ولم يكف الشابان عن الضحك في استهزاء، ولكن تمثل لعينيهما منظر المائدة، وقد صفت عليها الأطباق، وراح خيالهما يثب من طبق إلى طبق، في عجلة وبلا رحمة، حتى صاحت به نفيسة بحدة وغيظ: أتريد أن تجعل من شقيقيك متسولين في بيوت البقالين؟
فقهقه الشاب قائلا لأخته: إني أدرك سر تغيظك يا ست نفيسة؛ فإن اعتداءك على العروس حرمك حق الدعوة إلى هذه الليلة، ولكن ما ذنب هذين المسكينين؟! ليس الأمر لهوا ولعبا، ولكن طيورا ولحوما، وفطائر وخضرا، وفاكهة وحلوى ... ففكرا ثم فكرا.
ولم يجد لدعوته من صدى فهز منكبيه استهانة ولم يعد الكرة. كان حسن النية وأراد لأخويه خيرا، ولكن حماقتهما ضيعت عليهما هذا الخير؛ هكذا قال لنفيسة في أسف. ولم يشاركه الشقيقان أسفه، ولكن نفسيهما اهتزتا في حنان لذكر الطيور واللحوم، والفطائر والخضر، والفواكه والحلوى، ونشط خيالهما في حسرة وألم زاد من شدتهما اقتراب وقت العشاء الذي يندر أن تعترف به أمهما. لم يكن للأسرة عشاء عادة، وكانوا يتحامون أن يجهروا بالجوع؛ أن يضاعفوا من تعاسة أمهم وسخطها، فلاذ الشابان بالتخيل دون أن ينبس أحدهما بكلمة، على حين عكفت نفيسة على أفكارها، وهي أبعد ما تكون عن لذة الطعام ولذة الحياة عامة. ردها حديث حسن إلى أشجانها ويأسها ومخاوفها، وتساءلت في دهشة: أحقا يحيي حسن - شقيقها - ليلة الزفاف؟!
37
وحوالي التاسعة من صباح اليوم التالي لليلة الزفاف، كان حسن يسير في ميدان الخازندار، متجها إلى كلوت بك، حيث دعاه الأستاذ صبري إلى مقابلته، وكان متعبا عقب سهرة الأمس التي لا زالت ذكرياتها تدور برأسه، كانت ليلة! وكان جريئا ليس كمثل جرأته شيء، وقد شق طريقه في السرادق الذي أقيم على سطح بيت عم جابر سلمان بقدمين ثابتتين حتى بلغ المنصة بين أيد تصفق وحناجر تهتف للمغني الجديد، ورد تحياتهم برزانة وجلس وسط تخته المكون من عواد وقانونجي وكمانجي، عملوا معه كعازفين وسنيدة معا، ثم غنى «قد ما أحبك زعلان منك». وما لبث أن لمس بنفسه الفتور الذي استحوذ على الجميع، ولكنه واصل الغناء دون مبالاة، وأكثر من الشراب، وعند بدء الوصلة الثانية تصايح كثيرون يطلبون «في الليل لما خلى» ولم يكن يحفظها، فغنى «بستان جمالك»، وسرعان ما انقطعت الأسباب بين المدعوين والمطرب؛ هذا يذبح صوته بغناء لا غناء فيه، وأولئك يشربون ويضحكون، ثم بلغ الحرج غايته حين وقف سكران مترنحا، وقال بلسان ثقيل موجها خطابه للمطرب: والله لو لم تكن فتوة لقلت لك اسكت.
وعرفه حسن؛ كان حدادا في أول عطفة نصر الله، وتوعده شرا، ولكنه واصل غناءه «والله زمان زمان والله، والله زمان زمان والله»، ذكر هذا ضاحكا وهو يحث خطاه ثم قال لنفسه: «ما كان كان. لا داعي للأسف ما دمت قد انتزعت الخمسة جنيهات.» وليس هذا فحسب، وهل يمكن أن ينسى البوفيه؟ لشد ما أبلى فيه بلاء حسنا، وقد بلغ القمة حين ازدرد حمامة بعظامها. لم يكن أكلا، ولكن كان التهاما وخطفا، وسلبا وعراكا، وبلغت المعركة ذروتها حين فرغت صحيفة اللحم البقري فما كان منه إلا أن قبض على يد المدعو الذي يليه واستصفى ما فيها من شرائح. أما حسن الختام فكان عقب انتهاء الحفلة وقد التف حوله أفراد التخت يطالبونه بأجورهم فقال لهم ببساطة: أليس حسبكم ما التهمتم من طعام؟ - والأجرة؟!
فقال بوحشية: خذوها بالقوة إن استطعتم!
وانفصلوا عنه ساخطين غاضبين يائسين. شيء واحد أسف له أشد الأسف؛ هو أن أسرته لم تشاركه طعامه الشهي، أمه ونفيسة وحسين وحسنين. وكان بوده أن يعطي أمه فوق ما أعطى، ولكن تشرده الطويل علمه الحرص. على الأقل ما دامت هذه الحال. وها هو يقصد كلوت بك، بل درب طياب بالذات حيث ينتظره علي صبري الذي مناه بضروب من العيش توافق مزاجه وتلهب حماسه. وكان علي صبري قد أخبره بأنه ينتظره في قهوة وسط الدرب أمام بيت زينب الخنفاء، فارتقى السلم المفضي إلى الدرب، وحث خطاه بين بيوت مغلقة لم تستيقظ بعد، وجد الدرب كالمقفر حتى المقاهي الصغيرة كان عمالها ينفضون عنها رماد سهرة الأمس. وبلغ وسط الدرب ورأى الأستاذ علي صبري جالسا أمام باب القهوة، فاتجه إليه وسلم وجلس على كرسي إلى جانبه. لم تعد قهوة كما كانت يوما ما، ولكنها باتت مشروع قهوة جديدة إذا صدق ظنه؛ فبعض العمال يعكفون على تبييض الجدران وإعدادها للحال الجديدة، قال علي صبري مزهوا: هنا حيث تراني جالسا سنبدأ حياة جديدة.
فتولت حسن الدهشة لأنه لم يكن سمع عن هذا المشروع على كثرة ما سمع عن مشاريعه، وتساءل: والتخت والأفراح؟
فبصق الأستاذ بصقة أصابت جدران بيت زينب الخنفاء أمامهما - وكان لا يزال مغلقا - ثم قال: سيعمل التخت في هذه القهوة، أما الأفراح فربنا يجعلها مآتم! انتهى زمان الأفراح، ولا نسمع الآن إلا عن «حفل عائلي اقتصر على آل العروسين»، والراديو احتكرته أم كلثوم وعبد الوهاب، وشرذمة من المطربين المختصين بالنشاز، وهيهات أن يكون لنا عيش في هذا البلد!
Неизвестная страница