غادرا الحديقة وهي تتأبط ذراعه، وشقا سبيلهما بين الموائد في محل بيجل الداخلي حتى انتهيا إلى شارع سليمان. ورغم الحرارة المرتفعة جرت نسمة الليل، وومضت في السماء مئات النجوم فوق هامات العمارات الشاهقة. واقتربا في طريقهما من قهوة ليموند. كان يقف عند مدخلها ماسح أحذية مائلا إلى الجدار في تراخ، يقبض بيد على صندوقه ويعبث بالأخرى بشارب ثائر غليظ كأن شعيراته قدت من أسلاك حديدية. ربعة مليء، يرتدي فوق جلبابه سترة محلاة ببطاقة خضراء تحمل اسم القهوة بأحرف بيضاء. وظهر عند رأس عطفة جانبية ملاصقة لجدار القهوة رجلان مجلببان. نادى أحدهما ماسح الأحذية قائلا: يا عم .. من فضلك.
استقام الرجل في وقفته، ثم اتجه نحو الرجلين اللذين وقفا داخل العطفة بعيدا عن أنوار الشارع. وبلغ ماسح الأحذية موقف الرجلين عندما كان حامد وسهام يسيران بحذائه. وبغتة رفع الرجل الذي ناداه يده بهراوة إلى أقصى الذراع، ثم هوى بها بكل قوة فوق رأسه. صرخ الرجل متراجعا إلى الشارع، وقد سقط الصندوق من يده. وتشبثت سهام بذراع حامد وهي ترتعد. وفي نفس الوقت رفع الرجل الآخر يده بهراوته، وهوى بها فوق رأس الرجل المترنح، فوقع على ركبتيه متأوها: آه .. انجدوني.
تتابعت الضربات من الرجلين بسرعة في قسوة وعنف وإصرار، حتى تهشم الرأس وغرق في بحيرة من دماء. وحملقت سهام في المنظر الدموي بلا إرادة ثم شهقت وتداعت مغمى عليها؛ فتلقاها حامد بين ذراعيه. وارتفع الصياح، وهرع الناس إلى المكان من جميع الجهات، وهب الجالسون على الطوار من رواد القهوة وقوفا يتطلعون، ثم قدم شرطي جريا وهو يصفر.
لم يجر القاتلان، لم يحاولا الهرب قط، وظل كلاهما قابضا على هراوته الملطخة بالدماء، وعيناهما تعكسان نظرات وحشية متحجرة. وقال أكبرهما: نحن تحت أمر الشاويش، ولكن حذار أن يقترب منكم أحد.
حمل حامد سهام بين ذراعيه ومضى بها إلى مشرب عصير قريب من القهوة. أجلسها على مقعد في أقصى المحل، وراح يربت على خديها برفق، وسأله صاحب المحل: أطلب الإسعاف؟
فأجاب وهو يبلل منديله بالماء: انتظر لحظة من فضلك، ربما أفاقت دون حاجة إلى مساعدة.
وجعل يمسح بالمنديل المبلل وجهها وعنقها حتى عجن البودرة بالأحمر بالكحل، هذا والضجة في الخارج تتزايد، وسباب يتبادل بلا حساب. وفتحت سهام عينيها، رنت بهما إلى وجهه في ذهول. وقلبتهما في الوجوه بدهشة، ثم غمغمت: أنا تعبانة.
فقال لها وهو يواصل مسح وجهها ليزيل عنه الأصباغ تماما: سآتيك بكوب عصير.
شربت قليلا فيما يشبه التقزز، وغمغمت مرة أخرى: منظر فظيع لا يمكن أن ينسى. - سينسى كل شيء حتما. - ووقع الضربات على الرأس .. آه. - شدي حيلك، يجب أن نذهب.
وإذا بصرخة تفلت منها، وهي تشير إلى قميصه بعصبية منذعرة. نظر في مرآة فرأى رشاشا من الدم قد لوث أعلى قميصه فتقلص وجهه، ورأى مثله فوق صفحة حقيبتها البيضاء وثنية شالها. بل منديله للمرة الرابعة وراح يزيل آثار الدم عن القميص والحقيبة والشال، فهتفت: هل لوثني أيضا؟ - لم يعد هناك شيء، انظري بنفسك.
Неизвестная страница