عند ذاك خطر له أن يلطمها بما يعرف - مما تظن أنه يجهله - من ماضي سيرتها، بحديث «الفكهاني» الأسود، قذيفة يصبها على رأسها بغتة فتنثره إربا ويثأر بها أفظع الثأر، وتوهج في عينيه بريق مخيف تطاير من تحت جبهة عابسة مكفهرة تجمعت في أخاديدها نذر الشر والوعيد، وفغر فاه ليطلق قذيفته، ولكن لسانه لم يتحرك، التصق بسقف حلقه كأنما جذبه إليه مخه الذي لم يعمه العناء عن البلاء، ومرت اللحظة الرهيبة في سرعة الزلزال الخاطف الذي يشعر فيه الإنسان بأنفاس الموت تتردد على وجهه لحظات، ثم يعود كل شيء إلى مستقره، وزفر وهو كظيم، وتراجع غير آسف وجبينه يسح عرقا باردا. وقد ذكر موقفه هذا - فيما بعد - فيما ذكر من مواقف هذه المقابلة الغريبة فارتاح لتراجعه كل الارتياح، وإن عجب له أشد العجب، وكان أعجب ما عجبه شعوره بأنه إنما تراجع رحمة بنفسه لا رحمة بها، وكأنه تستر على كرامته لا على كرامتها، وإن لم يكن ثمة ما يجهله من الأمر!
وأفرغ غضبه في كفيه فجعل يضرب واحدة على الأخرى ويقول: مجرمة! ... فضيحة مجسمة! ... كم سأضحك من غبائي كلما أذكر أنني أملت خيرا من هذه الزيارة! ... (ثم بلهجة تهكمية) إني أعجب كيف طمعت بعد هذا في مودتي؟!
فجاءه صوتها وهو يقول في انكسار وحسرة: منتني نفسي أن نعيش على مودة رغم كل شيء! ... وبعثت زيارتك المفاجئة في قلبي آمالا حارة خيل إلي معها أني أستطيع أن أهبك أسمى ما في قلبي من حب ... بلا كدر.
وابتعد عنها متقهقرا كأنما يفر من لين كلامها الذي لم يعد شيء يؤرث غضبه مثلما يؤرثه. وشعر حانقا يائسا بأنه لم تعد ثمة فائدة من بقائه في هذا الجو الكريه، فقال وهو يستدير ليأخذ سمته إلى الخارج: وددت لو أستطيع قتلك.
فغضت بصرها وقالت في حزن بالغ: لو فعلت لأرحتني من حياتي.
وبلغ به الضيق النهاية فألقى عليها نظرة أخيرة مظلمة بالمقت، ثم غادر المكان وأرض الحجرة ترتج تحت وقع قدميه. وعندما انتهى إلى الطريق، وأخذ يثوب إلى نفسه، ذكر لأول مرة أنه نسي حديث العقار والمال فلم يطرقه بكلمة واحدة، أنسيه كأنما لم يكن هو الباعث الأول لهذه الزيارة!
19
فتحت الست أمينة الباب وأدخلت رأسها وهي تقول برقتها المعهودة: أفي حاجة إلى خدمة يا سيدي الصغير؟
فجاءها صوت فهمي قائلا: تعالي يا نينة، خمس دقائق فقط.
فدخلت المرأة مسرورة بتلبية الدعوة، فرأته واقفا أمام مكتبه يلوح في وجهه الجد والاهتمام، فأخذها من يدها إلى كنبة غير بعيدة من الباب وأجلسها، ثم جلس إلى جانبها وهو يتساءل: ناموا جميعا؟
Неизвестная страница