وبعد هذه الزيارة تبددت عني شواغلي، وانزاح عني ما كان قد تولاني من الخوف، وطابت لي الحياة بعد الوجل، وهذا النجاح الذي صادفني لأول مرة قوى آمالي بإدراك مستقبل حسن، وثراء قريب فهنأت نفسي ووطنتها على إدمان السعي وراء الضالة التي أنشدها، وبينما كنت أهيم في عالم الأوهام كانت رجلاي تسرعان بالمشي، كما لو كنت على موعد حبيب أخاف أن يفوتني مع أني كنت أسير إلى حيث لا أدري، ولما كانت الأفراح الشديدة إذا توالت على الإنسان يضيق بها قلبه فينكسر كالكأس، وكانت - كما يقول العلماء - تتمدد وتطلب الهرب من القلوب خفت أن ينالني كرب على أثرها، فأستوحش في غربتي حيث لا قريب يعزيني ولا خل أشكو إليه، فثبت إلى نفسي من الخيالات التي كنت فيها، وعزمت على أن أكتب إلى عمي وأطلعه على ما كان من أمري مع صديقه، فدخلت إلى مطعم على الطريق.
وبعد أن أخذ الخادم مني قبعتي ودثاري، قال لي: ماذا تريد أن تأكل يا سيدي؟ فأجبته عابسا: ورق كتابة، وقلما، ودواة، فابتسم الخادم وقال: سأحضر لك ذلك، ولكن إذا شئت أن تأكل شيئا فعندنا بيض مقلي، ولحم مشوي ومسلوق، وألوان كثيرة غير هذه، فقلت: هات ما تشاء وبادر بإحضار الورق والقلم.
ثم جعلت أكتب بسرعة غريبة ما تمليه علي خواطري الكثيرة، والله أعلم بما حشوت به الكتاب من الغرائب، وأظن أني بنيت فيه قصورا باذخة من الأمل في عالم الخيال، ولشدة اشتغالي بالكتابة لم أتنبه للطعام الذي وضعه الخادم أمامي، وكانت تنبعث منه الرائحة الذكية.
على أن تحمسي بالكتابة أحدث بي ما يحدث للذين يبالغون بأعمال رويتهم، وذلك أن قريحتي لم تلبث أن جمدت بعد أن سالت نهرا متدفقا، ووقفت يدي وحرن القلم فختمت الكتاب.
وإذ كان قد بلغ الجوع مني وخلت معدتي، شعرت بشهوة للأكل لم أشعر بأكثر منها قبل ذلك.
وبعد الغداء ذهبت إلى غاب بولونيا أتبع حافات السواقي، وأتلذذ بخرير مائها الجاري، فجلست إلى أصل شجرة أتأمل ذاك اليوم الرقيق الحواشي المعنبر النسمات، الذي لبست فيه الطبيعة أبدع ملابسها وتجلت بأحسن حليها، فالأرض موشاة بأوراق الشجر المتساقطة، والرياض مخضوبة بدماء الشفق، وكانت الشمس تسير التؤدة إلى منامها، ترسل أشعتها على مياه البرك الوسنى، وكانت العجلات متتابعة كأنها خيوط سود في بياض تموج تحت البصر، ورأيت فيها قوما هم أسعد خلق الله، ورأيت فرسانا على خيول مطهمة، ونساء يفتن النواظر بالمحاسن والأزياء، وجماعات مئين وألوفا يتمشون فرقا يحدث بعضهم بعضا بأطراف الأحاديث، فهناك تحار الفكر وينبهر البصر.
ثم قلت: لم لا أكون مثلهم؟ ولم لا يكون عندي مثل عرباتهم وخيلهم؟ بل ماذا يجب أن أصنع لأنال منالهم إذا كان لي ذكاؤهم، وكانت لي مقدرتهم؟
وكانت أنامل الأمل الودية تحجب عني مشاق المستقبل وتريني باريس والعيشة فيها جنة ونعيما، وانقلبت أميالي كل الانقلاب، فصرت لا أفكر بغير المال، ونشطت بهمة سامية لإدراك مأملي، وتأهبت للمستقبل كما يتأهب الفارس للحرب.
والآن كلما أذكر تلك العهود ألوم نفسي، ولا أتمالك من الضحك على حين أني أود لو تعود تلك الأوقات؛ لأنها أوقات الشباب.
أما قصر فركنباك فهو شامخ الارتفاع متقن البنيان، بناه في غابر الزمان رجل بارع لامرأة من عائلته كان يهواها، وطالما صحب الأشراف وصبر على محاربة السياسة والثورات، وكان كلما ازداد عمره يزداد رونقه وبنيانه، فقد أضيفت إلى جوانبه غرف جميلة على الطرز العصري، اعتنى بها رجل حسن الذوق بارع بالهندسة، وفي سقوف القصر تماثيل ونقوش متنوعة، كلها مغشاة بالذهب، وعلى جدرانها في الجهة الداخلية رسوم ناتئة، ورسوم محفورة، وزخارف غريبة الشكل، كلما خرب الدهر شيئا منها اعتاض فركنباك عنه بآخر، والسقوف معقودة كلها وسطوحها من الآجر، وعلى الجدران إلى الجهة الخارجية صور رجال تصطاد وتحصد، وصور أخرى متنوعة تدل على عادات الأعصر التي بنيت فيها، وفي القصر آنية أكثرها من الذهب والفضة، وتحف لا تزال على جدتها على طول مدتها، وحول القصر حدائق معلقة مكسوة بالخضرة والأشجار ذات الأرج والثمر تحيط به من أربع أطرافه، والقصر ثلاث طبقات.
Неизвестная страница