والحقيقة أني في بحر عشر سنوات طويلة، وأنا أكتب مادة هذا الكتاب، لم أكن ألقي إلى هذه المشكلة بالا، باعتبار أني أنا الآخر موقن أني أكتب للصحافة، وهي جواز مرور أمثل لأي نوع من أنواع الكتابة، وبالذات النوع القليل الفن. ولكني وأنا أراجع ال (تقريبا 600) انطباع ولمسة ورأي لأختار منها المادة التي تليق بالقدس المسمى بالكتاب، وجدت أن المسألة في حاجة إلى تفكير من جديد. وللوهلة الأولى أحسست أننا نبخس «الرأي» وأهميته بظلم واضح، وبدون تعريفات وتفاصحات كثيرة، فإن أدق مقياس للعمل الفني أو الأدبي هو أثره في «المستقبل»؛ أي القارئ أو القراء. إذا كان العمل يبعث لدى القارئ أو المتفرج إحساسا بالتفاؤل فهو عمل متفائل، رغم كل ما قد يقال عن نهاياته التعسة أو المتشائمة، والعكس صحيح تماما. أما إذا لم يتأثر القارئ بالعمل إطلاقا، فهو قطعا لا يمت إلى الفن بصلة مهما وجد فيه النقاد من رموز وتجريدات.
من هنا نستطيع القول بأن الفن ليس هو الأشكال الفنية المتعارف عليها فقط، وإنما هو كل ما يجعل «المستقبل» ينفعل انفعالا يشبه انفعاله بأي عمل فني؛ آيات الطبيعة، جلسة صادقة صريحة مع أصدقاء، «عمل» قام به أحدهم.
وهذا هو المهم، رأي لا تتحرك له عقولنا فقط، وإنما «ننفعل» له بعواطفنا ووجداننا أيضا. المشكلة إذن ليست مشكلة وجود الرأي في العمل أو عدم وجوده، المشكلة هي في الرأي نفسه، في طريقة تقديمه بحيث يصل إلى طبقات أعمق، ويحرك الوجدان. وبالمناسبة، فإني لا أطيق الحديث عن «العقل» و«العواطف» كشيئين مختلفين ؛ إن أمخاخنا لا تعمل هكذا أبدا، لا تفصل. إنها كل متكامل، كل ما في الأمر أن العقل يحدد خط وكيفية السير، والعواطف تحدد الاتجاه، بالضبط كالتكتيك والاستراتيجية. ولا يمكن أن يتحرك العقل إلا بدافع من عاطفة ما، ولا يمكن أن ينفعل الشخص بعاطفة إلا والعقل مشترك بكل قواه في الانفعال.
ونعود للرأي. حقيقة هناك آراء تساق بطريقة ميكانيكية كمسائل الحساب والجبر، ولكن بالتأكيد هناك آراء تبلغ من تحريكها لأعماق الإنسان وعواطفه مبلغا ربما يعجز العمل الفني عن الوصول إليه.
لقد وجدت أني - في خضم العمل اليومي أو الأسبوعي في الصحافة - قد وصلت إلى أشياء لا يمكن أن ينتهي الإنسان منها بمجرد انتهائه من قراءة الجريدة، أشياء تكون في مجموعها أحاسيس وأحلام وعثرات وقفزات شاب مغامر، خلال أخصب عشر سنوات من عمر الشباب، من الثلاثين إلى الأربعين.
أشياء أرجو ألا يبدو من الطريقة التي أتحدث بها عنها أني أعتز بها لأنها عملي أنا.
الحقيقة أن هدفي الوحيد من هذا الكتاب هو أن أضع أمام القراء - سواء من جيلنا كانوا أم من أجيال لاحقة أو سابقة - صورة حية لتفاعل إنسان مثلي مع أحداث حياتنا العاصفة في الفترة ما بين 1958، 1968.
وكان من المستحيل أن تتجسد صورة كهذه إلا من خلال أعمال فيها رأي؛ رأيي، الذي قد يكون خاصا، ولكني لا أملك سواه، فالرأي الصادق ليس تفكيرة أو تفنينة تستطيع أن تلفقها من وحي الساعة، رأيك الحقيقي شيء آخر. إن الضمير الذي نجله ونقدسه رأي، ضميرك هو رأيك، أو على وجه الدقة، على أساس آرائك يتحدث ضميرك، أدق أجهزة العدالة في نفسك.
لو كنت أعرف أن مهمة اختيار عدد محدود من اليوميات والانطباعات والحكايات، من بين 600 عمل، ستستغرق كل هذا الوقت والجهد والعذاب، لفضلت ألف مرة أن أكتب كتابا جديدا. فالجهد الأكبر استغرقته دقة الاختيار؛ إذ على أساسه سيتحدد صدق الصورة النهائية من زيفها.
وبرهبة أتمنى أن يجد القراء ما يعوض صبرهم، ليس حتى على الكتاب كله، وإنما أولا على قراءة هذه المقدمة.
Неизвестная страница