Между двумя дворцами

Наджиб Махфуз d. 1427 AH
157

Между двумя дворцами

بين القصرين

Жанры

ثم بعد وقفة قصيرة: حبلى؟ - نعم.

وهي تتنهد: الله ينكد عيشة أبيك!

تعمد ألا يعقب عليها، كما يمتنع عن حك قرحة تأكله لعلها تسكن ... فشملهما صمت، وأغمضت المرأة عينيها كأنما أنهكها التعب، بيد أنها فتحتهما هنيهة، فابتسمت إليه وهي تسأله بصوت رقيق لا أثر فيه لانفعال: ترى هل يمكن أن تنسى الماضي؟

فغض بصره منتفضا وهو يشعر برغبة في الهرب لا تقاوم، ثم قال برجاء: لا تعودي إلى ذكراه، فليذهب إلى غير رجعة.

لعل قلبه لم يعن ما يقول، ولكن لسانه قال ما ينبغي أن يقال ... أو لعل ذلك القول كان تعبيرا صادقا عن شعوره لحظتذاك، تلك اللحظة التي استغرقه فيها بكليته الموقف المحيط به، ولعل قوله: «فليذهب إلى غير رجعة.» قد وقع من مسمعه - ومن قلبه - موقعا غريبا خلف وراءه قلقا، ولكنه أبى أن يجعله موضوعا لتأمله، فر من ذلك فرارا، وتشبث بعاطفته الصافية التي عقد العزم على التشبت بها من بادئ الأمر. أما أمه فعادت تسأله: وهل تحب أمك كما كنت تحبها في الزمن السعيد؟

فقال وهو يربت على راحتها: أحبها وأدعو لها بالسلامة.

سرعان ما وجد العزاء عن قلقه وجهاده الباطني فيما انطبع على وجهها الذاوي من روح السلام والارتياح العميق، ثم شعر براحتها تضغط على يده كأنما تبثه ما يكنه صدرها من امتنان، وتبادلا نظرة طويلة هادئة باسمة حالمة أشاعت في الحجرة جوا من الطمأنينة والمودة والحزن، لم يعد يبدو منها ما يدل على رغبتها في الحديث، أو لعل الجهد حال بينها وبين هذه الرغبة، ثم تراخت جفونها رويدا حتى انطبقت، جعل ينظر إليها كالمتسائل ولكن لم تند عنه حركة، ثم انفرجت شفتاها قليلا، وانبعث منهما شخير خفيف متقطع. اعتدل في جلسته وهو يتوسم وجهها، ثم أغمض عينيه قليلا ريثما يستحضر صورة الوجه الآخر الذي طالعته به منذ عام، فانقبض صدره، وعاوده شعور الخوف الذي طارده طوال الطريق، ترى هل يتاح له أن يرى ذلك الوجه مرة أخرى؟ وبأي قلب يلقاه إن عاد؟! لا يدري، لا يحب أن يتصور المضمر في علم الغيب، يود أن يقف عقله عن الحركة، وأن يتبع الحوادث لا أن يسبقها، وأحاط به شعور الخوف والقلق، عجبا! لقد ركبته رغبة في الهرب وهو ينصت إلى حديثها حتى خيل إليه أنه ارتاح إلى نومها كل الارتياح، ولكنه ما كاد ينفرد بنفسه حتى هاجمه الخوف ... خوف لم يدرك له سببا فتمنى لو تصحو من سباتها وتعود إلى الحديث، حتام ينتظر ... هبها استغرقت في النوم حتى الصباح! ... لن يسعه أن يبقى طويلا فريسة للخوف والقلق هكذا، يجب أن يضع حدا لآلامه ... غدا أو بعد غد تكون تهنئة أو تعزية ... تهنئة أو تعزية؟! أيهما أحب إلى نفسه؟! يجب أن يقف عن الحركة، تهنئة كانت أم تعزية لا ينبغي أن أسبق الحوادث، غاية ما يمكن قوله لو قدر علينا أن نفترق الآن لافترقنا صديقين، تكون خير نهاية لأسوأ حياة، أما إذا مد الله في عمرها ...

سرح طرفه وهو شارد، فوقع على مرآة الصوان - في الجهة المقابلة - التي عكست صورة الفراش، فرأى جسم أمه مطروحا تحت البطانية كما رأى نفسه يكاد يحجب نصفها الأعلى إلا يدها التي أخرجتها عند استقباله، فحملها برفق وأدخلها تحت الغطاء، ثم ثبته حول عنقها بعناية، عاد ينظر إلى المرآة، فخطر له هذا الخاطر! ربما عكست هذه المرآة غدا فراشا خاليا عاريا! ... ليست حياتها - حياة أي إنسان ... لم لا؟ - بأرسخ دواما من هذه الصور الوهمية! ... فاشتد به شعور الخوف وهمس لنفسه: «يجب أن أضع حدا لآلامي ... يجب أن أذهب.» بيد أن بصره تحرك تاركا المرآة، فالتقى بخوان وضعت عليه نارجيلة التف خرطومها حول عنقها كالثعبان، فثبت عليها في دهشة وإنكار سرعان ما حل مكانهما شعور هائج بالتقزز والغضب، ذلك الرجل! هو بلا ريب صاحب هذه النارجيلة ... تخيله متربعا على الكنبة القائمة بين الفراش والخوان، وقد اندلق على النارجيلة يشهق ويزفر متلذذا، وأمه تروح له على الجمرات ... آه ترى أين هو الآن، في مكان بالبيت أم في الخارج؟ هل رآه من حيث لم يره؟ ... لم يعد يحتمل البقاء مع النارجيلة أكثر مما بقي، فألقى نظرة على وجه أمه التي وجدها مستغرقة في النوم، ثم زايل مجلسه بخفة وسار إلى الباب، ولما التقى بالخادمة في الردهة الخارجية قال لها: ستك نامت، سأعود غدا صباحا.

والتفت إليها مرة أخرى وهو يغادر الباب الخارجي قائلا: غدا صباحا.

كأنما ينبه الرجل نفسه إلى موعد حضوره ليختفي من وجهه، مضى إلى حانة كستاكي رأسا. شرب كعادته، ولكنه لم يطب بالشراب نفسا. أعياه أن يطرد عن قلبه الخوف والقلق. ومع أن أحلام الثروة وراحة البال لم تغب عن ذهنه، إلا أنها لم تستطع أن تمحو عن مخيلته صورة المرض وخواطر الفناء. ولما عاد إلى البيت عند منتصف الليل وجد امرأة أبيه في انتظاره بالدور الأول، فنظر إليها متعجبا، ثم تساءل خافق القلب: أمي؟!

Неизвестная страница