وقال آخر مؤمنا على قوله: الزمي طاعته ما قل أدبه.
فتساءلت المرأة وهي ترفع حاجبيها لتعلن عن دهشة لا أثر لها في نفسها: لحد هذا تحبون قلة الأدب!
فتنهد السيد قائلا: ربنا يديمها علينا.
فما كان من العالمة إلا أن تناولت الدف وهي تقول: سأسمعكم شيئا أفضل.
ونقرت عليه فيما يشبه العبث، ولكن علا النقر في حومة اللغو كالنذير حتى أسكته، وداعب الآذان متوددا فبدل القوم حالا بعد حال، تحفز أفراد الجوقة للعمل، وفرغ السادة الكئوس ثم مدوا رءوسهم نحو السلطانة، وساد المكان صمت يكاد ينطق من شدة التهيؤ للطرب، وأومأت العالمة إلى الجوقة فانطلقت تعزف بشرف عثمان بك، وراحت الرءوس تذهب مع الأنغام وتجيء، وسلم السيد نفسه لرنين القانون الذي جعل يلذع قلبه فيشعل فيه أصداء الأنغام المختلفة من عهد طويل حافل بليالي الطرب كأنها ذرات نفط تساقط على جمر مكنون، أجل كان القانون أحب آلات الطرب إلى نفسه - لا لمهارة العقاد وحدها - ولكن لسر مستلهم من طبيعة أوتاره، ومع أنه كان يعلم أنه يستمع إلى العقاد أو سي عبده إلا أن قلبه العاشق دارى بعشقه ما قصر دونه الفن. وما إن فرغت الجوقة من عزف البشرف حتى انطلقت العالمة تنشد «والذي أسكر من عذب اللمى» فلحقت بها الجوقة في حماس، وكان أجمل ما يطرب فيها صوتان متجاوبان؛ أحدهما غليظ عريض للعازف الضرير، والآخر رقيق يندى بالطفولة لزنوبة العوادة، فجاش صدر السيد بالانفعال فابتدر الكأس الذي بين يديه فأفرغه في جوفه واندفع يشارك في إنشاد التوشيح، وقد وشت نبرات صوته - عند مطلع الغناء - بشرق في حلقه لاندفاعه إلى الإنشاد قبل أن يتم بلع ريقه، وما لبث أن تشجع بقية الرفاق فحذوا حذوه، وسرعان ما انقلب البهو جوقة تنشد عن صوت واحد. ولما ختم التوشيح تهيأت روح السيد - بحكم العادة - لاستماع التقاسيم والليالي ولكن العالمة ذيلت الختام بضحكة من ضحكاتها الرنانة معلنة عن سرورها وعجبها، ومضت تهنئ أفراد الجوقة المستجدين مداعبة وتسألهم عن الدور الذي يودون سماعه، وانزعج السيد في باطنه ومرت به لحظة كدر امتحن فيها ولعه بالغناء امتحانا قاسيا لم يفطن إليه كثيرون ممن حوله، ولكنه أدرك في اللحظة التالية أن زبيدة ليست كفئا لتقاسيم الليالي شأن جميع العوالم بما فيهن «بمبة كشر» نفسها، فتمنى لو تختار المرأة طقطوقة خفيفة مما تغني للسيدات في الأفراح، مفضلا هذا على محاولة غناء دور من أدوار الفحول ستعجز حتما عن إجادة ترجيعه، وصمم على أن يتفادى من المتاعب التي تخافها أذنه بأن يقترح أغنية خفيفة تناسب حنجرة الست فقال: ما رأيكم في عصفوري يا امه؟
وحدجها بنظرة ذات معنى كأنما ليثير في نفسها إيحاء هذه الطقطوقة التي توجت بها حوار تعارفهما في حجرة الاستقبال منذ أيام قلائل، ولكن جاء صوت من أقصى البهو يصيح ساخرا: الأولى أن تطلبها من أمك!
وسرعان ما ضاع الاقتراح فيما تفجر من قهقهات أفسدت على السيد خطته، وقبل أن يكرر المحاولة طلب نفر «يا مسلمين يا اهل الله» وطلب آخرون «سلامتك يا قلبي»، ولكن زبيدة التي تحاشت أن ترضي فئة على حساب أخرى أعلنت أنها ستغنيهم «على روحي أنا الجاني» فاستقبلت بترحاب حار. ولم يجد السيد بدا من توطين النفس على الانبساط مستعينا بالشراب، وبأحلام ليلته الواعدة، فتألق ثغره بابتسامة وضيئة أدرك بها ركب النشاوى بلا كدر، بل وجد عطفا على رغبة المرأة في محاكاة الفحول إرضاء لمستمعيها الراسخين في السماع، وإن لم يخل حالها من غرور تألفه الغواني. وفيما تتهيأ الجوقة للغناء نهض أحد الرفاق وهتف بحماس: دعوا الدف للسيد أحمد فهو به خبير!
فهزت زبيدة رأسها عجبا وتساءلت: حقا؟!
فحرك السيد أصابعه في سرعة ورشاقة كأنما يعرض عليها مثالا من صنعته، فقالت زبيدة باسمة: فيم العجب وأنت تلميذ جليلة!
وضحك السادة في غير ما تحفظ، وتواصل الضحك حتى علا صوت السيد الفار، وهو يسأل السلطانة قائلا: وماذا تنوين أن تعلميه أنت؟
Неизвестная страница