير المرتجى سمكة ضخمة تنفغر لها أفواه المشاهدين دهشة، بل صيده الكبير المرتجى هو «أفكار» تضيء له السبيل وللآخرين، ومع ذلك الفارق بين عجوزنا وعجوزهم - برا هنا وبحرا هناك - فقد تشابها من وجه وتباينا من وجه آخر، من حيث ما سلط على صيدهما من شر الشياطين، فكانت أسماك القرش هي محنة العجوز في بحر همنجواي، وكانت مشانق الصمت هي محنة عجوزنا في البر، ولئن وجد العجوز هناك في نهاية رحلته هيكلا عظميا أكلت القروش لحمه نهشا في الطريق، فلقد وجد عجوزنا في آخر رحلته أوراقه وكأنها أكفان الموت، على أن العجوزين كانا في الصمود ومضاء العزيمة أخوين.
واستأنف الراوي حكايته التي يحكيها لسامعه الأوحد، الذي هو هواء غرفته، فقال ... وبعد أن فرغت من المقارنة بين الحالتين، من حيث الظروف المحيطة التي من شأنها أن تشكل صور الكفاح، ومن حيث ما قد يصاب به العاملون من شر الشياطين، اتجهت إلى ما هو خير وأبقى، فاتجهت إلى مقارنة أخرى قد تنفع الناس، وهي هذه المرة مقارنة بين «ملامح» الكفاح عند المكافحين هناك والمكافحين هنا؛ إذ لا بد أن يكون بينهما تباين شديد في السمات والقسمات، وإلا فلماذا أدى بهم هناك كفاحهم في مجمل نتائجه، إلى طيران في السماء، وأدى بنا كفاحنا في مجمله إلى سير يشبه القعود، حتى ليحق للسلاحف إزاءه أن تباهي بسرعة جريها؟ نعم، لقد أردت هذه المرة أن أقارن بين ملامح وملامح ، فوقع بصري على نقطتين، الأولى: وهي أهونهما خطرا: هي أن طموح الطامحين هناك ينشد الإنجاز الكبير، الذي يفقأ بضخامته أعين الجاحدين، ولست أقول إن كل ذي طموح قد أنجز مثل ذلك الإنجاز العظيم الذي يجيء من أيدي صانعيه ليرسخ على صدر الزمن، ولكن شعبا يسوده طموح متوثب في أبنائه، مهما اختلفت فيه درجات النجاح، فلا بد أن يقع على نفر من هؤلاء الأبناء، يقيمون له من العظائم ما يصنع له المجد في تاريخه، وإن لنا نحن من آيات المجد في تاريخنا، المصري والعربي، ألف شاهد وشاهد، على صدق هذه الحقيقة الحضارية، وهي أن مجد الأمة إنما هو حلقات متتابعة من «عظائم» المنجزات، تراها الأعين، وتمسها الأيدي، وليس مجد المجيد مكونا من «فتافيت» يتركها الصغار، بل هو مركب من منجزات كبرى تصمد للزمن، وما قد يراه الصغير عظيما يراه العظيم صغيرا كما أشار المتنبي شاعر العرب بقوله:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
كانت تلك هي النقطة الأولى، من نقطتين انتهت إليهما المقارنة التي أجريتها، وهي أن حياتنا الراهنة، مهما يكن فيها من آثار الجهد المبذول، فهو جهد المقل الذي يقنع بالقليل، ويريد للناس أن يقنعوا به: علماؤنا، يتلقون العلم من صانعيه ليدرسوه ويحفظوه، ولو أنهم أجادوا الدرس والحفظ، لكان ذلك خير ما نرجوه ونتوقع، ومع ذلك نضحك على أنفسنا وعلى شبابنا، لنوهمهم بأننا كبار مع الكبار، وذلك قد ينفع في بث الروح الوطنية والعزة القومية، لكنه كذلك يغرقنا في أوهام تميت ولا تحيي، ولا غرابة أن ترانا عند المفاخرة والمباهاة، نستمد الشواهد من آباء لنا وأجداد؛ لأننا لا نجد بين أيدينا ما يبيح لنا أن نقول لمن نباهيه: ها أنا ذا؟ وقديما قال الشاعر العربي:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
وأما النقطة الثانية التي أبرزتها المقارنة بين الحالتين، وهي الأهم والأفدح خطرا، فهي «المجال» الذي يتحرك فيه طموح الطامحين، فبينما تغلب علينا أن نتجه بجهودنا، وأعني جهود أسلافنا وعظمائنا، الذين هم من كتاب حياتنا عنوانه، أقول: يغلب على تلك الجهود أن تتجه إلى ما هو موجود بالفعل، مكتشف بالفعل، معلوم للناس بالفعل؛ كأن تتجه جهود العلماء الباحثين نحو ما هو مسطور فعلا في مؤلفات مبدعيها، وذلك نفسه يصدق على كل ميدان من الميادين العملية: هندسة، وطبا وصناعة، وزراعة وما إلى ذلك، فالنماذج المحتذاة قائمة هناك، وما علينا إلا حسن المحاكاة، فإذا أفلحنا حسبنا - وهما - أننا مع مبدعي تلك النماذج قد أصبحنا سواء، مع أن الفرق بين الحالتين أوسع من المحيط، فهناك إبداع وهنا منسوخ كربوني من ذلك الإبداع، ومن أين جاء هذا الفارق الواسع؟ أهو تفاوت القدرات في فطرتها؟ كلا وألف مرة كلا، فآباؤنا وأجدادنا شهود على تلك الفطرة، إنما هو «المجال» الصحيح يتجهون إليه هم ولا نتجه إليه، فبينما هم يواجهون «الطبيعة» مباشرة، يرغمونها على البوح بأسرارها، نكتفي نحن بالاطلاع على ما قد كشفوا عنه هم الحجاب، فصاغوه، فأثبتوه في مؤلفات أو في منجزات مجسدة، فنشتري نحن مؤلفاتهم لنصبح بها «علماء»، كما نشتري منجزاتهم لنكون بفضلها متحضرين.
إنهما مرحلتان متميزتان عرفناهما في تاريخ الإنسان «القومي»، وفي أي اتجاه يضرب بقوته؛ ففي الأولى كان يبطش بالبشر بغيا وطغيانا، وفي الثانية يهتك أستار الطبيعة أو يحاول، فلماذا يتحكم في رقاب البشر، وبين يديه وعر يتسلقه، وبحر عميق الأغوار يغوص إلى أعماقه؟ لماذا يفتك بأخيه، وأمامه «درة» تستنفد جهده ليشطرها، فإذا هي قوة المارد قد فك عقالها! فلما تنبه الإنسان الحديث إلى «المجال» الصحيح، الذي يستحق الجهد في تطويعه، وهو مجال هذا العالم الفسيح الذي نعيش فيه، ولا نعرف عن مكنونه إلا النذر اليسير، نشأت له «العلوم الطبيعية» وكأنها ولدت للإنسان لأول مرة في تاريخه، نعم، لا جدال في أن العصور السابقة قد شهدت من علماء الطبيعة أفرادا تناثروا هنا وهناك، إما أن تسود العلوم الطبيعية هذه السيادة كلها، وأن تنقل نفسها من منهج إلى منهج، ومن «مجرد النظر» إلى التطبيق على النطاق الواسع، الذي يجعل منتجاته من آلات وأجهزة تجد لها مكانا في كل كوخ على أي معمور من كوكب الأرض، فذلك شيء لم يعرف عنه التاريخ الماضي كله إلا حجم قطرة الماء من البحر المحيط.
ولقد كانت لنا البراعة كل البراعة بالقياس إلى غيرنا، عندما كانت الدنيا في مرحلة ما قبل العلم الطبيعي وولادته؛ إذ كان العلم صاحب السيادة عندئذ هو «الرياضة» وما يدور مدارها، مما يمكن دراسته - والدارس بين جدران بيته، لا تصله بظواهر الطبيعة صلة مباشرة - إلا على نحو باهت ضعيف، فلما أضافت الدنيا علوما إلى علوم، ومنهجا جديدا إلى منهج قديم، كان التاريخ قد حكم علينا بالوقوف، فسارت الدنيا الجديدة وظللنا حيث كنا واقفين، وعندئذ تبدلت حياتنا حالا بعد حال: كانت لنا الريادة وغيرنا الاتباع فأصبحت الريادة لغيرنا ونحن التابعون.
ودخل الراوي الذي يوجه حديثه إلى هواء غرفته، في صمت طال معه بضع دقائق، ثم عاد ليقول للهواء وفي الهواء: لست أدري لمن أتوجه بالمعذرة، وليس أمامي أحد يسمع، فقد أردت أن أعلن أسفي على هذا الخوض فيما لا ينبغي أن يخاض فيه بالكلمات، ومتى أفلحت الكلمات وحدها في زحزحة حصاة من حصوات الأرض عن مكانها؟ اللهم إلا أن يلتقطها ملتقط قادر على التغيير، وليس في هواء الغرفة من يسمع ليجيب ويستجيب، ولو أجاب واستجاب لأمكن التغلب على القيدين اللذين يمسكان بأقدامنا فلا نسير، وهما - كما ذكرنا في أوائل الحديث - مكان ضيق لا يسمح لنا بالحركة المغامرة، وتاريخ طويل أثقلنا برواسب التقاليد، فأما فسحة المكان فهذه الصحراء الواسعة تتحدانا أن نعمرها! وإنا لنستطيع تعميرها لو انتقلنا من عالم «الورق» إلى عالم الطبيعة، تغزوه مصر بالعلم وتقهره بالإرادة، وأما رواسب التقاليد التي أنقضت ظهورنا، لأننا أخذنا منها ما يحدث الكساح، وتركنا ما يشعل النار، وليس استبدالنا وضعا بوضع أمرا عسيرا إذا صحت منا العزيمة.
كان عجوز البحر قد انتهى به جهده إلى فقرات من عظام، وكأنما أراد القدر أن يقول: ليست العبرة بسمكة تصطاد فتبقى أو تذهب، وإنما العبرة بإرادة تصمم ولا يأخذها وهن، فيكون لها في آخر المطاف العظائم التي تصنع للأمة مجدها، وأصغى عجوز البر إلى الدرس ووعاه ، ثم همس لنفسه: إنه يا مولانا درس معاد تلقيه علينا صحائف تاريخنا، لو كان فينا آذان تسمع ما يصرح به التاريخ.
الإمام الغزالي تحاوره حواسه
ليس في حياتي أروع من ساعة أقضيها مع عملاق من عمالقة الفكر، أقرأ له شيئا مما كتب، لا قراءة من يتلقى ما يتلقاه، بعقل شارد وذهن بليد، بل قراءة من يتأمل في أناة، حتى ليكاد يدخل بكل كيانه في جوف الكلمات، ليرى خبيئها إن كان لها خبيء، كما قد عرفت ظاهرها البادي على سطحها، فهؤلاء العمالقة حين يكتبون، يتدبرون ما يكتبونه كلمة كلمة، وكدت أقول حرفا حرفا، ولا يقذفون اللفظ على الصحائف قذفا غير مسئول؛ وذلك لأنهم إذ هم يعالجون فكرة عظيمة - والعظماء لا تشغلهم من الأفكار إلا عظائمها - يشعرون كأنه واجب عقلي محتوم، أن تجيء عبارتهم في دقة أفكارهم حتى إذا ما قرأها قارئ، أحس بأنه لا يطالع لفظا على ورق، وإنما هو في حقيقة أمره، يجلس بين يدي المتحدث الحي، يسمع صوته الملتزم المتزن الوقور، فيصغي إليه بأذنيه، وإن الفوارق في مثل هذه القراءة المستغرقة فيما تقرؤه، لتنحى، فلا يشعر القارئ أهي كلمات مطبوعة على ورق وتطالعها عيناه، أم هي تلك الأصوات الملتزمة المتزنة الوقورة؟ ينطلق بها العظيم صاحب الفكرة العظيمة، فتسمعها الآذان؟
ومثل تلك القراءة لا يبلغ غاية مداه، إذا جلس القارئ من محدثه جلسة من يستمع ليقول آخر الأمر لمن صب في أذنيه فكرته: آمين! لقد سمعت مصدقا! أقول إن تلك القراءة التي يستسلم بها القارئ لما يتلقاه استسلاما يلغي به ذاته إلغاء، وكأن وجوده لم يزد على أن يكون شريطا من شرائط التسجيل الصوتي، هي قراءة لا يبلغ قارئها إلى أكثر من نصف الطريق، وأما النصف الثاني فهو مشاركة القارئ بالحوار الصامت مع ما يقرؤه، شريطة أن يكون هذا القارئ قد بلغ من النضج ومن التحصيل، درجة يتكافأ بها مع مثل ذلك الحوار مع عمالقة الفكر ، وإن ساعة واحدة تقضيها على هذا النحو الحي الفعال مع مفكر عظيم لأكثر بركة عليك وعلى ثقافتك من مائة ساعة تقضيها قارئا يتلقى في خمول راكد، ثم هي أكثر بركة من ألف ساعة، تقرأ فيها ما يقال لك عن ذلك العظيم وفكرته؛ فاللقاء المباشر مع مبدع فيما أبدعه، هو الوسيلة التي لا تعادلها، أو تقترب منها وسيلة أخرى. ومن هنا ندرك سرا من أسرار الهزال العلمي، الذي يخرج به شبابنا من جامعاتهم، فهم - على الأغلب والأعم - يتلقون الأفكار الكبرى، في موادهم العلمية، لا باللقاء المباشر مع أصحاب تلك الأفكار، في المراجع الأصلية التي تضم طالب العلم مع من أنتج ذلك العلم وجها لوجه - كما يقولون - لو غيبا لنص مقروء، وإذن لصوت يتخيل أنه صوت صاحب النص الأصلي، وكأنه يتحدث فيسمعه من سعى إليه يطلب منه العلم، بل إن طلابنا يكتفون بما يقدمه إليهم أساتذتهم من «مذكرات» يلخصون لهم فيها ما قاله رواد العلم، وبذلك الصدى الخافت، يفوتهم الأثر السحري الذي يتركه اللقاء المباشر بين الرجل العظيم، ومن جاءه يسعى لتحصيل شيء من عمله.
نعم، ليس في حياتي أروع من ساعة أقضيها مع عملاق من عمالقة الفكر، وقد كانت تلك الساعة، التي أكتب الآن لأروي لك نبأها، ساعة قضيتها مع الإمام أبي حامد الغزالي، في كتابه «المنقذ من الضلال»، معاودا لقراءة بعض صفحاته، وهنا وقفت مع الإمام العظيم، فيما قال عن مصادر المعرفة ودرجاتها المتصاعدة نحو اليقين، وفي ظني أن هذه القراءة الأخيرة، قد حركت عندي أفكارا، لا أحسبها قد وردت إلى ذهني في القراءات السابقة جميعا، فبعد أن يبين الغزالي لقارئه أن أضعف مصادر المعرفة، هو الأخذ عما يتناقله الناس عن شيء معين، دون أن يكون السامع قد رأى هو ذلك الشيء بعينه، إذا كان مرئيا أو أن يسمع هو بأذنيه، إذا كان الأمر متعلقا بصوت مسموع، أقول إن الإمام الغزالي، بعد أن يضع مصدر «التواتر» في مكانه، ومكانه هو الدرجة الدنيا من درجات السلم المعرفي، ينتقل إلى الدرجة التي تعلوها، وهي الحواس، من بصر وسمع وغيرهما، حيث يشاهد المتلقي ما كان قد سمع عنه فيما يتناوله الناس، بحيث يرى هو، أو يسمع هو، ليأخذ علمه من ينبوعه مباشرة، لا منقولا عن روايات يرويها عنه الآخرون، ثم ينتقل الغزالي بعد ذلك إلى الدرجة الأعلى بعد الحواس، وهي «العقل» في استدلالاته وبراهينه، ثم يلجأ بعد العقل إلى «النور» الذي يقذفه الله في القلوب.
ولكي أضع قارئي معي، في مطالعتي هذه المرة، لما كتبه الغزالي عن «تلك الدرجات الثلاث الحواس والعقل والقلب» سأضع بين يديه قول الغزالي بنصه، مع الأفكار التي أثارها في نفسي ذلك النص هذه المرة: ولماذا أحرص على هذه المشاركة بيني وبين قارئي؟ وذلك لأني سأقيم على هذه القراءة الجديدة نتيجة تمس حياتنا الثقافية الحاضرة، في جانب هام من جوانبها، وهاك قول الغزالي، وسأبدأ من الموضع الذي انتقل من عنده من غصن التواتر؛ إذ جعله الناس مصدرا للعلم الصحيح إلى بحثه في صلاحية «الحواس» أن تكون مصدرا موثوقا به، فوجد أن الاعتماد على الحواس غير مأمون الصواب؛ لأنها قد تضلل، فتقدم لنا صور الأشياء غير حقيقتها، ومن هنا انتقل إلى مرحلة المعرفة العقلية، التي يشير إليها بكلمة «الضروريات» فقال: «... فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العلم، بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟»
فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات، والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكك، إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا، وأخذ يتسع هذا الشك فيها، وبقوله ...
فمن أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل، فتراه واقفا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة، وبعد ساعة تعرف أنه تحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدرج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية، تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار.
هذا وأمثاله من المحسوسات، يحكم فيه حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبه حاكم العقل ويخونه (بتشديد الواو) تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته، فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات، التي هي من الأوليات؛ كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثا وقديما، موجودا معدوما، واجبا محالا.
فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل، لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذب العقل (بتشديد الذال) في حكمه كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه وعدم تجلي ذلك الإدراك، لا يدل على استحالته، فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا وأيدت أشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورا، وتتخيل أحوالا، وتعتقد لها ثباتا واستقرارا ... لا شك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو بعقل، هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها، وإذا وردت تلك الحالة تقينت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها، ولعل تلك الحالة ما يدعيه الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم - التي لهم إذا غاضوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم - أحوالا لا توافق هذه المعقولات، ولعل تلك الحالة هي الموت؛ إذ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا»، فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له عند ذلك:
فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد .
فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجا، فلم يتيسر؛ إذ لم يمكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية؛ فإذا لم تكن مسلمة ، لم يكن تركيب الدليل، فأعضل هذا الداء، ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة، بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال حتى شفى الله تعالى من هذا المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضرورات الفعلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة (انتهى كلام الغزالي).
لن أعتذر للقارئ على طول النص الذي اخترته مما أورد الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال»، فقد أردت للقارئ أن يواجه المفكر الإسلامي العظيم في كلماته مواجهة مباشرة؛ إذ هي كلمات بلغت الغاية في الغزارة والغنى لمن أراد صورة متكاملة لوسائل المعرفة ودرجاتها ونسبة بعضها إلى بعض، حتى يجعل لكل وسيلة منا قيمتها الحقيقية، لا يضيف إليها من عنده ما ليس منها، ولا يحذف منها جانبا مما يكون جزءا من أجزائها، وتلك الوسائل عنده أربع، تتدرج صعودا، فلقد أسلفنا لك القول بأن أدناها درجة، برغم كونها أشيعها بين الجماهير، هي الأخذ بما يدور على ألسنة الناس، على أنه هو الحق، ويتلوها صعودا وسيلة الحواس وما تدركه، بحيث يعتمد الإنسان في معرفته على ما يراه بعينيه وما يسمعه بأذنيه، وما يحسه إحساسا مباشرا، بحاسة من حواسه الأخرى، ثم تعلوها درجة الإدراك بالعقل؛ فإذا كانت الحواس مقصورة - بالطبع - على ما تتلقاه من انطباعات تنطبع بها رؤية - أو سمعا - أو غير ذلك من ضروب المحسوسات، فإن «العقل» أرحب مجالا، وأدق علما بما يحيط به؛ إذ هو إلى جانب التصورات الذهنية التي يستخلصها مما قد انطبعت به الحواس وما قد تراه أو تسمعه، نقلا عن المصادر الخارجية، يقيم علما مشتقا من «أوليات» فطرت في جبلة لا حاجة فيها إلى الحواس، ليعلم أن الإثبات والنفي لا يجتمعان معا في الشيء الواحد؛ فالنقل بما زوده به خالقه من «أوليات» يرفض أن يقال له - مثلا - إن العشرة أكثر من الثلاثة، وهي في الوقت نفسه أكثر من الثلاثة، والعقل يرفض كذلك - بحكم أولياته الفطرية - أن يكون الشيء الواحد المعين موجودا ومعدوما في آن واحد، ويرفض أن يقال له عن فكرة معينة بأنها مقطوع بيقينها، ومقطوع ببطلانها في وقت واحد، وهكذا وهكذا، فما جاء العقل مزودا به من مبادئ التفكير الصحيح دون طبائع الأشياء، فتلك - إذن - ثلاث درجات في وسائل المعرفة، وأما الرابعة فأرجئ ذكرها والحديث عنها حين يحين حينها فيما هو آت من هذا الحديث.
وذلك لأني أريد أن أتناول الدرجات الثلاث المذكورة، التي هي على التوالي: الأخذ عما يدور على ألسنة الرواة، ثم الاعتماد على محسوسات الحواس في انطباعها بالأشياء انطباعا مباشرا، ثم «المعقولات» التي يكون «العقل» بمبادئه الفطرية مصدرا لها، أقول إنني أرجأت الدرجة الرابعة من درجات المعرفة حتى أتناول تلك الدرجات الثلاث السابقة بشيء من التعليق والشرح:
فأولا:
لقد كان ما شدني شدا إلى كلام الإمام الغزالي عن المعرفة ووسائل تحصيلها، هو تلك الذروة العليا التي أطل منها إلى موضوعه، لينظر إليها نظرة الطائر، فيتاح له أن يجمع أطراف الموضوع أولها بأوسطها وبآخرها، وبذلك تجيء اللقطة الإدراكية لموضوع «المعرفة» وافية شافية، لم يحذف من وسائل المعرفة وسيلة استهانة بها بل وضع كل وسيلة في موضعها الصحيح من خريطة الحياة المعرفية عند الإنسان، وقارن ذلك بما نسمعه من بعض فقهائنا اليوم - ونذكر أن هذا اليوم إنما هو أواخر القرن العشرين - إذ يحذروننا من «العلم» (أي والله هم يحذروننا من العلم) بينما نرى الإمام الغزالي يبدأ كلامه الذي اقتبسناه، بقوله: «إن الهدف هو العلم» فمن واجبنا أن نحدد بدقة ماذا يراد بكلمة «علم» هذه، وليس الذي يهمنا الآن هو اتفاقنا أو اختلافنا في هذا التحديد، لكن المهم هو أن نقف مثل هذه الوقفة الصحيحة من حيث منهج النظر، وهي أن نقول في عصرنا هذا مثل ما قاله الغزالي في عصره، فنقول: إن الهدف هو العلم، وعلينا أن نحدد لأنفسنا ماذا يراد بهذه الكلمة.
وثانيا:
إننا لو اتبعنا الإمام الغزالي في نظرته إلى المعرفة التي تأتي إلى صاحبها نقلا عما تواتر على ألسنة الرواة، وهي أنها معرفة لا تعلو، على أن تكون لها أدنى درجات السلم، لكان هذا الدرس المنهجي وحده كفيلا لنا في عصرنا هذا بأن نضع عنا أثقالا أنقضت ظهورنا، فنحن لا نبتغي حذف التواتر من حيث هو مصدر من مصادر المعرفة، بل نريد أن نضعه بالنسبة إلى المصادر الأخرى في موضعه الصحيح.
وثالثا:
إن وجه النقص الذي أخذه الإمام على «الحواس» من حيث هي إحدى وسائلنا نحن البشر إلى معرفة حقائق الأشياء، يحتاج إلى وقفة قصيرة متسائلة؛ فالغزالي يشارك كثيرين ممن ظهروا قبله، وكثيرين ممن جاءوا بعده، في موقف الشك من المعرفة المكسوبة عن طريق الحواس، وذلك على أساس أن الحواس قد تخدعنا فيما تقدمه إلينا على أنه هو حقائق الأشياء في حين تكون حقائق الأشياء بعيدا عما نقلته إلينا حواسنا عنها؟ ويضرب الغزالي أمثلة لذلك، فيقول: إن العين تطيل النظر إلى «الظل» فلا تراه إلا ساكنا لا يتحرك فإذا انتظرنا ساعة بعد ذلك، ثم وجهنا البصر إلى ذلك الظل الذي حسبناه ساكنا، وجدنا أنه قد تحرك عن موضعه الذي كنا رأيناه عليه! ومعنى ذلك أن العين رأت ما ظنته سكونا وإذا هو حركة، ويسوق الغزالي مثلا آخر، هو أن الحواس متمثلة في حاسة البصر التي هي أقواها ترى الكوكب من كواكب السماء فتحسبه في مقدار الدينار، وإذا بالاستدلالات الهندسية يتبين أنه أكبر من الأرض حجما.
والذي نعلق به على هذه النظرة إلى إدراك الحواس أمانة أو خداعا، هو أن من يتهمون الحواس بالتقصير والخطأ فيما تنقله إلينا حواسنا عن أشياء العالم الخارجي، يفوتهم أمران: أولهما أن الذي يصحح لنا ما حسبناه خطأ أوقعتنا فيه إحدى الحواس، هو الحاسة نفسها التي اتهمناها، أو هو حاسة أخرى من حواسنا، وأما الأمر الثاني، فهو أن أصحاب هذه النظرة المتشككة في صدق المعرفة الآتية إلينا عن طريق الحواس، يفوتهم أن ما قد ظنوه إدراكا مكذوبا من الحاسة ، إنما هو في حقيقة أمره خطأ يقع فيها الإنسان بسبب تسرعه في عملية الاستدلال العقلية التي يجريها على الصورة التي قدمتها له الحاسة، وانظر إلى المثلين اللذين ذكرهما الغزالي بيانا لما تكذب به الحواس علينا؛ فالمثل الأول هو أن العين ترى الظل فتحسبه ساكنا مع أنه في حقيقته متحرك، فما الذي أنبأنا فيما بعد أن الظل قد أصبح في وضع جديد غير ما قد كان عليه؟ إنه البصر أيضا، ولقد فات البصر أن يرى حركة الظل أول مرة؛ لأنه أبطأ مما خلق البصر البشري ليراه، فمعلوم أن للبصر مجالا يستطيع الرؤية في حدوده، فلا هو يرى ما أبطأ حركة، ولا هو يرى ما هو أشد سرعة، وإذن فقد كان البصر «صادقا» حين أنبأ صاحبه أنه لا يرى حركة الظل؛ إذ هي حركة أبطأ من الحدود التي فرضت عليه، وإنما مصدر الخطأ هنا هو التسرع في الاستدلال العقلي، فكأنما قال ذلك المتسرع لنفسه: إذا كانت العين لا ترى حركة إذن فلا حركة، فها هنا انتزعنا نتيجة بغير حق، من مقدمة لا تنتجها؛ لأنه إذا كانت العين قد قصرت عن رؤية شيء ما، فلا يكون ذلك دليلا على أن ذلك الشيء معدوم، فقد تكون لإدراكه وسيلة أخرى، وقد لا تكون لدى الإنسان وسيلة لإدراكه على الإطلاق.
والمثل الثاني الذي نقلناه عن الغزالي في تشككه في معرفة تجيء عن طريق الحواس هي رؤية العين للكوكب البعيد صغيرا، وكأنه في مقدار الدينار، مع أن الاستدلال الهندسي يبين أن ذلك الكوكب أكبر حجما من الأرض! فها هنا أيضا كانت العين أمينة في الصورة الصغيرة التي قدمتها؛ لأن قوانين الضوء تحتم على العدسة المدركة لشيء بعيد أن تصغر صورته بقدر معلوم كلما بعد، وإذا شئت فاستخدم آلة التصوير في التقاط صورة ذلك الكوكب، تجد قوانين الضوء قد قامت بفعلها في تحديد مقدار الصورة المنعكسة على عدستها، وإذن فمصدر الخطأ مرة أخرى، ليس هو اختراعا أو كذبا من حاسة البصر، بل هو تسرع الإنسان في عملية الاستدلال العقلية، التي يبنيها على ما تجيء إليه به الحواس، فكان يقول لنفسه: حجم الصورة التي تقدمها عدسة العين هي كذا، إذن يكون ذلك نفسه هو حجم الشيء الذي رأته، مع أن الصحيح هو أن يضيف إلى الموقف قوانين الضوء، وفيها أننا لو تابعنا القائلين بالشك في قدرة الحواس على تصوير الواقع لما استطاع الإنسان أن يتقدم قيد شعرة في العلوم الطبيعية؛ لأن هذه العلوم تجمع معطياتها الأولى مما تقدمه إليها الحواس من مشاهدات، ثم تبدأ بعد ذلك العملية العلمية، من فرض الفروض، واستخدام النظريات وصياغة القوانين، ولقد رأينا بالفعل جميع من تشككوا في قدرة الحواس يحصرون أنفسهم فيما فطر عليه العقل من مبادئ ثم استدلال ما أمكن استدلاله من تلك المبادئ، وعند هذا الحد العقلاني الصرف يقف علمهم بالكون وبأنفسهم.
ورابعا:
إن الطريقة التي عرض بها الإمام الغزالي ثقته بالعقل وما يؤدي بنا إلى العلم اليقيني، قد جعلتني أتمنى أن أجد وسيلة تنشرها في الناس اليوم لعلهم يستيقظون من سباتهم الفكري، فهو بعد أن يؤكد لنا أن العلم الذي هو مطلبنا، إنما هو العلم اليقيني يضرب له مثلا: العشرة أكثر من الثلاثة، ثم يقول عنه: إنه إذا قال لي قائل: انظر إنني قادر على تحويل هذا الحجر ليصير ذهبا بلمسة من أصابعه أو قائل يقول انظر إنني قادر على أن أحول هذه العصا ثعبانا! ومن قدرتي هذه أقول لك إن العشرة ليست أكثر من الثلاثة، بل الثلاثة أكثر من العشرة، فهنا أتمسك بصدق الحقيقة العقلية، ثم به لا يمنعني ذلك عن التعجب من قدرة من حول الحجر ذهبا أو جعل العصا ثعبانا، فهذه القدرة السحرية تحتاج إلى بحث في حقيقتها، ولكنها لا تستطيع أن تشككنا في صدق أن العشرة أكثر من الثلاثة! (أورد الغزالي مثل هذا الحوار، إلا أن المجال هنا لم يتسع لذكر النص) وانطلاقا من هذا الدرس الغزالي العظيم نقول: إنه لا يجوز لنا أن نصم آذاننا عن الحقيقة العلمية الثابتة - كما نفعل اليوم - كلما تعرض لنا من خلب أبصارنا بقدرته السحرية! وواجبنا هو أن نفرق - كما فرق الإمام الغزالي - بين شيئين مختلفين، فبينما نتمسك بما قد أثبته العلم يحق لنا أن ندهش للعجائب التي يعرضها علينا أصحاب الخوارق.
على أننا لا بد، من أجل الأمانة العلمية، أن نقول إن الغزالي يقصر اليقين على ما يسميه «بالأولويات» العقلية، وما يستبدل منها (وشاركه ديكارت في ذلك، بعده بنحو ستة قرون) وله الحق في ذلك، إلا أننا نوسع مجال الثقة العلمية هذه لتشمل كذلك العلوم التي وإن لم تكن متولدة من «أوليات» عقلية، فهي مقامة على أساس المعطيات الحسية، التي يوضع لضبطها وضمان صدقها مناهج خاصة، وإلا فإذا نحن اقتصرنا على أوليات العقل المجبولة في فطرة الإنسان، وأبعدنا الحواس وما تقدمه إلينا ضاعت علينا العلوم الطبيعية بقضها وقضيضها.
وخامسا وأخيرا:
نذكر ذلك الحوار الذي أجراه الغزالي، وكأنما قد بادرته به حواسه؛ إذ جعلها تعاتبه سائلة: لقد شككت في صدق ما قدمته إليك بحجة أنك حين عرضته على حاكم العقل، قرر لك أن ما قدمه إليك العقل، من معرفة قبلتها وكأنه يقين لا يأتيه باطل، ألا يجوز أن تحتكم إلى ما هو فوق العقل فيحكم لك على العلوم العقلية أنها هي الأخرى باطلة؟ وها هنا يروي لنا الإمام الغزالي كيف أوقعته محاجة الحواس هذه في حيرة اشتدت به حتى أنزلت به المرض، ولقد دام معه ذلك المرض - فيما ينبئنا شهرين - ولب الأزمة التي وقع فيها، بناء على ما تخيل أن حواسه قد اعترضت به عليه، هي أنه إذا زعم قيام مبدأ أعلى من العقل، على أساسه ينظر في الحقائق العقلية أقابلة للشك هي أم هي فوق الشك؟ فلا بد له من إقامة دليل على زعمه ذاك، لكن كل دليل يتحتم عليه أن يقام على أوليات العقل، فكأننا ندور في دائرة مفرغة لأننا بمثابة من يريد إقامة الدليل بالعقل على بطلان العقل! تلك كانت أزمته حتى شفاه الله، فهداه إلى أن من الحقائق ما لا يقام على دليل، بل يجيء يقينه «بنور يقذفه الله» تعالى في الصدر. وبهذا المصدر الرابع اكتملت للغزالي وسائل المعرفة جميعا أدناها معرفة مصدرها رواية الرواة، وأعلاها علم مباشر يجيء بنور يهتدي به العارف، وتلك هي معرفة المتصوفة، وبين الطرفين تقع العلوم العقلية سواء منها ما بني على معطيات الحواس، على سبيل الاحتمال، وما بني منها على أوليات العقل على سبيل اليقين.
الشجرة المباركة
الصلة بين «العلم» و«النور» شيء معروف مألوف، حتى لنسمع عبارة «العلم نور» شائعة على الألسنة بين عامة الناس فضلا عن خاصتهم، وإنه لقول صادق إلى آخر حدود الصدق برغم ما فيه من «مجاز»؛ فالنور يقشع الظلام عن الأشياء فتراها الأبصار بعد أن لم تكن رأتها وهي ملتفة بظلامها، وكذلك يفعل «العلم» بشيء ما لأنه يتيح لصاحبه أن يرى من تفصيلات ذلك الشيء ومن حقائق طبيعته، ما يتيح له أن يستخدمه وهو آمن فلا فرق - إذن - بين «نور» يبين معالم الطريق و«علم» يبين معالم الأشياء، فنطوعها كيف شئنا.
وبرغم هذا الوضوح الشديد في وجه الشبه بين «العلم» و«النور»، وبرغم دوران هذا الشبه على ألسنة الناس عامتهم وخاصتهم على السواء، فقد فوجئت بتلك العلاقة بين «النور» و«العلم»، كأنما وجدتني أمام فكرة جديدة لا عهد لي بها، بل ولا عهد لأحد من الناس بها حين قرأت - لأول مرة - كتاب الإمام أبي حامد الغزالي «مشكاة الأنوار»، وكان ذلك نحو سنة 1960م «فيما أذكر»، حين صدر محققا ومقدما له بمقدمة طويلة للمرحوم الأستاذ الدكتور «أبو العلا عفيفي»، وهو كتاب صغير لم يكمل مائة صفحة من القطع الكبير، بما في ذلك مقدمة تحليلية مستفيضة لمحقق النص الدكتور أبي العلا عفيفي، وموضوع الكتاب هو شرح آية النور، ولقد كانت المفاجأة الكبرى التي أيقظتني وفتحت أمامي أفقا واسعا، ما زال يزداد معي اتساعا إلى يومي هذا، هي أن رأيت شرح الغزالي للآية الكريمة قائما كله على أساس أن «النور» الذي تدور حوله الآية الكريمة هو «الإدراك»، أو قل إنه هو «العلم»، ولما كانت عملية «الإدراك» هذه قد قال فيها علم النفس الحديث والمعاصر وأفاض، كما قالت فيها الفلسفة الحديثة والمعاصرة وأفاضت؛ وذلك لاهتمام الباحثين اهتماما متزايدا بتحليل العلاقة بين الذات المدركة من ناحية والموضوع المدرك من ناحية أخرى، أقول إنه لما كانت عملية «الإدراك» قد انصبت عليها أضواء شديدة، فقد أصبح متاحا للدارسين منا أن يتوسعوا في الأساس الذي أقام عليه الغزالي شرحه لآية النور، وإن كاتب هذه السطور ليقول صدقا إذا قال إنه كثير العودة إلى هذه الآية الكريمة، وكأنه يجد في كل مرة معنى مضافا إلى ما كان قد انتهى إليه، فمعينها لا ينضب بعد أن أمسكنا بالمفتاح الذي قدمه إلينا الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار»، إلا أنه إذا كان الغزالي قد فتح من الباب مصراعا فقد فتحنا منه مصراعين، والفضل كل الفضل لمن شق الطريق ليسير وراءه التابعون، وها هي ذي صورة متكاملة - في إيجاز شديد - لما خرج به كاتب هذه السطور من آية النور مهتديا بهدي الإمام.
تقول الآية الكريمة:
الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم
صدق الله العظيم. (1)
أما «المشكاة» التي هي كوة في الجدار، فترمز هنا إلى الحواس الخمس: البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس - هذا ما يذكره الغزالي - فنضيف إليها الحواس التي حددتها الأبحاث العلمية في هذا المجال؛ كحاسة الاتجاه التي يدرك بها الحاس في أي اتجاه يسير، حتى ولو أغمض عينيه وسد أذنيه، وكالحاسة العضلية التي يدرك بها الحاس وزن الأجسام التي توضع على جزء من جسده، فيميز بينها - على التقريب - خفة وثقلا، وهكذا بل وقد نضيف إلى هذه الحواس «الظاهرة» حواس أخرى «باطنة»، وجميع هذه الحواس هي الخطوة الأولى من أية عملية إدراكية؛ إذ هي حلقة الوصل بين الكائن الحاس وما يحيط به من أشياء ، وواضح أن النبات والحيوان يشارك الإنسان في هذه الخطوة الإدراكية الأولى؛ إذ هي التي تكفل للكائن الحي إقامة حياته بما شاء له الله سبحانه وتعالى أن يقيم؛ فالنبات وإن لم يكن له تلك الحواس التي ذكرناها للإنسان، فله وسائله التي يتحسس بها تربة الأرض ليمتص غذاءه، ويتحسس الهواء ليأخذ منه شهيقا ويرد إليه زفيرا، ويتحسس أشعة الشمس والماء ليرتوي، وهذا كله ضرب من «الإدراك» لما يحيط به، وأما الحيوان فمشاركته للإنسان في هذه المرحلة الأولى أوضح من أن يشار إليها؛ لأنه - كالإنسان - ذو بصر وسمع ... إلخ. ففي «المشكاة» إذن تتجمع المؤثرات الوافدة إلى الكائن الحي - إنسانا وغير إنسان - لتكون وسيلته إلى إدراك ما حوله. (2)
وفي المشكاة «مصباح» وقد يكون من الأوضح لنا أن نتخيل هذا المصباح شعلة النار التي تكون في السراج، والفرق الجوهري بين هذه المرحلة الثانية والمرحلة السابقة، هو أنه بينما يكون الكائن الحاس في المرحلة الأولى «مرحلة المشكاة»، على صلة مباشرة بالمؤثر الخارجي بحواسه، حتى وإن غاب عنه المؤثر الخارجي؛ فمثلا إذا رأى الرائي كرة صفراء حين تكون هناك برتقالة موضوعة أمامه، فتلك هي المرحلة المشكاوية، وأما إذا غابت عنه البرتقالة وظلت صورتها مدركة بخياله، فتلك هي المرحلة المصباحية، ومعلوم لنا أن النبات لا يشارك الإنسان في هذه الخطوة التخيلية، وقد تكون لبعض الحيوان قدرة الاحتفاظ بالصورة بعد غياب مصدرها، بدليل تعرف الحيوان على صاحبه إذا ظهر له بعد غياب. ولنلحظ أن هاتين المرحلتين: المشكاة والمصباح خاصتان بالحواس فلم نجاوزها بعد إلى «العقل»، إلا أن المرحلة الأولى منهما هي مجرد «إحساس»، في حين أن الثانية تنقلنا إلى «الإدراك الحسي». (3)
وأما «الزجاجة» التي يكون المصباح فيها «المصباح في زجاجة»، فلعلنا نذكر جميعا كيف كانت شعلة النار في السراج تظل مضطربة الحركة بفعل الهواء، ويميل لونها إلى الاحمرار مما يضعف نورها، حتى إذا ما ركبنا على السراج زجاجته، انضبطت الشعلة وسكنت ومال لونها إلى البياض، مما يزيد من نورها قوة ووضوحا، وتلك هي المرحلة التي تمثل لنا «المدرك العقلي » وكيف يتكون، وهي مرحلة ينفرد بها الإنسان وحده دون أي كائن حي آخر، ولتوضيح ما يحدث في هذه المرحلة من الإدراك «العقلي»، أقول: إن مرحلتي «الإحساس» و«الإدراك» الحسي، «ويرمز إليهما المشكاة والمصباح على التوالي»، لا تعطيان إلى الإنسان المدرك إلا صورا لأشياء فردية معينة محددة الإدراكية بمكانها وزمانها؛ فمثلا يرى الطفل في أوائل حياته شخصا معينا وشخصا آخر وشخصا ثالثا، وهلم جرا ومع مر الزمن وتعاقب الأمثلة الفردية في خبرته، يدرك أجه التشابه - مع أوجه الاختلاف - في هؤلاء الأفراد، فينتقل إلى مرحلة جديدة يدرك فيها «الإنسان» المتمثل في أولئك الأشخاص الذين كان رآهم أفرادا، وتلك المرحلة في أول «العقل» ورمزها في الآية الكريمة هو «الزجاجة». (4) «الزجاجة كأنها كوكب دري»، ولا بد هنا أن نلحظ كلمة «كأنها»؛ إذ سنبين لك أن «المدرك العقلي» الذي انتهينا إليه في المراحل الإدراكية المذكورة، وإن يكن قد استند إلى ما كانت الحواس قد جاءت به في المرحلتين الأولى والثانية، إلا أنه يختلف عنهما اختلافا كيفيا؛ إذ بينهما نراهما يكتسبان كل وجودهما من مدد خارجي، نجد «المدرك العقلي» قد تميز دونهما باعتماده على مدد داخلي منبثق من ذاته، وفي هذا الجانب يشبه «الكوكب الدري»، أي الكوكب الذي يبعث النور من طبيعته هو، ولا يستمده من مصدر آخر خارجي، كالقمر - مثلا - فهو ليس كوكبا دريا؛ لأن ضوءه مأخوذ من الشمس وكذلك الكوكب الأرضي، ومن هنا نفهم المعنى الذي تؤديه كلمة «كأنها» في قوله تعالى عن «الزجاجة» «وهي التي ترمز إلى المدرك العقلي» «كأنها» كوكب دري؛ إذ هي بأحد جانبها الآخر فهي تستقل بذاتها وتغترف العلم من صميم كيانها ولكن كيف؟ ذلك هو ما تجيب عنه المرحلة الآتية. (5) «يوقد من شجرة مباركة»؛ فالكوكب الدري برغم انبثاق ضوئه من ذاته، إلا أنه - عندما يشير إلى عملية الإدراك العقلي - لا بد له من وقود يحركه ليفعل فعله، ولنحصر انتباهنا الآن في أية عملية إدراكية يؤديها «العقل»؛ لنرى ما هو نوع الوقود الذي لا بد منه لكي يسير العقل في فاعليته وفعله. خذ مثلا بسيطا من الرياضة - والرياضة نموذج واضح للعقل وكيف يعمل - فإذا قلنا : «إن الأربعة نصف الثمانية»، فلاحظ جيدا أن هذا القول لم يستمد مضمونه من أي مصدر خارجي عنه، بل يكفينا أن ننظر في تعريف «أربعة» وفي تعريف ثمانية وفي تعريف «نصف»، وإذا بنا أمام عملية استدلالية صحيحة نبعت كلها من داخل الجملة الرياضية ذاتها؛ فكأننا قلنا: إنه إذا كانت ثمانية تعني كذا، وكانت أربعة تعني كذا، وكانت علاقة النصف تعني كذا، إذن تكون الأربعة نصف الثمانية، غير أن الذي ساعدنا على إقامة هذا الاستدلال الصحيح هو شيء من مبادئ «المنطق» وقواعده، وليست هي مبادئ وقواعد مفروضة على العقل فرضا يلوي طبيعته عن ذاتها، بل هي هي «العقل» نفسه، وكل ما في الأمر أنه يحتاج إلى من يشعل فيه الجذوة لينشط، وتلك هي «الشجرة المباركة» التي «توقد زجاجة» العقل، ومن المهم - لكي نزداد وضوحا بدور «الزجاجة» التي هي «العقل» - أن نسأل: ولماذا هي «شجرة» تلك التي توقد الزجاجة العقلية لتفعل فعلها؟ فيأتيك الجواب من طبيعة الشجرة ذاتها؛ ففي الشجرة فروع تتشابك، الفرع منها ينقسم فرعين، وكل فرع من الفرعين ينقسم بدوره فرعين وهلم جرا، ومثل ذلك الانقسام المتتابع يمثل عملية من أهم ما يميز فعل العقل، وهو ما يسمونه في علم المنطق «بالقسمة المنطقية»، وفيها كثير جدا من أصول «المنهج العلمي»، وحسبي أن أذكر شرطا واحدا جوهريا من شروط التفكير العلمي، وهو شرط الوضوح والتميز، فلكي توقن بصحة علمك عن شيء ما، يجب أن تعرف خصائصه هو ثم تعرف ما الذي لا يختص به، في الشطر الأول يتحقق لك وضوح الحقيقة الماثلة أمامك، وفي الشطر الثاني تعلم ما الذي ينبغي ألا ندخله في تلك الحقيقة الماثلة، وفي قولنا عن شيء ما: إنه كذا وليس كذا شكل من أشكال التفريع إلى فرعين، مما تستمده «زجاجة» العقل من «الشجرة الطيبة»، ولنا أن نضيف إلى خصائص أخرى للشجرة توقد بها زجاجة العقل، فنقول: «الحياة» و«النمو» و«الثمار» إشارة إلى حيوية الفاعلية العقلية ونموها، وما تثمره آخر الأمر من نتائج لا حياة لإنسان بغيرها. (6)
عندما تحدثنا عن الشجرة المباركة من حيث هي موقدة لزجاجة العقل، ونظرنا في الخصائص الشجرية التي يمكن أن تساعدنا على فهم الكيفية التي توقد الشجرة المباركة فاعلية العقل لتشتعل، كان الحديث منصبا على شجرة لم يتحدد نوعها بعد الآية الكريمة، فكل شجرة فيها حياة وفيها نمو وفيها تفريع للفروع وفيها أثمار، وفي حدود هذه الخصائص يتحقق ما يراد للعقل أن يفعله لينتج علما بالوجود، لكن الآية الكريمة بعد أن قالت عن الكوكب الدري «وهو رمز للعقل» إنه يوقد من شجرة مباركة، انتقلت بنا إلى إضافة تحدد نوعا معينا من الشجر، لنضيف تبعا لذلك مرحلة جديدة من مراحل الإدراك إذ قالت: «زيتونة لا شرقية ولا غربية»، فوجب هنا على من أراد الفهم أن ينظر في خصائص الزيتونة وما يسري فيها من «زيت»، وما إن يبدأ في النظر حتى تسعفه الآية الكريمة بالجهة التي يجب أن يتجه إليها، وهو ينظر فيما توحي به الزيتونة وزيتها فيما يتعلق بسياق الكلام، فنقول عن الزيتونة «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار»، إذن فاتجاه الباحث ينبغي أن يكون نحو قدرة الزيت على الاشتعال الذي يضيء، وهنا تستوقفنا كلمة «يكاد»؛ فالزيت المقصود «يقترب» من أن يضيء بذاته، غير مستعين بنار تأتيه من خارجه لتشعله، فإذا كانت الشجرة المباركة منظورا إليها على أنها مطلق شجرة، كانت رمزا لما تحمله فطرة الإنسان التي فطرت فيه بمشيئة خالقه، من قوانين تنظم فعل العقل لينتج من العلم ما ينتجه، فإن تلك الشجرة المباركة نفسها - بعد أن يتعين نوعها «زيتونة» - تتجه بعونها نحو مرحلة إدراكية فوق مرحلة العقل وهي مرحلة «الحدس»، «والحدس مصطلح أظن أن الإمام الغزالي هو أول من استخدمه ليدل على البصيرة التي تدرك ما تدركه إدراكا مباشرا، ولنتذكر هنا أن العقل إدراكه غير مباشر»، لقد كان العقل في إدراكه مقيدا بما يفرض عليه من معطيات؛ إذ ما على العقل إلا أن «يستدل» من المعطيات نتائجها، وبهذا تنتهي مهمة العقل لكن الحاجة إلى مزيد من «النور» لا تنتهي، فكثيرة جدا هي «الأنوار» المطلوبة ليكتمل العلم بالوجود، مما يجاوز حدود العقل المقيد بما يعطى إليه من المقدمات، فالغايات - مثلا - التي يتغياها الإنسان ليست من عمل العقل، ليبحث عن الوسائل التي بها يوصل إلى تلك الغايات، ورؤية الشاعر ورؤية الفنان لا يمليهما «عقل» بل هما لمعات مباشرة، والشوق الذي يملأ قلب المتصوف فيدفعه نحو التماس طريقه إلى الله سبحانه ليس من صنع «العقل»، ولكنه نور يقذف في قلبه وهكذا، ومعنى هذا كله أن «الكوكب الدري» «أي العقل» لم يكن نهاية الدرجات الصاعدة في طريق الإدراك نحو مزيد من «النور»، بل إن هناك درجة تأتي بعد العقل، وهي الدرجة التي ترمز إليها «الزيتونة» بزيتها الذي يكاد يضيء بذاته ولو لم تمسسه نار، وهي درجة الإدراك «الحدسي» المباشر للحق، وعلى هذا الضوء نفهم لماذا كانت الزيتونة لا شرقية ولا غربية؛ لأن مثل ذلك الإدراك الروحاني المباشر لا تقيده ظروف مكانية خاصة كما كانت الحال مع الإدراك العقلي، فهذا الإدراك العقلي - كما رأينا - يتجه بأحد جانبيه نحو ما يعطى إليه من مدركات الحس، ثم يتجه بالجانب الآخر نحو الشجرة المباركة ليستمد منها قوانين فعله فيما أعطيه، وكل هذه الروابط يتجرد منها الإدراك «الحدسي» أو «الروحاني» المباشر، الذي هو في انبثاقه شبيه بالضوء ينبثق من الزيت انبثاقا مباشرا.
لكننا مضطرون هنا إلى العودة بأنظارنا نحو كلمة «يكاد» في قوله تعالى:
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، فنشعر بما يرجح لنا أن «الزيت» يرمز إلى «الموهبة» التي يهبها الله تعالى لمن يشاء، والموهبة عند الموهوب لا تكفي وحدها، برغم أن طبيعتها «تكاد» تنطق بما وهبت لتنطق به، إلا أن فعلها على الوجه الأكمل لا يتحقق إلا بنار توقدها وتحركها، وقد تكون تلك النار وحيا يوحى إلى الموهوب، فيهديه إلى أداء ما يؤديه. (7)
إن هذه الدرجات الإدراكية المتتابعة في تصاعد من عملية الإحساس البسيط، الذي هو مجرد تأثر الحواس بما يؤثر فيها من مؤثرات كالأضواء والأصوات وغيرها، تعقبها مرحلة داخلية تجعل التخيل قادرا على أن يحتفظ بما كان قد تلقاه من تأثرات حسية حتى بعد زوال مؤثراتها، وبعد ذلك تأتي مرحلة المدركات العقلية آخذة من الحصيلة الحسية مادتها، ومستعينة بما تعينها به «الشجرة المباركة» من قوانين التعقل، ثم تأتي آخر الأمر مرحلة تجاوز نطاق المحسوس والمعقول معا، إلى ضرب من الإدراك الروحاني المباشر وهي مرحلة يندرج فيها «الإبداع» بكل ضروبه، أقول: إن هذه الدرجات المتتابعة والمتصاعدة هي التي قد يعنيها قوله تعالى:
نور على نور ، ففي كل مرحلة قدر من النور، تأتي المرحلة التي تليها لتضيف إلى نور سابقتها نورا أقوى، ولعل هذا هو أيضا ما جعل الغزالي يعنون كتابه «مشكاة الأنوار»؛ إذ هي عدة أنوار يجيء النور الواحد فيها على النور الأسبق فيشتد الوهج. (8)
بقيت ملاحظتان جديرتان بالذكر: الأولى هي أن نلتفت إلى قوله تعالى في أول الآية الكريمة:
الله نور السموات والأرض ، وإلى قوله تعالى في آخر الآية الكريمة:
والله بكل شيء عليم ، مما يرجح أن يكون «نور السموات والأرض» هو «العلم بكل شيء»، أي أن «النور» هو «العلم»، وأما النقطة الثانية التي نوجه إليها النظر فهي أن أول الآية الكريمة وآخرها معا يشيران إلى النور «الإلهي» أو العلم «الإلهي»، في حين أن كل ما أوردناه في حديثنا من مراحل الإدراك، كان يشير إلى النور أو العلم في حياة «البشر»، وهنا قد يقف قارئ ليسأل: أليس في هذا نقلة بالحديث من فلك إلى فلك، أو هو - بعبارة أصرح - خلط بين موضوع وموضوع؟ لكن الجواب عن سؤال كهذا قائم في نص الآية الكريمة ذاته في أولها وفي آخرها معا؛ ففي أولها إشارة إلى أن ما تقدمه الآية الكريمة من مراحل الإدراك، إن هو إلا «مثل» يوضح للإنسان معنى «النور» الإلهي، الذي هو نفسه «العلم» الإلهي، وفي آخرها تنبيه يقول «ويضرب الله الأمثال للناس»، فلا تناقض - إذن - ولا خلط بين ما هو «مثال» وما هو «مثل»؛ فالنور أو العلم حين يكون لله سبحانه وتعالى هو «مثال» يأتينا عنه النبأ، لكننا لا ندركه ولا نتصوره إلا من خلال «المثل» الذي يساق لنا على مستوى البشر وحياتهم كما يحيونها.
المثال الإلهي هو «النور» ويعادل ذلك أن يكون هو «العلم بكل شيء»، وأما المثل البشري فهو «التنوير» وبالتالي فهو العلم بشيء دون أشياء وأشياء، فمعنى «التنوير» هو أن يسير نحو النور سيرا يستهدف المثل الأعلى دون أن يبلغه، وهو سير تتحرك فيه إلى أمام وإلى أعلى تلك المراحل الثلاث التي رسمتها آية النور، وهي مرحلة الحس والإدراك الحسي «وهما المشكاة والمصباح»، فمرحلة الإدراك العقلي «التي هي الزجاجة أو الكوكب الدري»، ثم مرحلة أخيرة تجاوز حدود الحس والعقل معا، وأعني بها مرحلة الإدراك «الحدسي» المباشر، وإن شئت فقل عنه إنه إدراك روحاني أو إدراك بالقلب، فلا هو يتوسل بوسائل الحواس وحدها، ولا هو يعتمد على العقل وحده، وإنما هو إدراك يجاوز حدود الحس والعقل ليخترق الحجب فيرى من جوانب الحق ما لا يراه حس، ولا هو مما ينخرط في قوالب المنطق العقلي بمبادئها وقوانينها الحادة الصارمة، فإذا شئنا عبارة مختصرة تصف عملية «التنوير» قلنا إنه هو الارتفاع بالإنسان درجة درجة في استخدامه لحواسه، لتصبح له مصدرا لمعرفة دنياه، ثم الارتفاع به في استخدامه لعقله استخداما يتيح له الركون إليه، فلا يجعل من نفسه تابعا لغيره فيما هو صحيح وما هو باطل، وأخيرا الارتفاع به في قدرته على الإبداع؛ لأنها هي نفسها القدرة على أن يجاوز حدود «الواقع» إلى ما هو أسمى منه وأرفع: تراها في إيمان المؤمن، وفي لمعة الشاعر، وفي لمحة الفنان، بل إنك لتراها كذلك في رجل العلم بعد أن يجمع معلوماته الأولية عن موضوع بحثه؛ ليضعها بين يديه محاولا أن يجد لها «النظرية» التي تضمها معا تحت تفسير واحد، ففي اللحظة التي يشرق له في ذهنه «فرض» يفرضه لعله يصح في التفسير المطلوب، تلمع في ذهنه الفكرة وكأنها إلهام هبط عليه من السماء.
ولقد شهد التاريخ عصورا تميزت عما سواها بوهج «التنوير» في حياة الناس الإدراكية: من تزايد في محصول المعرفة بالعالم، ومن كشف وراء كشف للقوانين العلمية التي تجري على منوالها ظواهر الكون. ومن إرهاف البصيرة المبدعة إيمانا وأدبا وفنا، وفي كل عصر من عصور التنوير تستطيع أن ترى كيف أخذت معارف الناس تزداد على مدى فترة من الزمن تطول قرونا أو تقصر عقودا من السنين، حتى إذا ما بلغت تلك الزيادة في محصول المعرفة حدا معينا تفجرت ينابيع الإبداع.
ففي تاريخ الفكر الإسلامي لم يكد يمضي على الرسالة الدينية الجديدة قرن واحد، حتى نشطت حركة التجميع لأطراف المعارف ومعها حركة التقنين العلمي، وكان ذلك ملحوظا في علوم اللغة وفي الفقه ثم في نقل ثقافات الآخرين، فلما أن جاء القرن العاشر وامتداده في الحادي عشر «الرابع الهجري والخامس»، بلغ «التنوير» ذروته، فكانت رسائل «إخوان الصفا» بمثابة دائرة المعارف، التي هي عادة رمز يشير إلى التنوير من ناحية جمع المعلومات، وكانت الفلسفة قد بلغت ذروتها عند الفارابي وابن سينا مما يشير إلى سلطان العقل، وكان مع الفلسفة في تلك الإشارة إلى سلطان العقل حركة قوية في النقد الأدبي، وإذا قلنا «النقد الأدبي» بالنسبة إلى السلف، فكأننا قلنا إنه «العقل» بتحليلاته العلمية التي لم يكن الركون إلى أحكام «الذوق» فيها، إلا بمثابة «الحلية» الصغيرة توضع على الثوب العريض، بل إن الشعر ذاته قد غلبت عليه النظرة الحكمية التي تطل على الإنسان من أعلى لتكشف الستر عن حقيقته، وإن أبا العلا المعري وشعره لأبلغ شاهد على ذلك.
وفي التاريخ الأوروبي الحديث ما يشبه ذلك، فنحن نعلم أن القرن الثامن عشر منعوت عندهم بأنه عصر «التنوير»، فماذا كان فيه وما الذي كان فيما سبقه؟ أما ما سبقه فنهضة ثائرة وجارفة بدءا من القرن الخامس عشر، أراد بها الناس أن يحطموا قيود العصور الوسطى التي جنحت بالإنسان، نحو أن تعتقل قدراته الإدراكية في صفحات كتبها السابقون، فجاءت النهضة لتخرج الناس إلى رحاب الكون الفسيح ليواجهوا الدنيا مواجهة مباشرة، فكانت الكشوف الجغرافية في البحر والبر، وكانت جولات المناظير الفلكية في السدم والنجوم والكواكب، وكان تغلغل الفكر الفلسفي في خفايا العقل، ليرى حقيقة ذلك العقل وكيف يعمل وما حدوده؟ وكان وكانت مما ازدادت به معارف الناس، حتى إذا ما جاء القرن السابع عشر ويسمونه «عصر العقل»، وحسبك أنه عصر ديكارت والديكارتيين، لكنه عقل اقتصر عندئذ على الصفوة، فجاء القرن الثامن عشر ليكون هو عصر «التنوير»، الذي يشد جمهور الناس شدا ليدخلوا مع الصفوة في دائرة العقل، وعلى رأس «التنوير» كان فولتير، وكانت المعارف الموسوعية ثم كان هناك في ذروة الجبل مع السحاب «عمانوئيل كانط» فيلسوف العصور الحديثة فيما قبل عصرنا القائم، الذي التفت بالعلم لفتة جديدة، فالتفتت معه الفلسفة المعاصرة لتسايره في اتجاه واحد، وللفيلسوف كانط مقالة يحدد فيها معنى «التنوير»، ترجمها إلى العربية صديقي الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي، ورد فيها تعريف «التنوير» على الوجه التالي: «التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام العقل.»
لقد كان لي في مصاحبتي للآية الكريمة آية النور خير وبركة، فعلى ضياء أنوارها رأيت ما لم أكن رأيته بكل هذا الوضوح، فيما قد يعنيه: «التنوير» في حياة البشر.
عن العقل ونضجه «1»
جاءتني الرسالة الآتية بغير توقيع وبغير تاريخ:
قرأت المقال الذي كتبته في جريدة الأهرام الصادرة في يوم 87/2/10 تحت عنوان «الكتيبة الخرساء»، كما اعتدت أن أقرأ لك منذ أن كان لي حظ الاتصال بك عبر الكلمة، في أربعينيات هذا القرن، في كلية الآداب بجامعة القاهرة «فؤاد الأول»، في ذلك الوقت الذي نعمنا فيه برواد عظام: طه حسين، ومصطفى عبد الرازق، وشفيق غربال، والعبادي، ومحمد عوض، وأمين الخولي، وغيرهم، رحم الله من توفي منهم وأمد في عمر من بقي يروي بعض ظمئنا إلى الكلمة الصادقة والفكرة المستنيرة، أخشى أن تمسكني الذكريات عن التحدث عما قصدت التحدث إليك عنه.
أقول: قرأت المقال أكثر من مرة، كما اعتدت أن أقرا هذه المقالات حرصا على ألا تفوتني فكرة دون أن أستوعبها تماما، ووقفت كثيرا عند السطور التي جاءت في ذيل العمود الأول من المقال، ووقفت كثيرا وأكثر عن جملة بذاتها من خمس كلمات تقول: «فأما وقد نضج العقل الإنساني»، وتساءلت ما المقصود بنضج العقل الإنساني؟ ومتى يكون العقل الإنساني غير ناضج؟ ومتى يمكننا الحكم بثقة على أن العقل الإنساني قد نضج، أو أنه لم ينضج بعد؟ وهل المقصود بالعقل الإنساني هنا، عقل إنسان ما، أم عقل مجموعة من الناس، أم عقل البشر على الإطلاق؟ في مرحلة ما من رحلة البشرية، وقلت لنفسي: ما هي حالة النضج هذه؟ وهنا تمسحت بنهجك فضربت المثل، محاولا أن أشرح لنفسي ربما أفهم إذا قلنا إن البذرة قد استوت شجرة أو حتى شجيرة، فإننا نحكم بنضجها تماما إذا وصلت إلى حد ما من الاكتمال النباتي، بحيث أخذت شكلها المتعارف عليه، ولم يعد لها بعد ذلك نضج، ربما تطول بعض الشيء، أو تغلظ أعوادها، أو تكثر أوراقها أو تقل، ولكن شكلها الناضج وفسيولوجيتها قد وصلا إلى نقطة ليس بعدها نضج، وبالمثل إذا قلنا إن ثمرة البرتقال قد نضجت فإننا نعني مرورها في مراحل نباتية حتى تستوي في الشكل المعروف الذي يؤهلها للأكل أو للعصير أو غيره، بحيث إذا تركت هذه الثمرة على عودها بعد نضجها، أو قطعت ولم تستخدم، فسدت، وقد حدث الفساد لأن الثمرة قد بلغت حد النضج الذي ليس بعده نضج، فهل هذا ما يحدث بالنسبة للعقل الإنساني؟ بمعنى أنه نضج في مرحلة ما بحيث لم يعد له بعدها نضج؟
وإذا كان العقل الإنساني قد نضج في مرحلة ما من مراحل البشرية، ولتكن المرحلة التي أشرتم إليها في مقالكم هذا، فهل معنى هذا أن العقل الإنساني لم يكن قد نضج بعد فيما سبق من المراحل التاريخية؟ لم يكن العقل الإنساني الذي أبدع الحضارة اليونانية ناضجا، ولا العقل الإنساني الذي أبدع الحضارة المصرية القديمة، بل لم يكن العقل الإنساني للإنسان البدائي ناضجا، وقد واجه مشكلاته اليومية من ملبس ومأكل وأمن ودفاع ... إلخ، بل دلتنا الحفريات على أنه حتى هذا الإنسان قد أبدع الكثير من الفنون والآداب.
وإذا قسنا نضج العقل الإنساني على مستوى الفرد، فهل يكون كلامنا منطقيا، مثلا إذا قلنا إن عقل الطفل لم ينضج بعد؛ لأنه لم يزل طفلا، مع أن الطفل العادي يستخدم عقله - في حدود عالمه - الاستخدام الواعي، وهكذا يفعل وهو شاب ثم وهو رجل أو شيخ أو كهل.
ثم ما هي معايير النضج في رأيكم؟ هل هي الوعي بمواجهة الحياة بما تقتضيه من فكر ومن علم ومن دين؟ أم هي ماذا؟ وهل نقول إن سقراط - مثلا - أو أرسطو لم يكن عقله قد نضج بعد؛ لأنه لم يكن على علم بالأمور السماوية كما نعرفها نحن الآن؟ هل تقصد - إذن - بنضج العقل الإنساني حالة بذاتها، كأن يكون ناضجا بالنسبة لنوع من المعرفة وغير ناضج بالنسبة لأمور أخرى؟ وهل معنى هذا أننا نستطيع القول بأن العقل الإنساني بكل ما وصل إليه من علم طبيعي لم ينضج بعد بالنسبة لهذه الأمور؛ لأن العقل لا يزال يأتي في كل يوم بالجديد في هذ الأمور وحتى في الأمور الدينية، فإن العقل الإنساني ما زال حتى الآن، وسوف يظل غير مدرك بقناعة كافية لبعض هذه الأمور، وما زال الفكر يأتي في كل يوم بما يعين على فهم أو إدراك بعض ما غاب عنه في هذه الأمور، بصرف النظر عن تسليم العقل الإنساني بالمسائل الكلية؛ كالخلق والخالق والحياة الدنيا والآخرة ... إلخ.
سيدي الأستاذ الفاضل، ماذا تعني هذه الكلمات الخمس بالتحديد؟ ما مفهوم «نضج العقل الإنساني» كما تعبر عنه هذه الكلمات؟ أصدقك القول بأنني أود أن أفهم وأقتنع، فهذه ليست مسألة بسيطة فهي تحمل الكثير من المفاهيم إذا توصلنا إلى إدراك معناها بالتحديد.
وإني إذ أرجو أن تروي بعض ظمئي، أرجو أن تقبل اعتذاري الشديد، وأن تشفع لي عندك تحياتي واحترامي وتمنياتي مع الكثير من قرائك بالعمر الطويل والصحة الموفورة، وأعتذر عن ذكر اسمي حتى لا تعرفني، ويكون هذا حرجا لأحدنا أو كلينا» انتهت الرسالة.
تسلمت هذه الرسالة في التاسع والعشرين من شهر مارس 1988م، ولا أدري متى كتبها مرسلها الفاضل؛ وذلك لأنها تعليق على عبارة وردت في مقالتي التي نشرت في اليوم العاشر من شهر فبراير سنة 1987م، أي أنه قد مضى على نشرها أربعة عشر شهرا؟ وأقول ذلك خشية أن تكون رسالة الكاتب الفاضل قد أرسلت منذ ما يقرب من ذلك التاريخ البعيد، فيظن أني قد أهملتها عامدا أو غير عامد، فهي رسالة قد أثارت اهتمامي، حتى لقد أخذت في الرد عليها فور فراغي من قراءتها، وكان لا بد لي من استرجاع السياق الذي أوردت فيه الجملة، أو «الكلمات الخمس»، كما يعبر صاحب الرسالة على الإشارة إليها بهذه الصفة، والتي هي «فأما وقد نضج العقل الإنساني»، فعدت إلى تلك المقالة، وكان عنوانها «الكتيبة الخرساء» فوجدت سياق الحديث قائما على أن الرسالات الدينية كانت - قبل نزول الإسلام - هداية للإنسان في حل ما يكون قد تراكم في حياته من مشكلات، دون إشارة منها إلى توجيه الإنسان فيما بعد إلى الاعتماد على عقله فيما قد يستحدث في حياته من صعاب ونكسات، «فأما وقد نضج العقل الإنساني» (وهي الكلمات الخمس التي استوقفت الكاتب الفاضل) عندما جاء الإسلام، فقد نزل الوحي بما يحض الإنسان على إعمال عقله، إذا ما استعصت مشكلة لم يرد فيها حكم القرآن الكريم، أو في توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هنا نفهم لماذا كانت رسالة الإسلام آخر رسالات السماء إلى الإنسان، في مثل هذا السياق وردت «الكلمات الخمس»، وكان الحديث كله تعليقا على قول أبي العلاء المعري إنه «لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمساء».
فأخذ الكاتب الفاضل يحاول الفهم لما هو مقصود بنضج العقل الإنساني، فضرب لنفسه مثلا يستعين به على الفهم، شجرة تنضج ثمارها، ثم زاد الصورة تخصيصا فجعلها شجرة برتقال، فهل نضج البرتقالة يوضح لنا المعنى المقصود بقولنا «نضج العقل الإنساني»؟ ثم أخذ بعد ذلك يطرح السؤال بعد السؤال، ليؤكد بأسئلته غموض قولنا «أما وقد نضج العقل الإنساني» في المرحلة التاريخية التي كانت الإشارة موجهة إليها، وأعني المرحلة التي شهدت نزول الإسلام، فسأل الكاتب الفاضل: ألم يكن العقل قد نضج في بناة الحضارة اليونانية القديمة؟ أكان سقراط وأرسطو ينقصهما نضج العقل؟ ألم يكن العقل الإنساني ناضجا عند بناة الحضارة المصرية القديمة؟ بل ألم يكن العقل قد نضج عند الإنسان البدائي وهو يعد لنفسه مقومات حياته من مأكل وملبس ومأوى؟ ثم ألا يجوز القول عن الطفل إنه ذو عقل ناضج بالنسبة إلى عالم طفولته ومقتضياتها؟
ومنذ ضرب الكاتب الفاضل مثل البرتقالة ونضجها، ليقيس عليها العقل الإنساني ونضجه، أدركت أن القضية كلها قد اكتنفها غموض تستحيل معه الهداية إلى جادة الطريق، فليس الأمر أمر كلمة بذاتها، نتعقبها أينما وردت، ونحن على ظن بأنها ذات معنى واحد يتكرر معها كلما تكرر ظهورها، فما هكذا تفهم مفردات اللغة؛ لأن المفردة الواحدة مرهونة بسياقها، وهذا اللبس في معاني الألفاظ هو الذي حتم على رجال العلوم الدقيقة كالفيزياء، والكيمياء، أن يقيموا لعلومهم مصطلحاتها، حتى يكون للمصطلح الواحد معنى واحد، وللمعنى الواحد مصطلح واحد، فالنضج منسوبا إلى الشجرة أو إلى ثمرتها، يختلف في معناه اختلافا بعيدا عن النضج منسوبا إلى العقل الإنساني، وذلك في أمرين أساسيين، هما: «النمو» و«التربية» (أو إن شئت فقل «التدريب»)، فشجرة البرتقال، أو ثمرتها، لو فرضنا لها بقاء يمتد ألف عام، فهي هي الشجرة المعينة ذات الخصائص المعينة، وثمرتها البرتقالة هي هي بكل صفاتها، وطبعا لا يدخل في حسابنا هنا أن يجيء عالم للنبات، فيهجن شجرة مختلفة الخصائص هي وثمرتها؛ لأننا عندئذ نكون أمام «عقل إنساني» وما يستطيع فعله في دنيا النبات، وأما «العقل الإنساني» فهو إذا ما بلغ نضجه (وسنشرج المعنى بعد قليل)، فهو قابل بعد ذلك للنمو في طريق النضج نموا لا يقف عند حد محتوم عليه، ثم هو كذلك قابل لأن يسترشد بعملية تعليمية أو تربوية، ترهف طبيعته لتبلغ من درجات النضج ما لم تكن لتبلغه لو تركت على سجيتها لا يعلمها أحد ولا يتولاها أحد بتربية وتنمية، ولقد ذكر لنا الكاتب الفاضل نفسه في رسالته، أن ثمرة البرتقال إذا ما اكتمل نضجها، فسواء بعد ذلك أن تسقط على الأرض أم يقطفها أحد من فرعها، فإنها تصاب بالفساد، هكذا، قال وقد أصاب فيما قال، لكنه لم يذكر إلى جانب تلك الحقيقة عن النبات، حقيقة أخرى تقابلها عن العقل الإنساني، وهي أنه إذا ما بلغ درجة من درجات النضج، فإنه لا يتجه بعدها إلى الفساد بسببها، وأقول «درجة» من درجات النضج؛ لأن النضج لا يتكامل للعقل الإنساني أبدا كما قد يتكامل للشجرة وثمارها، وتلك حقيقة أظنها تكفي وحدها للتفرقة - إذا ما تحدثنا عن النضج - بين العقل الإنساني وأي كائن آخر من سائر الأحياء.
وننتقل الآن إلى سؤال الكاتب عن معنى الكلمات الخمس - على حد قوله - التي رآها واردة في مقالة «الكتيبة الخرساء» وهي: «فأما وقد نضج العقل الإنساني» ما معناها، وماذا يقصد «بالنضج» هنا وكيف يمكن أن نتجاهل أن نضج العقل الإنساني كان قد توافر للإنسان البدائي، وللطفل، ودع عنك حضارات سبقت؛ كالحضارة المصرية والحضارة اليونانية. وهنا لا بد أن نذكر الكاتب الفاضل بنقطة هامة هي مفتاح الجواب الذي سنقدمه عن تساؤلاته كلها، ألا وهي أن مجال القول، كلما كان الحديث حديثا عن الدين هو «العقيدة» من جهة، و«ضوابط السلوك» التي جاءت مع العقيدة من جهة أخرى، ولقد كانت الكلمات الخمس التي هي موضع تساؤلاته، وردت في مجال حديثنا عن الإسلام: بأي شيء يهتدي المسلمون بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام إذا ما أشكل عليهم أمر من أمور دينهم، وهنا لجأنا إلى بيتين من شعر أبي العلاء المعري، مؤداهما أن الذين أجابوا بقولهم إن ملاذ المسلمين عندئذ إنما هو «إمام معصوم»، يوحى إليه بما يهتدي به المسلمون كلما استعصى عليهم أمر، قد جانبوا الصواب؛ إذ الصواب هو أن «العقل الإنساني» وحده مرشد الإنسان في حياته، أقول مرة أخرى: لقد كان في مجال الحديث هو عن الدين، وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن ينحصر انتباهنا في أمرين، هما الأمران اللذان يجيء الدين من أجلهما: الأول هو «العقيدة» والثاني هو «القيم» التي يريد ذلك الدين للمؤمنين به أن يلتزموها في حياتهم، فبها يعرف المؤمن كيف تكون الصلة بينه وبين ربه، والصلة بينه وبين الآخرين، والصلة بينه وبين نفسه، وبالنسبة إلى الدين الإسلامي، فإن «العقيدة» مدارها «التوحيد» و«القيم» الضابطة للسلوك، يمكن الرجوع فيها إلى «الأصلين»: القرآن الكريم، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا ما أشكل أمر لم يرد عنه نص في هذين الأصلين فمرجع المسلم فيه هو «العقل»، ولا فرق بين أن نقول إنه «العقل» أو أن نقول إنه إجماع الرأي عند الثقات، فإذا كان الكاتب الفاضل قد وقف عند الكلمات الخمس متسائلا ماذا يعني «النضج العقلي» في تلك الحالة الخاصة؟ كان الجواب هو أنه القدرة على تمثيل المبادئ التي نزل بها دين الإسلام، والتزامها في استدلالاته العقلية بعد ذلك كلما أراد لنفسه هداية في دنيا السلوك، فمبدأ «التوحيد» بمعناه المطلق لم يكن ليلقى الإيمان في عصر سابق، لم يكن للناس فيه من نضج العقل ما يمكنهم من تصوره وتمثله، والمبدأ الذي يوجب أن يكون الدين للناس أجمعين، فلا ينحصر في فئة معينة من الناس لم يستطع بعض السابقين على الإسلام أن يتمثلوه، والمبدأ الذي يجعل المساواة بين أفراد الناس مطلقة لا تجعل معيارا لها إلا صلة الإنسان بربه، فلا درجة الغنى ولا النسب والحسب، ولا السلطان ولا العرق ولا اللون ولا أي شيء من هذا القبيل يجوز له أن يتخذ أساسا للتفرقة بين إنسان وإنسان، مثل هذا المبدأ كان يتعذر تصوره لو لم يكن العقل الإنساني قد بلغ درجة من النضج تمكنه من ذلك التصور.
ومرة ثالثة استأذن الكاتب الفاضل في تذكيره بأن مجال القول هو الدين بجانبيه: العقيدة وضوابط السلوك، وليس هو العلم، والفن، حتى يجوز له أن يعترض بحضارات المصريين القدماء، واليونان القدماء وغيرهما من أمثلة ساقها في تساؤلاته، وأضرب لك مثلا بما ورد في «سورة الفجر» من القرآن الكريم، ففيها سبقت أمثلة من ثلاث حضارات قديمة برعت في الفنون: فقوم «عاد» قد تفوقوا في فن العمارة تفوقا مكنهم من بناء مدينتهم «إرم» على طراز فريد، وهو أن يقيموا مشيداتهم على عمد، حتى ليشاهد القادم من بعيد ما يظنه غابة من أعمدة حجرية، وقبيلة «ثمود» التي سكنت واديا من الصخر الجدب، تفوقت في نحت التماثيل من صخر واديهم، وشعب مصر أيام فرعون، والمقصود هو فرعون الفترة التي ظهر فيها موسى عليه السلام؛ فقد برع في إقامة المسلات وغيرها من نواتج الفن التي تعلو إلى السماء وكأنها الأوتاد، فلو كانت البراعة في الفن وحدها هي التي تميز الشعوب، لتحتم على الحضارات الثلاث المذكورة أن تدوم، ولكنها فنيت وكان مرد فنائها هو أنها لم تستطع أن تقيم بناء الفرد وبناء المجتمع على مبادئ كالتكافل الاجتماعي والتعاطف والتعاون والمساواة.
وأحسب أنه قد حان الحين، بعد الذي قدمناه أن نفصل القول بعض الشيء في تحديد الصفات الأساسية التي منها يتكون ما نسميه «بالنضج العقلي»، إذا ما كان مجال القول هو حياة الإنسان العملية وما ينبغي لها من ضوابط، وربما كان أوضح مدخل إلى موضوعنا هذا، هو أن نوجه النظر الفاحص إلى ما نسميه «بالرشد»، عندما نقوله عن شاب إنه قد «بلغ سن الرشد»، وعندئذ ترفع عنه الوصاية، ويصبح له أمام الناس وأمام القانون حقوق لم تكن قبل تلك السن، فما هي أهم الصفات التي تتحقق في شاب بلغ سن الرشد، ولم تكن قد تحققت له، لا في مراهقته ولا في طفولته؟
أولها قدرة الإنسان على إدراك «الواقع» إدراكا يمكنه من إقامة أحكامه على أساسه، وهي صفة لا تتحقق لطفل ولا لمراهق، لا عن ضعف في الطفل وخلل في المراهق، كلا فنحن نفترض فيهما غاية الصحة والعافية والسواء، لكنها «الفطرة» وأحكامها، فللطفل طبيعة الطفولة، وللمراهق طبيعة المراهقة، وكلتا المرحلتين فيها حدة الخيال التي قد يختلط عندها واقع بأوهام، على اختلاف الصورة التي يأتي عليها ذلك الخلط، بين الطفولة والمراهقة، ويترتب على ذلك في كلتا المرحلتين - بصورتين مختلفتين - عجز في تقدير ما يستطيعه أحدهم وما لا يستطيعه، فقد يمد الطفل ذراعيه ليمسك بالقمر ، وقد يخيل للمراهق أنه يستطيع إذا أراد أن يزحزح الجبل، وبلوغ «الرشد» هو الدخول في مرحلة ثالثة تتحدد فيها معالم الأشياء في عالم الواقع، كما تتضح شيئا فشيئا للشباب الراشد حدود قدراته.
وثانية صفات «النضج العقلي» هي القدرة على استخلاص المعاني «المجردة» من ذلك الواقع الذي عرفناه، فمن الواضح أن «الواقع» لا يكون إلا في أشياء مجسمة أو مشخصة أو محددة فيجسده في مكان، أو حادثة في لحظة معينة من زمان أو أن يجتمع لها حدودية المكان والزمان معا، هكذا يكون «الواقع» فيتلقى الناضج ذلك الواقع بمحدوديته، وإذا كان ذلك الناضج ذا قدرة عقلية أقوى، استخلص مما قد صادفه من وقائع أفكارا نظرية كما يستخلص العلماء - مثلا - قوانين العلم لظاهرة من ظواهر الطبيعة شهدوها وحللوها، وربما كذلك أجروا عليها تجارب معملية إذا كانت مما يخضع لمثل تلك التجارب وكثيرة جدا هي الأفكار «المجردة» التي يستخلصها الإنسان من واقع الكائنات والمعاملات، وماذا تكون الأفكار المحورية الكبرى التي نقيمها في حياتنا كالمشاعل من أمثال حرية، ديمقراطية، عدالة ... إلخ، إذا لم تكن مجردات استخلصناها من خبرة الحياة في نعيمها وشقائها، ومن الذي يستخلصها لنا؟ إنهم هم من بلغوا سن «النضج العقلي» ما لم يبلغه عامة الناس، إلا أن هذه العامة لا تلبث أن ترى بعقلها إذا نضج تلك الأفكار عند ذكرها، وإني لأرجو الكاتب الفاضل أن يقارن بين خيال الطفل حين يتصور العصا جوادا، وخيال المراهق عندما يتصور أنه مستطيع أن يقهر العدو بقنابل من الكلمات، أن يقارن ذلك بالفكرة المجردة في مرحلة النضج العقلي؛ إذ تكون في هذه الحالة بمثابة خريطة نظرية مستمدة مما قد وقع بالفعل في دنيا الواقع، لتصلح بعد ذلك وسيلة هداية فيما لم يقع بعد، ولكنه محتمل الوقوع، فذلك هو جانب من أهم الجوانب في حالة «النضج العقلي»، ولو كان هذا المقام يتسع للشرح المفصل، لاستخرجنا من صفة «التفكير المجرد» كوامنها المهمة، وكوامنها كثيرة، فمنها القدرة على إقامة «العلوم النظرية» كلها، ولست أعني بهذا الاسم ما قد درجنا عليه خطأ، من إطلاق اسم «العلوم النظرية» على الدراسات الأدبية التي ليس لها تطبيق على الواقع، بل نعني العلوم التي قوامها «نظريات» علمية؛ كالفيزياء والكيمياء وعلوم النبات والحيوان وغيرها وغيرها، وليعلم القارئ أن العلم يبدأ بمرحلة «التاريخ الطبيعي»، أي أنه يبدأ وصفا لما هو واقع ثم ينتقل إلى المرحلة الأعلى، وهي أن يكون «علما نظريا»، أي أن يجاوز مرحلة «الوصف» للواقع إلى مرحلة يصاغ فيها قانون نظري يغلب أن يصاغ صيغة رياضية، ولا أترك هذه المناسبة دون أن أذكر الكاتب الفاضل، بأن حضارة المصريين القدماء قد عرفت الأشياء معرفة «الوصف» والممارسة، وإن حضارة اليونان وإن تكن قد انتقلت إلى مرحلة «النظرية»، إلا أنها قد اقتصرت في ذلك على مجال الفكر الرياضي، ولم تستطع تحقيقه في العلوم الطبيعية بالصورة التي تحقق بها في العصر الحديث، وأعني الصورة الرياضية للقانون الطبيعي، كما نرى - مثلا - في قانون الجاذبية وغيره؛ فقد كان اليونان إذا ما صاغوا فكرا نظريا عن الطبيعة صاغوه في عبارات من حضارة المصريين وحضارة اليونان، نعم كان قد بلغ حدا من النضج، لكن عملية النضج بالنسبة إلى العقل الإنساني مستمرة والصعود دون أن يكون لها حد يحتم عليها الوقوف عنده.
وثالثة الصفات التي تتسم بها حالة «النضج العقلي» تقدير النسب الصحيحة بين الأشياء من حيث كمياتها وقيمتها بالقياس إلى غيرها حتى لا يصغر الكبير في أعيننا ولا يكبر الصغير، ولست بحاجة إلى التدليل على أهمية هذا الجانب في الإنسان الناضج عقلا، لكثرة ما نراه حولنا من فقدان القدرة على ضبط هذا التناسب حتى لترتفع التوافه أحيانا على حساب ما هو أهم وأخطر، إنه تناسب لا يستطيع ضبطه طفل ولا مراهق، كما لا تستطيع ضبطه شعوب في حالتها المبكرة من مراحل النمو، وقديما صور أفلاطون صورة تقرب لنا مثل هذا الضبط في النسب، فبعد أن أوضح أن طبيعة الإنسان مؤلفة من غرائز شهوانية، ومن عواطف، ومن عقل، رسم العلاقة بين هذه الجوانب الثلاثة في هيئة عربة يجرها جوادان جموحان، ومهمة السائق أن يمسك بلجام الجوادين حتى تنضبط خطواتهما في انسجام يضمن للعربة مسيرا ثابتا مستقيما؛ فأما السائق فهو «العقل » وأما الجوادان فهما العواطف والشهوات، وهكذا يكون العقل في ضبطه للأهواء على اختلافها، حتى لا يضل بها الإنسان في متاهات لا تحقق له الأهداف البعيدة والقريبة لحياته، وإن القدرة على تحديد تلك الأهداف تحديدا واضحا لهو بدوره صفة من أهم ما يمتاز به العقل الناضج.
ورابعة الصفات التي يتحقق بها نضج العقل الإنساني قدرة على تحليل الأفكار، وخصوصا ما هو مؤثر وفعال منها في حياة الإنسان تحليلا لا يراد به فقط أن يكون الإنسان على علم تفصيلي بمعنى الفكرة المعينة، التي يستخدمها نبراسا لحياته ودستورا يسلك على أساسه، بل يراد بها كذلك ألا تقع في ذلك الخطأ الخطير الذي يميل بصاحبه إلى الحكم على موقف معين بأحد ضدين، فإما هو ذلك الضد منهما وإما هو الضد الآخر، متجاهلا درجات الطيف التي تملأ الفجوة بين الضدين، فلا وسط عند أصحاب هذا التفكير «المتطرف»، أي التفكير الذي لا يرى إلا أن يكون الأمر إما على هذا الطرف من التضاد وإما على ذلك الطرف، أقول إنه لا وسط عند هؤلاء بين جمال وقبح، بين صواب وخطأ، بين كريم وبخيل، بين عالم وجاهل، بين صديق وعدو، بين غني وفقير ... وهكذا في حين أن كل هذه الأضداد تمثل الأطراف القصوى التي قد لا تكون لها وجود في الواقع؛ لأنها أقرب إلى المثل العليا، التي يسار إليها ولكن لا يوصل لها، وكل ما في مستطاع البشر هو أن يتجه في سيره نحو الأمثل عن الطرفين، وعلى أساس هذه التدرجات الوسطى، يكون الحكم العقلي الناضج، وهل يفوتنا هنا أن نذكر ذلك المثل الرائع الذي قدمه للناس واصل بن عطاء، حين ألقى على الحلقة الدراسية التي تحلقت في المسجد حول إمامها البصري، وكان واصل بن عطاء أحد الحاضرين، وكان السؤال الذي طرح عليهم هو سؤال عن الحكم على من كانوا سببا في إراقة دماء المسلمين في موقعة الخلاف بين علي كرم الله وجهه ومعاوية، أيحكم عليهم بالإيمان أم بالكفر، فأجاب واصل بن عطاء بما معناه أن الحكم إنما يكون وسطا بين الطرفين، أو - بعبارة واصل بن عطاء - أن الحكم الصحيح في هذه الحالة «يقع في منزلة بين المنزلتين»، فمن شارك في سفك الدماء في تلك المعركة، لا هو مؤمن كل الإيمان، ولا هو كافر كل الكفر، بل هو «مسلم عاص»، ومثل هذا التنبه للدرجات الوسطى بين الأضداد علامة على النضج العقلي.
ترى هل أوضحت شيئا من المعنى المقصود بتلك الكلمات الخمس، التي أوردتها في السياق الذي أسلفت ذكره؟ أرجو ذلك، ومني للكاتب الفاضل تحية وتقدير.
عن العقل ونضجه «2»
كان «أرثر كيستلر» قبيل وفاته منذ بضع سنوات، قد شغل نفسه بالأحداث الغريبة التي تقع لكل إنسان في حياته ولا يدري كيف يفسر حدوثها؛ لأنها تأتي وكأنها مدبرة بفعل فاعل، إلا أنه لا فاعل هناك يستطيع من وقع له الحادث أن يرد إليه حدوثه، والناس بعد ذلك صنفان: صنف منهما يلجأ في تفسير ما حدث إلى فعل «المصادفات»، وصنف آخر يبحث لغرائب الحوادث عن فاعل خفي يرى نتائج فعله ولا يراه، فماذا يفسر أن يخطر ببالك شخص معين لم تكن قد رأيته ولا سمعت منه أو عنه لمدة ربما طالت عشرات السنين، ثم يفاجئك بمكالمة هاتفية أو بخطاب تجده في صندوق البريد، أو ترى اسمه مذكورا في الصحف؟ وبماذا تفسر أن تحاول تذكر شيء كنت حفظته، كبيت من الشعر أو قول معين قاله قائل عظيم أو غير ذلك، لكن الذاكرة لا تسعفك مهما أجهدتها، ثم يحدث أن تنصرف عن ذلك كله، إلى موضوع آخر تطالع عنه ما تطالع، وإذا بالشيء الذي أخفقت الذاكرة في أن تقدمه إليك وارد أمام عينيك في الصفحة التي تطالعها.
وكثيرة جدا هي هذه الحوادث الغريبة، مما حدا بأرثر كيستلر - وكان في طليعة الطليعة من رجال الفكر في عصرنا هذا - أن يتجه إلى أمثال تلك الغرائب في حياتنا بكل جهده، وأذكر في هذا الصدد أنه أعلن في الصحف الإنجليزية عن رغبته في أن يرسل إليه كل من صادفته في حياته أحداث كهذه - أن يرسل إليه تفصيلاتها فجاءته الرسائل تملأ الزكائب (كما قرأت ما كتبه هو نفسه يومئذ عن ذلك)، ولست أعلم إن كان قد استطاع أن يجد ما يقوله على سبيل التعليل لتلك الغرائب، تعليلا يقرب من دقة العلم، أم أن المنية أسرعت إليه فبقيت الرسائل في زكائبها؛ وذلك لأني قرأت عن وفاته بعد ذلك بقليل، ومع ذلك فلم يكن الأمر متروكا لاجتهادات المفكرين، بل إننا لنعلم أن علماء النفس قد تناولوا الموضوع تناولا علميا، وجعلوه فرعا جديدا من فروع علم النفس، وأقيمت له كراسي الأستاذية في الجامعات، ربما لا يزيد على أصابع يد واحدة في إنجلترا والولايات المتحدة مجتمعين، ويشهد كاتب هذه السطور عن نفسه بأن أمثال تلك الغرائب كثيرا ما تقع له متفاوتة في درجة غرابتها، لكنه في جميع الحالات يحيلها إلى فعل «المصادفات»، إلا أنه في كل حالة منها يشعر بشيء من القلق الداخلي؛ إذ يشعر بأن إحالة التفسير إلى «المصادفات»، قد يكون فيه شيء من التناقض؛ لأنه إذا صلحت المصادفة أن تكون تعليلا معقولا، إذن فالمصادفة لم تعد مصادفة، وفي ذلك ما فيه من تناقض واضح، ومع ذلك فهو - أعني كاتب هذه السطور - سرعان ما يترك الأمر ليمضي دون أن يقف عنده وقفة يستحقها، ولقد شاءت لي هذه «المصادفات» المحيرة أن أكون ذات يوم بعيد، عضوا في لجنة امتحان الماجستير لرسالة علمية تقدم بها صديقي الأستاذ محمود أمين العالم، ولعلها أهم وأشمل وأدق ما صادفته مكتوبا عن المصادفة.
والذي دعاني إلى كتابة ما كتبته في الأسطر السابقة، هو ما رأيته ماثلا بين يدي من خطوط تلاقت، وكان الظن أنها أبعد ما تكون عن أن تتلاقى، فتلك الرسالة التي جاءتني تسأل عما قصدت إليه، عندما قلت في سياق حديث عن العقل وعن كون الإسلام آخر الرسالات السماوية، إن العقل الإنساني كان قد نضج بحيث تهيأ لقبول مبادئ لم يستطع الإنسان في ظروف سابقة أن يتمثلها «أما وقد نضج العقل الإنساني»، فقد حض القرآن الكريم الإنسان على إعمال عقله، ومن ثم فهو قادر - إذا اجتهد - على الاهتداء بعقله إلى حل المشكلات التي تستحدث في حياته، ولا يكون منصوصا عليها بحكم معين في الكتاب الكريم أو السنة الشريفة، وأجبت عن سؤال صاحب الرسالة بما أجبت به في الحديث السابق، لكني شعرت أن بقية من الإجابة ما زالت باقية في نفسي تريد الخروج، فأخذت أفكر لها في طريق تلتمسه لتجد نفسها مسطورة على ورق، وهنا حانت من البصر التفاتة إلى سطح مكتبي لأرى كتابا حديث الظهور عنوانه «عبد الرزاق السنهوري، أوراقه الشخصية»، إعداد الدكتورة نادية السنهوري، والدكتور توفيق الشاوي، فانفتح أمامي فجأة أفق فسيح، وقبل أن أدير غلاف الكتاب عادت بي الذاكرة إلى أول يوم من أوائل سنة 1947م؛ إذ كنت في لندن وسمعت أن وفدا جاء من مصر ليكون مع وفود الأقطار العربية في لقاء سياسي عن فلسطين مع وزير خارجية بريطانيا عندئذ وهو «أرنست بيفن»، وكان الوفد المصري برئاسة الدكتور عبد الرزاق السنهوري وكان الأستاذ أحمد أمين أحد أعضائه، فذهبت إلى حيث تقيم الوفود لأسلم على المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهناك وجدته جالسا في غرفة استقبال خاصة مع المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الذي لم أكن قط رأيته قبل ذاك وجها لوجه، وإن كنت بالطبع قد عرفت عنه مما يكتب ويقال كثيرا وأكثر من الكثير؛ لأنه رجل ملأ الأسماع بأطيب ما يقال عن رجل بلغ الذروة في ميدان تخصصه نظرا وتطبيقا، ولكن «ليس راء كمن سمع»؛ فلقاء الرجل لقاء مباشرا يعطيك ما لا يعطيه سماعك عنه، قدمني إليه الأستاذ أحمد أمين، ولم يستغرق اللقاء بعض الساعة حتى انطبعت في نفسي عنه صورة قوية، همست لنفسي عنها آنئذ قائلا: «إن هذا الرجل عقل تجسد في إنسان.» وهي عبارة تصدق كذلك على الأستاذ أحمد أمين، فلا عجب أن رأيتهما معا.
وعدت إلى الكتاب الذي بين يدي «عبد الرزاق السنهوري: أوراقه الشخصية»، فقرأت أول ما قرأت مقدمتين كتبت إحداهما د . نادية السنهوري، وكتب الأخرى د. توفيق الشاوي؛ فأما المقدمة الأولى فتقطر حنانا وحنينا من ابنة تنشر أوراقا لأبيها ، وأما المقدمة الثانية ففيها تحليل وإيضاح عرفت مما ورد فيها، أن الدكتور السنهوري لم يكتب هذه الأوراق للنشر، وإنما كتبها لنفسه ليسجل فيها ما ينبض به قلبه، وما يجول بخاطره من خواطر وآراء ومخططات، ليرجع إليها هو حتى يستضيء بها في حياته، ويسير على هديها ويلتزم بها، إنها حديث مع نفسه هو لا مع الناس؛ لذلك فهي تمتاز بأنها أقرب للصدق؛ لأن الإنسان لا يكذب على نفسه عادة، وقد وصفها السنهوري نفسه بأنها مذكرات شخصية.
أردت أن أرى ماذا يقول هذا العقل الكبير وهو في عشرينيات عمره، فراجعت الفهرس التحليلي للكاتب؛ لأختار موضعا واحدا أو موضعين، لعلي أذوق بحسوة واحدة طعم الكتاب، فكان أول ما وقعت عليه مما كتبه السنهوري الشاب في عامه الثامن والعشرين، مذكرة عن الشريعة والعقل، وجدتها تلتئم مع ما عرضته من رأي في معنى النضج العقلي، وهاك ما كتبه في مذكرته تلك:
أذكر أنه نسب للنبي
صلى الله عليه وسلم
قوله: إن الأحكام الشرعية وافقت العقل عدا ما في هذا القول الحكيم من التسامح الذي لا أعلم أن دينا وصل إليه، ومن السعة التي تجعل الدين الإسلامي دين كل زمان ومكان، ألاحظ أن العقل الذي يقصده النبي
صلى الله عليه وسلم
في قوله هو في نظري ذلك العقل الذي يتطور مع الزمن ويتكيف مع المؤثرات المختلفة، ولا شك في أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يأت بأحكام تتناقض مع العقل في زمنه أو توقع إمكان تناقضها في المستقبل، بل إنه نظر إلى إمكان تطور العقل، فأوجد في الأحكام التي أتى بها مرونة وجعلها صالحة لكل زمن تطبق فيه، وبعد فهل العقل البشري استقر على حالة؟ ومن كان ينكر على أرسطو - وهو من أكبر العقول في زمنه - قوله إن الرق ضروري للمدينة؟! وتعليقا على هذا الذي أثبته السنهوري الشاب في مذكراته، أود أن أشير إلى أصل وما يتفرع عن ذلك الأصل؛ فأما الأصل فهو أنني أخشى أن يكون السنهوري في تلك السن الباكرة، قد فاتته التفرقة بين جانبين عند تصوره لحقيقة العقل، وهي تفرقة أظن أنها كذلك قد فات الكاتب الفاضل الذي بعث إلي برسالته إدراكها، وأول هذين الجانبين من حقيقة العقل هو الجهاز الفطري، الذي جبل في طبيعة الإنسان منذ كان إنسانا، وهو جهاز لم يقل أحد إنه تغير أو تطور، وقوامه طريقة إدراكية بين طرق أخرى عن طريقها يعرف الإنسان ما يعرفه عن نفسه وعما حوله، والذي يميز النمط العقلي من غيره هو الحركة الاستدلالية، وأرجوك أن تتمهل هنا قليلا حتى تحكم قبضتك على هذا الفارق الهام؛ فالعقل لا يدرك ما يدركه بطريق مباشر، كما تفعل العاطفة أو كما تفعل الغرائز، بل طريقته هي أن يستدل نتيجة من مقدمة أو من شواهد تقدمها إليه الحواس.
ومعنى ذلك هو أن العقل حركة انتقالية من طرف معلوم إلى طرف أصبح معلوما بعد أن كان مجهولا؛ ولهذه الحركة الانتقالية قوانينها التي هي جزء من فطرة الإنسان، إذا أحسن استعمالها والتزامها أيقن أن النتيجة التي وصل إليها صحيحة، ما دام موقنا بصحة الشواهد أو المقدمات التي بدأ منها؟ وذلك هو معنى العقل من حيث هو جهاز إدراكي، وهو بهذا المعنى لا يتطور ولا ينمو، اللهم إلا إذا أراد الله للإنسان أن يكون كائنا آخر غير الإنسان المعروف.
وأما الجانب الثاني من جانبي العقل فهو خاص بالمادة الفكرية، التي يعمل فيها ذلك الجهاز الذي ذكرناه، فشأنه في ذلك شأن طاحونة معدة لطحن الغلال، فلا بد من غلال فيها لتتم عملية الطحن، وما يقابل الغلال في العملية العقلية هو معطيات الحواس والأفكار، وواضح أنه كلما كثر المحصول الفكري وجد جهاز العقل فرصة أوسع ليؤدي عمليته الاستدلالية بصورة أرقى وأكمل، فأقل ما يقال في هذا الصدد هو أن جهاز العقل يتمكن من إجراء مقارنات بين أفكار مختلفة، فيستدل من المقارنات ماذا يرجح فكرة منها على فكرة، ومن هنا رأينا الأسفار بين بلدان العالم تزيد المسافر قدرة على معرفة أفكاره التي بثت فيه وهو في بلده، ومدى نصيبها من الحق، لقد صاغ هذه الحقيقة صياغة جميلة الشاعر الإنجليزي المعروف رديارد كبلنج صاحب القول المشهور: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.» قال موجها حديثه إلى مواطنيه الإنجليز ما معناه: ماذا عساك تعلم عن إنجلترا إذا كنت لا تعرف إلا إنجلترا؟ أي أن الإنسان لا يعرف نفسه ولا وطنه ولا ثقافته حق المعرفة إلا إذا قارنها بسواها؟ وهكذا ترى أن غزارة الجانب المعرفي عند الإنسان، من حيث كثرة الأفكار والخبرات كثرة عددية من جهة، وارتفاعا في مستواها من جهة أخرى، تمكن الجهاز العقلي من إدراك أوسع أفقا وأبعد أعماقا، فهنالك فرق فيما تحصله من معلومات ومعارف وعلوم وخبرات، بين أن تقف بها عند السطح المرئي المسموع، وبين أن تستخلص من ذلك السطح ما قد ينتج عنه من قوانين عامة ومن مبادئ أعم، وذلك هو ما نعنيه بارتفاع المستوى الفكري وعمق أغواره، وهذا الجانب التحصيلي من المواد الفكرية، هو الجانب العقلي الذي يتطور ويعلو ويعمق، وبكلمة واحدة نقول: إنه هو الجانب الذي ينضج نضجا ليس له حد نهائي يقف عنده، كذلك الحد الذي رآه الكاتب الفاضل صاحب الرسالة، والذي أراد أن يقيس عليه النضج العقلي ليفهم حقيقته.
ذلك هو «الأصل» الذي أردنا الإشارة إليه في تعليقنا على ما كتبه السنهوري الشاب في مذكراته، وأما ما يتفرع عنه مما نود أن نشير إليه كذلك بشيء من التعليق، فذلك قوله: «أذكر أنه نسب للنبي عليه الصلاة والسلام قوله إن الأحكام الشرعية وافقت العقل ...» وقد علق على هذا الدكتور توفيق الشاوي بأنه فيما يعلم قول قاله فقهاء كثيرون، لكنه لا يذكر أن قد رآه حديثا منسوبا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويرى كاتب هذه السطور أن القول على كلتا الحالتين جدير بالوقوف عنده في سياق حديثنا هذا؛ إذ يهمنا أن نعرف ماذا يعني القول بأن «الأحكام الشرعية وافقت العقل»، فقد أسلفنا لك أن ما يميز النمط العقلي في الإدراك، هو أنه حركة انتقالية بين طرفين يتم بها استدلال نتيجة من مقدماتها أو شواهدها، وعلى هذا الأساس يكون معنى القول بأن أحكام الشريعة وافقت العقل، هو أن تلك الأحكام قد استخرجت استدلالا من أصل صحيح ولذلك فهي صحيحة، وكذلك هي تصلح أن تكون بدورها أصلا نستخرج منه نتائج فرعية، ونحكم عليها بالصحة ما دمنا على ثقة بأننا قد سرنا في الخطوات الاستدلالية سيرا محكما، وأهمية هذا في سياق حديثنا هذا هو أن نضع بين يدي الكاتب الفاضل صاحب الرسالة، وجها آخر من الأوجه التي يجد فيها الإجابة عن سؤاله: ماذا كنت تعني بالنضج العقلي عندما ذكرت لنا في كتاباتك أن العقل الإنساني كان عند ظهور الإسلام قد نضج، بحيث أمكن للإسلام أن يحيل الإنسان إلى عقله بعد ذلك، فيما قد يستحدث له في حياته من مشكلات، مما لم يرد عنه حكم قاطع في الكتاب والسنة؟ نستطيع الآن أن نقول للكاتب الفاضل إن جانبا من جوانب ذلك النضج العقلي الذي زعمناه، هو أنه كان قد تهيأ لقبول أحكام شرعية، صيغت على نحو تتسق به مع العملية الاستدلالية، التي هي أهم ما يتميز به الإدراك العقلي، عندما يجد في متناوله حصيلة فكرية تمكنه من سعة الأفق في مقارناته وتحليلاته واستدلالاته.
وعند هذا المنعطف من حديثنا ننتقل فيما بقي لنا أن نقوله إلى حياتنا الفكرية الراهنة، لننظر إليها من زاوية النضج العقلي بالمعنى الذي أشرنا إلى بعض معالمه، لعلنا نقع على مواضع القصور التي تجمعت فأحدثت ما نحسه من قلق حول تلك الحياة، فكثيرا جدا ما يحدث أن يبدأ الإنسان بانطباع ما عن موقف ما، ثم يعقب عليه بتحليل ذلك الموقف إلى عناصره تحليلا عقليا، فيتحول الانطباع إلى فكرة لها حدودها؛ فالانطباع العام الذي ينطبع به بعضنا اليوم، وأقول «بعضنا»؛ إذ يرجح لمن هم في مرحلة الشباب من مبدعي الفكر والأدب، أن تكون لهم رؤية - أخرى - أقول إن الانطباع العام عند بعضنا اليوم عن حياتنا الفكرية والأدبية أنها قد تراجعت بنا مسافة ليست بالقصيرة عما كان الجيل الماضي قد بلغه من «النضج العقلي»، ولا تقل إن مثل هذا التراجع إنما هو ضد طبائع الأشياء؛ لأن سير التاريخ مليء بالشواهد التي تؤكد إمكان أن تجمد حركة التقدم حينا، وإمكان أن تنتكس تلك الحركة حينا دون أن ينفي ذلك اطراد التقدم إذا نظرنا إلى المسيرة الحضارية في مجموعها، ومع ذلك فهذا الكاتب يعرض رأيه راجيا أن يكون فيه على خطأ، وهو أن هذا الجيل في حياتنا الفكرية والأدبية، وخصوصا الفكرية قد انتكست به حركة الصعود الذي صعد به الجيل الماضي في منحنى النضج بالمعنى الذي حددناه، والذي نحن في سبيلنا إلى بيان مزيد من توضيحه وتحديده.
وأول الجوانب التي أعرضها هنا لأضيفها إلى الجوانب التي أسلفتها، هو جانب المحصول الفكري الذي أشرت إليه في الفقرات السابقة، فأصحاب المواهب من أبناء هذا الجيل يعتدون بمواهبهم إلى الدرجة التي يظنون بها أن وجود الموهبة في ذاته يكفي، وحقيقة الأمر هي أن الموهبة، مجرد الموهبة، إنما هي استعداد كالذي نراه في مسابقات الجري حين يصطف المتسابقون عند الخط الأبيض في أول المضمار ينتظرون صفارة البدء، فترى الواحد منهم قد استعد بوضع جسده وضعا خاصا توترت فيه العضلات استعدادا للانطلاق، كما يشد الفارس قوسه لتنطلق القوس إلى آخر مداها إذا ما أرخى الفارس قبضته، فما الذي لا بد من إضافته إلى الموهبة مما يعين على نضج نتاجها؟ إن أول ما يضاف خبرة بالحياة تتسع آفاقها حتى تشمل حيوات الآخرين ما استطاع الموهوب إلى ذلك سبيلا؛ وذلك لتسهل المقارنة بين الأضداد فتنقدح شرارة الإبداع، وأهم من هذه التوسعة الأفقية توسعة أخرى رأسية، يرجع بها الموهوب إلى تاريخ الفرع الذي هو موهوب فيه، لا ليعرفه مجرد معرفة باردة ساكنة، يجمع به معلومة إلى معلومة ليعلو الكوم، كما يجمع البخيل مالا إلى مال حتى تتخم خزائنه بمخزونها، دون أن يتغير من حياته شيء، بل يجب أن تكون مراجعة الموهوب لتاريخ مجال موهبته تفاعلا حيا، حتى إذا ما جاء دوره في الإبداع وإن كان مختلفا بزاوية منفرجة عن مبدعات السابقين، فإن إبداعه يجيء مشبعا بالروح التي تؤهله لأن يكون جزءا من تاريخ المجال الذي هو موهوب فيه، وإلا فهل رأيت تاريخا لأي جانب من جوانب الحياة التي يتناولها مؤرخوها بالتسجيل، قد جاء على صورة حلقات منفصلة إحداها عن الأخرى، إنه لو كان الأمر أمر حلقات متناثرة، كل حلقة فيها كيان مستقل بذاته لا شأن له بما عداه من نواتج، لأمكن منطقيا أن تضع الحلقة الواحدة منها في أي سياق تاريخي تصادفه أصابعك، فتضع شاعرا عربيا في تاريخ الأدب الصيني، وروائيا عربيا في تاريخ الأدب الأرجنتيني، ولم لا؟ ما دامت تلك الحلقة لا تربط نفسها أفقيا بعصرها ورأسيا بقومها وتاريخها؟
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أروي عن لحظة منذ قريب، كنت فيها أستمع إلى البرنامج الثاني في إذاعتنا المصرية، وفتحت الجهاز على ندوة في النقد الأدبي، يشترك فيها اثنان أقدرهما أعظم تقدير، ولكم آلمني أن أجد فيما بينهما تلميحا، لم أشك في أنه يشير إلى شخصي دون أن يذكر اسمي، وكان التلميح مسيئا لا عن طريق اختلاف الرأي؛ فاختلاف الرأي مشروع ومطلوب، ولكنه مسيء بما حمله من نبرة ساخرة؛ فأحد الصديقين نطق لفظة معينة إلى نصفها، ثم كتم النصف الآخر ممزوجا بضحكة حبسها بين شدقيه، ورد الصديق الآخر يؤيده لكنه كان تأييدا والحمد لله مبرأ من السخرية، وكان موضوع الحديث بينهما ذا علاقة بهذا الذي أقوله، وهو وجوب أن تكون موهبة الموهوب موصولة على بعدين، فهي موصولة على بعد أفقي بعصرها، ثم هي موصولة على بعد رأسي بماضيها، ومن هذه العناصر كلها الموهبة الخاصة، والحاضر الذي تعيشه الدنيا والماضي الذي ورثناه، أقول إنه من هذه العناصر كلها مؤتلفة في الناتج الإبداعي فكرا وأدبا وفنا، بل ونظما اجتماعية من تعليم إلى سياسة واقتصاد وما شئت أن تضيف، هي التي تكفل «النضج» فيما تبدعه المواهب، والحق أن أعجب ما عجبت له من تلميح الصديقين في ندوة النقد: الزاوية التي فهما بها معنى المعاصرة، فقد حسباها مجرد أن يكون الإنسان موجودا في عصره! وأن يكون الدليل على ذلك عندهما - فيما أظن - أن ننظر إلى لوحة التقويم المعلقة فوق الحائط، فإذا رأيناها تشير إلى سنة 1988م ثم رأينا أنفسنا نتنفس الهواء ونأكل الطعام في سنة 1988م، كنا معاصرين نعيش في عصرنا، وما دام ذلك كذلك وضوحا وسطوعا، ففيم كل هذه اللجاجة عن الدعوة إلى المعاصرة، وهي صفة لاصقة بأمعائنا ورئاتنا وجلودنا، ولم يرد لهما على خاطر - وهما من هما علما وفضلا - أنه إذا كان مجال الحديث عن الثقافة بأي فرع من فروعها، فإن المراد بالمعاصرة عندئذ لا يكون إلا أن يعيش الإنسان أفكار عصره، لا بالموافقة حتما بل قد يكون ذلك بالمقاومة، فأنت تعيش الفكرة إذا تبنيتها أو إذا قاومتها على حد سواء.
وأعود إلى الحديث عن حياتنا الفكرية والأدبية الآن، فأقول إن انطباعي العام عنها هو أنها مقصرة في ذلك الاتصال على بعديه الأفقي والرأسي معا، وخذ مجموعة من أعلام الجيل الماضي ومجموعة من أبناء الجيل القائم، تجد هذا الفرق بينهما واضحا، وهو أنه بينما كان كل علم من أعلام المجموعة الأولى ملما إلماما واسعا وعميقا بما قاله السابقون في ميدانه، وملما في الوقت نفسه بأهم المعالم التي يتسم بها إبداع المبدعين في الغرب، وفي المجال الخاص الذي توجه إليه رجل الجيل الماضي باهتمامه، فإنك - فيما أعتقد - واجد غير هذا في أفراد المجموعة الثانية؛ إذ الأغلب والأرجح في أي واحد منها تختاره كما تشاء، ألا يكون ذا علم راسخ وواسع بما قاله السابقون في ميدانه، ولا على شيء من المعرفة الوثيقة بما يقوله أصحاب تلك الميادين في الغرب، إنني سأضع بين يديك أمثلة من أعلام الجيل الماضي، وأترك لك أن تجد من يقابلهم في هذا الجيل ثم تمضي في المقارنة؛ ففي الشعر كان شوقي، وفي النقد الأدبي كان طه حسين، وفي الرؤية الاجتماعية السياسية كان لطفي السيد، وفي الوقفة الدفاعية عن الأصالة العربية كان العقاد، وتذكر أرجوك أن محور حديثنا هنا هو جمع البعدين الأفقي والرأسي جمعا يلتقي بالموهبة الشخصية، ثم اختر من تختاره من أبناء هذا الجيل وانظر وقارن.
ذلك إذن هو جانب من الجوانب التي أراها تحد من درجة النضج في حياتنا الراهنة، وأضيف جانبا ثانيا قد يكون من الناحية المنطقية فرعا يتفرع عن النقطة التي عرضناها فيما أسلفناه، وهو ضعف القدرة على النقد بمعناه الواسع أولا، وبمعنى النقد الذاتي ثانيا، والنقد الذي أعنيه هو القدرة على التحليل والمقارنة، ومن ضعف هذه القدرة ضعفا شديدا عند أبناء هذا الجيل، جاءت سرعة قبولهم وسرعة رفضهم، دون أن يجيء القبول أو الرفض مستندا إلى معرفة مؤكدة واضحة، فهم كثيرا ما يتناولون المفاهيم العامة قولا وكتابة، وكأنها من الوضوح الناصع بحيث لا يحتاج أمرها إلى إمعان نظر فاحص، ومن أخطر ما نتج لنا في حياتنا عن هذه الوقفة البريئة براءة الطفولة، ذلك النزوع إلى التطرف أيا ما كان موضوع البحث، بما في ذلك البحوث المزعوم لها أنها بحوث علمية، فها هنا ترى عجبا من مزج الفكرة بصاحبها مزجا يجعل كرامة صاحبها وكأنها أهينت إذا رفضت فكرته. إن دارسي الفلسفة يعلمون كم عني الفلاسفة ببيان مواضع الزلل ليتجنبه من أراد لنفسه فكرا صحيحا، فإذا استعرضت أهم ما ذكروه في هذا الصدد وجدته ماثلا في حياتنا القائمة مثولا جريئا وكأنه يتحداك! فالتسرع في الأحكام وتعميمها عن غير علم وارد على كل لسان ناطق وكل قلم كاتب، والتحصن بما قد تراكم في النفوس وفي العقول دفعا لأي عامل مهاجم من عوامل الدعوة إلى تغيير ما يجب أن يتغير، هو الآن موقف سائد مرفوع اللواء والتحدث بلغة مبهمة عن أي موضوع، حتى ولو كان موضوعا يعرض حياتنا كلها للخطر، هو من سمات المناخ الفكري الذي نعيش اليوم فيه ونملأ رئاتنا بهوائه، حتى لنظن الظنون بمن يجرؤ على توضيح الغامض، خشية أن تهتز من البنيان قوائمه وأركانه.
لقد كان حديثنا هذا أول الأمر محاولة للإجابة عن رسالة، يسأل فيها صاحبها عن معنى النضج العقلي، الذي كنت قد زعمته لفترة معينة من مراحل التاريخ، ثم استطرد بنا الحديث عن النضج العقلي، حتى لقد بدأناه ثم لم نعرف كيف ننهيه.
Неизвестная страница