وأمام قهوة الحرية سقط عبد الرحيم القاضي المصاب بضغط الدم على جنبه، وصدرت عنه تموجات تشنجية، وانكمش جانب فيه وسالت منه رغوة، ثم فاضت روحه.
وحتى العصر لم يطرأ تغير يذكر. خف توهج النهار قليلا، وبهتت الصفرة الكئيبة المنداحة في السماء، ومالت الشمس ولكنها ظلت تصب النيران صبا. وانعقدت الرطوبة حول الأجساد مادة لزجة ذات كثافة ملموسة. ومع أن الشعر هو أحب القراءات إلى حسن الزفتاوي إلا أنه قال بفتور: كلمات .. كلمات، لا توحي بشيء، أين ذهب الشعر؟
فأجابه صديقه حمدي مغمض العينين ملصقا زجاجة الاسباتس بجبينه: عبثا تبحث عن شيء له قيمة في هذا اليوم. - حتى الحب مات! - وحتى الجنس فقد نكهته الحيوانية الحريفة!
وصادف عسكري الدورية بحي الطبلية عربة خيار يدفعها صاحبها في تراخ فثار غضبه، ثم انقض على العربة فنزع مقبضيها من يد البياع، ورفعها إلى أقصى ذراعه حتى اندلق الخيار على الأرض وصاح: ألف مرة قلنا ممنوع مرور العربات!
وصرخ البياع وتجمهر الناس. وانتبه العسكري المنقول حديثا من قسم قصر النيل إلى قسم الجمالية إلى أن التعليمات المطبقة على منطقة قصر النيل لا تنطبق على حي الطبلية، فشعر بحرج مركزه، ولكنه أبى أن ينهزم أو أن يعترف بخطئه؛ فصاح مستزيدا من الغضب: كيف تسب الدين يا جاحد؟! .. تسب الدين؟!
وأقسم الرجل بالطلاق ولكن أكثر من قسم بالطلاق ترامت من الأركان والنوافذ. وتابع الحادثة بفتور الواقفون حول مشرب السوبيا، يلهثون ويشربون ويتصببون عرقا، والذباب يتلاطم فوق رءوسهم.
واستقرت أشعة الشمس المائلة فوق الجانب الغربي لعمارة النجمة بجاردن سيتي حيث يقيم إبراهيم سمهان المستشار. واستيقظ المستشار من قيلولته ليجد نفسه غارقا في بحيرة من العرق. هز رأسه في ذهول، ونظر طويلا إلى صورة جسده المنطبعة فوق الفراش. كيف حدث هذا؟ وماذا يصنع إذن جهاز التكييف؟ انزلق إلى الأرض وهو يترنح في جلبابه الفضفاض، ومضى إلى الجهاز، فتبين أنه متوقف. فسد الجهاز أم انقطعت الكهرباء؟ وأدار المفتاح الكهربائي فوجد الكهرباء منقطعة. لا شك أنها انقطعت بسبب ارتفاع الحرارة. وهذا يعني أن الفريجيدير أيضا متعطلة، في هذا اليوم الملعون. وهو وحيد في القاهرة بينا تصيف الأسرة في الإسكندرية، ولولا اجتماع مجلس إدارة المؤسسة المنتدب إليها لما جرى عليه هذا الحظ التعس، وذهب إلى الحمام وفتح الفريجيدير ليبل ريقه الجاف ولو بشربة فاترة، ولكنه رأى صرصورا لابدا في عنق القارورة الوحيدة التي ملأها بنفسه قبل النوم. تحول عنها غاضبا عابسا إلى صنبور الماء وفتحه، ولكنه لم يقطر نقطة واحدة. رباه .. غاض الماء من الأدوار العالية كما يحدث كثيرا في الأيام القائظة. أي جنون؟! ضائع في صحراء. كم إنه ظمآن، وكم إنه متلهف على دش بارد! وغادر شقته في الدور الثامن إلى الطرقة الخارجية. المصعد متوقف طبعا، كل شيء متوقف خرب في هذا اليوم الجهنمي. ونظر من فوق الدرابزين وصاح بأعلى صوته: عم محمد .. عم محمد.
لا مجيب. وكرر النداء دون جدوى. رباه ما العمل؟! ظمآن وحران ولا بد أن يذهب إلى المرحاض أيضا. وإذا به يرى خادم الشقة التالية له وهو يصعد خطوة فخطوة، ينوء بحمل صفيحة مملوءة بالماء. وأنزل الخادم الصفيحة على أرض الطرقة حتى يسترد أنفاسه. وقف شاحب الوجه بصدر يعلو وينخفض. ونظر المستشار ناحيته، فتبادلا نظرة طويلة وهما صامتان. وضمن المستشار نظرته رجاء مستحيلا، فتجاهله الخادم وأرخى جفنيه زائغا مما قطع بأنه تلقى الرسالة ورفضها. له حق فليس في الإمكان أن يكرر عمله الفدائي مرتين، ولكن ما العمل؟ ونظر المستشار إلى الماء المترجرج في الصفيحة الناصعة فازدرد ريقه الجاف بصعوبة، ثم همس وهو يبتسم متوددا: تسمح لي بملء كوب؟
فقال الخادم باستحياء: تفضل يا بيه.
وهرع إلى الداخل ثم رجع بكوب فملأه، وصبه في جوفه دفعة واحدة. وجعل يستشعر الماء وهو يرشح من مسامه، ثم تمتم: ماء دافئ. - ينصب من الحنفية كالنار.
Неизвестная страница