وحرك حسين شفتيه كأنه يتكلم، ولكنه لم ينبس بكلمة، وقال حسان أفندي وهو يصب الشاي في القدحين: البنت في البيت نعمة كبرى، لقد تزوج أخواتها؛ واحدة في القاهرة، واثنتان في دمنهور ولم يبق غيرها!
تمتم حسين في ارتباك: ربنا يفرحك بها.
ومضيا يحتسيان الشاي في صمت، وأخذ الارتباك يذهب عن حسين مخلفا وراءه شعورا بالحرج، لم يدر له سببا واضحا، أو لعله تهرب من السبب وتجاهله. ووجد إلى هذا أنه لا يزال متأثرا بما علق في مخيلته من صورة الفتاة على غموضها، تأثرا يعرفه في نفسه حيال أية فتاة، ولا دلالة خاصة له سوى أنه انفعال مكتوب على كل شاب بصفة عامة، وكل شاب بكر بصفة خاصة، ولعل انبعاثه هذه المرة في بيت - لا في الطريق ولا في الترام - هو الذي أشاعه في جو من الحيرة والبهجة والعمق. وكان حتما أن يفكر في أمور أخرى بعيدة عنه بعد القاهرة، فتساوره مشاعر خوف وحذر، ولبث حسان أفندي يراقبه صامتا، ثم ضاق بالصمت فقال: اشرب شايك وتأهب للعشرة الآتية، وقعت في مخالبي ولا نجاة لك.
52
كانت على درجة من الحسن تسوغ تأثره، وقد صدق ظنه فيما تلا من أيام وأسابيع فرآها في الطريق بصحبة أمها ، ولمحها في البيت أكثر من مرة، ومن حسن الحظ أنها لم ترث من هيئة أبيها إلا خديه المنتفخين، ولكنهما جعلا لها طابعا خاصا، ولم يقبحا وجهها، وأدرك بسهولة أن شقة حسان أفندي باتت تجذبه إليها بقوة لا يبررها نشدان التسلية وحده. وكان يمتلئ شبابا وحيوية، فكأن قلبه كان ينتظر أول طارق، وسرعان ما ترعرعت بين جنبيه عاطفة يضطرم فيها الميل والرغبة والإعجاب، فرامها أنسا لوحشته وريا لظمئه، ولكن لم تغب عنه دقة موقفه لحظة واحدة من بادئ الأمر، فلم يكن يغفل عن متاعبه، ولم يدر له بخلد أن يتراخى في القيام بواجبه، بيد أنه لم يعالج أمره بالحزم، وكان هذا فوق طاقته، وكان عليه أن يختار بين الإغضاء من ناحية وبين الانزواء في حياة جافة موحشة لا نسمة فيها ولا أمل. واشتدت به الحيرة، وفكر مرارا في العودة إلى الفندق منتحلا عذرا من الأعذار، ولكنه لم يفعل، ثم وجد نفسه يسلم للأقدار، تاركا لها الأمر كله تقضي فيه بقضائها. وتواصلت الأيام دون أن يجد جديد، وكان نادرا ما يرى الفتاة، ولكنها لم تغب عن خاطره قط، أما حسان أفندي فلم يخرج عن مألوف ثرثرته، وتجاهل الأمر كله. وفي أثناء ذلك لم تنقطع عنه أخبار أسرته بفضل رسائل حسنين التي لا تترك كبيرة ولا صغيرة، فكأنه يواصل حياته بينهم، ويشاركهم عواطفهم جميعا. وقد أخبره بأن أمه قررت أن ترصد النقود التي يرسلها لضرورات الكساء وحده، وأنه ظفر منها بجاكتة جديدة يرتديها مع البنطلون القديم، وأنها ابتاعت لنفسها روبا ترتديه فوق فساتينها الخفيفة فيكسبها دفئا تستغني به عن الملابس الصوفية، وكان من نتائج ذلك - رصد نقوده لضرورات الكساء - أنهم لم يستطيعوا الانتفاع بها في تحسين حالهم الغذائية التي ظلت على ما يعلم من التفاهة والسوء. وحدثه عن نفيسة فقال إنها تظفر من آن لآن بتقدم يسير وأن الأم لم تعد تستولي على جل كسبها كما كانت تفعل قبل ورود نقوده، فتوفر لديها مال قليل تنفقه على ثيابها، كي تظهر أمام الناس بالمظهر اللائق بهم، أما حسن فيبدو أن حياته الجديدة تستأثر به استئثارا شغله عنهم، أو لعله ظن بعد توظفه - حسين - أنهم لم يعودوا بحاجة إليه، فانقطع عنهم انقطاعا كليا. وواصل موافاته بأنباء استعداده لامتحان البكالوريا في نهاية العام قائلا إنه يستبسل في مذاكرته لأنه يعلم ما يعنيه سقوطه. وفي آخر رسالة وردت منه تودد إلى أخيه توددا كبيرا، ثم سأله في ختامها هل يطمع أن يمده بثمن بنطلون منجما على أشهر ثلاثة؛ نظرا لأن الجاكتة الجديدة قد فقدت بهاءها فوق البنطلون القديم الناحل؟ ووقف حسين عند هذا الرجاء متفكرا، لا يدري إن كان يستطيع أن يحقق له رغبته دون مساس بالقدر الذي يودعه صندوق التوفير. لكن فيم يفكر وهو يعلم بأنه لن يخيب لحسنين رجاء؟ ربما كان بوسعه أن يزجره لو لم يفرق بينهما هذا البعاد، ولكن البعاد رقق قلبه، وجعل حنينه إلى أهله قوة لا تقاوم. أجل إنه حريص لا يرحب بتاتا ببعثرة النقود، لكن حرصه يتخلى عنه بلا عناء كبير إذا كان البذل لأهله. لن يضيره التقتير على نفسه ثلاثة أشهر كثيرا في سبيل إرضاء حسنين. إنه يعرفه حق المعرفة، ويعلم بأنه يعد ما يقدم له من خير واجبا على الآخرين، فإذا لم يسعفه بالبنطلون نسي في حنقه صنيع الجاكتة. ووجد إلى هذا شعورا غريبا يدفعه إلى أن يغمر بجميله الفتى الذي يؤمن بأنه سيكون له مستقبل باهر غدا. لقد ضحى بمستقبله في سبيله، وينبغي أن تكون التضحية كاملة. وعاوده ذلك الشعور السعيد الحزين بأنه الضحية الصابرة على الأقدار التي تجهمت لهم، وأنه الدرع الذي يتلقى الضربات دون أن يتحطم، إنه عزاء يستمد منه قوة وسرورا، ويضفي على حياته معنى خلقيا باهرا.
ثم حدث ما لم يقع له في حسبان - هكذا قال لنفسه وإن لم يكن صادقا - إذ كان يوما يجالس حسان أفندي ويتنازعان الحديث كالعادة، فسأله الرجل: ألم تفكر في الزواج؟
فاضطرب الشاب، وشعر بما يشبه الذعر، ثم غمغم قائلا: كلا.
فرفع الرجل حاجبيه مستنكرا وقال: وفيم تفكر إذن؟ ولماذا تعيش؟ هل تظن للرجل من غاية، خاصة إذا اطمأن جانبه بالوظيفة، سوى الزواج؟
وتردد حسين قليلا ثم قال: علي واجبات خليقة بالتقديم عما عداها.
ثم صارحه بما يكتنف أسرته من متاعب مستعينا بالمبالغة أحيانا، حتى يقوي مركزه حياله. وأصغى الرجل إليه باهتمام حتى انتهى من قصته، ولكنه لم يبد عليه الاقتناع، ولم يكن على استعداد للاقتناع ما يحول بينه وبين أمانيه، ثم هز رأسه الأصلع باستهانة وقال: أراك تبالغ في تقدير خطورة الحال، حسبك الصبر حتى يحصل أخوك على البكالوريا، ثم تكون في حل من التحرر من مسئوليتك، وعليه هو أن يتوظف بدوره، النحاس باشا نفسه تزوج، فهل ترى نفسك أكبر مسئولية منه؟!
Неизвестная страница