Без Границ
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Жанры
إذا كان عام 3200 قبل الميلاد يذكر بأنه الزمن الذي عبرت فيه البشرية لأول مرة أفق التاريخ المكتوب، فسوف يذكر عام 2000 ميلادية بأنه الوقت الذي عبرت فيه البشرية لأول مرة أفق التاريخ الرقمي. فكل كتاب أو دورية أو جريدة أو مجلة أو كتيب أو مدونة أو موقع إلكتروني ينشر اليوم - وكذلك كل فيلم أو ألبوم تسجيلي أو برنامج تلفزيوني يبث أو يذاع - قد صار مخلدا في مكان ما على وحدة تخزين على الكمبيوتر في شكل آحاد وأصفار. ورغم ذلك سيتضاءل هذا الكم الهائل من المعلومات، رغم ضخامته، أمام الكم الأكبر كثيرا من الرسائل الإلكترونية والنصوص والتغريدات والصور والفيديوهات التي يضعها ويرسلها يوميا ملايين الأشخاص في أنحاء العالم، وهي غالبا ما يخزنها ويحفظها مزودو خدمة الإنترنت الذين يرسلونها.
أما المشكلة الرئيسية التي سيواجهها مؤرخو المستقبل فهي كيفية البحث في الكم الهائل من المواد التي ستظل باقية؛ فالسجل الثقافي للزمن الحاضر الذي يجري تسجيله وتخزينه الآن في شكل رقمي سوف يمنح زمننا تميزا فريدا في سجل أحداث التاريخ الإنساني؛ إذ صرنا وسنظل أول جيل تحفظ حياته وزمنه بتفصيل شديد ودقة متناهية. فسوف تعيش أهم إنجازتنا وكذلك أتفه أشكال لهونا كلها طويلا في كتل من الآحاد والأصفار بعد رحيلنا بزمن طويل، وسوف تكون متاحة لتوعية وتسلية الأجيال المستقبلية ما دامت الحضارة الإنسانية نفسها باقية.
الروبوتات والتشغيل الآلي ومستقبل العمل الهادف
إذا كانت التحولات الثقافية التي تسببت فيها الآلات الدقيقة قد قللت من وضع المرأة في النهاية في منتصف القرن العشرين بجعل الآلة تؤدي الكثير من الأعمال المنزلية، فإن تحولات التقنية الرقمية قللت هي الأخرى من مكانة الرجل في القرن الحادي والعشرين بجعل أغلب الأعمال الذهنية والبدنية التي كان الرجال يؤدونها في الأصل تقوم بها أجهزة الكمبيوتر والروبوتات والأنظمة الآلية.
في خمسينيات القرن العشرين، حين كانت ظاهرة التشغيل الآلي في مهدها، كان أكثر الأسئلة التي راودت أذهان علماء الاجتماع هو: «كيف سيتكيف الناس في مجتمع المستقبل مع الزيادة الكبيرة في وقت الفراغ التي من المقدر أن تتيحها تقنيات التشغيل الآلي؟» فقد كان ثمة افتراض - يبدو بالأحرى ساذجا الآن - أنه إن استطاعت الآلات تولي أغلب المهام التي كان يؤديها العاملون، فسوف يتقلص أسبوع العمل لكل العمال بما يتناسب بالمقدار الذي تؤديه الآلات من عملهم. وكانت المشكلة المترتبة على هذا تصور دائما من ناحية ما سوف يفعله العامل العادي بكل وقت الفراغ الذي سينتج عن هذا التحرر من روتين العمل اليومي.
8
لكن تبين أن زيادة وقت الفراغ ليست مشكلة كبيرة؛ فرغم أن وقت فراغ العامل الأمريكي العادي قد زاد عدة ساعات أسبوعيا منذ خمسينيات القرن العشرين، فإن معظم وقت الفراغ الإضافي هذا يقضى في مشاهدة التلفزيون. بالإضافة إلى هذا، يتقاعد الملايين من الرجال والنساء من وظائفهم كل عام، ويعيش العديد من المتقاعدين عشرة أو عشرين أو ثلاثين عاما قبل وفاتهم بسبب الشيخوخة. ويجد معظم المتقاعدين أشياء مفيدة ومجزية ليقضوا فيها وقتهم. وهكذا، بدلا من أن تخلق الزيادة في وقت الفراغ مشكلة لا بد من حلها، صارت ينظر إليها باعتبارها فرصة يمكن استغلالها. ولكن لا ينطبق الشيء نفسه على رجال ونساء في أهم مراحل حياتهم وقد حرموا من وظائفهم ورواتبهم والكثير من احترامهم لذواتهم عندما استولت أجهزة الكمبيوتر والروبوتات وأنظمة التشغيل الآلي على العمل الذي كانوا يؤدونه.
يبدو أنه لم يخطر للمعلقين الاجتماعيين في خمسينيات القرن العشرين أنه حين تبدأ الآلات القيام بالعمل الذي كان يؤديه البشر قبل ذلك، لن تكون النتيجة انخفاضا تدريجيا في أسبوع العمل، وإنما بالأحرى اتجاه نحو ارتفاع البطالة والبطالة المقنعة. فلا يبدو أن أحدا قد أدرك أنه حين تصير أجهزة الكمبيوتر قادرة على أداء العمل الذهني وتصير الروبوتات قادرة على أداء العمل البدني، سوف يعفى أغلب الناس الذين كانوا يقومون بهذا العمل من وظائفهم ببساطة، وأنه سيأتي محلهم عدد أقل كثيرا من التقنيين المدربين جيدا اللازمين لبرمجة الأنظمة التي تعمل بالكمبيوتر وتشغيلها وصيانتها.
بالإضافة إلى هذا، لم يأت الجيل الجديد من أصحاب المهارات المعرفية في أغلبهم من صفوف العمال اليدويين، ولكنهم بالأحرى خريجي كليات درسوا مواد من عينة علوم الكمبيوتر والرياضيات وإدارة المشروعات ومراقبة العمليات، لكن يبدو أن هذا هو العالم الذي نعيش فيه الآن، ويبدو يوما بعد يوم أنه سيكون مصير ملايين الأشخاص الذين جرى تعيينهم في مجالي التجارة والتصنيع؛ لذلك هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عليه الآن: «كيف سيجد كل الناس الذين يفقدون وظائفهم بسبب انتشار أنظمة التشغيل الآلي وظائف هادفة ومجزية في مجال آخر، ويستعيدون كرامتهم ومكانتهم السابقتين في المجتمع؟»
رغم اضطراد تفاقم هذه المشكلة منذ ظهور أنظمة الكمبيوتر الميسورة التكاليف والموثوق بها في منتصف القرن العشرين، فإنه لا يبدو أن هناك إجابة مرضية عن هذا السؤال المحوري. فيتزايد أداء أنظمة التشغيل الآلي لكل المهام الروتينية التي كان يضطلع بها البشر، وتتولى الروبوتات تدريجيا المهام البدنية في التصنيع، وأنظمة الكمبيوتر التي طورت للتحليق بطائرات من دون طيار ستتولى قريبا قيادة مركبات العالم الحديث من وإلى وجهاتها.
Неизвестная страница