في الأسابيع التالية أدى الشقيقان امتحان النقل في ختام العام الدراسي، وكلل اجتهادهما بالنجاح فانتقل حسين إلى السنة الخامسة، وحسنين إلى السنة الرابعة. كانا يعلمان أنه لا بد لهما من النجاح، وأن حال الأسرة لم يعد يحتمل العثرات، فواصلا العمل بعزيمة صادقة، وجاءت النتيجة كما يحبان. وبدأت العطلة الصيفية التي تمتد حوالي الخمسة الأشهر، فاستجدت متاعب جديدة للأم تتعلق بغذاء الشابين، وكانت الأم وابنتها تقنعان بأبسط الطعام، وتعتمدان في الغالب على ما تجلبان من السوق من طعام جاهز؛ اقتصادا لنفقات اللحم والسمن والوقود، فوجدت المرأة نفسها مضطرة إلى تعديل هذا النظام القاسي مهما كلفها الأمر من عناء وتدبير. وهكذا لم يسر أحد بالنجاح إلا قليلا، وبدت الحياة وكأنها تزداد مع الأيام تجهما وتطالعهم بعبوس بعد عبوس. وفي ذات مساء جاء حسن بعد انقطاع دام ثلاثة أسابيع متواصلة، وأقبل على أسرته ضاحكا، كعادته، وكثيرا ما يداري بضحكه حرجه وارتباكه، وقال: مساء الخير يا أمي، مساء الخير يا أولاد، أوحشتموني كثيرا.
ورد إخوته التحية وهم يرمقونه بدهشة، أما أمه فلبثت تنظر فيما بين يديها معلنة على سخطها بالصمت والتجاهل. بيد أنها عدلت عما كانت تلقاه به من التعنيف والحساب، أو الحث على العمل؛ هيهات أن يجدي الكلام بعد ما كان! وألح عليها الحزن الذي يغشى نفسها كلما فكرت في أمره أو وقعت عليه عيناها. حتى السؤال عن غيابه الطويل لم يخطر لها على بال، وإنها لتعلم سلفا بما أعد - طبعا - من جواب؛ سيقول بصوت مؤثر إنه يختفي حتى يوفر عليها نفقة إطعامه وإيوائه، وإنه لا يني البحث عن عمل ... إلخ. أما إخوته فالحق أنهم سروا برؤيته بعد اختفائه الطويل؛ كانوا يحبونه كما كان يحبهم، وسألته نفيسة: حمدا لله على السلامة، أين كنت طوال هذه الأسابيع؟
وخلع الشاب سترته وطرحها على المكتب، ثم جلس على الفراش وقال باسما: أكل العيش يحب التعب! (ثم ملتفتا إلى أمه) أبشري يا ست أم حسن، أخذت تفرج!
فرفعت الأم رأسها ونظرت صوبه بريبة واهتمام معا، ثم تمتمت في شيء من الأمل: حقا؟!
فضحك سرورا بإثارته لاهتمامها بعد ما لاقى من تجاهلها وقال: سبق أن أخبرتكم بأن الأستاذ صبري ضمني إلى تخته.
فتنهدت الأم في جزع وقالت: لا أعتقد أن هذا عمل جدي. - لقد دعي الأستاذ منذ أسبوع إلى إحياء ليلة فرح ببولاق، وذهبت معه لقاء ريال غير العشاء طبعا. إني أعلم أنه مبلغ تافه، ولكن الرزق دأبه التمنع بادئ الأمر.
فقالت الأم في ضيق: أتوسل إليك للمرة الألف أن تبحث لك عن عمل جدي لخير نفسك، إن لم يكن لخيرنا نحن، ما عسى أن أقول يا حسن؟ ألا تعلم بأننا لا نكاد نشبع أبدا؟
وخفض عينيه في ارتباك، كان حب أسرته العاطفة الشريفة الوحيدة التي يخفق بها قلبه، ولعلها الأثر الوحيد الذي تركته أمه في خلقه، وغمغم قائلا: صبرك، لم أفرغ كلامي بعد.
وهنا قاطعه حسنين قائلا: أتظن أن علي صبري هذا يمكن أن يكون يوما مغنيا حقا؟
فرفع حسن حاجبيه الكثيفين في إنكار، وأراد أن يزيل أثر حديث أمه فقال في مرح: سفخص على هذا البلد الذي لا يقدر! الأستاذ صبري فنان كبير. إن «يا ليل» منه شفاء ودواء. هل سمعته وهو ينتقل من البياتي إلى الحجاز، ثم يعود إلى البياتي؟ لم يفعل هذا إلا الحمولي، وسلامة حجازي مرة أو مرتين. أما محمد عبد الوهاب فإذا خرج من البياتي فقل أن يعود إليه إلا في حفلة تالية. وليس يعيبه أنه أحيا ليلة بجنيهات معدودات؛ فلا يزال في أول الطريق، والتاريخ يحدثنا بأن من كبار الفنانين من أحيا أولى لياليه لقاء بضعة أرغفة!
Неизвестная страница