33
طرقت باب البيت القديم وهي تفكر - بألم وحياء معا - فيما سيحدثه مجيئها مغضوبا عليها من الانزعاج والكدر، وكان الباب يفتح على عطفة مسدودة متفرعة من شارع الخرنفش تنتهي بزاوية أقيمت بها الصلاة عهدا طويلا، ثم هجرت من أعوام لقدمها ولكن بقيت آثارها المتهدمة لتذكرها - كلما زارت أمها - بطفولتها حين كانت تنتظر ببابها أباها حتى يفرغ من صلاته ويعود إليها، وحين تمد رأسها داخلها في أويقات الصلاة لتلهو بمنظر الركع السجود، أو حين تتفرج على بعض أهل الطرق الذين كانوا يجتمعون فيما يليها من العطفة، فيضيئون المصابيح ويفرشون الحصر وينشدون الأذكار. ولما فتح الباب أطل منه رأس جارية سوداء في العقد الخامس، ما إن رأت القادمة حتى تهلل وجهها وهتفت مرحبة بها، ثم تنحت جانبا لتوسع لها فدخلت أمينة، ولبثت الخادم بموقفها كأنها تنتظر دخول قادم آخر، فأدركت أمينة ما تعنيه وقفتها، فهمست بامتعاض: أغلقي الباب يا صديقة.
فتساءلت الجارية بدهشة: ألم يأت السيد معك؟
فهزت رأسها بالنفي متجاهلة دهشتها ومضت - عابرة فناء البيت الذي تتصدره حجرة الفرن وتقع البئر في ركنه الأيسر - إلى سلم ضيق فرقيته إلى الدور الأول والأخير. ثم اجتازت دهليزا إلى حجرة أمها ودخلت، رأت أمها متربعة على كنبة في صدر الحجرة الصغيرة قابضة بكلتا راحتيها على مسبحة طويلة متدلية في حجرها، متجهة العينين صوب الباب في تطلع أثاره بلا ريب طرق الباب ثم وقع القدمين المقتربتين، ولما تدانت أمينة منها تساءلت: من؟
وافتر ثغرها وهي تتساءل عن ابتسامة خفيفة تنم عن البشر والترحاب، كأنما حدست هوية القادم، فأجابتها أمينة قائلة بصوت منخفض من الانقباض والحزن: أنا أمينة يا أمي.
فألقت العجوز بساقيها إلى الأرض وتحسست بقدميها موضع الشبشب، حتى عثرت عليه فدستهما فيه، ووقفت باسطة ذراعيها منتظرة في شوق، فرمت أمينة بالبقجة إلى طرف الكنبة، وانطوت بين ذراعي أمها وهي تقبل جبينها وخديها والأخرى تلثم ما يتفق وقوع شفتيها عليه من الرأس والخد والعنق، ولما انتهى العناق ربتت العجوز على ظهرها بحنان، ثم لبثت بموقفها متطلعة صوب الباب، وعلى شفتيها ابتسامة تعلن عن ترحيب جديد ، كما فعلت صديقة من قبل، فأدركت أمينة للمرة الثانية ما تعنيه هذه الوقفة، وقالت بامتعاض واستسلام: جئت وحدي يا أمي.
فتحول الرأس إليها كالمتسائل، وتمتمت المرأة: وحدك؟! ... (ثم مبتسمة ابتسامة متكلفة لتطرد ما انتابها من قلق) سبحان الذي لا يتغير!
وتراجعت إلى الكنبة فجلست وهي تتساءل بلهجة أفصحت هذه المرة عن قلقها: كيف الحال؟ ... لماذا لم يحضر معك كعادته؟
فجلست أمينة إلى جانبها وهي تقول بلهجة التلميذ الذي يعترف برداءة إجاباته في الامتحان: إنه غاضب علي يا أمي.
ورمشت الأم واجمة، ثم تمتمت بنبرات حزينة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قلبي لا يكذبني أبدا، وقد انقبض وأنت تقولين لي: «جئت وحدي يا أمي» ترى ماذا هيج غضبه على ملاك كريم مثلك لم يحظ رجل به قبله؟! ... خبريني يا بنتي.
Неизвестная страница