كان هناك فتحي سالم الذي طالما تمنيت أن أكون مثله؛ فقد كان شابا وسيم الملامح ذا عينين خضراوين طويلة الرموش لا تجرؤ على التحديق فيهما طويلا، وكان أصغر مني بعامين، وكان طبيبا أيضا، ولكن أيامها كان لا يزال طبيب امتياز، ومع هذا فقليلون هم الذين كانوا يعرفون أنه طبيب؛ إذ كان يكتب قصصا للمجلة ويوقع باسمه المجرد من اللقب. وقصصه كانت محبوبة ورائجة وينظر إليها النقاد باعتبارها فاتحة مدرسة جديدة، والكل مجمع على أنه فنان. وكان قليل الكلام كثير الابتسام، وكانت تحيرني ابتسامته التي يوجهها لي؛ فقد كنت ألمح فيها تعبيرا ما، لعله الترفع، لعله السخرية مني ومن الباب الأسبوعي الذي كنت أنفرد بكتابته في المجلة، لعله رثاء لابتسامتي المعوجة، لعله مزيج من هذا كله. ولكن الذي لا شك فيه أنني لم أكن أستريح أبدا لابتساماته ولا حتى للحديث معه. ثم كان هناك محمد حلمي عطوة القصير القامة الدسم الملامح، الذي تحس وكأنه قطعة دهن كبيرة تشكلت على هيئة إنسان، يحرص دائما على أن يحذف عطوة من اسمه كلما وقع مقالا أو تحقيقا في المجلة، وقليلا ما كان يسمح له بالتوقيع؛ فقد كان حديث الالتحاق بالمجلة، ومع هذا كنت إذا انفردت به صارحك بآرائه في المجلة وكتابها، وفي الحركة الفنية والأدبية بشكل عام، ولن تجد كتابا واحدا يعجبه أو عملا واحدا يكن له أقل تقدير.
وكانت هناك أيضا سانتي ولورا ومحرران آخران وجودهم مثل عدم وجودهم. وأدهشني وجود لورا؛ إذ لم تكن قد حضرت معنا اجتماعات تحرير قبل هذا، ولكني علمت فيما بعد أنها - حين عرفت أني سأحضر الاجتماع - رجت شوقي أن يسمح لها بالحضور، فقبل على مضض. ولم يكن قد مضى على مقابلتي العاصفة لسانتي في بيتي وخروجها غاضبة أكثر من ساعة.
وحين بدأت أصغي كان محمد حلمي عطوة هو الذي يتكلم، وكانت طريقته في الكلام في الاجتماعات تضحكني؛ فقد كان يتوجه بكلامه أول الأمر إلينا نحن المجتمعين، ويكسب صوته طابعا خطيرا تظن معه أنه سوف ينهي كلامه بنتائج تاريخية لا بد ستغير من مصير الشعوب والبشرية عامة. ويبدأ يتكلم فتظن أنه يعارض ما يقوله شوقي أو ينقده، ولكنك لا تلبث بعد حين أن تتبين أنه ما تكلم إلا ليؤيد ما قاله شوقي تمام التأييد ويحاول تبريره، وافتعال حيثيات سخيفة له. وفي الفترة الأخيرة لم أكن راضيا أبدا عن كلام شوقي. كان اتجاه المجلة قد بدأ يميع، وسياستها قد بدأت تتخذ طابعا غامضا غير مفهوم، ولم أكن أعرف ماذا يسخطني بالضبط.
ولم يطل إصغائي. سرعان ما أدركت أن الاجتماع خطير؛ فقد كان يدور حول خطاب وصلنا من البارودي رئيس التحرير السابق، والذي كانت حكومة ذلك الوقت قد اعتقلته ووضعته في السجن. والواقع أن البارودي لم يكن رئيس تحرير مجلتنا السابق فقط، كان الجميع ينظرون إليه باعتبار أنه واحد من أخطر الشخصيات في البلد، وإن كانت شهرته لم تتعد نطاقا ضيقا من هؤلاء الذين يعملون تحت الأرض. حتى أنا كان بالنسبة إلي شخصا أكاد أرفعه إلى مرتبة التقديس. كانت آراؤه في نظري هي دائما أسلم الآراء، وذكاؤه أحد ذكاء، وكان يخيل إلي في أحيان أنه معجزة وأن أية معضلة لا يمكن أن تستعصي على مخه. وأعصابه كانت من حديد؛ لم أره مرة ثائرا، ولم أضبطه مرة مرتكبا خطأ ما، حتى كدت أومن إيمانا تاما بأنه لا يمكن أن يخطئ. في أحلك الظروف تجده رابط الجأش! إذا كنا في الاجتماع مثلا وجاءنا نبأ خطير، نبأ يزلزل كيان إنسان، كان يناقشه، ويناقشه في هدوء قاتل، وحتى لا يغفل أثناء النقاش عن أشياء صغيرة جدا مثل «أعتقد أننا جعنا، نأكل أولا ثم نكمل النقاش»، أو يفاجئ الواحد منا وهو هارب ومطلوب القبض عليه بهدية صغيرة في عيد ميلاده أو باحتفال.
هكذا كنت أراه قبل أن يسجن حين كنت أعمل معه. والحقيقة أني كنت أحس بفخر لا حد له وأنا أعمل معه. وإذا كلفني بعمل ما أكاد أطير فرحا وأنا أبذل كل ما في طاقتي من جهد لتنفيذه. ومع أني كنت وثيق الصلة به وكثيرا ما بتنا معا في بيتي أو في بيته ورأيته بالفانلة والسروال، ورأيته وهو مريض وعالجته، وانتشيت وهو يمتثل لأوامري كطبيب، كأي مريض، مع هذا كله إلا أنني كان بيني وبينه نوع من الاحترام الغريب الذي لا يمكن وصفه، حتى إني لم أجرؤ مرة على مناداته باسمه مجردا، وإنما كنت أقول له يا أستاذ بارودي، ولا أذكر أني حدقت في وجهه مرة بعيون لا ترمش أو واجهته مواجهة الند للند.
حقيقة كانت أحيانا تبدر منه آراء لا يهضمها عقلي، ولكني كنت إذا ناقشته يقنعني بل يفحمني، ومع هذا أبقى غير مقتنع تماما بما يقول. كان يتكلم عن الفلاحين مثلا ويدافع عنهم، ولكني كنت أعتقد أنه يدافع عنهم دون أن يعرفهم، وكان يتكلم عن «مصر»، ولكني كنت أحس أن «مصر» التي يتكلم عنها غير مصر التي أعرفها، وكان يتكلم عن «الثورة»، ولكني أحس من أعماقي أن الثورة التي يتكلم عنها غريبة تماما عن نفسي وكأنها ثورة أجنبية، أو ثورة لا يمكن تحقيقها إلا في الكتب، وحتى الكتب التي كان يحملها كان معظمها كتبا فرنسية، والأشعار التي يحفظها كان معظمها لبيرون وشيلي ولافونتين وبول إيلوار وعشرات غيرهم، ويردد أمامي بعض مقاطع من شعرهم ويدعوني لأتأمل جمالها، وأتأملها فلا أحس أنها جميلة، أو أحس أنها جميلة جمالا لا أستطيع إدراكه.
لأمر ما كنت أحس أن البارودي مصري دما ولحما، أعرفه وأعرف أباه الشيخ المتخرج من الأزهر، وأعرف بيتهم في المغربلين، ومع هذا فعقله أحس به عقل خواجة، حتى وهو يتكلم الفرنسية أحيانا كنت أحس أنه يغير الطريقة العادية التي يتكلم بها العربية ويكسب صوته وتعابير وجهه إجلالا ما ويتأمل كلماتها بتقدير عظيم وهو ينطقها.
ولأني كنت أكاد أقدسه كما قلت، فقد بدأت أشك في كنه هذه الأحاسيس التي كنت أشعر بها ناحيته وناحية آرائه، بل بدأت أعتقد أنني لا بد مخطئ في أحاسيسي تلك، وأنني أشعر هكذا لأنني كما يقولون أحيانا «فلح» أو متعصب لقوميتي وشعبي أكثر من اللازم، وأن علي أن أساير العلم والحضارة والتقدم وإلغاء كافة الفروق بين الشعوب والخبرات والثورات.
بل ذهبت في هذا الاعتقاد بعيدا، وبدأت أستعذب الفرنسية والنطق بها وأشعار إيلوار وموسيقى سترافنسكي، وأقرأ كثيرا من تلك الكتب التي طالما استنكرت من البارودي قراءتها.
والواقع أنه لأمر محير ولكنه كان الحقيقة، كنت بطبيعتي - ولا أدري لماذا - أعشق كل ما هو أوروبي وخاصة الأوروبيات، كنت إذا ذهبت مثلا إلى الإسماعيلية أو بورسعيد، ورأيت الذوق الأوروبي يصبغ المدينتين، ويصبغ منطقة القنال، البيوت ذات الطابق الواحد، والأسقف المائلة الحمراء والمدافئ والمداخن، والنظافة والسكون والنظام، النظام الذي نكاد نكرهه نحن ينقلب بين أيديهم إلى فن، فن النظام، الطعام بنظام، والحرب بنظام، والحب بنظام. كنت إذا رأيت هذا كله أحس بشجن، برغبة خفية ملحة أن أصبح ونصبح جميعا مثل ذلك الكائن الأبيض المعقد ذي الوجه الأحمر، غير أني - وهذا هو العجيب - لم أتمن قط أن أكون أوروبيا، كنت أتمنى في أحلامي أن يصبح لي مثل قدرتهم العجيبة على الإبداع والنظافة والنظام، ولكن لي أنا، وأنا ابن عرب هكذا، دون أن أكون مستعدا إلى تغيير شعرة واحدة مني، بل كنت أحيانا أفيق لنفسي وأنا في المظاهرات التي كنا نقيمها ضد الاحتلال البريطاني وأنا أهتف «تسقط إنجلترا»، كنت أحيانا أفيق لنفسي فأجدني أهتف بصدق حقيقي، بل وبغل وكراهية شديدين تكاد تقترب درجتهما من درجة إعجابي الشديد بهم، وبما رأيتهم قد صنعوه أو يصنعونه في الإسماعيلية أو الإسكندرية أو بورسعيد.
Неизвестная страница