327

Бисмарк

بسمارك: حياة مكافح

Жанры

وأظهر ما يوصف به بسمارك في تلك الأيام هو ما عند المفكر من نظر بعيد؛ وذلك لتواري الأمور في الوقت العتيد وراء مدى الرؤية، وكما نزع السلاح من يد هذا الولوع بالكفاح، وكما عاد دماغه لا يكون مركز الوحي السريع كالبرق فيحركه عزم قاطع؛ منعت عيناه من ألوف الجمل المكتوبة التي كان يمكنه أن ينقب بهما فيها، فيختار ما يطيب له منها، وإن هذا الرجل الذي كان يصبو في أثناء نشاطه على الدوام إلى الإقامة مرة أخرى بغابات فتائه الهادئة؛ يألم الآن من احتماله هذه الحياة التي كان يحلم بها.

والحق أن المبعد يشعر بأنه يعيش في صحراء، ويعيش مبغض الناس الكبير هذا وحيدا، وكان يشكو من فتح باب مكتبه دوما مدة ثلاثين سنة فصار الآن يئن من عدم فتح إنسان لبابه مرة واحدة في كل أسبوع تقريبا، وبسمارك يقول: «لدي صحف، لا أناس، ولي ملايين من الأصدقاء، ولا أكاد أجد صديقا.» ويصفه فرنسي بعد سقوطه بقوله: «إنه يرتجف من فوره في بعض الأحيان، ويقول - كما لو أفاق من حلم: أنسى عطلي من عمل أقوم به.» ويراه رجل من حرسه القديم، فيقول إن الأمير «محتاج إلى من يصغي إليه.»

ويأتي كيزرلنغ الذي هو آخر من بقي حيا من أصدقاء بسمارك والذي لم يدعه بسمارك مرة واحدة في السنوات العشر الأخيرة من سلطانه إلى زيارة المبعد، ثم يذهب إلى همبرغ ليقيم بها ويعود إلى فردريكسروه فيبقى فيها يوما واحدا - أو يومين - وتكتب إليه حنة في همبرغ، فترجو منه أن يطيل إقامته بفردريكسروه وتقول له: «إنك تقوم بأحسن ما يعمل لنا نحن البائسين الذين فقدوا كل إيمان بأي إنسان كان تقريبا، ونحن الذين ترونهم شديدي الثقة بمودتكم المحببة، ونحن الذين ينعشهم حبهم الشامل الذي يرتبطون به فيكم، أبرقوا بأنكم آتون فتسرون صديقكم القديم.» وتكتب حنة بالأسلوب البياتي المسرف، وتخادع حنة نفسها كما حاولت صنع ذلك، ولكننا نبصر من خلال الأسطر حقيقة وحدتهم القاسية.

والمقاطعة شديدة، ولم يقصده في البداءة سوى نفر قليل من الأجانب للاستطلاع في الغالب، ومن هؤلاء الأجانب نذكر أمريكيا من ملوك الخطوط الحديدية لم يره بسمارك من قبل ، فلما وصل هذا الأمريكي أخذ ينفض غبار السفر عن نفسه فسمع صوت خطا مضيفه الثقيلة صاعدا في الدرج، ويدخل المضيف ويجلس بجانب الأجنبي الذي كان يعنى بزينته، ويقول له: «إنكم أول شخص أبصره في هذا الأسبوع لما هو واقع من مقاطعتي التامة، ولا يرغب أحد في الاتصال بي؛ فالناس يخشون أن تذكر أسماؤهم في الصحف زائرين لي، فلا يروق ذلك عاهلنا الشاب الجالس على العرش، ومن الناس من يجاوز فردريكسروه في كل يوم من غير أن يراني مع أن الناس منذ شهر كانوا لا يمرون علي في شوارع برلين بلا تحية؛ فالكلاب تتبع من يطعمها.»

وغير قليل عدد الرجال الذين يذكرون تقبيل بسمارك إياهم عند انصرافهم، وليس هؤلاء فقط من الشبان الذين يشعر الشيب بحب لهم، غير أن مشاعر عوام بوميرانية أطيب من مشاعر ذوي البصائر من أهل برلين، وقد قال فلاح في فارزين للخولي: «دعوه يأتي إلى هنا؛ فهو يستطيع أن يعتمد علينا!»

ولم يلبث كيزرلنغ وبوشر أن توفيا بعد اعتزال بسمارك، ويحزن عليهما لخلوهما من الأثرة ولصداقتهما الخالصة، وفي الحين بعد الحين تزوره السيدة فون سبيتزنبرغ وحسناء من صواحب الأملاك المجاورة، ويرحب بلنباخ وشويننجر لما عندهما من أحاديث مسلية لبسمارك، لا لمواهبهما، وذلك ما يعرفه مكس ليبرمان فيرفض دعوة إلى فردريكسروه مع أنه المتفنن الوحيد الذي استطاع أن يرسم لبسمارك صورة رائعة في ذلك الدور، ولكنك إذا عدوت زوج بسمارك وأخته وأبناءه لم تجد في العالم من يأبه بسمارك لحياته، حتى إن أخلص خدمه ماتوا فلم يحل محلهم أحد، حتى إن تيراس الثاني مات حينما كان سيده في الثمانين من سنيه، فعزم هذا السيد على عدم اقتناء أي كلب آخر درءا لألم الدفن عنه.

وهكذا يهجر بسمارك الكلاب في نهاية الأمر بعد أن هجره الرجال.

الفصل السابع

يستخرج المنفي حياة جديدة من حقده، والحقد أشد المشاعر لدى هذا المبعد، وإذا كان العالم ينتقم من رجل عبده، فإن هذا ما صنعته ألمانية عند سقوط بسمارك، وأمواج الحقد تعود إلى الشاطئ الذي سالت منه ، وكان أبناء طبقته ومرتبته؛ أي أكابر الموظفين والأشراف والأمراء، أكثر الناس صفاقة مخزية كما دل عليه سلوكهم.

وإذا حدث في عيد أو احتفال عام أن أريد الإبراق إلى فردريكسروه منع مدير المنطقة ذلك معتذرا بأن ذلك يؤدي إلى فقده وظيفته، ولا أحد من زملاء بسمارك سابقا يجرؤ على زيارته، وينوي فالدرسي الذهاب إلى همبرغ فيسأل برلين أن تأذن له في زيارته، والمرة الوحيدة التي قرأ فيها الأمير بسمارك إمضاء كابريفي في أسفل وثيقة هي المرة التي طالبت فيها الحكومة الإمبراطورية هذا الرجل الذي خدم بروسية والإمبراطورية مدة أربعين سنة بأن يعيد الراتب الذي أخذه عما بين اليوم العشرين واليوم الحادي والثلاثين من شهر مارس سنة 1890 مستندة في ذلك إلى أن اسمه في ذلك الحين كان مسجلا في جدول المتقاعدين، وفي الوقت نفسه جعل كابريفي هذا سفراءه يبلغون جميع الحكومات الأجنبية رسميا بألا تعلق أدنى أهمية على آراء الأمير بسمارك.

Неизвестная страница