وشيء غريب هذا، وزارة الأوقاف التي تطلق آلاف وعاظها في المساجد والقرى ينهون الناس عن الغيبة والنميمة والرجس الذي هو من عمل الشيطان، تستحل لنفسها أن ترتكب كبرى الكبائر وتبني معجزة زائفة ليست من الإسلام في شيء، وتخدع بها ملايين البسطاء والسذج وتوهمهم أنها آثار أقدام الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكأنها لا تدعو الناس للإيمان بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم
على أساس أنه صاحب الرسالة المحمدية الخالدة، ولكن لأنه الرجل الذي سار على الحجر فغاص الحجر بأقدامه؟!
وشيء من اثنين: إما أن هذا الحجر معجزة حقيقية، وعلى وزارة الأوقاف حينئذ أن تخرجه، وتجند نفسها لعرض هذه المعجزة على سكان العالم أجمع باعتبار أنها شيء خارق للعادة، ممكن أن تنسخ أي معتقد آخر وتغير تغييرا جذريا في حياتنا وعلومنا ونظرتنا إلى الكون والواقع والمستقبل، وإما أنها معجزة زائفة وفي هذه الحالة فلا بد من محاكمة المسئولين عن هذه الخدعة الكبرى الذين غرروا بملايين القلوب الطيبة، ولا بد من توضيح حقيقة هذه «المعجزة» وإزالة ذلك الحجر من المسجد، ووضعه في متحف الحضارة الإسلامية على اعتبار أنه نموذج بدائي لفن الحفر على الصخر صنعه فنان مجهول في أحد القرون الهجرية.
وقد يحدث هذا وتزيل الوزارة الحجر، ولكني أشك كثيرا في قدرتها على إزالة «المعجزة» من أذهان الناس، فقد غادرت الجامع الأحمدي وصدري يحفل بأحاسيس كثيرة، أهم ما فيها هو تصوري لكم من ملايين الأيدي واللمسات استلزمها الأمر ليتحول السور الحديدي الذي حول قطعة الحجر، ولتتحول قطعة الحجر نفسها إلى حرير ناعم، تصور جعلني أدرك أن المعجزة الحقيقية ليست هي في آثار الأقدام على الصخر، ولكنها في آثار ملايين الأيدي التي انطبعت على النحاس والحديد وبرته ونعمته، المعجزة الكبرى أيضا، ملايين الناس حين تؤمن فتبري بأيديها النحاس، وحين لا تؤمن فلا يفلح في ردها حديد ولا رصاص. (16) خسارة 80 مليون جنيه
بينما القاهرة تشوي سكانها على أحر نار، كنا نحن في بقعة أخرى من أرض مصر، الحرارة فيها لا تفترق كثيرا عن الحرارة في جهنم، ولأول مرة منذ أن وعيت بالعالم أحس به حارا إلى تلك الدرجة، لأول مرة منذ أن عرفت الهواء أشعر به يهب ناريا لافحا لاسعا بمثل ما كنت أشعر به، كنا في المنيا، وهي أول مرة في حياتي أهبط فيها أرض الصعيد، وتشاء الحكمة أن أختار لهذا الهبوط أو الصعود يوما ضرب الرقم القياسي في درجة لهيبه، فكأنما جاء يوما صعيديا هو الآخر، مغرقا في صعيديته.
وكنت دائما أتلهف على رؤية الصعيد، ليس رؤية عابرة من خلال قطار الأقصر وأسوان، وإنما رؤية حضور واندماج وتأمل، وكنا أربعة في الإستيشن واجن: الدكتور النبوي المهندس وزير الصحة، والدكتور رشوان فهمي نقيب الأطباء، والدكتور حليم جريس أستاذ الجراحة بقصر العيني، وكنت أنا معهم.
ومنذ اللحظة التي غادرنا فيها حدود القاهرة وأنا أتطلع بشغف زائد إلى الأرض والناس والمدن الصغيرة، وكأني في طريقي لرؤية بلاد غريبة لم ترها عين قط، نفس شغفي الذي أحسسته حين زرت أوروبا لأول مرة، إن الصعيد له في أذهاننا معان كثيرة، وقد اكتشفت أنه ليس صعيدا واحدا وإنما «أصعدة» كثيرة، الصعيد الجواني والبراني وبحري أسيوط وقبلي أسيوط والوسطاني. وكل منها يعتقد أنه الصعيد الذي لا صعيد غيره، على أية حال، ومهما كان اسم البلاد التي كنا نراها، فقد كانت بلادا مصرية، وكانت جميلة رائعة الجمال.
أما المستشفيات التي بدأنا نزورها فكانت في المنيا، وسواء أكانت مجهزة خصيصى للزيارة أم هو حالها الدائم، فقط كانت، والشهادة لله، أنظف مستشفيات رأيتها في مصر بما فيها مستشفيات القاهرة، وكان فيها - ويا للغرابة! - زهور موضوعة في الممرات! وداخل هذه المستشفيات والوحدات الريفية كنا نجد زملاء وأطباء وممرضات وحكيمات في هذا القيظ الحارق، شاعرين بدورهم، مدركين أنهم يحاربون في خط النار الأول ضد المرض، حتى لو كانت الحرب تدور في وحدات ضاربة في بطن الجبل أو راقدة كالحمامة البيضاء على حافة الصحراء.
Неизвестная страница