ومن أيام قليلة حدث شيء عجيب! فتحت الحنفية لأغسل يدي، ودون أن أدري أو أتردد وجدت نفسي أغسل يدي فعلا، ووجدتني لا أختصر الغسيل، أطيل فيه وأترك الماء ينساب على ساعدي حتى يبلغ الكوع. والماء لا يخرج منه بخار يغشو له الجو ولكنه يلمع كسبائك الفضة المجدولة.
وكنت أريد فقط أن أغسل يدي فإذا بي أغسل وجهي ورأسي، وأجعل الماء ينساب في صدري فأستعذب لمسه وكأنه خد الجميل، وأجعله ينساب في فمي وأتذوقه وأجد طعمه حلوا وكأن ثمة سكرا طبيعيا قد أضيف إليه.
والنيل اختفت أحراشه، واختفت كتل مياهه الضخمة الهائلة، وبدت وكأنها قد شفت وخفت حتى تلاشت. ولم يعد في النيل سوى ملايين الأطفال العرايا الحديثي الولادة يلعبون ويداعبون بعضهم البعض، ويتقافزون ويتراقصون، ويكونون دوائر وقوافل وتشكيلات، لا يكاد الإنسان يراها حتى يحس في الحال برغبة لا يستطيع مقاومتها في أن يخلع ملابسه ويقذف بنفسه بين ملايين الموجات الطفلة، يلاعبها ويدعها تلاعبه.
وطوال يومي أي ماء رأيته خارجا من عربة رش، أو لامعا في زجاجة كازوزة، أو حتى مصبوبا من كوز، أي ماء رأيته كنت أحس برغبتي في صبه على نفسي أو شربه أو حتى مجرد تذوقه. وأي ماء رأيته ولمسته كنت أحس بلمسه حبيبا غير غريب، ولكأنه سلام صديق مألوف، صديق طفولة، ربما كأني ألامس نفسي، كأني أصبحت ماء مثل الماء، أو أصبح الماء إنسانا.
إنه الصيف. (10) المفترى عليهم
في صفحة كاملة قرأت لمحمد عودة مقالا عن «تبعات الاشتراكية». وعودة أحد الكتاب القلائل الذين تفرض كتاباتهم على القارئ احتراما خاصا وتقديرا، فمع التحليل البارع تجد الخلق، ومع الموضوعية تجد الحماس، ومع الثقافة تجد التجربة والواقع، ولكن الذي أحزنني ويحزنني دائما هو هذا الهجوم الذي يلقاه المثقفون هذه الأيام، لكأن الثقافة أصبحت تهمة وعلامة من علامات الإخلال بالشرف. والعجيب أن الهجوم يصدر عن مثقفين، لولا الثقافة ما كتبوا وما استطاعوا القراءة والاطلاع على التراث الأجنبي، وأخيرا لولاها ما استطاعوا أن يعرفوا قيمة القلم أو يتخذوه أداة للكتابة، والهجوم ينصب دائما - ولا أعرف لم - على مثقفي هذا الجيل؛ إذ نفس هؤلاء الذين يهاجمون مثقفي هذه الأيام نجدهم هم المنادين بتكريم الجبرتي وابن سينا وعمر مكرم وعلي يوسف وعبد الله النديم ومختار ولطفي السيد. أما حين يصل الأمر إلى هذا الجيل فإن حالة اشمئزاز مفاجئة تجتاحهم، وتدفع واحدا أحترمه مثل عودة لأن يقول: إن الحل الحقيقي لأزمة المثقفين هو إنتاج مثقفين جدد، مثقفين من قلب الشعب، من أبناء العمال والفلاحين، صادقين مع أنفسهم، صادقين مع مجتمعهم، لم يعانوا تشويه وتضليل الثقافة الاستعمارية وقيم المجتمع الاستعماري.
لماذا أحكام الإعدام؟
حقيقة أن عودة قبل هذه الفقرة يدعو الثورة لأن تصفح عن مثقفي اليمين واليسار، وتمنحهم فرصة أخرى ليراجعوا أنفسهم ولينضموا إلى القافلة، ولكن المثير هو حكم الإعدام الأخير الذي أصدره عودة على مثقفي هذا الجيل عامة، حتى أصبح الحل الحقيقي استحضار أو استنبات مثقفين جدد، وكلام كهذا ليس ظلما فقط، ولكني لا أستطيع أن أسميه إلا بأنه نوع من الاندفاع المخرف المتحمس، إذ هكذا طبع بعض الناس. في ساعات النكوص عملهم الوحيد أن يلوموا الآخرين ويسقطوا عليهم خوفهم، وساعات الانتصار - مثل ساعتنا تلك - التي قام فيها قائد الثورة بعمل بطولي تاريخي عميق المدى والأثر، يدفعهم الانبهار بالعمل إلى نسيان أشياء كثيرة أو تناسيها، وعلى الأقل إلى نسيان أنفسهم والأرض التي يقفون عليها، ويسارعون بإلقاء كل أوراق الماضي على الآخرين وتحميلهم مسئولية كل فشل سابق، ثم أخيرا يعمدون إلى إلغائهم كلية كما يطالب الزميل.
بيت الداء
والمثقفون هم أسهل الأهداف، هم الحائط الواطي الذي يسارع كل صنديد بالقفز عليه، إن ما قرأته عن المثقفين في بلدي جعلني أحس وكأنهم مصابون بنوع من الطاعون، بعضهم خونة وبعضهم سفلة وبعضهم انتهازيون، وأقل صفة لبعضهم السلبية والعقم، إنني لا أعرف بلدا من بلاد العالم ثار فيه بعضهم على خلاصة خلاصته، على هؤلاء الذين أنفق البلد على إنتاجهم المال والجهد والسنين بمثل ما حدث لدينا، وبالذات هذا الجيل من المثقفين. ولو كانت الثورة قد استجابت لكل ما كتب وقيل لكان من واجبها أن تقوم في الحال بمذبحة قلعة أخرى ضد المثقفين، وتركهم مشنوقين على عواميد النور في شارع الكورنيش، ولكن الثورة لم تفعل هذا. لقد وقف قائدها جمال عبد الناصر في جامعة الإسكندرية يحاضر أساتذتها ويضع يده كالطبيب الماهر على بيت الداء، ويقول: إن المشكلة لم تكن مشكلة المثقفين، ولكنها مشكلة الطبقات؛ إذ المشكلة هكذا فعلا، فأعداء شعبنا لم يكونوا هم المثقفين، أعداؤه كانوا الاستعمار والرجعية، الاستعمار بظلاله ومفهوماته وعقلياته، والرجعية بكل صورها، ولهذا حاربنا الاستعمار والرجعية، وحين أصبحت الرأسمالية عدوا حاربناها، أما المثقفون، وبالذات مثقفو هذا الجيل، فهم، لكي يستريح عودة، أسلم معه جدلا إنهم حافلون بالعيوب والمتناقضات، ومع هذا فهم الجيل الذي صنع الثورة - هذه الثورة - بكتاباتهم، بخطبهم، بمواقفهم، بالنار المقدسة التي أوقدوها، بمطالباتهم بالجلاء، بتضحياتهم، بالسجون التي دخلوها، بالشهداء الذين سقطوا، بتجاربهم المرة العنيفة مع صدقي والنقراشي وإبراهيم عبد الهادي وفيتز باتريك واللورد كليرن والملك، هم الذين هيئوا الشعب للثورة، وحين جاءت الثورة عكس كل ما قيل التفوا حولها، وكيف بمن مهد للثورة لا يلتف حولها حين تجيء؟ وما حدث بين الثورة وبين قطاعات من المثقفين لم يكن نتيجة لعداء؛ إذ لم تقم الثورة لتحطم المثقفين المخلصين، لقد قامت لتحطم الاستعمار والإقطاع والرجعية، إن ما حدث كان فقط نتيجة لاختلاف في الرأي، اختلاف كان لا بد أن يحدث، فهو التفاعل الحيوي الخلاق الذي استفادت منه الثورة بقدر ما استفاد منه المثقفون، والثورة يكون نجاحها أحيانا ليس فقط بمقدار ما تحققه من مكاسب وما تحرزه من انتصارات، ولكن أيضا بمقدار ما تحدثه في المجتمع من رجة فكرية وجذب وشد واختلاف واتفاق.
Неизвестная страница