إن الشعوب لا ذنب لها أبدا، فهي إذا طلب منها البذل تبذل، إذا طلب الموت تموت، إذا طلب الصبر والاحتمال تصبر وتحتمل. المشكلة دائما هي في القيادة، ليس حتى على مستوى الدولة أو الأمة العربية كلها وإنما حتى على مستوى المدينة والقرية والوحدة. إن مشكلتنا هي تلك التي تضعفنا إلى حد العدم، تلك التي تجعل قوتنا تتضاءل إلى حد لا نستطيع معه مواجهة ذيل من ذيول الاستعمار.
ماذا لو قامت الشعوب العربية بالجهد؟ ماذا لو انعقد مؤتمر للقيادات الثقافية والمهنية والعمالية والزراعية في عالمنا العربي، مؤتمر مسئول يساهم في حمل المسئولية مع الملوك والرؤساء، مؤتمر يجعل القضية ليست فقط مسئولية الملوك والرؤساء، وإنما يجعلها مسئولية الشعب كله بكل فئاته وطوائفه؟ أما أن نبقى جميعا مثقفين وعمالا وكتابا وقادة وحكماء ومفكرين. أن تبقى كل إمكانيات هذا الشعب الفكرية والعقائدية والكفاحية والثورية وهي ضخمة هائلة الضخامة، تبقى كل تلك الإمكانيات ويبقى معها الشعب في مدنه وقراه ومزارعه ومصانعه؟
إن على القيادات الشعبية في كافة الدول العربية أن تتحرك لكي يتحرك الشعب العربي ويحمل القضية ويوجد كعامل حاسم في الموقف، فالشعب إلى الآن غير موجود، القضية في حاجة إلى كتف كل فرد من أفراد الشعب العربي وإلى ساعده.
إن على الشعب العربي أن يدخل لنخرج من دائرة الركود والاستسلام تلك التي طالت وأصبح السكوت عليها أمرا لا يطاق ولا يحتمل، وخير لنا أن ندخل الشعب العربي بإرادتنا - أي بإرادة رؤسائه وملوكه - خير ألف مرة من أن ننتظر ونسوف حتى يدخل رغما عن هذه الإرادة، فلم يعد أحد يطيق الانتظار.
والله حتى لو اضطررنا للمشي لقناة السويس وغزة والقدس بأيدينا الجرداء وهراواتنا، ولتحصدنا المدافع ما تشاء، خير ألف مرة من أن نظل هكذا واقفين في انتظار «جودو» أو «يانج» الذي لن يحل المشكلة.
فلنتفق، ولنؤمن أن انتظارنا لحل القضية على يد هيئة الأمم أو الدول الكبرى عبث وسخف وضياع للوقت، حل القضية في يدنا وفي هراواتنا إن عز السلاح، وفي ملاييننا الكثيرة المشتتة الجهد، المكدسة في مدننا وقرانا فاغرة الأفواه تائهة، لا تعرف ما العمل.
فلنتحرك بها صوب القضية قبل أن تتحرك من تلقاء نفسها. (36) الأخلاق القديمة خيانة عظمى
قرأت بإمعان تفاصيل قضية امتحانات الثانوية العامة، أصبت بعد قراءتها بدهشة، فالمتهم الأول، ذلك الموظف الكبير في المطبعة السرية، لم يقدم على جريمته بدافع المال أو الرشوة أو المتعة، أقدم عليها بدافع أغرب، بدافع الشهامة ومحاولة مساعدة ابن صديقه، والمتهم الثاني أو الثالث الابن لم يقدم على جريمته هو الآخر ويوصل الأسئلة لابن عمه إلا بدافع غريب آخر، دافع الحرص على مصلحة ابن عمه.
دوافع غريبة لا شك لارتكاب جريمة، لا تخفف (نظافتها) الظاهرة من بشاعة الجرم، بقدر ما تضاعفها.
وليست هذه أول ولا آخر جريمة ترتكب في بلادنا بسبب هذه الدوافع المجيدة، فالأمثلة كثيرة وتقع تحت سمعنا وبصرنا كل يوم، والشيء الخطير أنها تدل على أن بعضا منا لا يزال يحيا في حدود أسرته ومعارفه وأصدقائه لا يعرف غيرهم، ولا يقيم وزنا لغيرهم، هم الدائرة الوحيدة التي يتحرك داخلها ويحسب لها حسابا، أتتصورون هذا؟ بعد كل معاركنا التي خضناها كشعب، وبعد كل هذه الأحداث الهائلة التي كانت كفيلة بإذابة كل ما بيننا من حدود ذاتية وشخصية ودمجتنا على هيئة أمة واحدة وشعب واحد، بعد كل هذا لا يزال بعض منا لم يحس بأنه قد أصبح فردا في شعب كبير، ولا تزال دائرة أسرته ومعارفه وبلدياته هي شعبه الوحيد الذي ينتمي إليه. الخيانة في نظره أن يخون هذه الدائرة الضيقة، والشهامة أن يقدم على عمل من أجلها حتى لو أودى عمله هذا بمصلحة بقية الشعب.
Неизвестная страница