لكن اشتراك الجميل في الوزارة كانت له أهمية أخرى؛ فقد جاء بمثابة تطبيق للشعار الذي صكه الزعيم الإسلامي ذو السيجار الهافاني، صائب سلام، ومؤداه: «لا غالب ولا مغلوب». ومعناه أن كل ما جرى من أضرار وضحايا لم يعد ذا موضوع، ويجب نسيان الماضي، وإعادة كل شيء إلى ما كان عليه قبل الأحداث، على أساس أن أيا من الفريقين لم يحرز انتصارا على الفريق الآخر، ولا ينال تبعا لذلك امتيازات خاصة. وصار هذا الشعار قاعدة لما يجري في لبنان.
وبلغ لبنان في السنوات التالية قمة ازدهاره؛ فالاتجاه الاجتماعي «الاشتراكي» الذي اكتسبته الحركة القومية بعد التأميمات الناصرية الشهيرة، جعل أصحاب الأموال بمختلف البلدان العربية يرتعدون خوفا من شعوبهم، ويودعون أموالهم في مصارف لبنان، أو يشاركون في مشروعاتها.
ومن ناحية أخرى، فإن الطابع العسكري الديكتاتوري الذي صبغ الأنظمة الوطنية والرجعية على السواء، جعل من بيروت المتنفس الوحيد للاجئين السياسيين والمعارضين للأنظمة المختلفة، وميدان معركة بين هذه الأنظمة وبعضها، وبينها وبين الدولة الاستعمارية، وبين هذه الأخيرة ذاتها.
وأدرك اللبنانيون بحسهم التجاري الموروث، أنهم يستطيعون الاستفادة من هذا الوضع إلى أقصى درجة، فازدهرت كافة المحرمات، من الكتب إلى الدعارة، وأصبح لبنان كله سوقا حرة لكافة الأفكار والسلع. وصدرت عشرات الصحف التي تمولها جهات مختلفة، بل تكونت أحزاب وتنظيمات سياسية تمولها الجهات المختلفة.
واكتسب المواطن اللبناني شخصية الوسيط؛ فلم يكن بحاجة إلى أكثر من أن يرتدي - ولو عن طريق الاستدانة - أفخم الملابس وأحدث الأزياء، ويستعين بأحدث الأجهزة، كي ينجح في ترويج البضاعة التي استوردها من الغرب ويبغي إعادة تصديرها إلى العرب. وصار النائب البرلماني يتباهى بالسفارة الأجنبية التي تدعمه. وشاع أن الذي لا «يقبض» من جهة ما، هو إنسان فاشل غير جدير بالاحترام.
أما الرجعية العربية والدول الاستعمارية، فراحت تروج ل «الرخاء والحرية الاقتصادية والديمقراطية» بصفتها منتجات لبنانية ناجحة. لكن الواجهة البراقة لشارع الحمرا ما كانت لتخفي واقع البلاد المتخلف؛ فمع ارتفاع البنايات الشاهقة وسط بيروت في أحيائها الأرستقراطية، تكون حزام من عشش «التنك»؛ أي الصفيح، حول المدينة. وفي عكار وجبل عامل والبقاع (وهي مناطق تسكنها أغلبية شيعية)، عاش الفلاحون في حالة مزرية من الرق. ومن جرؤ منهم على التمرد على الملاك «البكوات» حرم من التعيين في الدرك، وعجز أولاده عن الالتحاق بالمدارس الحكومية، وإذا كان من زارعي التبغ، حرم من البذور، ولم ينل محصوله سوى أبخس الأسعار.
وجندت الدولة نفسها لخدمة مجموعة من العائلات القديمة بين مارونية وسنية وشيعية، احتكرت أمور البلد وثرواتها.
وخلال ذلك كان عدد المسلمين في تزايد دائم، حتى أصبحوا يشكلون غالبية السكان. ولم يعد الموارنة - باعتراف مجلة «الإيكونومست» البريطانية - يشكلون أكثر من عشرين بالمائة من إجمالي عدد اللبنانيين. وتحققت هذه الزيادة على يد الشيعة بالذات، الذين أصبحوا - وفقا للمجلة الإنجليزية - يكونون ربع السكان. وشهدت نهاية الستينيات بداية صعودهم تحت الزعامة القوية للإمام الطموح موسى الصدر، الذي نجح في استقطاب جماهيرهم في حركة «المحرومين»، قبل أن يختفي عام 1978 في ليبيا.
لكن الستينيات انتهت أيضا بوفاة جمال عبد الناصر، النصير القوي للشارع الوطني في لبنان، والقلعة التي كانت تحتمي بها القيادات الإسلامية وهي تطالب بإعادة توزيع الكعكة. وتلفت الجميع بحثا عن نصير جديد، وسرعان ما وجدوه في المقاومة الفلسطينية.
ويرجع التلازم بين قضيتي لبنان وفلسطين إلى بداية الغزو البريطاني للمنطقة؛ ففي نفس السنة التي احتل فيها الانجليز مصر (1882م)، كان المستوطنون اليهود يبنون أولى مستوطناتهم على مشارف نهر الليطاني. وفيما بعد، كانت المراسلات البريطانية مع زعماء العرب، تتمسك دائما ب «الأوضاع الخاصة » لكل من اليهود في فلسطين، والموارنة في لبنان.
Неизвестная страница