وبهذا الوقار على أسلوب آخر كان يؤدي أمانة القيادة بين كبار القادة من فطاحل الزعماء، فلما عهد إليه مع فئة من هؤلاء الزعماء أن يكتب إعلان الاستقلال لم يرض عن كلمة جفرسون التي قال فيها عن حقوق الأمريكيين «أنها مقدسة لا تنكر» واقترح بديلا منها «إنها ثابتة بذاتها» لأن القول بأنها لا تنكر لا يطابق الدقة العلمية مع وجود من ينكرونها ويقاتلون في سبيل إنكارها، ولأن القداسة في الحقوق العامة قد ابتذلت بدعوى الملوك الذين يزعمون أنهم يتلقون السلطان من السماء، ودعوى رجال الدين الذين يزعمون أن القداسة مستمدة منهم، وقد يتسللون من وراء هذه الكلمة إلى المطالبة بالرقابة على حقوق الشعب «المقدسة»، فكانت قيادته للأمة لا تستغني عن وقار تفكيره بين الدهماء ولا بين الزعماء.
والسياسي المفاوض يلي السياسي الزعيم في القدرة والخبرة بأساليب المفاوضة في كل ظرف من ظروفها، وهي تلك الظروف التي تتناقض بين يوم ويوم، وبين خصم وخصم، وبين قضية وقضية.
فتولى المفاوضة في بلده بين البيض والهنود الحمر، وبين أبناء الولايات وأبناء كندا الفرنسية، وتولى المفاوضة في إنجلترا نائبا عن بعض الولايات الأمريكية.
وتولى المفاوضة في فرنسا ليستعين بها على مقاومة بريطانيا العظمى، ويعقد معها معاهدة تعترف فيها باستقلال الولايات، وتسجل لهذه الولايات كيانها «الرسمي» في عالم السياسة الدولية.
وكانت عدة «السياسي المفاوض» لديه أكمل من عدة السياسي الزعيم أو السياسي الذي يقود الجماهير بالأقوال والوعود.
كانت المسالمة طبيعة فيه، وكان من مبادئه «العلمية» صيانة الجهود عن التبديد، فلا يقدم على نضال يستطاع اجتنابه بوسيلة من وسائل التراضي، أو حيلة من حيل المجاملة والتفاهم على أواسط الأمور، وعنده أنه «لا حرب حسنة ولا سلم سيئة»، بل السلم خير من الحرب ما دامت المسالمة تغني عن القتال.
وفاوض الهنود الحمر فنجح؛ لأنهم يحسون منه دخيلة شعوره في مسألة الفوارق بين الأجناس، وقد كان يقول: إن الفتك بأبناء قبيلة هندية انتقاما من أبناء قبيلة أخرى جور قبيح كانتقامنا من الهولنديين مثلا لعدوان يصيبنا من الفرنسيين واعتذارنا من ذلك بأنهم «كلهم بيض الوجوه».
ولم يسمع الهنود منه هذا الرأي، ولكنهم كانوا يحسونه من شعوره ومعاملته، وإيثاره للتراضي والمصافاة.
ولما ذهب للمفاوضة في إنجلترا كان في رأسه كل حل وكل محاولة قبل القطيعة وإعلان العداء.
كان في ذهنه أن تتعاون أجزاء الإمبراطورية على نمط «الكومنولث» الذي اهتدى إليه الساسة البريطان بعد الحرب العالمية الأولى، وكان في ذهنه أن تختار للإمبراطورية عاصمة في الولايات تتبعها الجزر البريطانية، كما تتبعها الولايات الأمريكية وغير الأمريكية، وكان في ذهنه أن تنفض الخصومة بتقرير حقوق الهيئات النيابية في كل بلد، وتقرير حقوق التاج على المساواة بين الجميع، فلا يكون لبرلمان إنجلترا حق في فرض الضرائب مع وجود البرلمانات المحلية، ولا يشترك التابعون للتاج في هذه المساواة.
Неизвестная страница