وأشعرني حديث نجيب بخطورة الوضع، فهو يقول هذا في وقت تنشر فيه مجلة الكاتب دراسة عن أعماله من أعظم الدراسات الأدبية المعاصرة أصالة وجدة يكتبها أحمد عباس صالح، دراسة تكاد تكون هي العلامة الوحيدة الباقية الدالة على أن الحياة في الحركة النقدية لا يزال لها بعض النبض. ولكن نجيب محفوظ لم يكن يقصد شخصه فقط أو الدراسات عنه، وإنما كان يذكر الحقيقة بشكل عام. والحقيقة أن ناقدا كبيرا كالدكتور علي الراعي كف عن الكتابة، بينما أستاذ كبير آخر كالدكتور لويس عوض انصرف إلى التأليف والترجمة، وكف الأهرام الأسبوعي عن متابعة الحركة الأدبية كعهده بالنقد والدراسات، وروز اليوسف وصباح الخير أصبحتا تنشران «آراء» وانطباعات ووجهات نظر، ومعظمها عن الأفلام والمسرحيات، وكأن المسألة قد أصبحت بالأسهل، وبينما اختفى النقد الإيجابي القائم على الكدح الذهني وإعمال العقل للتقييم والاكتشاف والمقارنة، ازدهر النقد السلبي الذي لا يكلف الناقد أكثر من سهرة يمضيها في مسرح أو أمام شاشة تليفزيون أو سينما، والصفحة الأدبية لجريدة الجمهورية تعتمد على مساهمة الكتاب من خارجها، وبالتالي فإنها لا تقدم مادة نقدية مبنية على أساس من العمد والخطة. الأستاذ محمود أمين العالم في المصور، والأستاذ رجاء النقاش في الكواكب، يكادان يكونان وحدهما القائمين بمهمة متابعة الإنتاج الأدبي بالنقد والتقييم متابعة أسبوعية، لا تتيح لهما فرصة دراسات أعمق، فحركتنا الأدبية قد نضجت في إنتاجها إلى حد أن بدأت تتكون مدارس ومفهومات. بدأت رواية جديدة تظهر، وقصة قصيرة جديدة، ومسرحية جديدة، وأشكال مختلفة في الشعر الجديد، بل لدى الكاتب أو الشاعر الواحد بدأت تتجمع خصائص وتتكاتف لتكون مرحلة أو انتقالا. هناك محصلة قوى بطبيعة الحال، وكلمة ما تريد الحركة الأدبية الحديثة حبا في النهاية أن تقولها. فما هي تلك الهجرة إلى التاريخ في المسرح، حتى رأينا ثلاث مسرحيات متتابعة لثلاثة كتاب مختلفي النزعات تعود القهقرى إلى التاريخ، وتحوم حول فترة تكاد تكون واحدة هي عصر المماليك؟ ما سببها؟ ما أصلها، ومعناها وفصلها؟ وهل هي علامة صحة أم علامة مرض، وما العلاج؟
نفقد ولا نحظى بجديد
ألف مشكلة ومشكلة ونحن في النقاد نفقد ولا يضاف جديد. فقدنا أستاذنا المرحوم الدكتور مندور، وأستاذنا العقاد، والملتزم الجاد القدير أنور المعداوي، دون أن يضاف للقائمة اسم جديد. بل مع اختفاء الدكتور الراعي اختفى أيضا الدكتور عبد القادر القط، والدكتور رشاد رشدي كف هو الآخر عن النقد، الدكتورة سهير القلماوي تكتفي في أحاديثها الإذاعية تقريبا بكتب التراث، حتى الأستاذ أنيس منصور تحول من نقد الأدب إلى نقد الظواهر الغامضة في الكون. إن الركيزة الأولى لأي «حركة» أدبية هي الناقد الكبير، فبلا ناقد لا يمكن أن توجد حركة، وإنما يتحول الأدب إلى ظاهرة إنتاج فردي، وهو الوضع الذي آلت إليه حركتنا الأدبية التي لم يعد بها إلا منتجون، مصير إنتاجهم محمول على كف عفريت. قد نفقد أجل الأعمال وتئوب إلى الإهمال والنسيان؛ لأن حظها - مجرد حظها - عاثر، وقد تتسلط الأضواء بحكم الصدف وحدها لترفع عملا لا يستحق الذكر. في الحقيقة أصبح مصير أثمن ما تنتجه قرائحنا في الأدب والفن متوقفا على هوى ومزاج أناس غير مسئولين، يزاولون النقد كهواية، وبالمناسبة بلا أي التزام أو فهم أو أساس. معظمهم أناس لديهم الفرصة للكتابة في المجلات والجرائد وممن لهم حق قول الرأي والتوقيع بالاسم. حياة أي عمل فني أو مصيره أصبح معلقا برأي هؤلاء بطريقة كف الجمهور معها عن تصديق ما يكتب أو الإيمان به، فكثيرا ما تحشد من هذه الأقلام مظاهرة تشيد بفيلم أو مسرحية مثلا وترفعها إلى عنان السماء، ويذهب الناس لرؤيتها فإذا بهم يفاجئون بالعمل لا يمت بصلة إلى ما كتب عنه. وخطورة حملة هذه الأقلام، ولأنهم ليسوا نقادا ولا يحملون في صدورهم المسئولية التاريخية عن الحركة الأدبية والفنية ولا يؤرقهم أي التزام، خطورتهم ألا رقيب عليهم فيما يقولون غير ضمائرهم، وفي أحيان كثيرة لا ترتبط ضمائرهم بوجه الحق وحده، إنما ترتبط بوجه المصلحة أو العلاقة الشخصية. وهكذا أصبح مصير عملك، مصير كتابك مثلا أو مسرحيتك، معلقا بعدد معارفك من حملة هذه الأقلام ومبلغ حاجتهم إليك أو خوفهم منك. وفي الماضي حين كان الكبار جميعهم ينقدون، كانت أحكامهم أحيانا تختلف. هذا صحيح، ولكن مهما بلغ اختلاف وجهات نظرهم فإن عملا جادا كان من المستحيل أن يفلته انتباههم، وكان من المستحيل أيضا أن يسمحوا بمرور عمل رديء، فما بالك بتكريمه وتتويجه؟
إن حركتنا الفنية والأدبية اليوم تشبه مباراة كرة بلا حكم، بل إن الأدهى والأمر أن اللعيبة قد أصبحوا الحكام، والكتاب المنتجين قد أصبحوا ينقدون، والنقاد بدءوا ينتجون كتبا وأعمالا سينمائية ومسرحية، ويكاد صوت الحق وسط هذه الفوضى كلها أن يضيع.
وليس الحق وحده. لقد ذكر لي نجيب محفوظ أن النقد بالنسبة إليه كان البوصلة له والمرآة. وقد تحمست وأنا أقره على رأيه، فالكاتب حين يكتب قصة أو قصيدة قد يحيط بكنه ما فعله فيها. ولكن تظل في العمل زوايا وأبعاد لا يمكن أن يدركها من تلقاء نفسه، ولا بد من الناقد الجاد ليدله بالضبط على ما فعل، أين وصل؟ وإلى أي اتجاه هو ذاهب؟ وهل وفق أم كان هيكل عمله «العظمي» ناتئا في بعض أجزائه يتطلب كما أكثر من اللحم والدم ونوعا آخر من العلاج؟ إن الشيء الذي لا يعلمه الناس أن الناقد هو ركيزة الحركة الأدبية الأولى؛ لأنه هو عيون الكاتب وأسماعه، هو الذي يرى له، وبالأمانة المطلقة يخبره.
وهكذا، ومن خلال وجهة نظر الناقد تتحدد للكاتب أحجام عمله وأشكاله وأعماقه، وعلى هدى ما رآه تتضح له العيون الخفية التي لا يدركها سواه، ويغير أو يبدل من خط سيره، أو يطمح في طريق آخر، أو حتى يكف تماما عن الخضوع لمدرسته. باختصار بلا ناقد لا يستطيع الكاتب الجاد أن يواصل عمله. لهذا فالخلق والنقد في الحقيقة عملية واحدة نتيجتها العمل الفني المتكامل. إن الكتابة المتصلة تتصل؛ لأنها محاولة الكاتب المستمرة للاقتراب من الصورة المثلى المرسومة في ذهنه. وإذا كان الكاتب باستطاعته أن يرى الصورة المثلى التي يريد الوصول إليها، فللأسف ليس باستطاعته أن يرى الصورة التي ينفذها فعلا وينتجها. الناقد يراها له، وفي نفس الوقت يراها الناس. إن الناقد «يقرأ» لنا الكاتب، وقد نظن أن باستطاعتنا القراءة بمفردنا، ولكن يكفيك أن تقرأ هاملت شكسبير بمفردك ثم تقرأها بعد أن تكون قد قرأت «نقد» دوفرلسون لها. ستحس أنك كنت كمن لم يقرأها، وكأن دوفر علمنا كيف نقرؤها.
ليست مسألة شخصية
الوضع كما ترى خطير، يستشعر خطره كاتب كنجيب محفوظ. قد يعتقد البعض أنه لم يعد بحاجة إلى النقد أو النقاد، في حين أنه كلما قارب الكاتب من نضجه؛ أي كلما اندفع في تجاربه الفنية إلى أعمق، أحس بالضرورة القصوى للوقوف على كنه ما يفعله، والغريب أني أصبحت كلما أخرجت كتابا يحوي مجموعة قصص وأحسست بحاجتي لنقدها، كان بعض الإجابات من زملائنا النقاد غريبة تدفع للذهول. أكثر من مرة قال لي أكثر من ناقد: الحقيقة أننا نرى أنك لم تعد بحاجة إلى النقد أو الكتابة عنك، ونحن نفضل في هذه الحالة أن نكتب أو ننقد كاتبا ناشئا جديدا. وأن يهتم النقاد بالكتاب الجدد واجب أكيد، ولكن غير المعقول أن يكون هذا الاهتمام على حساب أن قصصي لم تعد بحاجة إلى النقد، وكأن النقد أصبح يفهم على أنه «دعاية» للكاتب أو لأعماله بحيث توجه لمن هو في حاجة أمس إليها. للأسف يغزو المفهوم الغريب للنقد عقول بعض نقادنا، ويحسون - على الأقل بينهم وبين أنفسهم - أن كتابتهم عن فلان دعاية له. وربما من أجل هذا المفهوم نفسه انكمش النقد وتضاءل عدد النقاد؛ إذ لا بد أن عددا منهم أحس أنه لا يفعل أكثر من «الدعاية» لهذا الأديب أو ذاك، فيصبح الأجدى حينئذ أن ينتج هو ويصبح أديبا مثلا، وأن يكف أصلا عن النقد استخسارا لجهده أن ينفقه في تمجيد الآخرين.
هذا هو أخطر ما يمكن أن يصير إليه مفهوم النقد، أن يصبح عملا شخصيا يرتبط بشخص الكاتب أو الناقد، وأن يفقد معناه الحقيقي الموضوعي. إن الكاتب الحقيقي يدعي إذا هو اعتقد للحظة أنه ينتج ليصنع له اسما رنانا كالطبل. إن الكاتب الحقيقي تزعجه في الواقع الشهرة وإن كان يستمتع بجزئه البشري العادي بها، ولكنه لحظة الجد لا بد أن يحس أنه إنما يكتب لأنه يؤمن برسالة ما، أو بجمال ما، أو بقيمة ما، يهب نفسه للتبشير بها وترويجها. والناقد الحقيقي يتناول أعمال الكتاب لا لأن هذا صديقه أو أنه معجب بذاك، وإنما لأن الكتاب وأعمالهم هم مادته الخام التي من خلالها يدعو لرأيه وفلسفته والقيم الروحية والجمالية والفنية التي يؤمن بها. إنه أيضا يستسلم للضعف البشري، إذا هو أحس أنه يكتب عن فلان أو يروج لأعماله بالكتابة عنه، إن المسألة بعيدة كل البعد عن شخص الكاتب وشخص الناقد، إن الحركة الأدبية والفنية تئول إلى جحيم حين يتحول اهتمام القائمين بها من الأعمال والقيم إلى أشخاصهم وأشخاص غيرهم. إن الذاتية والذاتية الغيرية هي عدوة الفن اللدودة، كما هي عدوة العلم والثورة وكل عمل إنساني شريف. بهذا المفهوم الضيق يتحول الحقل الفني المليء بالزهور وأنماط الجمال إلى غابة يصطرع فيها وحوش، كل منها ينشد التهام غيره وتضخيم ذاته. لكي يقر النظام وتحرق الغابة وتنقرض الوحوش وتستحيل إلى بلابل مغردة. لا بد أن يستيقظ النقاد الكبار ويحسوا بخطئهم البشع ومسئوليتهم الكبرى عن الكارثة، ومن جديد يطبقون المقاييس الموضوعية. من جديد يبدأ الحق يسود والعدل، من جديد يبدأ الحماس للخلق، للأصالة، للقيم الفنية المهدرة، من جديد يطغى الإحساس بالفن وحده مهما كان شخص منتجه، من جديد يبدأ الجمهور يثق في كلمة النقد المكتومة، ويؤمن بأن الرأي الصادر لم يصدر إلا عن إيمان حقيقي لا يخالطه الهوى أو الشلة أو المصلحة، من جديد ينكمش عدد هواة النقد المخربين ويزداد عدد الجادين البنائين، من جديد يذهب رعب الكتاب وإشفاقهم على مصير أعمالهم، وجريهم بطريقة مخجلة وراء كسب الأقلام المؤيدة، ويصبح كل عملهم مقصورا على الإنتاج، أما ما بعد فهو مسئولية حركة نقدية كبيرة ملتزمة عاقلة، من جديد يبدأ كاتب كبير كنجيب محفوظ «يرى» ما قدمه كي يعرف طريقه إلى تقديم غيره. (28) وداعا، لهيمنجواي
أحسست بفجيعة تكاد تكون شخصية لوفاة هيمنجواي؛ لا لعظمته ككاتب، ولكن لعظمته فوق كل شيء كرجل، وحقيقة مسلم بها، نادرا ما اجتمعت الموهبة العظيمة مع الشخصية العظيمة، فمعظم الكتاب يكتبون عن البطولة والأبطال؛ لأنهم ليسوا أبطالا وليس في حياتهم بطولة، وقليلون منهم يكتبون عن الأبطال؛ لأنهم أنفسهم من الأبطال، ولأن البطولة عندهم أعمال عادية يزاولونها دون إحساس بأمجادها أو خطورتها. هيمنجواي كان من ذلك النوع، ولم تكن بطولته أنه غزا الأقطار أو أقام إمبراطوريات أو انتزع لنفسه تاج اشتغاله بمعركة الإنسان، بطولته كانت أنه عاش الحياة بجرأة بمثل ما يجب أن تعاش به الحياة، وواجهها، بطولته أنه كفرد وكرجل أدرك مشاكل عصره واقتحمها، وظل يقتحمها، ويؤمن بعمق أن عمله كإنسان، كآلة الحياة الكبرى، أن يظل يواجهها ويقتحمها، حتى في أقسى وأقصى صورها ظل يواجهها.
Неизвестная страница