Между двумя дворцами

Наджиб Махфуз d. 1427 AH
139

Между двумя дворцами

بين القصرين

Жанры

لم تنبس أمينة بكلمة كأن اختفاء زينب من التفاهة بحيث تكفي جملة إخبارية وأخرى دعائية في معالجته، وما لبث فهمي أن دارى ابتسامة كادت تفضح تحفظه؛ إذ أدرك أن أمه تكابد مثل شعوره وأنها تعاني ارتباكا لعجزها الفطري عن التمثيل، لم تكن تحسن الكذب، وحتى إذا اضطرت إليه أحيانا كشفتها طبيعة لا تستقر على بساطتها الأقنعة، على أن ارتباكهما لم يطل، فما هي إلا دقائق حتى رأيا ياسين مقبلا نحوهما. خيل إليهما أنه يطالعهما بوجه لا يقدر المتاعب التي تترصد في البيت، وإن لم يعلم بعد بمدى ما بلغته، ولم يدهش فهمي لذلك كثيرا لما يعلمه من استهانته بالمتاعب التي تنوء بغيره من الناس، ولكن الحقيقة أن ياسين غلبه شعور باهر بأنه اجتاز مغامرة ظافرة أنسته إلى حين جل متاعبه. كان في طريقه إلى باب البيت حين اعترض سبيله جندي، كأنما انشقت عنه الأرض، فارتعدت مفاصله وتوقع شرا لا قبل له به، أو في الأقل إهانة جارحة على مرأى من أصحاب الحوانيت والمارة، ولكنه لم يتردد في الدفاع عن نفسه، فقال برقة وتودد مخاطبا الجندي كأنما يستأذنه في المرور: من فضلك يا سيدي.

ولكن الجندي طلب عود ثقاب وهو يبتسم - أجل يبتسم - فذهل ياسين لابتسامته، حتى استعصى عليه أن يفهم مراده حتى أعاده، لم يكن يتصور أن جنديا إنجليزيا يبتسم على هذا النحو، أو - إذا كان الجنود الإنجليز يبتسمون كسائر البشر - أن يبتسم له أحدهم فيما يشبه الأدب، فاستخفه سرور أربكه، حتى لبث جامدا لحظات لا يحير جوابا، ولا يبدي حراكا، ثم توثب بكل ما فيه من قوة لأداء هذه الخدمة البسيطة لذاك الجندي العظيم المبتسم، ولما كان غير مدخن فلا يحمل ثقابا، فقد بادر إلى الحاج درويش بائع الفول وابتاع علبة ثقاب، وهرع إلى الجندي مادا له يده بها، فتناولها الجندي وهو يقول: أشكرك.

لم يكن أفاق من أثر الابتسامة السحرية، فجاء الشكر كقدح البيرة الذي يعل به من استوفى طاقته من الوسكي، ملأه الامتنان والزهو، تورد وجهه المكتنز، وضحكت أساريره وكأن عبارة «ثانك يو»، نيشان سام تقلده على الملأ، إلا أنها ضمنت له أن يذهب ويجيء أمام المعسكر آمنا، وما كاد الرجل يبدي أول حركة للذهاب، حتى قال له متوددا من أعماق فؤاده: حظ سعيد يا سيدي.

ومضى إلى البيت كالمترنح من الفرح. أي حظ سعيد ظفر به هو! ... إنجليزي - لا أسترالي ولا هندي - وابتسم له وشكره! ... إنجليزي أي رجل يتمثل في خياله كأنموذج لكمال الجنس البشري، ربما أبغضه كما يبغضه المصريون جميعا، ولكنه في قرارة نفسه يحترمه ويجله، حتى ليخيل إليه كثيرا أنه من طينة غير طينة البشر، هذا الرجل ابتسم له وشكره! .. وقد أجابه إجابات صحيحة مقلدا ما وسعته مرونة شدقيه طريقة النطق الإنجليزية، فنجح نجاحا باهرا استحق عليه الشكر ... كيف يصدق ما ينسب إليهم من الأعمال الوحشية؟! لماذا نفوا سعد زغلول إذا كانوا على هذا الظرف كله؟! غير أن حماسه فتر بمجرد أن وقع بصره على الست أمينة وفهمي، واستطاع أن يقرأ نظرتهما، وسرعان ما اتصل ما كان انقطع من حين من حبل همومه، انتبه إلى أنه يواجه مرة أخرى المشكلة التي هرب منها مع الصباح الباكر. تساءل وهو يشير بأصبعه إلى فوق: لماذا لا تجلس معكما؟ ألا تزال غضبانة؟

فتبادلت أمينة مع فهمي نظرة، ثم تمتمت بارتباك: ذهبت إلى أبيها.

فرفع حاجبيه دهشة أو انزعاجا، ثم سألها: لماذا تركتها تذهب؟

فقالت أمينة وهي تتنهد: تسللت دون أن يشعر بها أحد.

شعر بأنه يجب أن يقول قولا يرضي كرامته أمام أخيه وأمه، فقال باستهانة: إلى حيث ...

وقرر فهمي أن يقاوم رغبته في اللواذ بالصمت كي يوهم أخاه بأنه لم يطلع على سره؛ وبالتالي أن ينفي شبهة إذاعته هذا السر عن أمه، فسأله ببساطة: ما الذي دعا إلى هذا النكد؟!

فحدجه ياسين بنظرة متفحصة، ثم لوح بيده الغليظة وهو يمط بوزه كأنما يقول له: «ليس ثمة ما يدعو إلى النكد.» ثم قال: بنات اليوم لم تعد بهن طاقة على حسن المعاشرة.

Неизвестная страница