وردد حسنين نظره بينهما حائرا، قد يقبض على أخيه وقد لا يقبض عليه، ولكنه سيظل على الحالين يطاردهم ويتهددهم، لن يطمئن لهم جانب وهو على قيد الحياة، ثم تساءل في فتور: أين نذهب؟
فقالت الأم في أمل: إلى شارع شبرا بعيدا عن هنا.
فندت عنه حركة تنم عن الجزع والسخط وقال: أبعد من هذا، أبعد من هذا .. إلى مصر الجديدة!
فقال حسين في شيء من الارتياح: كما تشاء.
فلاح في وجهه تردد طارئ، ثم قال متنهدا: ولكننا في حاجة ماسة إلى أثاث جديد!
فقالت الأم بضيق: لا تزد الأمور تعقيدا، ماذا يهم الأثاث إذا لم تقع عليه الأعين؟! - لا أستطيع أن أخفي بيتنا عن أصدقائي إلى الأبد!
فقال حسين: هذه مسألة أخرى، وبوسعك أن تبتاع كنبة وكرسيين كبيرين وبساطا أسيوطيا فتجعل منها حجرة استقبال مؤقتة، وإذا شئت خرجنا معا اليوم أو غدا للبحث عن شقة؟
بذلك خف التوتر قليلا وإن غشيت جو المكان كآبة استسلموا لها جميعا في صمت حتى دق الباب، وجاء فريد أفندي وأسرته، كانت زيارة منتظرة ، ولكنها جاءت في أسوأ حال، وذكر حسين في عجب كيف حلم بها منذ ساعات، وكيف يتلقاها الآن بفؤاد كسير ونفس فاترة، أما حسنين فقد ثار غضبه بلا سبب ظاهر، ولو لم يره فريد أفندي ونفيسة تتقدمه إلى حجرة الاستقبال، لمضى هاربا إلى الخارج. واجتمعوا في حجرة الاستقبال، ولقي حسين من الأسرة تحية حارة، ثم استفاض الحديث عن الماضي والحاضر. وكانوا يتوقعون أن يثير الزوار مسألة التفتيش والبوليس، ولكن آل فريد أفندي تجاهلوا الأمر كلية، كأنهم ما علموا به، ولم يلطف هذا التجاهل من حنق حسنين، أو بالحرى زاد من ثورته الباطنة وشعر بجرح عميق في كرامته. والتقت عيناه بعيني بهية أكثر من مرة فوجدها ترمقه بحزن وحيرة، لم تخف عنه بواعثهما منذ سفره المفاجئ إلى طنطا، ليكن، لقد ضاق صدره بهذا كله. الآن، وفي وقدة حنقه وضيقه، يستطيع أن يواجه خواطره الباطنة بصراحة وشجاعة، ولن تكون هذه المرأة حماته، ولا هذا الرجل حماه ... ولا هذه الفتاة زوجه! كل أولئك هم عطفة نصر الله بلا زيادة، عطفة نصر الله بذكرياتها السود وحاضرها الأغبر. إنهم يعلمون بما جاء بالبوليس كما يعلم الجيران جميعا، ولكنهم يتكرمون عليهم بتجاهل الأمر، ولعلهم يضيفون هذه المكرمة الجديدة إلى مكرماتهم السابقة. سحقا لهم، لشد ما يضيق صدره بالمكرمات قديمها وحديثها! وإنه ليتطلع إلى قوم جدد لا تحول بينه وبينهم المكرمات ولا يربط الماضي البغيض أسبابه بأسبابهم. «انظري بحزن وحيرة كيف شئت، لست لك، لست لك! ينبغي أن يتغير كل شيء، ماذا فتنني في هذا الجسم؟! ألأنه لحم طري؟ الأسواق ملأى بهذه اللحوم، جو بغيض! لو طال المقام بي هنا أكثر من ذلك سأبغض أسرتي نفسها.» وطالت الزيارة فجعل يتحملها في صبر حتى انصرفت الأسرة قبيل المغرب بقليل، وقد دست الفتاة في يده ورقة مطوية وهي تسلم عليه، ولما أن خلا إلى نفسه وبسطها وجد بها هذه العبارة: «قابلني فوق السطح.» كانت أول رسالة توجهها إليه، وتفحص الخط بعناية وغرابة، فوجده بخط الأطفال أشبه، وذكر لتوه تعليمها الابتدائي ! بيد أنها كانت على إيجازها عميقة الدلالة، حتى لكأنها صرخة استغاثة، ولا شك أنها كتبتها خلسة في شقتها قبل الزيارة؛ مما يدل على أن قلبها توجس خيفة من أن يواصل فراره منها الذي بدأه بالرحيل إلى طنطا. وأحس بغمز الألم في قلبه وشمله عدم ارتياح فسخط كما يسخط على كل شيء حوله، ولكن فيم يسخط؟ أليس من الخير أن تلم بما طرأ على نفسه؟ وهل كان يظن أن الارتياب لن يتسرب إلى نفسها بعد سفره المفاجئ؟ ليكن، لن يرضخ لضغط الظروف حتى يدمر نفسه بنفسه، ولن يغامر بسعادته ومستقبله من أجل عاطفة طفلية قديمة ووعد صبياني. وخاف أن يخلو إلى نفسه أكثر مما خلا فمضى إلى حجرته وقال مخاطبا أخاه: هلم بنا لنخرج.
ونهض حسين موافقا على دعوته، وغادرا الحجرة معا، ووجد ما يشبه الندم، وتمنى لو كان حسين قد تكاسل عن تلبية دعوته بهذه السرعة ليعاود التفكير! ولم تكن الفرصة قد ضاعت تماما؛ فلم يزل بوسعه أن يراجع نفسه، ولكنه لم ينبس بكلمة، وواصل سيره إلى جانب أخيه. لعلها تنتظر الآن أمام حجرة الدجاج! وخفق قلبه خفقة شديدة. تنتظر بلا أمل؟ وما أقبح هذا! وفي نفس المكان الذي لمس حرارته وسمع بثه وشكواه؟ ما أعجب هذا! وحاول أن يطرد هذه الصورة عن مخيلته بتصميم عنيف، ثم سمع أخاه وهو يخاطبه قائلا: لن نضيع وقتنا، ولن ينقضي هذا الشهر حتى نكون قد انتقلنا إلى البيت الجديد.
77
Неизвестная страница