واستمر الركب في سراه على ظهر البادية، والحداة يوقعون أغانيهم في هدوء الليل، فترجع الصخور صداها عذبا صافي الرنين كأن موسيقى تعزف وراء تلك التلال التي تكتنف طريق الوادي ...
وامتلأت نفس النعمان شعرا بليغا، ولكن شفتيه لم تلفظا بيتا، ولم يتحرك لسانه بقافية، واستحالت العواطف الشاعرة دموعا في أجفانه، وتأججت نارا في رأسه، وكان نسيم الليل باردا بليلا، فحبس في عينيه تلك الدموع، ولكنه لم يطفئ الوجد الملتهب في صدره، والنار المشتعلة في رأسه، وبسط صدره ورفع أنفه يعب الهواء عبا، ولكنه لم يرو من ظمأ أو يبترد من غلة؛ فاستحث راحلته حتى تقدمت فحاذت راحلة أمير الركب مسلمة بن عبد الملك، فهم أن يتحدث إليه حديثا، ثم أمسك ...
والتفت مسلمة إلى حيث كان النعمان، فرآه فعرفه فبدأه محييا: طابت رحلتك يا أبا عتيبة. - طابت لك الرحلة والإقامة يا مولاي.
وكان مسلمة قريب الإفاقة من إغفاءة حالمة مثل إغفاءة صاحبه، قد رأى فيها رؤيا، وانكشفت له صور من ماضيه وحاضره، وصور أخرى لم يرها من قبل، وكان النعمان يصحبه في كل مراحل تلك الرؤيا؛ فلم يكد يفيق من إغفاءته ويرى النعمان إلى جانب راحلته حتى أخذه العجب، فقال وفي صوته نبر غريب : لأمر ما رأيتك إلى جانبي الساعة يا أبا عتيبة. - لقد رأيت رؤيا يا مولاي فرغبت ... - رؤيا؟ ... - نعم، وكان الأمير معي ... - معك؟ - أعني أنني كنت معه ... - نعم، نعم! - ورأيتك تضم إليك شابا فيه ملامح من أبيه فتتملاه طويلا، ثم تفيض عيناك بالدموع، ولم أكن معكما بعد ذلك، ولكني رأيت كل ما كان وعرفت ...
قال مسلمة كالذاهل: نعم، نعم؛ ولكن كيف حدث هذا؟ ... - قد رأيت ... - عرفت، ولكن كيف اقتحمت علي غفوتي فرأيت ما رأيته؟ ... - وي! ... هل رأى مولاي مثل هذه الرؤيا؟ ...
فاء مسلمة إلى نفسه ولم يكد، فقال مستدركا: ثم ماذا يا نعمان، فإن حديثك لعجيب! - حسبت مولاي قال إنه رأى مثل رؤياي! - بل عجبت أن تكون معي وأكون معك في اليقظة والمنام ... إن بيننا نسبا يا أبا عتيبة! ... - وكذلك تراءى لي ...
وهم لسان مسلمة أن يسبقه ثانية إلى ما لا يريد أن يقول، فأمسك وترك النعمان يقص رؤياه، لا يزيد على أن يقول له مرة بعد مرة: هيه يا أبا عتيبة! ...
ومضى النعمان في قصصه: ورأيت ولدي عتيبة على رأسي، وقد اخضلت عيناه بالدمع، وكانت أمه سبيكة وراء ظهره، وكان على وجهها ستر رقيق تجول عيناها من ورائه، وكان مجلسك يا مولاي إلى يمين فراشي، ورأيت عيني سبيكة تستقران على وجهك، ورأيت عينيك تستقران على وجهها؛ فثار دمي غيرة وحنقا - ومعذرة إليك يا مولاي - وهممت أن أنهض، ولكن جسدي كان قد ناله يبس الموت، وهم لساني أن ينطق، ولكنه لصق بفكي، وكأنما كنت أرى بغير عينين، فقد كانت أجفاني مثقلة قد أطبقت واشتبكت أهدابها، ولكن المنظر - مع ذلك - لم يزايلني؛ كانت عيناك مستقرتين على وجهها، وعلى شفتيك كلمات أراها ولا أسمعها، وبعض الكلام يرى ولا يسمع، ثم ملت علي فقبلت جبيني، وانحدرت على خديك دمعتان، وسمعتك تقول: هون عليك يا أبا عتيبة، إن بيننا نسبا وصهرا ...
وكانت دمعتان تنحدران في تلك اللحظة على خدي مسلمة، وقد مال على النعمان كأنما يهم أن يقبله، لولا بعد ما بين الراحلتين، ثم قال وصوته يختلج: هيه يا أبا عتيبة! - وخففت من ثقل، وحلقت بعيدا، وغاب عني منظر السماء والأرض، ثم فئت إليك، ورأيتك هذه المرة في خيمة من ديباج، قد أقيمت في واد أفيح قد انبسط الزرع فيه على مد البصر، وانتثرت فيه بيوت من خشب تسرح حواليها قطعان من الجاموس والغنم، وكأنما سمعت الأذان والتكبير في هذه البيوت المنتثرة بين المراعي الخصبة، فعلمت أنني في أرض عربية، وأنك صاحبها، فإن صدقت رؤياي يا مولاي، فتلك بضعة من أرض الروم مما يلي القسطنطينية، حيث ينتهي خليج أبي أيوب، لقد نزلت هذه الأرض ذات مرة في بعض الصوائف ضيفا على أبي أيوب، فأطعمني من ثمراتها وسقاني وأظل مقيلي!
كان مسلمة منصتا لحديث صاحبه وهو مسترسل فيما يقص من رؤياه: ورأيتك في خيمتك هذه التي وصفت، وقد سيق إليك أسارى من الروم، فأمرت بأن تضرب أعناقهم، ومثلت سبيكة لعيني في تلك اللحظة تحول بينك وبين ما تريد من سفك دمائهم، فنولتها العفو عنهم ونولتهم العافية ...
Неизвестная страница