Без Границ
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Жанры
لكن حين استقر النتوفيون، وبدءوا يعيشون في منازل دائمة، واحتفظوا بغذائهم في مخازن دائمة، وعالجوا طعامهم بأدوات كانت ثقيلة جدا على النقل من مكان لآخر، وأقاموا قرى دائمة ظلت في مكان واحد طيلة أجيال، بدءوا نمط معيشة جعل بدايات الزراعة ممكنة. وحين انتقل نسل النتوفيين إلى إنتاج الطعام بدلا من صيده وجمعه فحسب، لم يكن أمامهم خيار سوى المكوث في مكان واحد.
بمجرد أن ساد نمط الحياة الزراعي، كان من الضروري إعداد الأرض للزراعة، ثم غرس البذور، ثم إزالة الحشائش، وري الشتلات النابتة (في بعض الحالات)، وحصد المحاصيل الناضجة في النهاية. بعد الحصاد، كان من الضروري تخزين كميات كافية من الغذاء للبقاء على قيد الحياة حتى موسم الزراعة التالي، والبقاء في مكان واحد لحماية مخزون الغذاء من طمع كل من الحيوانات والبشر الآخرين.
قبل أحد عشر ألف عام، كان قد بدأ يظهر دليل جلي على أن بعض المجتمعات التي كانت تسكن الهلال الخصيب كانت تزرع محصولاتها وترعاها عن قصد، والحبوب البرية التي كانت تجنى كان يستعاض عنها تدريجيا بأنواع مستأنسة؛ فقد كانت الغلال المستأنسة تحمل حبوبا أكثر على كل جذع وتنتج محاصيل أكبر. كذلك لم تكن سنابل الحبوب المستأنسة تتفتت أثناء الحصاد بالسهولة نفسها التي تتفتت بها سنابل الحبوب البرية. هكذا استطاع هؤلاء المزارعون القدامى حصد السنابل الناضجة دون الخوف من تبعثر الحبوب على الأرض قبل أن يستطيعوا الرجوع بها إلى القرية من أجل درسها.
السعي وراء الثروة المادية
ثمة حد لكمية الحاجيات المادية التي يستطيع البدو الرحل تكديسها؛ لأن الناس الدائمي الحركة لا يستطيعون الاحتفاظ بحاجيات مادية أكثر مما يمكنهم حمله معهم من مكان لآخر. وحيث إنه من دأب أعضاء الجماعات الرحالة التعاون في العديد من جوانب الصيد وجمع الثمار - ولديهم فرص محدودة لتخزين الغذاء لفترات طويلة - فإنهم يميلون لاقتسام أغلب غذائهم مع أقاربهم بصفة يومية.
أما الجماعات المستقرة التي لا تضطر إلى تغيير أماكن إقامتها عدة مرات سنويا فلا تقيدها هذه الحدود؛ فحيث إن لديها عدة خيارات لتخزين الطعام من أجل المستقبل فهي لا تضطر لاقتسامه مع أشخاص خارج أسرها المباشرة، ولأنها تعيش في مكان واحد فباستطاعتها أن تحشد من الثروة المادية بقدر ما يمكنها بدرجة معقولة تخزينه وحمايته من أن يسرقه أشخاص آخرون. وهكذا، بمجرد أن بدأ الناس يعيشون في مكان واحد، اكتسب السعي وراء الثروة أهمية لم يتمتع بها من قبل قط. ويمكن رؤية الأهمية المتزايدة للثروة والمكانة في الدليل الذي بقي في منطقة الهلال الخصيب من العصر الحجري الحديث، حين بدأ النتوفيون عادة حصد حبوبهم البرية وتخزينها في مخازن غلال.
في البداية، حين شيد النتوفيون مستوطنات دائمة، أنشئوا مخازن غلالهم منفصلة عن منازل الأسر المستقلة. وهذا يوحي بأن مئونة النتوفيين من الحبوب كانت ملكية مشتركة للجماعة ككل. وعلى كل حال، عادة اقتسام مئونة الغذاء التي تعيش عليها المجموعة ككل كانت إرثا فطريا من تاريخ النتوفيين الطويل كصيادين وجامعي ثمار.
لكن بعد مرور نحو ألف عام، اختفت مخازن غلال النتوفيين القائمة بذاتها، وحل مكانها مساحات تخزينية داخل المنازل المستقلة. من ذلك الوقت فصاعدا، ظلت مخازن غلال العصر الحجري الحديث تلحق بالمنازل التي تسكنها أسر مستقلة. يدل هذا على أن رؤية هذه المجتمعات للعالم ومنظومة قيمها كانت تتغير، وأنه بدلا من اعتبار خير الطبيعة شيئا يمكن اقتسامه بين كل أفراد المجموعة، بدأ النتوفيون اعتبار الغذاء ملكية خاصة يحتفظ بها الأفراد والأسر التي أنتجتها في الأصل.
على المنوال نفسه، فإن الأرض التي كانت كل جماعة من الصيادين وجامعي الثمار الرحل يدعون ملكيتها - الأرض التي كانت تماثل «مواطن» جماعات القردة والسعادين التي جاء وصفها في الفصل الأول - بدأت تفقد وضعها الأصلي باعتبارها المورد المشترك للجماعة الاجتماعية بأسرها. ورغم أن المناطق التي ظل من الممكن صيد الحيوانات البرية فيها وظل من الممكن جمع النباتات منها احتفظت على الأرجح بوضعها الأصلي كملكية مشتركة، فإن المساحات الأصغر من الأراضي الخصبة التي كانت مناسبة للزراعة صارت تدريجيا ملكية خاصة لأسر مستقلة. وفي النهاية، ورث الأبناء من الآباء أفضل مساحات الأراضي القابلة للزراعة ضمن ميراث ممتلكات الأسرة.
توضح الأدلة المستقاة من العديد من مجتمعات ما قبل الصناعة أنه بمجرد أن يبدأ أحد المجتمعات العيش في مكان واحد - حتى إن ظل يعيش على الصيد وجمع الثمار ولم يتطور لنمط الحياة الزراعية - فإنه يبدأ في السعي وراء جمع الثروة المادية بطرق تتشابه تشابها ملحوظا مع عادات الشعوب الزراعية. وتتضح أوجه التشابه هذه بجلاء في ثقافات شعوب الصيد وجمع الثمار المستقرة في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية.
Неизвестная страница