ما جدوى هذا الكلام الطيب؟ ولكن أية فائدة تنتظرها من التذمر والشكوى؟! وغادرا الوزارة في شبه ظلام من القلق واليأس. وهتفت المرأة: كيف نلقى الحياة هذه الأشهر؟! وكيف نعيش بخمسة جنيهات بعد ذلك؟!
وخفض الشاب بصره في وجوم وضيق، ولاح لعيني المرأة المكدودتين بصيص من نور فقالت: سأزور أحمد بك يسري. إنه مفتش عظيم نافذ الكلمة، وكان صديقا عزيزا لأبيك.
فقال حسن بأمل: رأي حسن، إن الكلمة منه تغير إجراءات الحكومة.
فنظرت إليه باهتمام وقالت: لا تضيع وقتك معي. لعلك تدرك حالنا على حقيقتها فاذهب وابحث لك عن عمل مهما كلفك الأمر.
وعادت إلى شبرا بمفردها، ولبثت في البيت حتى العصر، ثم قصدت شارع طاهر أو حي الأعيان كما يسمونه. وكان يقع شمال عطفة نصر الله بثلاث محطات، متفرعا من الطريق العام. تقوم على جانبيه الفيلات الأنيقة والعمارات الحديثة. واسترشدت ببعض السابلة حتى استدلت على فيلا البك. وكان بناء جميلا مكونا من دورين تحيط به حديقة مونقة. وذكرت للبواب صفتها «حرم المرحوم كامل أفندي علي»، فعاد إليها مسرعا وقادها إلى بهو استقبال فاخر موصل بفراندة كبيرة، ثم أخبرها أن البك قادم بعد ارتداء ملابسه. وخيل إليها أن فترة الانتظار قد طالت، ولكنها لبثت بمكانها دون أن ترفع النقاب الأسود عن وجهها. وقد شغلت بأفكارها المضطربة عن رؤية المنظر النفيس الذي يكتنفها. بيد أنها كانت كبيرة الرجاء في هذا الصديق العظيم. طالما ذكره المرحوم أمامها بالحب والفخار، وطالما لمست بنفسها أنعم هذه الصداقة في أقفاص العنب والمانجو تهدى إليهم في المواسم، وكان المرحوم يقضي أكثر سهراته في هذه الفيلا، وربما في هذا الموضع منها حيث تجلس الآن - وقد ألقت على ما حولها نظرة حزينة - يلعب بأوتار عوده، ويسمر هزيعا طويلا من الليل. فليس بعيدا أن تغادر هذه الفيلا مجبورة الخاطر، وإنها لمغرقة في أفكارها إذ فتح الباب الداخلي للبهو وجاء البك بجسمه الطويل العريض، وشاربه المفتول بعناية بالغة، فقامت المرأة في أدب، وسلم عليها البك وهو يقول برقة: تفضلي يا ست بالجلوس، شرفتنا. رحمة الله على زوجك، كان صديقا عزيزا أحزنني فقده، وسوف يحزنني طوال العمر.
فاستبشرت المرأة خيرا بهذا اللقاء، وشكرت له عطفه، وراح البك يحدثها عن الفقيد حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وزادها الموقف استفاضة فلم تحاول منعها مدفوعة برغبة غريزية في استثارة عطفه. ثم ساد الصمت حينا فأدركت رغم حزنها واضطرابها أن شارب البك وسوالفه مصبوغة، وأنه يغالي في العناية بمظهره، إلى ما تطيب به من رائحة زكية عميقة الأثر. ولما تكرم بسؤالها عن طلبتها قالت: جئت مستشفعة بسعادتك؛ لاستعجال صرف معاش المرحوم. قالوا لي يا سعادة البك إن إجراءات صرفه تستنفذ أشهرا.
فتفكر الرجل مليا، ثم قال: لن أدخر وسيلة في سبيل ذلك، وسأقابل وكيل المالية بنفسي.
فأثلج صدرها ارتياحا، وشكرته، ثم ترددت لحظات وقالت: الحال يا بك تستدعي السرعة، والله المطلع.
فقال الرجل باهتمام: طبعا، طبعا. إني فاهم كل شيء. هل أنت في حاجة إلى مساعدة؟!
يا له من سؤال! إنها لا تملك إلا جنيهين هما ما تبقيا من المبلغ الذي وجدته بمحفظة المرحوم، ولن تجد سواهما حتى يصرف لها ما يستحق من مرتبه حتى تاريخ الوفاة. ولكن كيف تفصح له عن هذه الحقيقة؟ لم تتعرض لمثل هذا الموقف من قبل، وإنه لموقف يستوجب أن يألفه المرء حتى يخرج منه بطائل، وعقل الحياء لسانها فسكتت قليلا ثم قالت بصوت منخفض: أحمد الله على الستر. بوسعي أن أنتظر قليلا.
Неизвестная страница