Бейрут и Ливан за полтора века
بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن
Жанры
كان هذا الباشا يتعاطى التجارة، وكان التجار يومذاك لا يستطيعون شراء جميع المنتوجات التي كانت في حوزته نظرا لقلة رأس مالهم؛ ولهذا كانت تعقد صفقات مقايضة بينه وبين شاحني المراكب الذين كانوا يترددون على سوريا في أثناء الحرب.
كنت في بيروت عام 1809 عندما وصلت باخرة إفرنسية «بطلة جنوى» مدججة بالبضائع، تنشد الثروة. وكان في إدارة الجمرك مأمور مكلف - من قبل سيده - مفاوضة من ينزلون إلى الشاطئ، فأرسل يستقدم القبطان إليه. وإذ كانا محتاجين إلى ترجمان؛ دعيت أنا للاهتمام بقضية تختص بسليمان باشا صديق الإفرنسيين، فعقدت الصفقة على حمولة الباخرة كلها دون أقل عناء؛ وهذا ما يحدث حيث تكون الصراحة متوافرة والنية الحسنة؛ فمدير الجمرك لا يستطيع أن يكون سمسارا لأنه ممثل سليمان باشا، والمثل في هذه البلاد يقول: الناس على دين ملوكهم.
وقبل أن أنتقل من هذا الموضوع لا بد لي من إبداء شعور أزعجني؛ شعور أوحته إلي هذه الفكرة التي أوردتها. لقد شيدوا ضريحا فخما للجزار، في حين أن ضريح سليمان باشا يكاد يكون مشارا إليه فقط؛ وهذه بادرة أخرى يجب أن تدون هنا لتدل على أننا والشرقيين على طرفي نقيض في كل شيء.
إن رفات هذا الظالم - أحد أولئك الرجال الذين لم ير لهم الشرق مثيلا في تعطشهم إلى الدماء - يوضع في ضريح فخم، أما أشلاء صديق الإنسانية الذي كان يسميه المسلمون باباس باشا نظرا لتحليه بصفات الراعي الصالح - أو الكاهن الجليل حسب التعبير الديني - فلا يكاد يعرف أين هي. إن هذا يرجع إلى عقلية الشرقيين التي تعزو كل شيء إلى مشيئة الله، ولا تعرفه إلا حين يغضب ويضرب ضرباته المخيفة. فعندهم أن الجزار - الرجل الفاني - لم يكن ليقدر أن يؤدي رسالة هذا الظلم والجور لو لم يكن الله قد اصطفاه لإلقاء تلك الدروس القاسية على العالم. رويت فيما سبق كيف يحترم المجانين عند هذا الشعب الكثير الأوهام والتخيلات، إن لهذا الوهم عذرا واضحا لأن له على الأقل وجهته الأخلاقية، فالاهتمام بالشخص المهمل المعتوه يستحق فاعله أجرا عليه، أما الاهتمام بقبر طاغية كالجزار فعلام يؤجر بانيه؟
قلت في فصولي الأولى إن العرب هم أول من أنشأ المؤسسات التجارية في بيروت، أما أكبر محل أوروبي يتعاطى التجارة مع سوريا في حقلي التوريد والاستيراد فكان إذ ذاك في جزيرة قبرص. فمن هنالك كان يتبضع تجار هذه البلاد مصطحبين الحاجيات التي كانوا يتجرون بها. والذين لا يتمكنون من الذهاب إلى الجزيرة كانوا يطلبون كتابة الحاجيات التي يرغبون فيها. وبعد هذه التجارب حول العرب وجوههم صوب أزمير وإسطمبول، فاستوردوا منها بضائعهم لأنهم كانوا يجنون من الاتجار بها منافع ملموسة. واستمرت هذه الحال مدة الحرب، وعندما أعاد السلام حرية التجارة البحرية أخذ التجار العرب - مدفوعين بطمعهم الفطري - يقومون بشراء حاجاتهم رأسا من البلاد التي تنتجها، وشاء البعض منهم أن يتعودوا تجشم أخطار الأسفار؛ فانتقلوا إلى أوروبا حيث صادفوا نجاحا وفلاحا، فلم يبارحوها.
وظلت الصلة قائمة بينهم وبين أصدقائهم السوريين الذين عهدوا إليهم إذ ذاك بقضاء جميع حاجاتهم، فوجدوا على يدهم منافع لم يجدوها على يد تجار أوروبا. كانوا يكتبون لهم بلغتهم الخاصة، وهم موقنون أنهم يفهمونهم نظرا لمعرفتهم بواردات البلاد واحتياجاتهم، ثم جمعتهم المصلحة ووحدت بينهم، فاحتكروا جميع أعمال تجارة سوريا، فارتأت بيوت مرسيليا التجارية وجنوى وليفورنا أن يكون لها عملاء من العرب ليتفاهموا والذين لا يحسنون سوى هذه اللغة. ثم إن الإغريقيين ما لبثوا أن تمركزوا في الأماكن الهامة ليتفاوضوا مع أبناء أمتهم المنتشرين في جميع أنحاء الشرق؛ لأن اليونان هم بطبيعتهم بعيدو الهمة جسورون، والتجارة تلائم نشاطهم الطبيعي كل الملاءمة.
ذلك كان سبب الانقلاب الذي شعرت به تجارة هذا البلاد، وهو الانقلاب الذي تبين منه - بادئ ذي بدء - أنه لم يكن له من مفعول سوى نقل التجارة من أياد إلى أخرى؛ لأن الذي كانت تخرجه مصانع فرنسا لمؤسساتها الوطنية كانت تخرجه بمقدار واحد للإفرنسيين والشرقيين. بيد أنه لما كانت أهمية الابتياعات تنشأ عادة عن الذين يقومون بها، فإن التجار الشرقيين يعقدون صفقاتهم بتردد وخشية. إنهم يقومون دائما بتجارب وينقادون بسهولة لآراء عملائهم الذين يتملقونهم كثيرا ويزينون لهم اجتناء أرباح لا تكون في الغالب إلا وهمية؛ ولهذا انحصرت في موانئ تريستا وجنوى وليفورنا ومرسيليا، وعلى الأخص موانئ إنكلترا التي بلغت تجارتها مع سوريا - بالنظر إلى ازدهارها - ما لم تبلغه في جميع البلدان مجتمعة.
كانت محلات سوريا التجارية في الزمن القديم فروعا من محلات مرسيليا. والتجار الذين سبق لهم أن أقاموا في المشرق كانوا يديرون مؤسساتهم بوجه يتفق مع حاجات المكان وأذواق أهاليه. أما الوكيل فلم يكن يهتم إلا بتنسيق البضائع التي كان يتسلمها، وإعداد شحنات العودة. كانت التجارة يومذاك على قدم وساق، وكان يمارسها من يتعاطونها باستقامة عظيمة، فمن كان يجرؤ أن يظهر سوء النية أو أقل ميل إلى الغش؟!
كان القنصل يدعو محكمته للالتئام لدى ظهور أي عمل شائن ويحكم بحجر المذنب الذي كان يسمونه «بطال».
هذا عرف حملتنا على اتباعه اتصالاتنا الطويلة بسوريا، وهو ذو أثر فعال يجعل «الرؤساء» وناقلي البضائع وجميع رعايا السلطان الذين تربطهم علاقات بالأوروبيين حذرين في تصرفاتهم؛ لأنه إذا ما قدر ولفظت هذه الكلمة المحترمة - بطال - يصبح الشخص غير أهل لخدمة الأمة. وهذا العرف أدخل فيما بعد في قانون قنصلية حلب الذي نقل منه السيد دي بوكافيل، في مذكراته،
Неизвестная страница