وولد الكيان اللبناني عمليا في حضن الإنجليز سنة 1943، وفقا لصيغة تم الاتفاق عليها بين بشارة الخوري (المسيحي الماروني)، ورياض الصلح (المسلم السني)، تنص على أن يتخلى المسيحيون عن رغبتهم في طلب الحماية من «الأم الحنون» - كما كانوا يسمون فرنسا - ويخرجوا من عزلتهم ليدخلوا في الجماعة العربية. ومقابل ذلك يتخلى المسلمون عن السعي للانضمام إلى سوريا أو أي وحدة عربية أكبر.
ووفقا لهذا الميثاق غير المكتوب، تم الاتفاق على توزيع مناصب الدولة الرئيسية توزيعا طائفيا عادلا، على أن تكون نسبة المسيحيين في المجلس النيابي ستة إلى خمسة مسلمين. وتضمن هذا الاتفاق أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا، ورئيس الوزراء مسلما سنيا، ورئيس النواب مسلما شيعيا. وأطلق على هذا الوضع اسم التوازن اللبناني.
على أن الاتفاق كان منذ البداية، محملا ببذور الانفجار؛ فمن ناحية، لم يكن التوازن بين الطوائف وحدها، فقد كان في الوقت نفسه توازنا إقليميا، وتوازنا بين العائلات والعشائر والمؤسسات. ومن ناحية أخرى، فإن الوضع المتميز الذي هيأه الفرنسيون للموارنة أتاح لهم الازدهار، وجاء الاتفاق فأعطاهم الوظائف الخمس الرئيسية في البلاد؛ رئيس الجمهورية، قائد الجيش، رئيس المكتب الثاني، محافظ مصرف لبنان، مدير الأمن العام.
وكان من الطبيعي أن تشعر الفئات الاجتماعية العليا من الطوائف الأخرى، مسيحية ومسلمة، بالغبن، وخاصة السنة الذين تتكون منهم غالبية سكان بيروت، ويعملون بالتجارة من أقدم الأزمنة؛ فقد أصبحوا يشعرون أنهم ليسوا أقلية، بعد أن تزايدت أعدادهم بصورة واضحة.
بهذا لم يكن التوازن الطائفي مرحلة على الطريق إلى الوطن، بل تأجيلا له؛ فقد صار الوطن هو الطائفة، أو بالأحرى صراع الطوائف.
وتعددت قوانين الأحوال الشخصية نتيجة لهذا الوضع، حتى أصبحت أغلب الأمور المتعلقة بالفرد من اختصاص الطائفة، وأصبحت كل طائفة دولة ضمن الدولة، تتمتع بالشخصية المعنوية، وبحق التشريع والقضاء في مسائل الأحوال الشخصية لرعاياها، فإذا لم يندرج الفرد في إحدى الطوائف، حرم من حق العيش في ظل نظام للأحوال الشخصية، وحرم بالتالي من الزواج على الأرض اللبنانية.
خلال ذلك أخذ لبنان يكتسب الطابع الذي عرف به دائما؛ فبنيته الاقتصادية لم تقم في يوم من الأيام على أساس اقتصاد الإنتاج بالمعنى الصحيح، باستثناء زراعة الحشيش والأفيون. وإنما قامت على أساس اقتصاد الخدمات الذي يمثل سبعين بالمائة من الدخل القومي، فعرف لبنان بأنه السوق المثالي للمنتجات الأوروبية ذات السعر المنخفض.
وتدفقت على بنوك لبنان رءوس الأموال من مصادر البترول العربية؛ فانتعشت السوق المالية والمصرفية التي تتكون من مصارف أجنبية ومختلطة مهمتها هي نقل الأموال العربية إلى الأسواق الدولية. وظهرت طبقة جديدة من رجال المال والأعمال ورجال التخطيط والإدارة والمحاسبة المؤهلين للعمل في شركات البترول بالبلاد العربية التي أقامت مكاتبها الرئيسية في بيروت.
واستتبع هذا انتعاش سياحي، فأصبحت بيروت مركزا للخدمات بأنواعها بما فيها الخدمات الترفيهية. وأصبح الكسب السريع بكل صوره وأشكاله هو الغاية، ولو تم على حساب القيم الأخلاقية بل والوطنية. وتحولت بيروت إلى مركز للتآمر السياسي والجاسوسية، ووكر لتجارة الرقيق الأبيض.
وبحكم الكيان الطائفي الذي تنتقل فيه الزعامات والمناصب مع الثروات إلى الأبناء، تكدست الثروات العقارية المبنية وغير المبنية والصناعية والتجارية في أيد معدودة، استغلت ضعف السلطة المركزية وفقر أغلبية المواطنين. وأصبح نصف السكان يحصلون على 18 بالمائة من الدخل القومي ويحصل النصف الآخر على 82 بالمائة منه، بينما يستأثر عشرة بالمائة من النصف الأخير بالجانب الأكبر من هذه النسبة.
Неизвестная страница