وبسمارك في عزلته تعود أفكاره إلى عهد شبابه، فهو لم يلبث أن صار يقص أمورا لم يحدث بها أحدا قبل الآن، ومن ذلك: «كنت في السنة السادسة من عمري عندما علمت نبأ موت نابليون، وأحد المنومين هو الذي أخبر أمي بذلك، وقد أنشد أمي قصيدة إيطالية تبدأ بكلمة: كان!» وهكذا يبدو أول القرن في آخره، وهو يتكلم عن الماضي كما لو كان شعر مانزوني
3
يدفعه إلى القول لنفسه: «كان!» ومما حدث ذات مرة أن تكلم بسمارك الشيخ عن كنيبهوف، فكتب يقول لصهره:
عزيزي أوسكار! لقد بلغنا من الكبر ما لا نطمع معه أن نعيش طويلا، أفلا نستطيع أن نجتمع ونتحادث مرة أخرى قبل حل تلك الخاتمة؟ مضت ست وستون سنة أو سبع وستون سنة على الزمن الذي كنا في الكلية قد اجترعنا فيه الجعة من القنينة لأول مرة، وكان هذا على الدرج القريبة من الطبقة الثالثة، فدعنا نشرب معا قبل فوات الأوان، أود أن أسمع صوتك مجددا قبل أن ... ألا تركب القطار قبل مغادرة برلين؟ ولم لا تركب قطار همبرغ بدلا من قطار ستيتن؟
ويظل هذا الكتاب على مائدته بسبب لطخ مداد، فلم يرسله إلا مؤخرا، فبسمارك في وحدته هذه يشتاق إلى عشرة رجل أهمله مدى حياته، والآن بعد موت زوجه وعند بعد ولديه يريد أن يسمع صوت وداد، وهو وإن بقي واقعيا عادا للسنين ذاكرا المكان الذي شربا فيه الجعة أيام الطلب؛ يشعرنا بأنه عاد لا يتبسم عندما يكتب.
وهل ذهب نشاطه الذهني بين تلك الكروب؟ وهل غفل عن الريخ؟
كلا، لم يغب عنه ذلك، ولم يذهل عن أعدائه الحاكمين؛ ففي فصل الخريف من سنة 1896 بدت نتائج عدم تجديد المعاهدة الروسية؛ فقد سافر القيصر إلى باريس، وجنت فرنسة ابتهاجا بروسية، ويقرأ بسمارك في الصحف الألمانية أن قطع الصلات بروسية من زلاته فيشتاط غيظا، ولا غرو؛ فهو يعرف جيدا من هم المسئولون عن التصام عن إنذاراته، ولن يدع أحدا يدعوه هادما ما بقي حيا، ويستل سيفه خوضا لغمار معركة قاتلة، ويدل الشعب الألماني على أولئك الذين يحملون تبعة عزل ألمانية في الحقيقة، ويكتب في جريدته:
كانت تانك الإمبراطوريتان حتى سنة 1890 متفقتين اتفاقا تاما على أن إحداهما إذا ما هوجمت ظلت الأخرى محايدة ساعية إلى الخير، فلما اعتزل الأمير بسمارك لم يجدد هذا الاتفاق، وإذا كان ما لدينا من أخبار دقيقا حول ما حدث في برلين وجدنا أن الكونت كابريفي هو الذي رفض دوام ذلك الضمان المتقابل، لا روسية التي ساءها ما وقع من تغيير في المستشارية والتي كانت مستعدة لصنع ذلك مع ذلك، وبهذا يفسر أمر المرسيلياز في كرونشتاد، والذي نراه هو أن خطأ سياسة كابريفي هو الذي أسفر - للمرة الأولى - عن تأليف ما بين إمبراطورية القيصر المطلقة والجمهورية الفرنسية.
وتلقي أوروبة السمع، ويئن الألمان، وما كان المجاهد الشيخ ليجرح الإمبراطور بأبلغ من تلك الطعنة النجلاء، وتجيب جريدة «رايخسانزيجر» عن ذلك متلعثمة: «إن أمورا دبلمية كالتي هي موضوع بحث، هي من أسرار الدولة التي يجب حفظها حفظا وثيقا، وإن كتمها بدقة هو واجب دولي، وعكس ذلك يصيب مصالح الدولة بضرر كبير.» ويكتب آخرون عن الخيانة العظمى وعن السجن مع الأشغال الشاقة وهلم جرا، ويبرق الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور فرنسوا جوزيف إبراق الظافر بقوله: «والآن تعرف - كما يعرف جميع العالم - علة عزلي الأمير.»
ومع ذلك يرسل الإمبراطور تريبيتز إلى الأمير في الصيف آملا أن يقول بسمارك شيئا مفيدا للأسطول، ولكن المستشار السابق يركب متن العناد، فهو بدلا من أن يجيب عما يسأل عنه، يعرب عن رأيه في الإمبراطور «غير متحفظ كثيرا»، فيضطر تريبيتز إلى إراءته بزته الرسمية، ويقول بسمارك مستنتجا: «بلغ الإمبراطور أنني لا أرغب في غير بقائي وحدي وفي غير الموت مستريحا.» بيد أن العاهل الشاب لم يدعه وحده على ما أهانه به هذا الشائب؛ فالإمبراطور يشعر دوما بانجذابه إلى الشيخ الساحر، فيزوره قبل موته بستة أشهر مع حاشية كبيرة، وذلك بلا دعوة وللمرة الثانية.
Неизвестная страница