لقد كان من معاذيره شدة النفور في عصره من سلطان الكهنوت على جميع المذاهب، وكان من أسباب ذلك النفور الشديد بين المتحررين خاصة إفراط المتعصبين في الخرافة، وتصدي الجهلاء من رجال الدين للحكم فيها يجهلونه والاستهانة بالأرواح البريئة في سبيل العصبية التي كانوا يسمونها غيرة دينية أو حماسة روحية، وقد كانوا يتوهمون السحر في كل مشتغل بالعلم ويحرقون الساحر والساحرة؛ لأنهما من حلفاء الشيطان «محتكر» العلوم السوداء، على ما توهموه وتوارثوه بالتقاليد.
ومن السهل أن تتخيل شعور الرجل المطبوع على البحث العلمي نحو هذه السلطة، فإن «رد الفعل» أمامها خليق أن يذهب من النقيض إلى النقيض، فيمرق من سلطانها مروق التحدي والإصرار.
ومما يشفع لفرنكلين في سقطته أن «دبورا» لم تكن من النساء المبتذلات، وأنها لما تركها فرنكلين ليسافر إلى لندن تزوجت من رجل آخر ولبثت على ذمته إلى أن عاد فرنكلين من رحلته، ولما أراد أن يصحح خطأه ليتزوج منها حال العقد القائم بينه وبين إتمام عقد الزواج حتى تثبت وفاة الزوج الأول، وكان في وسع فرنكلين - وقد اشتهر وارتفع في سلم المجتمع - أن يتخلى عن هذه المرأة الجاهلة الفقيرة المهملة في حساب الطبقة العالية وفي حساب المتدينين من جميع الطبقات، ولم يكن عسيرا عليه أن يختار له زوجا تساعده بجاه الأسرة الاجتماعي، ولا تقف في سبيله عقبة دون المناصب العليا بقية حياته، ولكنه صنع الواجب الذي أوحاه إليه ضميره وآثر وحي الضمير على المصلحة وحب الوصول.
وتستدرك صفة الإنسانية إذا نسبت إلى فرنكلين على غير الوجه المتقدم في معانيها الكثيرة: فقد كان من معاني الإنسانية إيمان المرء بخير الإنسانية، ورفضه كل عقيدة دينية غير العقيدة الموضوعة، وكان فرنكلين يؤمن بخير الإنسانية، ويعمل له، وسوى بين الناس جميعا في الأخوة البشرية، ولكنه لم ينكر وجود الإله، ولا وجوب الاقتداء بفضائل السيد المسيح.
وكان من معاني الإنسانية حب المسالمة، وطيبة القلب، ووداعة الأخلاق، وفرنكلين كان ولا ريب مسالما طيبا وديع الأخلاق، ولكننا نجهله إذا فهمنا من المسالمة أنه كان يفرق من العداوة ويتجنبها بكل ثمن وكل وسيلة. لقد كان حقا يكره المعاداة ولا يستثيرها، ولكنه كان إذا جاءته العداوة إلى باب داره بغير داع ولغير مساءة منه لم يجفل منها وأهملها ذلك الإهمال الذي يلهب الغضب ويؤجج سعير الحسد ويغنيه عن الانتقام، ولم يمزح حين قال: إن الانتقام الحسن من حساده وأعدائه إنما هو الاستزادة من أسباب حسدهم وعداوتهم، وإنه في غنى عن مقابلة الحسد بالانتقام؛ لأن حساده ينتقمون له من أنفسهم، فقد كان حقا يؤمن بهذه الفكرة، كأنها فكرة علمية مقدرة بنتائجها موزونة بميزانها، فهو الرابح إذا تقدم ونجح، وحساده هم الخاسرون إذا حسدوه على التقدم والنجاح.
والذين قالوا عنه: إنه «نفعي» لم يظلموه فتيلا بالمعنى العرفي أو بالمعنى الفلسفي الذي يطلق على مذهب النفعيين
Utilitarianism ، ولم يقولوا عنه ما ينكره لو سمعه، ولا ما يستنكره الناقد الأخلاقي على إطلاقه، إلا أن تكون النفعية على حالتين: إحداهما أن يستهين المرء من أجلها بكل قيمة أخلاقية، والأخرى أن يقدم منفعته الشخصية على المنفعة العامة أو على المنافع التي اصطلح عليها نوع الإنسان، كائنا ما كان موضوع النفع الإنساني من الماديات أو الروحيات.
وليس في مقدور عدو من أعداء فرنكلين أن ينسب إليه حب المنفعة على حالة من هاتين الحالتين. ولا نعيد هنا ما ذكرناه - في الكلام على فرنكلين العالم - عن زهده في جميع المنافع التي تعود عليه من تسجيل اختراع الموقد المعروف باسمه، ولا عن زهده في مكاسب المخترعات الأخرى، ومنها الشائع المتداول كالنظارات وأعمدة الصواعق، ولكننا نذكر موقفه في الأعمال الوطنية التي لا تخفى عليه عواقبها وهو من هو في كياسته، وبعد نظره، واختباره للطبائع البشرية، وتجاربه لحظوظ العاملين من العرفان بالجميل. فقد كان ينوب عن بعض الولايات في لندن ليعرض على حكومة الدولة وجهة نظر الولايات، ويقضي لها مصالحها في دواوين الرياسة، وكان يعلم أن إغضاب رؤساء تلك الدواوين يزعزع مركزه عند الولاية التي ينوب عنها؛ لأنها لا ترجو نفعا من وكيل ينفر منه الرؤساء، ويوصدون في وجهه أبواب الشفاعة والوساطة، فلم يمنعه علمه بذلك أن يغضب الرؤساء كلما وجب أن يخاطبهم بالحق الصراح الذي لا يقبلونه، وأغضبهم فعلا مع اشتهاره بالمسالمة والقدرة على القول اللين والعبارة السائغة، ولما حافظت الولايات على وكالته واستحيت من جزائه بالفصل على أمانته وحسن خدمته، أعفاها هو من ذلك الموقف الحرج واستعفاها باختياره؛ ليفتح أمامها باب الانتفاع بوساطة وكيل غيره، وقد ظهر في أخريات حياته وبعد مماته أنه كان يحتاج إلى إنفاق المال لخدمة المصلحة الوطنية، ويستبطئ الإجراءات التي لا بد منها لإقناع المراجع المعتمدة بضرورة إنفاقه وإرساله، فينفقه من ماله الخاص وتنقضي السنون ولا يتمكن من استرداده وهو خارج بلاده. ثم يعود إلى بلاده وقد تغير الحكام والنواب وتتابعت الشواغل المستحدثة كل يوم من أيام الاستقلال الأولى، فيلوذ بالصمت ويترك ما أنفقه غير مقتصر في المصالح الوطنية الجديدة التي توكل إليه.
والسخرية التي ألفها الأصدقاء والشعراء من كلام فرنكلين وكتابته سمة أدبية ونفسية في وقت واحد، وقد تلحق بطبيعته الواقعية النفعية التي تعرف الناس حقيقتهم، وتعرف الرياء والصدق من دعاويهم، ولا تنتظر منهم في الدين والدنيا فوق طاقتهم، وهي أشبه بابتسامة الأب لطفله الذي يريد أن يراوغه ويحتال على خداعه وهو لا يحتاج منه إلى الخديعة لاستجابة رجائه أو قبول معاذيره. وقد أثرت لفرنكلين سخريات تضارع سخريات فولتير الفرنسي، وسويفت الأيرلندي، وهما علمان من أكبر أعلام النقد الساخر في الآداب الغربية، ولكنها سخريات سليمة من طعنات فولتير المناضل، ووخزات سويفت السوداوي الناقم، وليست له سخرية يفارقها العطف على المعارضين والموافقين، كتلك السخريات المسمومة التي تتخلل كتابات سويفت كثيرا، وتتخلل كتابات فولتير من حين إلى حين.
والطينة العادية من الصفات التي تكررت في تراجم نقاده ومؤرخيه.
Неизвестная страница