Между двумя дворцами

Наджиб Махфуз d. 1427 AH
155

Между двумя дворцами

بين القصرين

Жанры

جذبت العبارة الأخيرة انتباهه بقوة، كأنما جاءته جوابا شافيا لبعض حيرته، فأدرك أن أمه أخلت له الطريق. اتجه إلى الحجرة، وتنحنح، ثم دخل، وقعت عيناه على عيني أمه وهما ترفعان إليه من فراش على يسار الداخل، عينين حجبت صفاءهما المعهود غشاوة باهتة، فلاحت نظرتهما الواهنة كأنما تتطلع إليه من بعيد، وبالرغم من ذبولهما وما أوحى به انطفاؤهما من عدم الاكتراث لشيء، فقد ثبتتا على وجهه ثبوت العرفان، وانفرجت شفتاها عن ابتسامة خفيفة وشت بظفر وارتياح وامتنان، لم يكن يبدو منها إلا وجهها؛ إذ اشتملت ببطانية حتى الذقن، وجه أدركه من التغير فوق ما أدرك العينين، جف بعد اكتناز واستطال بعد استدارة وشحب بعد تورد وشف جلده الرقيق عن عظام الفك والوجنتين البارزة، فبدا صورة للرثاء والفناء، وقف ذاهلا منكرا، كأنه لا يصدق أن ثمة قوة في الوجود تجرؤ على هذا العبث القاسي، فقبض قلبه فزعا كأنه يرى الموت نفسه، تخلت عنه كأنما ارتد طفلا وافتقد أباه أيما افتقاد، ثم دفعه تأثر لا يقاوم إلى الفراش، حتى انحنى فوقها مغمغما في نبرات أسيفة: لا بأس عليك ... كيف حالك؟

ملأه شعور صادق بالرحمة غابت في حرارته آلامه المزمنة كما تغيب - في أحوال نادرة - ظاهرة مرضية ميئوس منها، كالشلل، عند هجوم فزع هائل مفاجئ ... كأنه يلقى أم طفولته التي أحبها قبل أن تواريها عن قلبه الآلام، فتشبث - وعيناه مرسلتان إلى الوجه الفاني - بهذا الشعور المستجد الذي رده أعواما طويلة إلى الوراء - إلى ما وراء الألم - كما يتشبث المريض المتهالك بصحوة طارئة يخاف عليها إحساسا باطنيا بوشك الزوال، تشبث به بشدة خليقة برجل يقدر القوى المضادة التي تتهدده، وإن دل تشبثه نفسه على أن آلامه لم تزل تضطرم في أعماق الأعماق منذرة إياه بما يترصده من حزن إذا هو تهاون، فخلط بشعوره الصافي ما يفسده من مشاعر أخرى، وأخرجت المرأة من تحت الغطاء يدا ممصوصة معروقة، اكتست بشرتها الجافة بمزيج من سواد باهت وزرقة، كأنها يد محنطة منذ آلاف السنين، فتناولها بين يديه بتأثر شديد، وعند ذاك سمع صوتها الضعيف المبحوح وهو يجيبه قائلا: كما ترى، صرت خيالا.

فغمغم: ربنا يدركك برحمته، ويردك إلى خير مما كنت.

فندت عن رأسها المعصوب بخمار أبيض حركة دعائية، كأنما تقول: «ربنا يسمع منك»، وأشارت إليه أن يجلس، فجلس على الفراش، ثم استرسلت - بقوة جديدة استمدتها من محضره - تقول: في أول الأمر كانت تنتابني رعشة غريبة، فحسبتها طارئا عصبيا، نصحوني بالطواف ببيوت الله وبالتبخر فزرت الحسين والسيدة، وتبخرت بأنواع شتى من البخور الهندي والسوداني والعربي، ولكن لم تكن الحال تزداد إلا سوءا ... أحيانا كانت تملكني رجفة متواصلة لا تدعني حتى أكون قد أشفيت على الهلاك، وتمر بي أوقات أجد جسمي باردا كالثلج، وأوقات أخرى تمتد النار في جسدي، حتى أصرخ من شدة الحرارة أخيرا صمم س... (أمسكت عن النطق بالفاعل منتبهة في اللحظة الأخيرة إلى الخطأ الذي كانت ستقع فيه). أخيرا استحضرت الطبيب، ولكن لم يتقدم بي العلاج خطوة واحدة نحو الصحة إن لم يكن تأخر خطوات، لم تعد ثمة فائدة ترجى.

فقال ياسين وهو يضغط برقة على راحتها: لا تيئسي من رحمة الله، إن رحمته واسعة.

فافتر ثغرها الممتقع عن ابتسامة ضعيفة وقالت: يسرني أن أسمع هذا، يسرني أن أسمعه منك أنت قبل الناس جميعا، أنت عندي أغلى من الدنيا ومن عليها، صدقت إن رحمة الله واسعة، طالما ساءني الحظ، لا أنكر الهفوات والأخطاء، العصمة لله وحده.

آنس - جزعا - من حديثها ميلا إلى ما يشبه الاعتراف، فانقبض صدره وجفل جفولا حادا من أن تردد على مسمعيه أمورا لا يطيقها، ولو على سبيل الندم والتكفير. فتوترت أعصابه حتى أوشكت أن تبدل حالا بعد حال، قال بتوسل: لا تتعبي نفسك بالكلام.

رفعت إليه عينيها باسمة وهي تقول: مجيئك رد إلي الروح، دعني أقل لك إني لم أقصد في حياتي سوءا بإنسان، كنت أنشد كسائر الخلق راحة البال فيعاندني الحظ العاثر، لم أسئ إلى أحد ولكن كثيرين أساءوا إلي.

شعر بأن رجاءه أن تمضي الساعة بسلام سيخيب ... وأن عاطفته الصافية تعاني أزمة من التنغيص، فقال بلهجة التوسل السالفة: دعي الناس بخيرهم وشرهم، صحتك الآن أهم من أي شيء آخر ... فربتت على يده باستعطاف كأنما تسأله أن يترفق بها، ثم همست: فاتتني أشياء، لم أؤد إلى الله حقه، وددت لو طال عمري حتى أستدرك بعض ما فاتني، بيد أن قلبي كان دائما مفعما بالإيمان والله شهيد.

فقال وكأنه يدفع عن نفسه وعنها معا: القلب هو كل شيء، هو عند الله فوق الصوم والصلاة.

Неизвестная страница