Без Границ
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Жанры
لكن في المجتمع الصناعي الحديث بات العمل الوحيد الذي لا يستغنى عنه بحق هو كسب المال من خلال وظيفة مدرة للربح. ولأنها كانت في البداية «عملا رجاليا» خلال العقود الأولى من التحول نحو الصناعة، فقد هيمن الرجال قديما على هذا القطاع، وما زالوا يتمتعون بحظوة كبيرة على النساء في الوظائف. في الوقت نفسه فقدت أهمية النساء باعتبارهن حاملات الأطفال الكثير من حيثيتها السابقة؛ فقد صارت شعوب العالم المتقدم على نحو متزايد لا تعتمد فقط على أبنائها، ولكن أيضا على استثماراتها ومعاشاتها ومدفوعات الضمان الاجتماعي وسياسات التأمين الصحي لتوفر لهم الضمان الاقتصادي في شيخوختهم.
باختصار، قاست نساء العصر الحديث من الجمود الثقافي؛ ويقصد بذلك نزوع ثقافة ما إلى الاحتفاظ بالقيم والتقاليد التي صارت بالية بسبب تغييرات أخرى في المجتمع. فمن ناحية، ما زال ينتظر من النساء أداء أغلب الأعمال المتعلقة بالطهي والتنظيف والحفاظ على ترتيب المنزل وتنشئة الأطفال، لكن من ناحية أخرى فقدت هذه المهام الكثير من أهميتها السابقة لكل من أزواجهن والمجتمع.
ونتيجة لحصارهن بين الدور التقليدي الذي لم يعد لازما ولم يعد يحظى بالاحترام كما كان فيما مضى ودور غير تقليدي هن فيه مستجدات ومنافسات غير مرحب بهن في أحيان كثيرة، تكافح نساء العصر الحديث ليجدن القبول الاجتماعي والاحترام الذاتي اللذين لم يفقدهما جنس الذكور قط، وما زال أغلب الرجال يتمتعون بهما كأمر مسلم به. غير أن قدوم التقنية الرقمية، كما سنرى في الفصل التالي، وضعت التحديات في طريق الدور التقليدي للرجال البالغين أكثر من أي تحول سابق، وأضعفت مكانتهم بطرق لم يتوقعها قط مخترعو أول أجهزة كمبيوتر.
الحب والجنس والزواج في المجتمع الصناعي
لما صارت وراثة الأرض الزراعية لا تمس حياة المواطن العادي في العصر الحديث، لم يعد مهما للآباء ترتيب زيجات أبنائهم وورثتهم؛ فنادرا ما يتزوج الناس في العصر الحديث لتقوية الأواصر الاقتصادية بين الأسر. وحيث إن عرف الزواج المدبر القديم المعد سلفا عفا عليه الزمن فعليا، فقد تغيرت تطلعات الحياة الزوجية تغيرا جذريا. ونتيجة لهذه التغيرات صار المبدأ الجديد «الزواج بدافع الحب» (القديم جدا في الواقع) هو السبب الرئيسي للزواج لدى الناس في المجتمع المعاصر.
مع انتقال شعوب العصر الحديث من المزارع إلى المدن، لم يعد الأطفال في وضع يسمح لهم بالمشاركة جديا في تحقيق الثراء للأسرة. ولما صار الدعم المالي لكبار السن تدريجيا من مسئوليات الحكومة في أنحاء العالم الصناعي، فقد الأطفال أهميتهم حتى باعتبارهم مصدر أمان لذويهم في شيخوختهم. ولما صار الأطفال في المجتمع المدني الحديث عبئا اقتصاديا على عاتق أسرهم، فليس من العجيب تقلص حجم الأسر مع كل جيل بعد التوسع في الحياة المدنية، واختيار العديد من المتزوجين عدم الإنجاب على الإطلاق.
بدلا من اعتبار الزواج وسيلة لغاية اقتصادية، غدا الشباب في العالم المتقدم يعدون الزواج سبيلا للصحبة والإشباع الجنسي. ومع تزايد اختيار الناس في العصر الحديث لأقرانهم على أساس الانجذاب الجسدي والانسجام العاطفي، سريعا ما فقدت القيم التقليدية للعفة قبل الزواج والعذرية عند الزواج جاذبيتها، لا سيما في المجتمع الغربي.
الاستقلال والحرية الشخصية اللذان جاءا مع ظهور السيارة والحفاظ على سرية الهوية في الحياة المدنية وفرا للشباب فرصا غير مسبوقة للخصوصية، وهجرت بدرجة كبيرة العادة التقليدية التي كانت تقتضي توفير مرافق لكل تواصل شخصي بين الشباب من الرجال والسيدات، بل صار يتوقع من الشباب في المجتمع الحديث بوجه عام الاشتراك في نوع من التواصل الجنسي عند التصاحب كجزء من حياتهم الاجتماعية الطبيعية، وصار من المقبول على نحو متصاعد في أنحاء العالم المتقدم أن يعيش البالغون من كل الأعمار في حرية جنسية كاملة دون ميزة الوضع القانوني للزواج. وفي عام 2013م كان 75 في المائة من النساء الأمريكيات يعشن مع رفيق دون زواج عند بلوغهن سن الثلاثين.
وقد ضاعف بشدة ظهور وسائل فعالة لمنع الحمل تقبل المجتمع الحديث لهذا الارتفاع العام في الحرية الجنسية؛ إذ حررت كلا الجنسين من مجازفة وقوع حمل غير مرغوب فيه عند ممارسة الجنس. هكذا أحدثت التوليفة القوية بين مبادئ الزواج الجديدة بدافع الحب، والمعايير الحديثة للحرية الاجتماعية والجنسية للرفاق غير المتزوجين، وظهور وسائل منع حمل مضمونة التأثير، تحولا في القيم الجنسية لدى المجتمع الحديث؛ إذ الغرائز الجنسية البشرية القديمة عادت إلى إثبات نفسها، وهي في حد ذاتها نتاج ملايين السنين من التطور.
في الواقع لم تكن مؤسسة الزواج التقليدية التي ورثناها عن المجتمعات القديمة مصممة لتوفير الحميمية أو الصحبة أو الانجذاب المتبادل أو الإشباع الجنسي؛ فقد تطور الزواج التقليدي لدى المجتمعات الزراعية كطريقة لإقامة شراكات مدى الحياة، وإنشاء أواصر ذات فوائد اقتصادية متبادلة بين الأسر، وتحقيق أقصى درجة من الاستقرار في ملكية الأرض لدى المجتمع الزراعي. وقد تحققت هذه الأهداف عن طريق مجموعة من الأعراف التي جعلت كلا من الرجال والنساء معتمدا بعضهم على بعض اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا. هذه الأعراف - وليس استمرار العاطفة أو الانجذاب المتبادل - هي ما كان يضمن استمرارية الزواج.
Неизвестная страница